هذي هي الحقيقة في جلاء ما يظهر من التناقض بين موقفي الملكي وبين تربيتي الأميركية الديمقراطية. وهناك حقيقة أخرى أهم مما ذكرت؛ لأنها أثبت وأعم؛ فالإنسان المفكر لم يهتد حتى اليوم إلى حكومة عامة في شكلها وروحها، تصلح لكل شعب من شعوب الأرض ولا يصلح الحكم ويستقيم، جمهوريا كان أو ملكيا، إلا إذا كان له ما يبرره ويعززه من عقلية الشعب ونفسيته، ومن تقاليد الأمة وثقافتها.
فالجمهورية لا تصلح اليوم في إنكلترا مثلا، وإن كان الشعب قد ألف في ملكها المقيد الأحكام الديمقراطية؛ ذلك لأن عقليته على الإجمال ملكية، ونفسيته نفسية الأشراف. ولا تصلح الملكية في أميركا، وإن كان الشعب قد أدرك مساوئ الحكم الجمهوري؛ ذلك لأن نفسيته ديمقراطية مثل عقليته وتقاليده، ولا تشذ هذه القاعدة إلا في الانقلاب العام، على أثر حرب أو ثورة كما في البلاد الروسية اليوم.
وما هي يا ترى نفسية العربي؟ وما هي تقاليد الأمة العربية؟ مهما قيل فيما أوجبه الإسلام من المشورة في الأحكام
وأمرهم شورى بينهم ... الآية؛ فإن تاريخ الأمة العربية ليثبت إجمالا تلك الحقيقة التي تنافي الإسلام. ومع أن العرب هم فطرة ديمقراطيون ولا يزالون كذلك في حياتهم الخاصة، فقد طرأ على هذه الفطرة في مظهرها العام في عهد الممالك العربية المجيد، طوارئ عديدة أضعفتها فأزالتها تماما، وقد نشأ مكانها في عقلية المجموع العربي حب لأبهة الملك، وشغف بالعظمة التي تتجلى في حاكم البلاد واحترام لسلطته الأبوية أو الشبيهة بها، إن كان ملكا صغيرا أو سلطانا ملقبا بأمير المؤمنين.
إن عقلية هذه الأمة العربية ملكية إذن، وتقاليدها ملكية منذ القدم، وليس لها من عوامل الثقافة وأسباب العلم ما يدعو للتطور السريع في تلك العقلية، أو للتغيير الأساسي في تلك التقاليد.
فهل يصلح والحالة هذه الحكم الجمهوري في البلاد العربية؟ وهل يستقيم حتى وإن كان صافي الروح سليم الأسباب مطابقا في أحكامه لتعاليمه؟ إني على يقين أنه يستحيل خصوصا في هذه الأيام؛ أيام الحكم المطلق - أيام الدكتاتوريات - في الغرب والشرق. وقد لا يقدم قطر من الأقطار العربية على تجربته مختارا قبل عشرين أو ثلاثين سنة. •••
إن لحكام البلاد العربية عقليات قديمة، وآمالا حديثة ، وسيادات مطلقة يجدد الزمان أركانها ويوطد، ولكن أكثرهم متشربون حب الرعية الأبوي، وعاملون بالقاعدة الذهبية: العدل أساس الملك؛ فهم من هذا القبيل عصريون أكثر من بعض زملائهم الغربيين.
وهم عصريون من وجهة أخرى، وإن كانوا متأخرين في تكييف بلادهم وتقديمها في الرقي والعمران. هم عصريون فيما ينتحله لأنفسهم من قوة التشريع والتنفيذ الحاكمون اليوم بأمرهم في العالم. وبكلمة أخرى هم مثال الدكتاتورية المتبع، فإذا كان الشعب الأوروبي الراقي يقبل بهذا الحكم، ويرى فيه خير بلاده الأكبر، فهل يخطئ العرب إذا ظلوا متمسكين به، محافظين عليه؟
فإذا كنت - أيها القارئ - محبا لهذه الأمة العربية، غيورا على مصالحها، أو عاملا مجاهدا في سبيلها وسبيل وحدتها القومية، فهل تسعى لقلب حكوماتها اليوم ولإعلان الجمهورية فيها بدل الملكية؟ وإذا كان لا يهمك أمرها، وكنت متيقنا مثلي أن الحكم الجمهوري غير ممكن فيها، وأنه اليوم مضر إذا كان ممكنا، فهل يجوز أن تنتقد أو تلوم من يختص ملوكها وأمراءها بما توجبه عليه الوطنية من الخدمة، وهم الموكلون بمقدرات البلاد، المهيمنون على ما فيها، وإن قل، من عوامل الرقي الاقتصادي، وأسباب التمدن الحديث؟ وإنك لتخطئ إذا نظرت إليهم بغير العين التي تراهم في بيئتهم وفي أحوالهم السياسية، وتقدرهم قدرهم بالنسبة إليها. أقول لك إنهم لذوو فضل جم، على ما في تلك البيئة من الجمود، وتلك الأحوال من عوامل الهدم، داخلا وخارجا، وإنهم لذوو مآثر جليلة.
إليك بوجيز العبارة البرهان؛ لو لم يقم الملك حسين بالثورة على الترك لما كانت الثورة، ولما كان العرب اليوم في معظم الجزيرة مستقلين كل الاستقلال؛ فقد كان رجال النهضة العربية في حاجة إلى زعيم يوحد الصفوف، ويوحد المحجة، ولم يكن فيهم ذلك الزعيم، لم يكن في الطليعة الرجل الأكبر الأوحد الذي تقبله الأحزاب كلها وتنصره، فنهض الحسين وكان زعيم النهضة المنتظر.
Unknown page