Faylusuf Wa Fann Musiqa

Fuad Zakariyya d. 1431 AH
178

Faylusuf Wa Fann Musiqa

الفيلسوف وفن الموسيقى

Genres

يرى أن الموسيقى التي تهيب بالانفعالات أكثر مما تهيب بالعقل، إنما تجتذب العناصر الأخس والأحط في الإنسان. أما الموسيقى المثلى من وجهة النظر الجمالية، فهي ترتيب وتوزيع للقيم الشكلية على نحو يكفل للموسيقى أداء وظيفتها الكاملة، وهي بعث انفعالات سارة وإرضاء العقل. ولا جدال في أن هذا مثل أعلى جمالي لا يمكن أن ينازع فيه أحد. غير أن الكثيرين منا لا يقبلون ذلك الاهتمام المفرط الذي يبديه أصحاب النظرية الخالصة بالجانب العقلي من التربة الجمالية، في الوقت الذي يقللون فيه من أهمية الجانب الانفعالي منها.

إن التحليل الموسيقي للقيم الشكلية لمدونة سيمفونية ضخمة أو أغنية فنية بسيطة ليس إلا وجها واحدا من أوجه البحث الجمالي؛ ذلك لأن اللحن والإيقاع والهارمونية والقالب أو الشكل؛ كل هذه قيم موسيقية أساسية؛ فالقائم بالأداء وقائد الفرقة الموسيقية، يهتمان اهتماما أساسيا بالخط اللحني وتطوير الموضوعات الرئيسية والتغيرات الإيقاعية، وبناء هيكل القطعة الموسيقية أو قالبها الشكلي. ومن المؤكد أن التجربة الجمالية للمستمع المستنير تزداد عمقا إذا كان لديه القدرة على إدراك العلاقات الشكلية بين هذه القيم بعضها وبعض؛ أعني القدرة على إدراك تكامل هذه القيم في صورة موسيقية مركبة، وعلى معرفة مدى توفيق المؤلف الموسيقي في معالجة هذه القيم والتعبير عنها فنيا. غير أن البحث الجمالي في الموسيقى هو نظام من القيم أشمل من تحليل الموسيقى ذاتها؛ إذ إن عليه أن يتناول أيضا النواحي الإبداعية التأثيرية في الموسيقى؛ لأن الدراسة النفسية للإبداع الفني وتحليل التذوق الموسيقي هما مشكلتان جماليتان على جانب كبير من الأهمية. كذلك ينبغي على المفكر الجمالي أن يتذكر أن الموسيقى لا يمكن أن تفهم وتقدر إلا في سياقها التاريخي؛ فالعوامل الدينية والدنيوية والاتجاهات السياسية للعصر، والمعتقدات الاجتماعية للشعب؛ كل هذه عناصر ضرورية في أية دراسة جمالية للموسيقى.

والواقع أن خلق الموسيقى والاستمتاع بها عمليتان ترجع جذورهما إلى الانفعالات؛ إذ إن الموسيقى وسيلة نغمية وإيقاعية للتعبير، ينقل بواسطتها المؤلف الموسيقي مشاعره إلى الآخرين. وعلى ذلك فإن نظام القيم الذي تتألف منه الفلسفة الجمالية للموسيقى ينبغي أن ترجع جذوره هو الآخر إلى الانفعالات، وإن كان يقتضي من السامع أذنا موسيقية حساسة وعقلا لماحا في الوقت ذاته. والعامل الذي يحدد القيمة الفنية للقطعة الموسيقية هو مقدار أصالة مؤلفها وسعة خياله في التعبير عن ذاته. أما نحن فلا نستطيع أن نستخلص من هذه الموسيقى أكثر مما وضعناه فيها عن طريق حساسيتنا الإدراكية وحكمنا التحليلي؛ فالموسيقى متولدة من الانفعال لكي تهيب بالانفعال. ونحن نتلقاها بحواسنا، ونحكم عليها بعقولنا. ولا يمكن أن تكون لها عندنا قيمة جمالية إلا إذا كان لها معنى بالنسبة إلينا.

إن القيمة الجمالية للقطعة الموسيقية تتوقف على أمرين؛ أولهما مدى قدرة المؤلف على نقل أحواله ومشاعره إلينا؛ إما بطريق مباشر أو بوساطة فنان قائم بالأداء. وثانيهما: قيمة نفس هذه المشاعر والأحوال التي ينقلها إلينا، ولكن تحقيق الأمر الأول يستلزم أن يكون السامع قادرا على أن يعيد خلق ما كان المؤلف يحاول أن يقوله؛ فالاستجابة الجمالية الصحيحة تتوقف على قدرة السامع على التشبع بروح المؤلف في حالته الأصلية. ولن يأتي له ذلك إلا بالسمع وإعمال العقل، كما قال أرسطوكسينوس. وإذن فالموسيقي لا يمكن أن تكون وسيلة للاتصال الانفعالي، إلا إذا كان المرء حساسا بتلك الأحوال والمشاعر التي حاول الموسيقار أن ينقلها إلينا. وبعد أن تثار في نفس السامع هذه التجربة الانفعالية، ينبغي أن يكون قادرا على تكوين حكم سليم على قيمة هذه المشاعر والأحوال في القطعة الموسيقية ذاتها. ولما كان الكثير من المؤلفات الموسيقية الجديدة يتجاوز نطاق قدرتنا على الإدراك والفهم، فلا بد لنا من بذل الجهد والتذرع بالصبر والانتظار ردحا من الزمان حتى نستطيع الوصول إلى حكم صحيح على قيمة المشاعر والأحوال في القطعة الموسيقية، كما تجسدت في أفكار إيقاعية ولحنية مجددة. ومن جهة أخرى فهناك نوع آخر من الموسيقى يجذبنا كثيرا أول ما نسمعه، لكنه سرعان ما يفقد؛ لأنه لا يعود يمدنا بالحافز على تكوين تجربة جمالية.

إن صياغة حكم تقويمي هي عمل ذهني، وهي عملية عقلية تتضمن تقدير أحوال المؤلف ومشاعره كما عبر عنها في صورة موسيقية. وهي تقدير عقلي للطريقة التي أدمجت بها القيم الشكلية اللحنية والإيقاعية الهارمونية في قالب موسيقي مركب؛ فاللحن تعبير عن الشعور، والإيقاع يبعث الحياة في هذا الشعور. وهو بالنسبة إلى الموسيقى بمثابة قانون التغير المحتوم في صوره المتعددة بالنسبة إلى الطبيعة. والهارمونية هي مزج هذه المشاعر والتغييرات الإيقاعية في تعبير موحد كان سيظل لولا هذا المزج، مجرد مشاعر منعزلة وإيقاعات متفرقة. أما المزاج والشعور فهما أحوال انفعالية تحتاج دراستها إلى نشاط عقلي.

ولا بد لتقدير الموسيقى من أذن حساسة نفاذة، تكتسب بالمران والتوجيه. وأول استجابة لنا نحو الموسيقى تكون استجابة ذاتية أساسا؛ إذ نضفي عليها ما اكتسبناه من تجارب متنوعة تحكمت في تشكيلها بيئتنا الدينية والثقافية والاقتصادية. على أنه إذا كانت الموسيقى قادرة على إحداث تجربة جمالية تفي بحاجة نفسية أو اجتماعية، فلا بد أن تكون لها قيمة محددة بوصفها وسيلة فنية للعلو بحياتنا اليومية المعتادة، ولا يمكن أن تكون للموسيقى قيمة إلا إذا كان لها معناها عند السامع. ومع ذلك فمن الممكن أن يكون لها معنى عند شخص معين، ولا يكون لها أي معنى عند شخص آخر، وبدليل ما كتبه الموسيقار برليوز حين قال: «إن ما أجده جميلا إنما هو جميل عندي، وقد لا يكون جميلا عند أخلص أصدقائي.» كما كتب المفكر تشترتن يقول: «إن الناس العاديين يبغضون العمل الجديد الرفيع المستوى، لا لأنه جيد أو رديء، بل لأنه ليس بالشيء الذي يطلبون.» فطبيعة المعنى الموسيقي إنما تكون في الانفعالات التي يجسدها المؤلف الموسيقي بخياله الخصب، في نماذج إيقاعية وتراكيب هارمونية. وما اللحن البسيط أو الموضوع الموسيقي الرئيسي في الأصل، إلا انفعال خام أضفي عليه شكل ولون من أجل الوصول إلى فعالية التأثير الفني؛ فالموسيقى هي المزج التام بين الشعور والعقل، وبين المضمون والشكل. وما القطعة الموسيقية إلا وسيلة لنقل مشاعر وانفعالات. وإذا كان الجزء الأكبر من الموسيقى الجديدة، وقدر كبير من تراثنا الموسيقي يبدو مفتقرا إلى المعنى في نظر الجمهور العادي، فإن السبب الأكبر في ذلك هو حالة الأمية الموسيقية المتفشية بيننا؛ ذلك لأن المعاني التي تستطيع الموسيقى نقلها تظل كامنة في الطابع الإيقاعي والتركيبي للمدونة الموسيقية ذاتها، ولا يمكن أن تنتقل إلى حالة الظهور والوضوح إلا إذا توافر لها فنانون يؤدونها، وأذن تستمع إليها، وأذهان تقدر ما يحاول الموسيقار أن يقوله؛ فمن المحال إذن أن يستخلص المرء من الموسيقى أكثر مما يضعه فيها من حساسية الإدراك ونفاذ التفكير.

ولكن ما هي القيم التي ينبغي أن نتطلع إليها، ونحن نستمع إلى الموسيقى؟ ينبغي، قبل كل شيء، أن يكون للموسيقى تأثير انفعالي قد يكون فوريا، وقد لا يأتي إلا بعد مضي وقت؛ إذ إن الاستمتاع بالموسيقى هو قبل كل شيء مسألة انفعال فحسب. ولما كانت الموسيقى تنشأ من ذلك الانفعال الخام الذي يسعى إلى الانطلاق في عالم الواقع القاسي، ولكنه لا يجد مجالا لهذا الانطلاق، فلا بد أن تكون مشتملة على تشكيل جذاب للأحوال النفسية والمشاعر التي تعلو على الواقع المباشر، وحتى في الحالات التي تحاول الموسيقى فيها أن تكون وصفية بطريقة واقعية، فلا بد لها أن تصف الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة، أو تحاول أن تجعل للعالم العادي للأنغام وقعا غير عادي في الآذان.

إن مكانة المؤلف الموسيقي لا تقاس بمدى قدرته على بعث الأصوات الطبيعية من جديد، وإنما تقاس بمدى تمكنه من تجميل الأصوات الطبيعية؛ بحيث إن الأمور التي تبدو لنا مألوفة ونسلم بها دون مناقشة، تعرض علينا بطريقة مجددة تثير خيالنا، وتؤثر في مشاعرنا؛ فقيمة الموسيقي في نظرنا لا تكون في براعته في محاكاة الأصوات والظواهر المتحركة، بل في قدرته على تحوير هذه الأصوات والظواهر المتحركة تحويرا فكريا مثاليا؛ فأوتورينو رسبيجي

Ottorino Respight (1879-1936م) يقطع التجربة الجمالية لسامعيه عندما يوقف الموسيقى في مدونته؛ لكي يقدم ترديدا طبيعيا لزقزقة عصفور مسجلة على أسطوانة،

11

Unknown page