6
إلى الجنرال آلنبي
7
ذات يوم يحتج باسم الحكومة الفرنسية في أمر من الأمور، فقال الجنرال: أنا لا أعرف لا حكومتك ولا حكومتي، أنا لا أعرف غير الوزارة الحربية. وتسربت الأحقاد من الكبار إلى من دونهم، فكانت المنافسات بين وكلاء الإنكليز والفرنسيين تقلل من قيمة الأوروبيين في عين الأهالي، مسيحيين كانوا أو مسلمين.
أضف إليها تلك الضغائن التي ولدتها الحرب ونشأت بين جنود الأمتين في الخنادق، فانتقلت إلى ساحة السياسة في الشرق الأدنى، وكان أهل سوريا فريسة شرورها؛ ثم الدسائس العربية على الفرنسيين والتجسس لهم أيضا بوساطة أناس من السوريين عدوا يوما من كبار الوطنيين؛ ثم دسائس المسيحيين على العرب وكانت مصادرها تلك المقامات العالية المحترمة؛ مقامات الورع والتقوى؛ ثم صيحات الفرنسيين أنفسهم واحتجاجاتهم المتواصلة المتعددة على الإنكليز، وعلى العرب، وعلى الجيش الشريفي، وعلى القيادة العامة، وعلى الأميركيين والجامعة الأميركية، وعلى كل من قاومهم سرا أو علنا أو رفض أن يعترف بحقوقهم «الثقافية والتاريخية والشرعية» في البلاد.
إنها لحالة عجيبة محزنة يندر نظيرها في العالم، وأدعى منها إلى الحزن أنهم جاءوا إلى سوريا فارغي الوفاض يطالبون بهذه الحقوق، جاءوا يبسطون سيادتهم في البلاد دون أن يبذلوا شيئا في سبيلها، أو يستطيعوا في الأقل أن يحفظوا النظام فيها، فلم يكن لديهم في السنة الأولى من المال والرجال والجنود والأعتدة ما يكفي لحكم مدينة صغيرة، فحاولوا الاستيلاء على المنطقة الغربية، منطقتهم، بما تبقى من الفرقة الشرقية وببضع مئات غيرها من الجنود، فأسقط في أيديهم، وسقطوا في عيون مريديهم.
إن ضعف الفرنسيين، والحق يقال، وقصر ذات يدهم بالنسبة إلى ما كانوا يدعون ويطلبون، لمن الأسباب الأولى في تلك الاضطرابات، ومن تلك الأسباب أيضا جهل أولياء الأمر من العرب؛ جهلهم السياسة الدولية، جهلهم طباع الأوروبيين، جهلهم حتى خطة البريطانيين في أطماعهم، تلك الأطماع التي قيدتها وعودهم في الحرب، فاضطرتهم إلى السياسة السرية في تنشيط العرب تارة، وطورا في تثبيطهم. ومن أسباب الاضطرابات أيضا تعدد الحكومات في البلاد؛ فكان فيها أولا القيادة البريطانية العامة، ثم الانتداب الفرنسي مدعوما بشرذمة من الجنود البحريين، ثم مجلس إدارة لبنان، ثم الحكومة العربية، ثم رجال الدين والأعيان.
والكل سارعوا كالأولاد إلى احتلال كراسي السيادة والمجد؛ فقد تسرع الفرنسيون في تعيين وكلاء لهم في الشام وحلب، كما تسرع العرب في تعيين حاكم عربي في بيروت. وكيف لا والقيادة البريطانية العامة صاحبة الأمر رسميا في البلاد، فلم تعترف حتى بالمندوب الفرنسي السامي إلا كمستشار سياسي لديها، فماذا عسى أن تكون العلائق مع مستشارين صغيرين.
بدأ البركان يتفجر في أواسط كانون الثاني سنة 1919؛ إذ عندما علمت الشام بتصريح المسيو بيشون فيما يتعلق بفرنسا وحقوقها في سوريا، ضجت المدينة غضبا واحتجاجا، وكان النادي العربي رأسها ولسان حالها، فأضرم في الجرائد نار العداء للأجانب، وبعث الخطباء في أنحاء البلاد يحرضون الوطنيين على التظاهرات ضد الاحتلال والانتداب، وخطب خطيب في الجامع الأموي يدعو الناس للتجند دفاعا عن الوطن.
في هذا الشهر أيضا ألقى المسيو بيكو خطابا في دمشق فهم منه أن قد تم الاتفاق بين الأمير والحكومة الفرنسية بشأن سوريا، فغضب لذلك المسيحيون وهم يظنون أن فرنسا تفضل المسلمين عليهم، وقد تفادي بهم في سبيل السياسة والمصلحة. فما كانت فرنسا فيما صرح به وزيرها ومندوبها لترضي أحدا، لا الخصم ولا الصديق.
Unknown page