إن المبادئ الجمالية التي نقدر على أساسها موسيقانا مبنية على كتابات الفلاسفة اليونانيين. ومهما قيل عن هؤلاء الفلاسفة القدماء من أنهم أعاقوا تطور الموسيقى بتأملاتهم الجامحة، فإنهم مع ذلك قدموا إلينا معاييرا للقيم نستطيع بها أن نصوغ حكما عن الموسيقى، والأهم من ذلك أن الفيلسوف اليوناني كان مهتما بمشكلات تتعلق بموسيقى عصره، تماثل تماما تلك المشكلات التي نهتم بها في حضارتنا الحالية. وهكذا فإن تشابه المفاهيم الموسيقية في التفكير الجمالي القديم والوسيط والحديث إنما يرجع إلى أنها كلها تنويعات للحن الأصلي الذي اتخذه أفلاطون شرطا ضروريا لإيجاد مجتمع مثالي، ولخلق الإنسان المثالي.
ولقد ظل الفيلسوف حتى القرن الثامن عشر يقوم الموسيقى من خلال المعاني الميتافيزيقية والأخلاقية والرياضية، وكان في كل مناسبة يكتب القدرة الخلاقة للموسيقى بدفاعه عن القيم التقليدية، وحرصه على إبقاء الأمور على ما هي عليه. وكان الفيلسوف يسارع إلى التشكيك في أي تغير يطرأ على الموسيقى، ويأخذ على عاتقه تقويم الموسيقى الجديدة التي قد تهدد استقرار الطقوس السائدة أو الوضع السياسي القائم. أما الأصوات الفلسفية القليلة التي ارتفعت بالاحتجاج على مثل هذه الآراء الجمالية السائدة عن الموسيقى، فكانت تؤكد أن الموسيقى لا تعني شيئا عدا ذاتها، وأنها ليست موضوعا للميتافيزيقا، ولا مسألة أخلاقية، ولا وسيلة لتنظيم التعليم، ولا أداة سياسية.
ولقد وقف الموسيقي صامدا في وجه السلطة على مر عصور التاريخ، وإن اضطر في الماضي - وما زال مضطرا في الحاضر - إلى الرجوع عن موقفه الجمالي إلى حد ما، حتى يضمن سلامته إزاء الأوامر الغاشمة لسلطة دينية، أو نزوات سيد يرعاه، أو قرارات لجنة سياسية. وهكذا كان الموسيقار عبدا للأخلاق والدين، وصنيعة لسيد غني، وأداة لنشر أيديولوجية سياسية، ولكنه خلال هذا كله لم يكن في أي وقت أداة طيعة تماما في يد أي واحد من هؤلاء، وإنما كانت طبيعته ذاتها تجعله منصرفا تماما إلى إشباع حاجته الشديدة إلى التعبير عن ذاته، ومستغرقا كل الاستغراق في الرغبة في إطلاق مشاعره من عقالها. ولقد ظل هذا الصراع بين الفكر والشعور، بين العقل والحكم الجمالي، بين الفيلسوف والموسيقار، صراعا دائما طوال التاريخ.
وإنه لمن الممكن وضع نظام من القيم لفلسفة جمالية للموسيقى، لا تكون مرتكزة على تعاليم القدماء، وإنما على قيم إنسانية النزعة. مثل هذا النظام أو النسق من القيم الموسيقية يمكن تحقيقه باستبعاد الأساطير البالية التي طغت على الخلق والتذوق الموسيقي، وبالاسترشاد بالمبدأ القائل إن الموسيقى هي في أساسها تعبير عن المشاعر في شكل فني، قوام أسلوبه هو الإيقاع والنغم؛ فالموسيقى تنبعث من المشاعر، وتأثيرها إنما ينصب على المشاعر، وهي ناشئة من العاطفة لكي تحرك العواطف. وجذور الموسيقى متغلغلة في تربة الواقع الفعلي؛ فهي نتاج للتجربة البشرية، حتى حين تعلو على التجربة؛ إذ تبلور المشاعر في أنغام حسية، وإيقاعات متحركة تنقلنا إلى قمم شفافة من النشوة الوقتية. وللموسيقى القدرة على تخليصنا من القلق والهموم، وهي وسيلة للاتصال تفوق في فعاليتها وقدرتها على الإثارة الانفعالية كل صور التعبير الأخرى التي استحدثها الإنسان لكي ينقل بها مشاعره وأفكاره إلى الآخرين. والموسيقى تجسد آمالنا وأحلامنا، وحزننا ويأسنا. وليس في وسعنا أن نستخلص من الموسيقى إلا ما أضفيناه عليها بالحساسية والفهم. ومهما كان الفلاسفة قد كتبوا عن الموسيقى، فقد كان ما قالوه عنها أقل مما قالوه عن أي فن من الفنون الأخرى؛ لسبب بسيط هو أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى فينا لا يخضع للمنطق بنفس السهولة التي تخضع بها له الفنون المرتكزة على مدركات عقلية، كالشعر أو الدراما.
على أن الفيلسوف قد جعل للموسيقى درجة منخفضة في سلم الفنون لهذا السبب ذاته، وأعني به أن الموسيقى تتعلق قبل كل شيء بالمشاعر لا بالعقل، وبالانفعال لا بالفهم، وبالخيال لا بالتصورات الذهنية. ولقد دأب الفلاسفة طوال العصور - باستثناء القليل منهم - على الاعتقاد بأن الموسيقى بلا كلمات أقل قيمة من الموسيقى بالكلمات؛ فموسيقى الآلات الخالصة غامضة تفتقر إلى التحدد، وهي تجسيد للانفعال في نغم وإيقاع يثير فينا مشاعر أحس بها الموسيقي إلى حد ما عندما ألف موسيقاه. غير أن الفيلسوف لا يوقن بأن المشاعر يمكن أن تكون أهلا للثقة، وإنما يؤكد أن الكلمات التي تضاف إلى الموسيقى تضفي على المشاعر طابعا يمكن إدراكه ذهنيا، وتجعل اللامتحدد محددا واضح المعالم، وتنقل فن الموسيقى من المستوى الأدنى للانفعال إلى المستوى الرفيع للعقل.
الفصل الأول
اليونانيون
القسم الأول: السابقون على سقراط
ليس لدينا من المعلومات الفعلية عن الموسيقى سوى القليل في تلك الفترة من التاريخ القديم، التي تناظر العصر المعروف بالعصر السابق على سقراط في الفلسفة. وكل ما نعرفه معلومات متفرقة يمكن استنتاجها من كتابات الفلاسفة والشعراء، ما دامت الموسيقى ذاتها قد اندثرت. تبدأ دراسة الفلسفة السابقة على سقراط بالفيلسوف طاليس في القرن السابع ق.م. وفي القرن التالي أسس فيثاغورس مدرسة فلسفية منظمة، وكان اهتمام هذه الفلسفة بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، وبالتركيب التجريبي للأنغام الموسيقية لا يقل عن اهتمامها بإثبات أن العدد هو الحقيقة بالمعنى الصحيح. أما الشعراء الذي يرجعون إلى عهد أقدم هو عهد هوميروس في القرن التاسع ق.م. فقد خلفوا لنا شذرات هزيلة، ولكنها قيمة عن موسيقى القدماء، وهي تتميز بأنها أقرب إلى الخيال الشعري منها إلى الحقيقة، ولا مفر لكتاب في الفلسفة الجمالية للموسيقى من أن يبدأ بعرض هذه الشذرات الباقية كما تستخلص من الكتابات القديمة، وتبويبها في ترتيبها التاريخي الصحيح.
إن أقدم معرفة لدينا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. والواقع أن ما قالوه عن الموسيقى لم يكن يتسم بالأصالة التامة؛ إذ إن الكهنة المصريين القدماء كانت لديهم آراء مشابهة، كما ظهرت مثل هذه الآراء لدى حكماء الشرق قبل العصر الذهبي لليونان بوقت طويل. غير أن فضل الفلاسفة اليونانيين إنما يرجع إلى تنظيمهم للنظريات الموسيقية الموروثة عن أسلافهم، وبذلك خلفوا لنا تراثا من الفلسفات الموسيقية القديمة، ولكن عندما تدخل خيال الشاعر اليوناني المنشد من أجل تغير تلك القيم الموسيقية التقليدية السائدة في العالم القديم على النحو الذي يكفل ملاءمتها للحضارة الهلينية ، أخذ الفيلسوف على عاتقه القيام بمهمة الدفاع عن الماضي، فقوم الموسيقى الجديدة على أسس أخلاقية وميتافيزيقية، وأصدر أحكاما مدوية ما زال صداها يتردد في موسيقى عصرنا الذي نعيش فيه.
Unknown page