38
بمثابة معجزة موسى بالنسبة إلى ألاعيب السحرة المصريين.»
39
ولقد كان بيلا بارتوك
Bela Bartok (81-1945م) مثل سترافنسكي، ينظر إلى كل قطعة موسيقية على أنها عمل فريد له مفهومه الجمالي الواضح الخاص. ولم يكن بارتوك يؤلف موسيقاه تبعا لأي نظام خاص به أو بغيره، وإنما كان العنصران الضروريان في فلسفته الموسيقية هما تطوير الفكرة الموسيقية، ومعالجة تطوير هذه الفكرة جماليا. غير أن التكهن بما ينوي بارتوك عمله في تطوير الفكرة الموسيقية أو بنوع المفهوم الحمام الذي قد يضعه لتجسيد الفكرة في سياق القطعة الموسيقية، أو في معالجة القطعة بأكملها، هذا التكهن قد يكون عند بارتوك أصعب منه حتى عند سترافنسكي ذاته. على أن هناك أمرا مؤكدا هو أن لكل قطعة موسيقية أبدعها طابعا فريدا خاصا بها وحدها، ولا يمكن أن تكون مجرد تكملة لاتجاه سابق، أو تنويعا لفكرة رئيسية أو تحويرا لمفهوم جمالي وضعه من قبل في عمل سابق. لقد كان من المحال أن يخلق على هذا النحو إلا موسيقي يتمتع بفيض لا ينفد من الأفكار الناضجة، مثل بارتوك. والواقع أن وضوح كل إنتاجه وتميزه يكشف عن عقلية موسيقية منظمة، تضفي على أفكاره ومشاعره اتجاها محدد المعالم.
إن موسيقى بارتوك بناء منطقي رائع، وكل قطعة فيها تتميز في ذاتها بالإبداع الفني. هذا أمر لا شك فيه، غير أن هذه الموسيقى، إلى جانب مزاياها الفنية الكفيلة بأن تكسب صاحب النظرة الخالصة متعة جمالية، تتضمن عنصرا يجتذب المشاعر بقوة. ولقد كان للوحدة المنطقية والنهائية للعمل الفني، بالنسبة إلى بارتوك وسترافنسكي، من الأهمية ما للتأثير الانفعالي بالنسبة إلى السامع. ومع ذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأن أيا منهما قد نسي لحظة واحدة تلك الحقيقة الأساسية، وهي أن الموسيقى ذات جاذبية انفعالية قبل كل شيء؛ فقد حاول بارتوك أن يؤثر انفعاليا في سامعيه بنفس الطريقة التي كان هو ذاته يتأثر بها عند سماعه، مثلا، للموسيقى الشعبية المجرية والرومانية، وموسيقى البلاد المجاورة. ولم يكن بارتوك يهتم بالدلالات الاجتماعية التي كان الفيلسوف هيردر يجدها في تلك الموسيقى الشعبية، أو يعبأ بارتباطاتها المباشرة من حيث المعنى، وإنما كان ما يهمه في هذه الألحان الشعبية هو أنها تعبير موسيقي. وقد حاول هو ذاته في موسيقاه أن يعبر عن فكرة موسيقية متولدة عن الانفعال الذي ينادي انفعالا آخر، بطريقة واضحة مباشرة كانت تتسم بروح كلاسيكية بالمعنى الصحيح.
ولقد كان بأول هندميت
Hindemith (المولود في 1895م) من أبرز الشخصيات في حركة ألمانية تعرف باسم «موسيقى الاستعمال
gebrauchsmusik » وذلك خلال السنين الأولى من اشتغاله بالتأليف الموسيقي. والمقصود بموسيقى الاستعمال نوع من الموسيقى التي تكتب لكي يشارك فيها الجميع، في مقابل الموسيقى التي تكتب ل «ذاتها»؛ فأصحاب وجهة النظر الأولى يهتمون بالحاجات الموسيقية للجماهير، على حين أن أنصار وجهة النظر الثانية يؤمنون بتلك العقيدة الذاتية المفرطة التي كان يؤمن بها أوائل الرومانتيكيين الألمان. وعلى ذلك فقد أكد قادة حركة موسيقى الاستعمال العنصر المضاد للرومانتيكية في موسيقاهم، وضربوا هم أنفسهم من الأمثلة ما ساعد على إنزال العازف الموسيقي البارع من العرش الذي كان يعتليه في القرن التاسع عشر. وقد حاول أعضاء هذه الحركة أن يقدموا للجماهير نوعا من الموسيقى يمكنها فهمه وأداؤه، وذلك حتى تصبح الموسيقى فنا عمليا يجمل الحياة اليومية للناس، وكانت موسيقى الاستعمال تتميز بقوالب متوسطة الطول، وببساطة ووضوح في الأسلوب، وصغر المجموعات التي تؤديها، وتجنب الصعوبات الفنية حتى يتسنى أداؤها لمجموعات لم تتلق تدريبا محترفا.
ولقد كانت موسيقى الاستعمال رد فعل اجتماعيا وجماليا على الرومانتيكية، ونظرا إلى أن الحكومة الألمانية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى كانت ذات ميول اشتراكية، فإن رد الفعل الذي كانت تمثله هذه الحركة على النزعة الفردية المتطرفة عند الرومانتيكيين المتأخرين قد قوبل بارتياح وعطف. كذلك أبدى العنصر الطليعي في حركة موسيقى الاستعمال اهتماما بحركة إحياء باخ بين أصحاب النزعة الكلاسيكية الجديدة في أوائل العشرين، ومن هنا فإنهم لم يقتصروا على اقتباس طريقة باخ في التعبير الموسيقي المباشر، بل إنهم تحدثوا عنه بوصفه واحدا من الدعاة القدماء لموسيقى الاستعمال، بذل جهوده من أجل تلبية الحاجات الموسيقية للشعب. وقد أوضح أعضاء حركة موسيقى الاستعمال أن باخ لم يكتب لجماعة من الصفوة، أو لقلة مختارة، وإنما كان يكتب لشعب الكنيسة بأكمله، أو للجمهور العام. وهو لم يخلق موسيقاه لكي يستمتع هو ذاته بها، إذا ما دفعته روحه إلى التأليف، ومتى دفعته إلى ذلك، وإنما كان يكدح من يوم إلى يوم، كما يفعل أي صانع ماهر، لكي يؤدي التزاماته نحو مجتمعه وكنيسته.
Unknown page