Faylusuf Wa Fann Musiqa

Fuad Zakariyya d. 1431 AH
169

Faylusuf Wa Fann Musiqa

الفيلسوف وفن الموسيقى

Genres

ولقد قال «بن جونسون» ذات مرة: «إن للفن عدوا اسمه الجهل.» هذه الملاحظة الحكيمة كانت وما تزال تنطبق على الموسيقى أكثر مما تنطبق على أي ضرب آخر من ضروب النشاط الخلاق للإنسان في ميدان الفن الجميل؛ ذلك لأن المتعة الحسية التي تبعثها فينا الأنغام الموسيقية، والتأثير الفسيولوجي الذي تحدثه فينا الإيقاعات الموسيقية، قد دفعا الفيلسوف ورجل اللاهوت والسياسة إلى أن ينظروا إلى الموسيقى بعين الارتياب والشك، وإلى خالقي الموسيقى بخشية وازدراء؛ فقد ظلوا طوال العصور يحسدونهم على قدرتهم التعبيرية، ويحملون عليهم جهلا وخوفا مما قد تفعله أو لا تفعله قدرات الموسيقى للذهن والجسم.

وكثيرا ما كان يحدث لموسيقيين كانوا في شبابهم يناصرون الأفكار الجديدة في عصرهم، أن تشبثوا بهذه الأفكار الأصلية إلى حد أنهم أصبحوا عاجزين عن تقبل الأفكار الأحدث منها عهدا، وصاروا في سنواتهم المتأخرة رجعيين متزمتين. هذا عامل لا يمكن تجاهله، بل إن تاريخ الموسيقى إنما هو دليل عليه. أما الفلاسفة فقد اضطلعوا إلا قلة نادرة منهم، بما أطلق عليه هوايتهد اسم إضافة شروح وتنويعات على النغمة الأصلية التي أطلق أفلاطون، كما يشهد بذلك تاريخ الفلسفة. ولا شك أن هذا الحكم يصدق بوجه خاص على آرائهم الجمالية، ولا سيما ما يتعلق منها بالموسيقى، أكثر مما يصدق على أي فرع آخر من فروع البحث الفلسفي؛ فالفلاسفة لم يعبئوا بأن يكونوا مبدعين، حتى في شبابهم، في وضع نظرية جمالية في الموسيقى، وإنما اكتفوا بالانصراف طوال حياتهم إلى الدفاع عما قاله أفلاطون عن الموسيقى.

والواقع أن الدور الذي قام به الفيلسوف طوال تاريخ الموسيقى وتطورها بوصفها فنا، هذا الدور يستحق من الذم أكثر مما يستحق من المدح، فمن جهة نجد أن ميله إلى التشريح المنطقي الدقيق قد عاق التقدم الموسيقي، ومن جهة أخرى فإن تشككه الدائم في القيم الموسيقية قد أثر في المبادئ الجمالية للموسيقيين أنفسهم. ومما يؤسف له أن الفيلسوف قد جلب على الموسيقي طوال العصور من الضرر ما يفوق ما حققه لها من النفع، غير أنه لا يحمل هذا الوزر وحده، وإنما يشاركه فيه اللاهوتيون والسياسيون. وهكذا عمل أنصار العقل الخالص والإيمان والعمل السياسي في معظم الأحيان، على إبقاء الموسيقى في مركز التابع الذليل لمذهب عقلي أو عقيدة أو دولة. صحيح أن الموسيقي الخلاق كان في حضارات معينة أكثر تحررا منه في حضارات أخرى، غير أن نيتشه قد أدرك بوضوح - بكل ما في أسلوبه من مرارة - أن الموسيقي ظل على الدوام عبدا للأخلاق والدين. وما أقل الموسيقيين الذين يمكن القول إن هذا الحكم لا يصدق عليهم، سواء في العصور الماضية والعصر الحاضر ذاته!

ولقد لقيت الموسيقى في كتابات الفلاسفة من التجاهل وسوء الفهم أكثر مما لقيته كل الفنون الأخرى. ومع ذلك فهناك مدارس فلسفية متعددة كان لها تأثيرها في الفكر الموسيقي، كما أن القيم الموسيقية الجديدة بدورها استبقت بعض الاتجاهات الفلسفية؛ فقد نظر الفلاسفة إلى الموسيقى على أنها مدخل إلى فهم طبيعة الكون، وإعداد رياضي لدراسة الفلسفة. ووصف الأفلاطونيون الموسيقى بأنها محاكاة لعالم الواقع، بينما نظر إليها الأرسططاليون على أنها علو مثالي بهذا الواقع. أما اللاهوتيون فكانوا يرون في الموسيقى وسيلة لتقريب الإنسان من الله بفضل تجمليها للنص المقدس. كذلك اشترك اللاهوتيون والفلاسفة معا في النظر إلى الموسيقى على أنها وسيلة لإصلاح الأخلاق أو إفسادها، وكان الفلاسفة يرون أنها قد تكون مجرد متعة حسية، أو قوة روحية هائلة، وعلاجا لجسم الإنسان ونفسه.

ولقد رأينا أن أقدم معرفة لنا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. ورأينا أيضا كتابات أفلاطون، على وجه أخص، هي التي تتضمن مركبا يجمع بين النظريات الموسيقية للشرق والغرب؛ ففي هذه الكتابات تشرح القيم الأخلاقية والنفسية للموسيقى من خلال الميتافيزيقا، فينظر إلى العنصر الإيقاعي في الموسيقى على أنه مطابق للإيقاع الكوني، ويقال إن الإيقاع المتخبط ونشاز الأصوات المتنافرة يؤدي إلى الشقاق بين البشرية وبين النظام المثالي للأشياء. وهكذا بدأ أفلاطون يشيد مذهبه الجمالي في الموسيقى بإضفاء طابع أخلاقي على الأساليب أو المقامات اليونانية. وكان ينظر إلى الموسيقى على أنها أرفع من الفنون الأخرى، على أساس أن الإيقاع والتوافق يؤثران في النفس الباطنة والحياة الانفعالية للإنسان على نحو يفوق العمارة والتصوير والنحت. وعلى ذلك فمن الواجب الانتفاع من الموسيقى في تقويم السلوك، وتشكيل الشخصية، وإعداد العقل للدراسة الرفيعة، وهي دراسة الفلسفة. أما البدع اللحنية، أو الفصل بين الشعر والنغم، فهي في مذهب أفلاطون مظاهر للاضطراب تهدد القيم التقليدية، وتعرض الأوضاع السائدة للخطر.

وقد احتفظ أرسطو بالنظريات الأفلاطونية في الموسيقى، كما رددها أفلوطين مبديا إعجابه العميق بها. كذلك بدأ أوغسطين كتابه في الموسيقى بطريقة أفلاطونية خالصة، وذلك بالكلام عن الموسيقى من حيث هي مبحث يمهد للدراسة الفلسفية، كما أن الطابع الأفلاطوني كان واضحا في التعاليم الموسيقية لبويتيوس - شأنها شأن تعاليم أوغسطين - وذلك على الأقل فيما كتبه في المرحلة الأولى من حياته الأدبية. وقد احتفظ ديكارت أيضا بالفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى رياضية في أساسها، وينبغي أن تستخدم مبحثا يمهد لدراسة الفلسفة. وقد تحدث ديكارت مثل أفلاطون وأرسطو عن المشاعر الموسيقية، وعزا إلى الإيقاعات قيما أخلاقية؛ إذ إن لها تأثيرا مباشرا في النفس البشرية؛ لذلك أعرب عن إيثاره للإيقاعات التي لا تهيج الانفعالات أو تثيرها إلى حد مفرط. وأكد ضرورة استخدام النسب البسيطة للمسافات النغمية، وردد شكوى سبق أن أعرب عنها أفلاطون؛ إذ ندد بعدم تآلف النظم النغمية التي كان الموسيقيون في أيامه يستخدمونها في أساليب الكتاب الكنترابنطية. كذلك وصف لبينتس الموسيقى بأنها مظهر للإيقاع الكوني تنحصر ماهيته ذاتها في كونه عددا ونسبة، ورأى أنه مهما كان من سحر الموسيقى لنا «فإن جمالها لا يكون إلا في انسجام الأعداد»؛ فالموسيقى عد لا شعوري، أو هي علاقة شعورية بين الأعداد التي تنظم في مسافات ونماذج نغمية تبعث السرور في النفس. وكان روسو يعتقد أنه لما كان الفن محاكاة للطبيعة، فالنتيجة المنطقية لذلك هي أن الموسيقى صورة مطابقة للإيقاع الذي يسود الكون بأسره. وعلى ذلك ففي وسع الإنسان لو دأب على الاستماع إلى الإيقاعات الموسيقية السليمة، أن يتعلم كيف يعيش وفقا للقانون الطبيعي ويتحد بالطبيعة.

كذلك اتفق «كانت» مع أفلاطون في رأيه القائل إننا نستطيع بالموسيقى «أن نصل إلى الجسم من خلال النفس، ونستخدم النفس في مداواة علل الجسم». وقد أظهر في آرائه الجمالية ازدراء للموسيقى الخالية من الكلمات؛ فليس لموسيقى الآلات الخالصة في نظره قيمة كبيرة؛ إذ إنها جامحة خيالية لا تعبر عن تصور محدد. ويرى كانت في فلسفته الجمالية أن الشعر أكثر الفنون إهابة بالعقل؛ إذ إن الكلمات هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن المفاهيم والأفكار. وقد توسع هيجل في هذا الرأي، فقال: إن وظيفة الشعر تصبح عندئذ فرض الكلمات على الأصوات، والأفكار على المشاعر، والمفاهيم على التأثرات النفسية، بحيث إن ما هو غامض غير محدد المعالم في الموسيقى يصبح في لغة الشعر أكثر تحددا ووضوحا. غير أن شوبنهور ونيتشه قد اعترضا على هذا التفكير الديالكتيكي، مؤكدين أن للحن الحق في أن يوجد بذاته مستقلا عن الكلمة المنطوقة. وقد اتفق نيتشه مع شوبنهور في مسألة أخرى هي أن الموسيقى تتيح لنا مهربا، ولحظة قصيرة من السعادة والاطمئنان، ولكن على حين أن الموسيقى كانت عند شوبنهور تساعد على الانتقال من الإرادة إلى التبصر والتطلع، ومن الرغبة إلى التأمل، فإنها في تفكير نيتشه الجمالي تتيح لنا أن نعلو على عالمنا المضطرب المختلط، وندخل عالما من صنعنا نحن، نعبر فيه عن رغباتنا وآمالنا. أما تولستوي فقد خالف فكرة اتخاذ الفن مهربا، ووضع مذهبا جماليا اقترب كل القرب من الأخلاقية المسيحية.

أما في القرن الحالي فلم يكتب أي شيء عن الموسيقى إلا قلة من الفلاسفة، ولم يكن ما كتبوه إلا مجرد اعتراف عفوي بوجود الموسيقى، أما مكانتها في المجتمع ودورها فيه، فهما أمران لم يظهر هؤلاء الفلاسفة اهتماما كبيرا بهما، بل إنهم لم يبحثوا في الموسيقى من حيث هي صورة موحية من صور الاتصال بين إنسان وآخر. ليس معنى ذلك أنهم ينفضون أيديهم عن موضوع الموسيقى، وإنما هو يعني أن الفلاسفة الحاليين يرتابون في المشاعر أكثر مما يعملون على حماية العقل؛ ففلاسفة القرن العشرين يحسدون رجل العلم أكثر مما يحسدون الفنان. وهم يبدون تقديرا للنظرية الجمالية؛ لأنهم لا يصلون إلى نتائج مرضية عندما يطبقون المناهج الوضعية عند تقدير عمل المؤلف الموسيقي.

ومن الفلاسفة الذين كتبوا عن الموسيقى في القرن العشرين، الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

Henri Bergson (1859-1941م) الذي أدرج الموسيقى ضمن أفراد الأسرة الفنية التي تعطي الإنسان رؤية للواقع أقرب إلى الطابع المباشر؛ فالموسيقى في مذهب برجسون الجمالي ليس لها من هدف سوى أن تطرح جانبا تلك الرموز النغمية، وتلك التعميمات الاصطلاحية المتعارف عليها في المجتمع؛ أي بالاختصار، كل ما يخفي عنا وجه الواقع، لكي تضعنا في مواجهة ذلك الواقع ذاته مباشرة،

Unknown page