Faylusuf Wa Fann Musiqa

Fuad Zakariyya d. 1431 AH
179

Faylusuf Wa Fann Musiqa

الفيلسوف وفن الموسيقى

Genres

أما بيتهوفن فيحفظ للسامع تجربته الموسيقية عندما يضفي زخرفا على صوت الطائر، وهو يتردد في أعقاب صوت العاصفة المطيرة التي تتلاشى تدريجيا.

12

وتلك في الواقع مشكلة قديمة قدم أفلاطون الذي كان يعتقد أن على الموسيقي أن يردد الطبيعة بأمانة في موسيقاه، هو الرأي الذي رد عليه أرسطو بقوله إن مهمة الموسيقار ليست الاقتصار على محاكاة الطبيعية كما هي، وإنما هي أن يعيد خلق الطبيعة في موسيقاه بإضفاء طابع فكري مثالي عليها. فليس المهم هو المظهر الخارجي للظواهر أو الأصوات المألوفة في الطبيعة، وإنما هو التعبير عن المشاعر الباطنة التي تثيرها هذه الأصوات في نفس المؤلف الموسيقي، والتي يعبر عنها في مؤلفاته، لا كما هي الطبيعية، بل كما يتصورها هو، وبذلك يخلق عالما من الأصوات أروع من ذلك الذي اتخذه أنموذجا له.

ومن الواجب أن يكون المصنف الموسيقي ملائما لتركيب الآلات أو للمدى المناسب للأصوات البشرية التي كتب لها. على أن بيتهوفن كان يكتب للصوت، وكأن لديه نفس مدى آلة الفيولينة ومرونتها. وكان فاجنر يطلب من المغني، بلا رحمة، أن ينافس بصوته أوركسترا عظيمة الضخامة. ومهما كانت عبقرية بيتهوفن وفاجنر، فإن قيمتهما بوصفهما مؤلفين للصوت البشري أقل من قيمتهما من حيث هما يكتبان للأوركسترا.

وكثيرا ما ينظر إلى موسيقانا المعاصرة على أنها تفتقر إلى القيمة الجمالية؛ لأنها لا تتضمن ألحانا مناسبة للصوت البشري، أو موضوعات لحنية متصلة للآلات الموسيقية؛ فالموسيقي المعاصر يتهم بأنه يخلق موسيقاه بطريقة آلية خالية من اللحن، وإذا خلق ألحانا قليلة، فإن هذه الألحان لا تمتعنا بقدر ما كانت تمتعنا ألحان الماضي. على أن كل عنصر كان فيه من المحافظين وأنصار القديم ممن يجأرون بالشكوى من أن موسيقيي جيلهم يعذبون المغنين بمقطوعات لا تغنى، ويرهقون العازفين بمدونات لا تعزف. ومع ذلك فإن الأوبرات الإيطالية الرومانسية تضم من الفقرات الغنائية المجهدة التي لا تصلح للصوت الغنائي بقدر ما تضم الأوبرات المعاصرة. وعلى أية حال فإن الموسيقى الغنائية التي تطلب من المغني أكثر مما ينبغي، والتي ترهق الصوت في مداه المعتاد، لا تصلح للصوت الآدمي، سواء أكانت تنتمي إلى العصر الرومانسي أم إلى عصرنا الحاضر. وهذا لا يصدق على الآلات مثلما يصدق على الصوت البشري. إن المؤلفين الموسيقيين المعاصرين يكتبون مقطوعات لحنية للصوت والآلات الموسيقية تختلف عن مقطوعات الماضي لأسباب واضحة. وقيمة هذه الألحان، سواء منها الماضية والحاضرة، تتوقف أولا على ملاءمتها لنطاق صوت الإنسان والآلات، وتتوقف ثانيا على مدى إتاحتها للمغني والعازف أن يستخلص منها كل القيمة الموسيقية التي يستطيع الصوت والآلة أن يحققاها، كل حسب طبيعته.

ومن الواجب أن تفي القطعة الموسيقية بالغرض الذي خلقت من أجله، والذي كان مقصودا منها أصلا؛ فاللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي قد حكمت مثلا بأن أوبرا «الصداقة العظيمة» لم تحقق الغرض الذي خلقت من أجله؛ إذ كانت الموسيقى معقدة لا تقدم تصويرا «واقعيا» للحياة الشعبية والموسيقية للإقليم الذي ألفت الأوبرا عنه؛ ففي رأي اللجنة أن مؤلف هذه الأوبرا لم يقدم إلى المواطن السوفييتي ما يدل على فهم «صحيح» لحياة الإقليم الذي يتحدث عنه وثقافته؛ لذلك كانت هذه الأوبرا فاشلة من الوجهتين التعليمية والسياسية. غير أن من المشكوك فيه أن مؤلف الأوبرا كان يشارك اللجنة نفس هذه الآراء في دخيلة نفسه، ولكنه على أية حال كان مضطرا إلى الرضوخ لقرارها القائل إن موسيقاه كانت لها قيمة إيديولوجية سلبية؛ لأنها لا تفي بالحاجات الفنية للجماهير.

وفي المجال الديني نجد الموقف مشابها إلى حد ما؛ فقد كان يوهان سباستيان باخ يعتقد أن الموسيقى التي يخلقها ذات طابع ديني عميق يصلح للشعائر البروتستانتية، غير أن رؤساءه كان لهم رأي مخالف في كثير من الأحيان؛ فقد كان باخ يكتب موسيقى للأرغن يعتقد أنها ملائمة للجو الديني، ومع ذلك فقد كان عقده يتضمن نصا يشترط ألا يعزف في الكنيسة موسيقى تصرف أنظار المستمعين عن العبادة. وكان معنى هذا الشرط أن رؤساءه يعتقدون أن بعض موسيقاه لا يصلح للصلاة؛ فموسيقى باخ، من وجهة نظرهم، لم تكن دائما تحقق الغرض الذي كتبت من أجله.

وتكون الموسيقى محققة لغرض معين في الدين أو السياسة حسب معيار للقيم يتخذ أساسا للحكم عليها. غير أن من الخطأ القول إن الموسيقى المرتبطة بعناصر دينية أو سياسية هي وحدها التي تقوم بمثل هذه الطريقة الموضوعية؛ فالأمريكيون والسوفييت يتفقون على أن الموسيقي حين يكتب «مارشا»، فمن الواجب أن يكون ذا طابع عسكري؛ أعني أن يكون إيقاعه بسيطا، ويكون اللحن قوي التأثير في النفوس. كذلك يتفقون على أن الموسيقي حين يؤلف للباليه، فيجب أن يكون إيقاعه قويا مثيرا، وأن يكون اللحن سهل التداول؛ فهناك شروط موسيقية شكلية ينبغي توافرها إذا شئنا أن تشجع الموسيقى الجنود على المشي على أنغامها، والراقصين على أداء رقصاتهم بألحانها. ولما كان الجنود يمشون بطريقة متشابهة، والراقصون يرقصون أيضا بطريقة متشابهة، فلا بد أن تكون المعايير التي نشترطها لهذه الألوان من الفن الموسيقي متشابهة أيضا.

وعندما يطلب إلى المؤلف الموسيقي أن يخلق وفقا لشروط محددة مقدما، فعندئذ تكون مشكلة التأكد من تحقيق موسيقاه للغرض الذي كتبت من أجله مشكلة بسيطة؛ فمثل هذه الموسيقى التي لا تخلق بوصفها فنا مستقلا لا يمكن تقديمها إلا على أساس الوظيفة التي تؤديها. أما الموسيقى المستقلة، فكل ما يشترط فيها لكي تكون قد حققت الغرض المقصود منها هو أن تتيح للسامع تجربة جمالية فحسب؛ فالموسيقي يكون قد حقق أغراضه فينا إذا كانت موسيقاه تنطوي على تكامل فعال بين القيم الموسيقية الشكلية التي يمكنها أن تثير في نفس السامع استجابة ذات طبيعة جمالية.

ولقد كتبت مقطوعتا سترافنسكي «متتابعة طائر النار

Unknown page