وبينما كانت تقام الحفلات في المدينة لدولتي «الأنور والجمال»، وكان الوزيران الورعان - وقد ظهرا في مظهر الدين وترديا برداء اليقين - يقومان بالمراسم الدينية ويرددان الصلوات، ويجلسان كالتلاميذ في حضرة العلماء ومشايخ الطرق وهو يتكلمون في علم الجهاد ويفسرون الآيات التي لها تعلق بالعلوم الحربية؛ كان الأمير فيصل بك ملازما لهما مشاركا في كل مظهر من مظاهر الحفاوة والإكرام، ولكنه لم يكن ليستوقف الأنظار؛ إذ كان ظله الصغير يومئذ يضيع بين ظلي بطلين من أبطال العثمانيين، وهادمي ملكهم.
بعد ثلاثة أشهر من هذه الزيارة المباركة كان فيصل أيضا من المشتغلين في التهديم، ولم يكن ليخطر في بال الوزيرين أو أحد من حاشيتهما أنه سيكون كذلك، وأنه سيبدأ في البلد الطيب الذي هم فيه، فيهدم الركن العربي من ملك بني عثمان. أما أن الأمر كان يجول في صدر الأمير نفسه فمما يحتمل الريب؛ لأنه لو أدرك أن أباه سينفر قريبا في النفير، لما كان رافق الوزيرين في عودتهما إلى الشام، وكاد يقع هناك في قبضة جمال لولا حيلة دبرها أبوه.
عاد الأمير فيصل من الشام في صيف تلك السنة بأربعة آلاف بندقية وعشرة آلاف ليرة ليجهز حملة من العرب تشترك في الزحف مع الترك والألمان على ترعة السويس، فلما وصل إلى المدينة سمع النفير يستنفر من ظلال الكعبة القبائل لمحاربة الأتراك، «أعداء العرب والإسلام»، فأطاع طبعا أباه الذي كان قد بدأ بتأليف جيش من القبائل تحت قيادة نجله الأمير عبد الله، فانتظم الأمير فيصل في هذا الجيش، ثم أسندت إليه قيادة جيش الشمال المشهور، فباشر عمله في حصار المدينة وتخريب قسم من سكة الحديد قرب العلا ليؤخر في الأقل وصول النجدات من الشام إلى العدو.
وصلت أخبار النهضة إلى سوريا، فرددت صداها الأستانة، ولكن أولياء الأمر هناك لم يهتموا في البدء لها،
1
فأدركوا خطأهم عندما صدرت الأوامر بالزحف ثانية على ترعة السويس؛ إذ وجدوا العرب الذين كانوا قد اتكلوا عليهم يحاربون مع الأحلاف. بيد أنهم لم يأتوا في بداءة الأمر بعمل في الشمال يذكر؛ أي إنهم لم يؤثروا، لا سلبا ولا إيجابا، في حملة السويس الثانية.
الشريف فيصل حينما كان في مجلس المبعوثان في إستانبول.
جلالة الملك فيصل الأول في بداية الثورة في العقبة من أعمال الحجاز.
إني في كتابة هذه النبذة أرجع إلى أربعة مصادر طالبا الحقيقة المجردة من الأهواء والتعصب، ومع ذلك أراني في بعض الأحايين حائرا بين الشهود الأربعة؛ هذا يبالغ، وذاك يجامل، وواحد يزيف الأعمال، وآخر يزخرفها. فقد جاء في كتاب فرنسي طبع السنة الماضية في باريس
2
Unknown page