القسم الثاني: هايدن وموتسارت وبيتهوفن
وقعت ألمانيا في القرن السابع عشر فريسة صراع ديني وحرب مدمرة. وكان من الطبيعي أن تنعكس على الموسيقى صورة الظروف التي نشأت في ظلها، ألا وهي جو الصراع والموت هذا؛ فأهم ما أنتجته ألمانيا من الموسيقى في تلك الفترة كان ذا طابع ديني قبل كل شيء، وكان مكتوبا عادة للآلة الموسيقية الخاصة بالكنيسة، وهي الأرغن. وعلى حين أن الجزء الشمالي من ألمانيا قد اتخذ من لوثر مرشدا له في الأمور الروحية والموسيقية، فإن الجزء الجنوبي منها، الذي ظل كاثوليكيا كان يستورد الموسيقى والموسيقيين الإيطاليين ليستمتع بفنهم. وكان الموسيقيان البروتستانتيان، شوتس وباخ، يحسدان جيرانهم الجنوبيين في مجال الموسيقى، بل لقد حاولا إدخال الأفكار الجمالية للإيطاليين الكاثوليك في مؤلفاتهم البروتستانتية.
ولقد أصبحت إيطاليا المركز الموسيقي لأوروبا باكتشاف المونودية
monody
30 ، وهي لحن فردي بمصاحبة آلات موسيقية استخدمته جماعة الكاميراتا كرد فعل على الغناء البوليفوني المعقد في القرن السادس عشر. وقد أدى هذا الأسلوب المونودي في الغناء إلى جعل الأوبرا فنا محببا إلى نفوس الإيطاليين، وأذاع هذا القالب الموسيقي والأسلوب الغنائي الجديد في جميع أرجاء أوروبا. ويروي لنا فولتير أن الكاردينال مازاران قد أمر في عامي 1646م و1654م بأداء أوبرات إيطالية بواسطة مغنين استقدموا من إيطاليا خصوصا لهذا الغرض. غير أن الفرنسيين لم يميلوا على الفور للأوبرا الإيطالية، التي اخترعت في فلورنسا، لسبب بسيط - في رأي فولتير - هو أنه «ما زالت في فرنسا بقية من البربرية القديمة التي تعارض إدخال هذه الفنون.»
31
ولكن إذا لم يكن الفرنسيون قد مالوا إلى الأوبرا الإيطالية، فإنهم لم يعترضوا على الموسيقى التي يؤلفها موسيقي إيطالي، إذا كانت تتمشى مع الذوق الفرنسي. وهذا بعينه ما فعله موسيقي إيطالي، هو «لولى» الفلورنسي، الذي خلق للأوبرا الفرنسية قالبا مضادا للقالب الإيطالي، وظل القالب يتخذ أنموذجا يحتذيه الموسيقيون الفرنسيون طوال المائة عام التالية.
وفي القرن الثامن عشر ربط روسو بين الفن الموسيقي وبين مذهبه الفلسفي، فذهب إلى أن فكرة العود إلى الطبيعة، تحتم الأخذ بفكرة الطبيعة في الموسيقى، وقال: «إذا كانت الأوبرا تستهدف جلب لغة الحياة اليومية إلى المسرح، فمن الواضح أن هذه اللغة لا تتمثل في ذلك الحديث الفصيح المتكلف المتصنع، الذي كان يقدمه إلينا ممثلو القرنين السابع عشر والثامن عشر.» وقد عبر روسو عن فلسفته في الموسيقى، وعن روح الحماسة الفرنسية، في أوبرا «عراف القرية»، وكانت فلسفته في الموسيقى مرشدا للموسيقي الكبير جلوك، كما كان لها تأثيرها في عبقرية موتسارت المبكرة.
ولقد ظلت إيطاليا وفرنسا، حتى أوائل القرن الثامن عشر، متفوقتين على سائر البلدان الأوروبية في مجال الموسيقى، ولكن بحلول منتصف ذلك القرن، أصبحت ألمانيا أكثر بلدان العالم الغربي إبداعا؛ فقرب منتصف القرن الثامن عشر، فترت القدرات الخلاقة للموسيقيين الإيطاليين فتورا واضحا، وظلت الموسيقى المألوفة تتكرر دون تغير، ولم يظهر إنتاج موسيقي جديد يعادل في مكانته أو مزاياه الفنية موسيقى فترة الباروك الأولى، فقبل أواسط القرن الثامن عشر كانت أوروبا كلها تغترف من مناهل الموسيقى الإيطالية، أما بعد ذلك التاريخ، فقد بدا أن إيطاليا، وكذلك معظم بلدان أوروبا، قد أخذت تمر بفترة عقم فني، ولم تعد مظاهر النشاط الفني تتمثل إلا في بلد واحد هو ألمانيا؛ ففي الوقت الذي تراخت فيه إيطاليا لتجتر ماضيها الموسيقي، بدأ عهد موسيقي جديد في ألمانيا على أيدي هايدن وموتسارت وبيتهوفن، الذين تأثروا جميعا إلى حد ما بالآراء الجمالية الموسيقية لدى ابني يوهان سباستيان باخ، وهما كارل فيليب أمونويل ويوهان كريستيان (1735-1782م).
وفي عام 1745م عين أمير مانهايم عازفا بارعا على الفيولينة اسمه يوهان أنطون شتامتس
Unknown page