فتقدم الولدان واحتكما إليه، فسمع لهما ثم للشهود، وقال مخاطبا ابن الشريف: «اسمع يا فيصل، أنت ولدنا وهذا خويك، ولا مفاخرة. إن أحسنت إليه أحسن إليك، وإن أسأت أساء.»
هذه هي الأمثولة التي تعلمها الولد فيصل في البادية.
وفي تلك الأثناء كان أبوه الحسين يلعب لعبة سياسية، حول أوتاد الدولة العلية، فرأى الباديشاه أن الأفضل له وللعرب أن يكون هذا الشريف في الخيام من أن يكون خارجها، فاستدعاه إليه، فلبى الشريف حسين الدعوة، مصطحبا أهله وعياله، وأقاموا في الأستانة ضيوف السلطان - وقل أسراء الكرم السلطاني - سبع عشرة سنة.
وكان الشريف حسين، مثل كل عربي شريف، غيورا على اللغة العربية وآدابها، فاستخدم شابا سوريا من دمشق معلما خاصا لأولاده.
وجاء ذات يوم المعلم صفوت العوا يشكو فيصلا إلى أبيه: «هو كسول، يا مولاي، ومتأخر دائما في مثائله، وقد هددته بالقضيب إذا كان لا يجتهد مثل أخيه عبد الله.»
فقال الحسين: «اضربه، يابني، ولا تخف.»
ثم استدعى فيصلا إليه، وقال له: «يا فيصل، إن كنت لا تجتهد في التحصيل اليوم تندم غدا، ولا تظن أنك شريف، وأن هذا يكفي؛ الشريف يابني شريف بعلمه وعمله، شريف بأدبه وأخلاقه.» •••
وكان الشريف فيصل في النصف الأول من العقد الثالث من عمره، عندما عاد إلى الحجاز مع أبيه، الذي تقلد منصب الإمارة في مكة، وعينه مديرا لشئون البدو، فكانت وظيفته تستوجب الحملات التأديبية من حين إلى آخر، فيخرج وأخاه عبد الله بحملة على الغزاة والمتجاوزين.
وفي سنة 1902، عندما ثارت عسير على الدولة، واحتل رجال ألمع الأشداء أبها باسم الإدريسي، وهموا بالزحف على الحجاز؛ جهز الشريف حسين حملة، بلغ عددها سبعة آلاف، وسيرها على الإدريسي بقيادة الشريف فيصل. مشت الحملة في صيف ذاك العام إلى تهامة، فاستولت على القنفذة، وكان هدفها بعد ذلك أبها.
وكان في تهامة أعداء ثلاثة يحولون دونهم ودون العدو الآخر المحصن في الجبال، ثلاثة أعداء قهارون ذباحون للجيوش؛ هم الحر، والعطش، والحمى. وقد تغلبت الحملة على اثنين منهم، ووقعت في قبضة الثالث، فأجبرت على الإناخة، وأسرت في الخيام، فهل استولت الملاريا على الحملة كلها؟
Unknown page