تصدير المترجم
مقدمة المؤلف
1 - اليونانيون
2 - الموسيقى في العصور الوسطى
3 - الفيلسوف والموسيقى في العصر القوطي وعصر النهضة
4 - الموسيقى البروتستانتية
5 - الفلسفة الجمالية للموسيقى في عصر الباروك
6 - المذهب العقلي، والتنوير، والعصر الكلاسيكي في الموسيقى
7 - الفلسفة التالية ل «كانت» والرومانتيكية في الموسيقى
8 - الفلسفات الموسيقية في عصرنا الحاضر
Unknown page
9 - معايير لفلسفة جمالية في الموسيقى
تصدير المترجم
مقدمة المؤلف
1 - اليونانيون
2 - الموسيقى في العصور الوسطى
3 - الفيلسوف والموسيقى في العصر القوطي وعصر النهضة
4 - الموسيقى البروتستانتية
5 - الفلسفة الجمالية للموسيقى في عصر الباروك
6 - المذهب العقلي، والتنوير، والعصر الكلاسيكي في الموسيقى
7 - الفلسفة التالية ل «كانت» والرومانتيكية في الموسيقى
Unknown page
8 - الفلسفات الموسيقية في عصرنا الحاضر
9 - معايير لفلسفة جمالية في الموسيقى
الفيلسوف وفن الموسيقى
الفيلسوف وفن الموسيقى
تأليف
جوليوس بورتنوي
ترجمة
فؤاد زكريا
مراجعة
حسين فوزي
Unknown page
تصدير المترجم
في هذا الكتاب محاولة لدراسة ميدان لم يطرق من قبل على نطاق واسع، وهو العلاقة بين آراء الفلاسفة وتطور الموسيقى على مر العصور؛ ذلك لأن من المألوف أن نجد دراسات تكتب عن فلسفة الموسيقى، أو عن آراء فلاسفة معينين أو مدارس فلسفية خاصة في الموسيقى، أما تأثير الفلسفة ذاتها في مجرى الموسيقى، فهو موضوع لم يكتب فيه الكثير من قبل. ولعل السبب الأكبر في ندرة ما كتب عن هذا الموضوع هو الاعتقاد الذي يسود معظم الأذهان، بأن تطور الموسيقى سار مستقلا عن أفكار الفلاسفة، ولم يتأثر بها على الإطلاق، وإن كانت هناك نقاط التقاء معينة بين المجالين تتمثل في تلك الكتابات التي كان الفلاسفة يسجلون فيها أفكارهم عن الموسيقى من آن لآخر، أو في تلك التأملات شبه الفلسفية التي قد يعبر بها الموسيقار عن تجاربه في الحياة والفن. ومع ذلك فمن المؤكد أن القارئ يخرج بعد قراءة هذا الكتاب بانطباع مخالف تماما، هو أن تأثير الفلسفة في الموسيقى كان أقوى مما نتصوره للوهلة الأولى، وأن هناك مصيرا مشتركا يجمع بين هذين المجالين للنشاط الروحي في الإنسان، وأن اللقاء بين الفيلسوف والموسيقى قد استمر طوال التاريخ، وما زال قائما إلى اليوم.
والقضية التي يدافع عنها المؤلف هي أن آراء الفلاسفة في الموسيقى لم تكن إلا تعقيبات متنوعة على أفكار رئيسية قال بها فيلسوف يوناني كبير هو أفلاطون في محاوراته، ولا سيما «الجمهورية» و«القوانين»، منذ أكثر من ألفي عام. وأهم هذه الآراء أربعة: (أ)
التأثير الأخلاقي للموسيقى، من حيث إن لها القدرة على دعم العنصر الفاضل في الشخصية أو زيادة ميلها إلى الرذائل، تبعا لنوع الألحان والإيقاعات والمقامات المستخدمة فيها. (ب)
التأثير النفسي للموسيقى، من حيث قدرتها على رفع معنويات الإنسان أو الهبوط بها، وشفاء أمراض معينة، أو بعث الاضطراب والاختلال في النفس. (ج)
ضرورة قيام علاقة سليمة بين الأنغام والكلمات، والربط بين الموسيقى والشعر برباط وثيق، وإيثار الموسيقى المصاحبة للغناء على الموسيقى الخالصة في معظم الأحيان. (د)
الشك في قيمة التجديدات الموسيقية، والنظر إليها بعين الحذر، على أساس أن التجديد في هذا المجال قد يؤدي إلى اضطراب في النفوس، وبالتالي إلى اختلال في نظم الدولة.
هذه المبادئ الأربعة على الرغم مما تتضمنه من مواقف سلبية من الموسيقى، تنطوي ضمنا على اعتقاد راسخ بقوة تأثير هذا الفن في الإنسان، وبأن الموسيقى قوة هائلة يستطيع الإنسان أن يستغلها في الخير والشر على السواء، ويمتد نفعها أو ضررها حتى يشمل المجتمع بأسره، وما يسوده من نظم اجتماعية وسياسية؛ لذلك كان الفلاسفة والمفكرون منذ عهد أفلاطون ينظرون بعين الحذر إلى هذه القوة السحرية الجبارة، ويحاولون وضع الضمانات التي تكفل استخدامها لأغراض تلائم القيم التي يدعون إليها.
ويرى المؤلف أن هذه المبادئ هي التي تحكمت في موقف الفلاسفة من الموسيقى طوال عصور الحضارة الغربية؛ فهي قد انتقلت بعد العصر اليوناني إلى المسيحية في العصور الوسطى، وكانت هي المحور الذي دار حوله تفكير آباء الكنيسة الكاثوليكية في الموسيقى، وكذلك آراء المصلحين البروتستانت في عصر النهضة. واستمر الفلاسفة يدعون إلى هذه الآراء في عصر «الباروك» والعصرين الكلاسيكي والرومانسي، وما زال تأثيرها واضحا في النقد الجمالي الموسيقي حتى اليوم. وبعبارة أخرى فقد امتد تأثير أفلاطون في هذا المجال بدوره حتى عصرنا الحاضر.
على أن آراء أفلاطون في الموسيقى لم تكن وليدة موقف جمالي أصيل بقدر ما كانت نتاجا لذهن نظري يحدد مجموعة من الغايات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لمدينة فاضلة، ويعمل على تسخير كل شيء في سبيل تحقيق هذه الغايات؛ فذلك الفيلسوف الذي كان في كتاباته أقرب الجميع إلى الفنان الأصيل، قد وقف من الفن الصحيح موقفا متزمتا لم يكن يتورع فيه عن القضاء على حرية الفنان من أجل ضمان قيام ما يعتقد أنه الدولة المثلى. وإذا كان أفلاطون بآرائه هذه هو الذي تحكم في تفكير الفلاسفة في الموسيقى حتى اليوم، فلا عجب إذن أن تكون أفكار الفلاسفة عاملا معوقا لتطور الفن الموسيقي، وأن يكون الطابع الغالب على هذه الأفكار هو الطابع المحافظ الذي يدافع عن القيم الماضية أو الحاضرة، ولا يثق في أي تطور يبشر به المستقبل.
Unknown page
ولكن هل يرجع موقف الفلاسفة هذا إلى مجرد قصور عقلي، وافتقار إلى ممارسة التجربة الجمالية الصحيحة في مجال الموسيقى فحسب؟ الحق أن هذا التعليل، وإن كان يصح في حالات معينة، فليس في رأينا بالتعليل الشامل لكل جوانب هذه الظاهرة. وإنما التعليل الذي نراه صحيحا هو أن الفيلسوف النظري كان يدافع عن الأوضاع القائمة ويبررها، ويعجز عن كشف الأوضاع المقبلة أو استباق الأوضاع الجديدة؛ فكل ما يستطيع الفيلسوف النظري عمله، في هذا المجال أو غيره، هو أن «يفلسف» ما هو موجود بالفعل، ويستخرج الأساس النظري له، أما التطور الفعلي فلا يمكن أن يتم على يد الفيلسوف.
وهذا يصدق على مجال الموسيقى مثلما يصدق على مجالات أخرى كثيرة؛ ففي حالة العلم يستطيع الفيلسوف أن يتقن الكشوف الموجودة والأساليب المعمول بها، ولكنه لا يستطيع أن يوجه إلى كشف جديد أو منهج لم يعرف من قبل. وفي مجال التفكير الاجتماعي قد يتمكن الفيلسوف من وضع أساس فكري للتطور الماضي أو الحاضر، ولكن المستقبل يثبت دائما أنه أرحب وأوسع من الصيغة التي يضعها له الفيلسوف، والتغير الثوري الذي يتم فيه لا يحدث على يد الفيلسوف النظري، وإنما على يد الثائر العملي. وفي مجال الفن عامة، والموسيقى خاصة، لا يزيد الفيلسوف عن أن يكون مرآة تعكس الأوضاع القائمة بالفعل، وقد يركزها بطريقة منظمة لا يستطيع الذهن العادي أن يصل إليها من الوهلة الأولى، ولكنه لا يستطيع أن يخلق أوضاعا جديدة، أو يتكهن، بقوة الفكر النظري وحده باتجاه المستقبل، بل إن الذي يقدر على ذلك هو الفنان المبدع وحده.
ولنضرب لذلك مثلا بسيطا؛ ففي هذا الكتاب نجد الفلاسفة حتى أوائل القرن التاسع عشر، يؤكدون ضرورة الربط بين الموسيقى والشعر، ويجعلون للموسيقى الخالصة؛ أي موسيقى الآلات وحدها، مكانة ثانوية بالقياس إلى الموسيقى المصاحبة للغناء، ثم يظهر شوبنهور ونيتشه في القرن التاسع عشر ليدافعا عن الموسيقى الخالصة، ويؤكدا قدرتها التعبيرية الكاملة، ومن بعدهما قل أن نجد من الفلاسفة من يجعل للموسيقى الخالصة مكانة ثانوية، فهل يعد تغير موقف الفلاسفة على هذا النحو مجرد تحول ذاتي للفكر، تمكن فيه من تصحيح خطأ سابق ظل يقع فيه لمدة ألفي عام، واستدركه في القرنين الأخيرين؟ الواقع أن تصور المسألة على هذا النحو ينطوي على قدر غير قليل من السذاجة، والأصح أن نعلل هذا التحول بأنه راجع إلى حدوث تطورات في الفن الموسيقي نفسه، في القرن التاسع عشر بوجه خاص، أتاحت لهذا الفن أن يعلن استقلاله الذاتي، ويثبت قدرته على الوقوف على قدميه دون الاستعانة بأي فن آخر. وعندما وصلت الموسيقى إلى سن الرشد هذا، ظهر من المفكرين من «يفلسفون» هذا الموقف الجديد، ويدافعون عن استقلال موسيقى الآلات، أما قبل ذلك فلم يكن في وسع الفلسفة النظرية - بحكم طبيعتها وفي حدودها الخاصة وحدها - أن تمجد موسيقى الآلات، أو تعلي من قيمة اللحن بلا كلمات، ما دام الموسيقار لم يكن قد طور بعد أداته التعبيرية إلى الحد الذي يتيح للفيلسوف أن يعبر نظريا عن هذا التجديد.
وأبلغ شاهد على ما نقول آراء الفيلسوف «كانت» في الموسيقى، كما عرضت في الفصل السادس من هذا الكتاب؛ ففي الوقت الذي أعرب فيه «كانت» عن هذه الآراء، كان هناك عالم موسيقي جديد يوشك على الظهور، وكان باخ وهيندل وهايدن وموتسارت قد أحدثوا انقلابا هائلا في مكانة هذا الفن وقدرته التعبيرية. ومع ذلك ظل «كانت» الذي يعد من أضخم العقول في ميدان الفلسفة النظرية يدافع عن أولوية الشعر، ويهاجم الموسيقى الخالصة، ويضع الفن الموسيقي في أدنى درجات سلم الفنون. وهكذا عجز «كانت» عن إدراك اتجاه المستقبل، الذي كانت بوادره قد ظهرت في عصره بكل وضوح، وظل في ميدان الموسيقى - كما كان في ميدان العلم - مجرد ذهن يفلسف ما هو حاضر، ويعجز عن إدراك بذور المستقبل، فليس لنا إذن أن ندهش حين نجد الفيلسوف يدافع عن القيم الراهنة والأوضاع القائمة؛ إذ إن كل بضاعته عقل نظري يفلسف هذه القيم، وكل عتاده ذهن خالص يقنن هذه الأوضاع، أما التطور الفعلي فيتم على أرض العلم أو الفن، لا على أرض الفلسفة. •••
وأستطيع أن أقول إن أهم النتائج التي انتهى إليها المؤلف من بحثه الطريف لتأثير الفلسفة في تطور الموسيقى نتيجتان؛ الأولى أن الفيلسوف ومعه الكاهن كانا في معظم الأحيان حائلا يقف في وجه تطور التيارات الفنية على مر القرون، وأثبت الزمان أنهما نبيان زائفان، على حين أن الفنان الذي نددا به ب «حكمتهما» لم تقتصر مقدرته على التبصر بحقيقة عصره، بل لقد استطاع أن يستبق حاجات المستقبل ويتكهن بها. ولا حاجة بنا إلى الوقوف طويلا عند هذه النتيجة؛ لأن ما أوردناه في هذا الجزء السابق من التصدير يعد تعليقا كافيا عليها.
وأما النتيجة الهامة الثانية، فهي مترتبة على النتيجة السابقة، فإذا كان استقراء تاريخ الموسيقى يثبت أن الفيلسوف لم يكن على حق في تنديده بالتجديدات والتطويرات الموسيقية، وإذا كان هذا التجديد قد فرض نفسه على الرغم من معارضة المفكر الفلسفي أو رجل الدين، فمن الواجب أن نتوقع أن يفرض التجديد في الموسيقى المعاصرة نفسه على النحو ذاته، رغم المعارضة التي يلقاها من كثير من الفلاسفة والمفكرين والنقاد الفنيين. وهكذا يدافع مؤلف الكتاب بحرارة عن القيم الجديدة في الموسيقى المعاصرة، وعن الاتجاهات التجريدية الشكلية التي يعتقد أنها تمثل حركة التطور في الفن الموسيقي في المستقبل، ويتخذ دفاعه هذا شكل تنديد غير مباشر بالطريقة السوفييتية في تقدير الموسيقى؛ إذ يرى فيها أصداء واضحة للفلسفة الأفلاطونية التي كانت تسخر اتجاهات الفن لها لخدمة أغراض الدولة. وإذا كان من الجائز أن هذا النقد حين يصدر عن كاتب ينتمي إلى العالم الغربي، لا يكون خالصا من بعض الشوائب أو الدوافع السياسية، فليس في وسع المرء أن ينكر أنه من الوجهة الموضوعية الخالصة صحيح، ولا سيما بالنسبة إلى الفترة الاستالينية التي سبقت تأليف الكتاب.
ومع ذلك فإني لا أجد نفسي مقتنعا كل الاقتناع بالوجه الإيجابي لهذه الحجة، وهو الدفاع عن الموسيقى الشكلية المعاصرة بحجة أنها إذا لم تكن مقبولة في الوقت الحالي، فستصبح مقبولة في المستقبل؛ فأصحاب هذه الحجة يشبهون نقاد الاتجاهات المعاصرة المفرطة في غرابتها بالنقاد الرجعيين الذين عابوا على موسيقى عصر الباروك، في وقتها، أنها صاخبة أكثر مما ينبغي، على حين أننا نجدها الآن مثالا للهدوء والصفاء. والواقع أن كتب الموسيقى تحفل بأمثلة لهذه الحجة، فنراها تفيض في تعداد أمثلة هجوم النقاد على أعمال بيتهوفن الأولى مثلا، ووصفهم إياها بالإغراب والتعقيد المتعمد، وتأكيدهم استحالة فهمها، وتستدل من ذلك على أن كل تجديد أصيل يقابل في بداية الأمر بالاستنكار، ثم تعتاده الأذن بالتدريج، ولكن قياس التجديد الموسيقى المعاصر بهذه الحالات السابقة في التاريخ الماضي للموسيقى هو في رأيي قياس مع الفارق الكبير.
ذلك لأنه قد مضى الآن أكثر من سبعين عاما على بداية ظهور هذه التجديدات، وهي فترة كانت تكفي وزيادة لتثبيت قيمتها في النفوس لو كانت لها قيمة كبرى بحق. ومع ذلك فإن الكثيرين ما زالوا يجدونها منفرة حتى اليوم، بل إن من بين أولئك الذين لا يعترفون بها موسيقيين كبارا؛ مثل برونو فاتلر وبابلو كازالس. وفي كل يوم يغرق الموسيقيون في العالم الغربي في تجاربهم الصوتية التي يتصورون أن الأذهان سوف تستسيغها في المستقبل، كما استساغت من قبل موسيقى بيتهوفن بعد عداوة شديدة في البداية، ولكن كم من الوقت احتاج إليه العالم ليعترف بعظمة بيتهوفن، وليهضم تجديداته ويدمجها في تراثه الفني؟ إن ذلك لم يستغرق أكثر من سنوات قلائل؛ ففي خلال حياة بيتهوفن ذاتها، اعترف الجميع بعظمته، واستوعبت تجديداته الجريئة، ولم يعد بين النقاد أو بين جمهرة المستمعين خلاف حول أصالة هذا الفنان. أما في عصرنا الحالي، فما زال الخلاف على أشده حول التجديدات المعاصرة بعد أكثر من سبعين عاما، وما زال الجزء الأكبر من هذه التجديدات المفرطة في شكلياتها لا يحرك أحاسيس حقيقية أو يقابل بإعجاب صادق من معظم الناس، وإن كان الكثيرون يخشون الاعتراف بهذه الحقيقة، حتى لا يتهموا بالجهل أو الرجعية. وهذا القول لا ينسحب بطبيعة الحال على كل الموسيقى المعاصرة، وإنما على اتجاهاتها الشديدة التطرف فحسب.
ومما يزيد من صعوبة تشبيه هذا الموقف المعاصر بالمواقف الماضية، أن قدرة الناس على استيعاب الجديد أيام بيتهوفن مثلا كانت أقل بكثير من قدرتهم الحالية على ذلك؛ إذ إن عدم وجود وسائل لتسجيل الموسيقى في القرن التاسع عشر كان يعني أن الآذان لم تكن تعتاد الأساليب الجديدة إلا من خلال الحفلات القليلة التي تستمع فيها إلى هذه الموسيقى مباشرة، ولم يكن للموسيقى خارج هذه الحفلات أي كيان (إلا في أوساط الموسيقيين المحترفين القادرين على عزفها على آلة كالبيانو مثلا). أما في وقتنا الحالي، فإن فرص الاستماع وتدريب الأذن على الاتجاهات الجديدة أصبحت فرصا لا حدود لها، بفضل التسجيلات والإذاعات. وبعبارة أخرى فإن التجديد الذي كان استيعابه يقتضي أجيالا كاملة في الماضي لم يعد يحتاج اليوم إلا إلى سنوات قلائل.
ومع كل هذه الفوارق التي تخدم قضية التجديد، وتجعل استيعاب الأذهان له أيسر بكثير، فما زال معظم الناس، ومنهم الخبراء المدربون، عاجزين عن استيعاب الكثير من الاتجاهات المغرقة في الشكلية في الموسيقى المعاصرة، وما زال موسيقار مثل «فيبرن
Unknown page
Webern » عاجزا عن أن ينتزع من الإعجاب ما كان يلقاه الموسيقار المجدد في القرن التاسع عشر بعد سنوات قليلة من ظهور إنتاجه.
والخلاصة أن الحجة التي ترتكز، في تبريرها للاتجاهات المتطرفة في الموسيقى المعاصرة، على السوابق التاريخية ، قد أصبحت حجة بالية من فرط ما استهلكها المفكرون الجماليون، واستنفدت أغراضها، وبدأ بطلانها ينكشف في ضوء التطورات التكنولوجية المعاصرة. •••
بقيت كلمة أخيرة عن طريقة تأليف هذا الكتاب؛ فالمؤلف هو أستاذ مساعد للفلسفة في كلية بروكلين بنيويورك، هو في الوقت ذاته موسيقي مكتمل التكوين. هناك احتمال كبير في أن يكون الكتاب كله، أو أجزاء منه، قد صيغ أصلا على هيئة محاضرات، بدليل ما نجده في بعض الفصول من تلخيص للفصول السابقة على طريقة الدروس الملقاة في المحاضرات. ومن جهة أخرى فإن المؤلف نظرا إلى كونه يرجع إلى أصل غير أمريكي، كان في بعض الأحيان يرتكب هفوات لغوية شكلية استبحت لنفسي أن أصححها، وأقوم بالترجمة على أساس التصحيح، دون خروج أساسي عن الأصل أو تحريف له، وأنا أعد نفسي مسئولا عن هذه التعديلات القليلة مسئولية كاملة.
فؤاد زكريا
مقدمة المؤلف
كان لكتابات الفلاسفة تأثير كبير في التطور التاريخي للموسيقى في الحضارة الغربية. وسوف يتضح لنا في الصفحات القادمة من هذا الكتاب أن الفلاسفة، وإن كانوا في عمومهم كتابا نظريين ليس لديهم من الخبرة الفنية ما يتيح لهم تقويم التركيب الفعلي للموسيقى، كانت لديهم مع ذلك آراء كثيرة في الموسيقى، وفي تأثير الفن الموسيقي في سلوك الإنسان. والواقع أن الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية للإنسان الغربي تشهد بوضوح بمدى تأثير نظريات الفلاسفة في مجرى الموسيقى في الحضارة الغربية.
ولقد كان الفيلسوف القديم يرى في الموسيقى أكثر من مجرد تعبير عن المشاعر، فلم يكن يقنع بالنظر إليها على أنها وسيلة من وسائل الاتصال الفني ينقل بها الموسيقار الشاعر في العالم القديم أفكاره وأحواله الانفعالية إلى الآخرين. وإنما حاول الفيلسوف اليوناني أن يعرف إن كان أصل الموسيقى يرجع إلى «مصدر علوي» معين يعلو على أفهام البشر. وكان يؤمن بأنه توصل إلى معان أخلاقية في الألحان، وإلى دلالات أخلاقية في الإيقاعات. وعندما لاحظ تأثير الموسيقى في سلوك الإنسان، وصل إلى أن الموسيقى قد تهذب الطبع، وقد تزيده انحطاطا. ولما لم يكن لديه من العتاد الذهني ما يتيح له فهم الموسيقى الفعلية ذاتها، فقد نسب إلى أصل الموسيقى وقواها خصائص صوفية. ونظرا إلى انعدام ثقته في الانفعالات، وإلى تمجيده للعقل، فقد كان يخشى من تلك الآثار التي يمكن أن تجلبها الإيقاعات المتوثبة والأنغام المفرطة في حسيتها على الجسم والذهن. وقد استنتج أن الإيقاع واللحن إنما هما محاكاة لحركات الأجرام السماوية التي تصدر عنها خلال حركتها في السموات موسيقى إلهية لا تدركها آذان البشر. وعلى أساس هذا الافتراض، انتهى إلى أن فن الموسيقى مقلد لقوانين الطبيعة، ولما كان النظام الأخلاقي ساريا على الكون، فإن للموسيقى قيمة أخلاقية.
ولقد عمل المسيحيون في كتاباتهم على تجميل وتزويق تلك الصورة الخيالية الجامحة، وتلك المضمونات الأخلاقية التي نسبها الفلاسفة القدماء إلى الموسيقى. واستعاض آباء الكنيسة، ومن بعدهم قادة حركة الإصلاح الديني، عن تلك النظرية الشيقة القائلة إن انسجام الأفلاك هو الأصل الإلهي للموسيقى، بالاعتقاد القائل إن الموسيقى قد وهبت للإنسان بفضل موجود خير، من أجل إعلاء كلمة الله. أما في أيامنا هذه، فقد عدلت أقوال الفلاسفة القدماء، وطبقت تطبيقا عمليا أوسع نطاقا، وأجريت تحليلات أيديولوجية للنظرية الأخلاقية اليونانية، كما تحول استخدام الأثينيين للموسيقى وسيلة للتعليم إلى نوع من الإرشاد السياسي.
على أن هذا الكتاب لا يزعم لنفسه أنه تاريخ للموسيقى، أو أنه عرض عام للفلسفة، وهو قبل هذا كله لا يدعي على الإطلاق أنه دراسة فنية لعلم الموسيقى. وإنما الغرض من هذا الكتاب هو تقديم عرض تاريخي لأصول التفكير الجمالي في الموسيقى، وتطوره في الحضارة الغربية. ومن رأي المؤلف أن جذور التفكير الجمالي في الموسيقى الغربية ترجع إلى أفلاطون، وأن كتابات هذا الفيلسوف اليوناني ما زال لها تأثيرها الواضح في الموسيقى حتى يومنا هذا.
وربما قيل ردا على ذلك، أنه لا جدوى من إيضاح أوجه الشبه بين المفاهيم الموسيقية لدى القدماء والمحدثين لسبب بسيط هو أن موسيقى القدماء لها صدى انفعالي يختلف عن الموسيقى الشديدة التعقيد عند المحدثين، ولكن الواقع أنه ليس أبعد عن الصواب من الاعتقاد بأن الموسيقى البسيطة التي كان الشاعر اليوناني يجمل بها شعره بالغناء، لم يكن لها في نفوس سامعيه نفس التأثير الانفعالي الذي تحدثه فينا موسيقانا الحديثة الشديدة التعقيد.
Unknown page
إن المبادئ الجمالية التي نقدر على أساسها موسيقانا مبنية على كتابات الفلاسفة اليونانيين. ومهما قيل عن هؤلاء الفلاسفة القدماء من أنهم أعاقوا تطور الموسيقى بتأملاتهم الجامحة، فإنهم مع ذلك قدموا إلينا معاييرا للقيم نستطيع بها أن نصوغ حكما عن الموسيقى، والأهم من ذلك أن الفيلسوف اليوناني كان مهتما بمشكلات تتعلق بموسيقى عصره، تماثل تماما تلك المشكلات التي نهتم بها في حضارتنا الحالية. وهكذا فإن تشابه المفاهيم الموسيقية في التفكير الجمالي القديم والوسيط والحديث إنما يرجع إلى أنها كلها تنويعات للحن الأصلي الذي اتخذه أفلاطون شرطا ضروريا لإيجاد مجتمع مثالي، ولخلق الإنسان المثالي.
ولقد ظل الفيلسوف حتى القرن الثامن عشر يقوم الموسيقى من خلال المعاني الميتافيزيقية والأخلاقية والرياضية، وكان في كل مناسبة يكتب القدرة الخلاقة للموسيقى بدفاعه عن القيم التقليدية، وحرصه على إبقاء الأمور على ما هي عليه. وكان الفيلسوف يسارع إلى التشكيك في أي تغير يطرأ على الموسيقى، ويأخذ على عاتقه تقويم الموسيقى الجديدة التي قد تهدد استقرار الطقوس السائدة أو الوضع السياسي القائم. أما الأصوات الفلسفية القليلة التي ارتفعت بالاحتجاج على مثل هذه الآراء الجمالية السائدة عن الموسيقى، فكانت تؤكد أن الموسيقى لا تعني شيئا عدا ذاتها، وأنها ليست موضوعا للميتافيزيقا، ولا مسألة أخلاقية، ولا وسيلة لتنظيم التعليم، ولا أداة سياسية.
ولقد وقف الموسيقي صامدا في وجه السلطة على مر عصور التاريخ، وإن اضطر في الماضي - وما زال مضطرا في الحاضر - إلى الرجوع عن موقفه الجمالي إلى حد ما، حتى يضمن سلامته إزاء الأوامر الغاشمة لسلطة دينية، أو نزوات سيد يرعاه، أو قرارات لجنة سياسية. وهكذا كان الموسيقار عبدا للأخلاق والدين، وصنيعة لسيد غني، وأداة لنشر أيديولوجية سياسية، ولكنه خلال هذا كله لم يكن في أي وقت أداة طيعة تماما في يد أي واحد من هؤلاء، وإنما كانت طبيعته ذاتها تجعله منصرفا تماما إلى إشباع حاجته الشديدة إلى التعبير عن ذاته، ومستغرقا كل الاستغراق في الرغبة في إطلاق مشاعره من عقالها. ولقد ظل هذا الصراع بين الفكر والشعور، بين العقل والحكم الجمالي، بين الفيلسوف والموسيقار، صراعا دائما طوال التاريخ.
وإنه لمن الممكن وضع نظام من القيم لفلسفة جمالية للموسيقى، لا تكون مرتكزة على تعاليم القدماء، وإنما على قيم إنسانية النزعة. مثل هذا النظام أو النسق من القيم الموسيقية يمكن تحقيقه باستبعاد الأساطير البالية التي طغت على الخلق والتذوق الموسيقي، وبالاسترشاد بالمبدأ القائل إن الموسيقى هي في أساسها تعبير عن المشاعر في شكل فني، قوام أسلوبه هو الإيقاع والنغم؛ فالموسيقى تنبعث من المشاعر، وتأثيرها إنما ينصب على المشاعر، وهي ناشئة من العاطفة لكي تحرك العواطف. وجذور الموسيقى متغلغلة في تربة الواقع الفعلي؛ فهي نتاج للتجربة البشرية، حتى حين تعلو على التجربة؛ إذ تبلور المشاعر في أنغام حسية، وإيقاعات متحركة تنقلنا إلى قمم شفافة من النشوة الوقتية. وللموسيقى القدرة على تخليصنا من القلق والهموم، وهي وسيلة للاتصال تفوق في فعاليتها وقدرتها على الإثارة الانفعالية كل صور التعبير الأخرى التي استحدثها الإنسان لكي ينقل بها مشاعره وأفكاره إلى الآخرين. والموسيقى تجسد آمالنا وأحلامنا، وحزننا ويأسنا. وليس في وسعنا أن نستخلص من الموسيقى إلا ما أضفيناه عليها بالحساسية والفهم. ومهما كان الفلاسفة قد كتبوا عن الموسيقى، فقد كان ما قالوه عنها أقل مما قالوه عن أي فن من الفنون الأخرى؛ لسبب بسيط هو أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى فينا لا يخضع للمنطق بنفس السهولة التي تخضع بها له الفنون المرتكزة على مدركات عقلية، كالشعر أو الدراما.
على أن الفيلسوف قد جعل للموسيقى درجة منخفضة في سلم الفنون لهذا السبب ذاته، وأعني به أن الموسيقى تتعلق قبل كل شيء بالمشاعر لا بالعقل، وبالانفعال لا بالفهم، وبالخيال لا بالتصورات الذهنية. ولقد دأب الفلاسفة طوال العصور - باستثناء القليل منهم - على الاعتقاد بأن الموسيقى بلا كلمات أقل قيمة من الموسيقى بالكلمات؛ فموسيقى الآلات الخالصة غامضة تفتقر إلى التحدد، وهي تجسيد للانفعال في نغم وإيقاع يثير فينا مشاعر أحس بها الموسيقي إلى حد ما عندما ألف موسيقاه. غير أن الفيلسوف لا يوقن بأن المشاعر يمكن أن تكون أهلا للثقة، وإنما يؤكد أن الكلمات التي تضاف إلى الموسيقى تضفي على المشاعر طابعا يمكن إدراكه ذهنيا، وتجعل اللامتحدد محددا واضح المعالم، وتنقل فن الموسيقى من المستوى الأدنى للانفعال إلى المستوى الرفيع للعقل.
الفصل الأول
اليونانيون
القسم الأول: السابقون على سقراط
ليس لدينا من المعلومات الفعلية عن الموسيقى سوى القليل في تلك الفترة من التاريخ القديم، التي تناظر العصر المعروف بالعصر السابق على سقراط في الفلسفة. وكل ما نعرفه معلومات متفرقة يمكن استنتاجها من كتابات الفلاسفة والشعراء، ما دامت الموسيقى ذاتها قد اندثرت. تبدأ دراسة الفلسفة السابقة على سقراط بالفيلسوف طاليس في القرن السابع ق.م. وفي القرن التالي أسس فيثاغورس مدرسة فلسفية منظمة، وكان اهتمام هذه الفلسفة بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، وبالتركيب التجريبي للأنغام الموسيقية لا يقل عن اهتمامها بإثبات أن العدد هو الحقيقة بالمعنى الصحيح. أما الشعراء الذي يرجعون إلى عهد أقدم هو عهد هوميروس في القرن التاسع ق.م. فقد خلفوا لنا شذرات هزيلة، ولكنها قيمة عن موسيقى القدماء، وهي تتميز بأنها أقرب إلى الخيال الشعري منها إلى الحقيقة، ولا مفر لكتاب في الفلسفة الجمالية للموسيقى من أن يبدأ بعرض هذه الشذرات الباقية كما تستخلص من الكتابات القديمة، وتبويبها في ترتيبها التاريخي الصحيح.
إن أقدم معرفة لدينا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. والواقع أن ما قالوه عن الموسيقى لم يكن يتسم بالأصالة التامة؛ إذ إن الكهنة المصريين القدماء كانت لديهم آراء مشابهة، كما ظهرت مثل هذه الآراء لدى حكماء الشرق قبل العصر الذهبي لليونان بوقت طويل. غير أن فضل الفلاسفة اليونانيين إنما يرجع إلى تنظيمهم للنظريات الموسيقية الموروثة عن أسلافهم، وبذلك خلفوا لنا تراثا من الفلسفات الموسيقية القديمة، ولكن عندما تدخل خيال الشاعر اليوناني المنشد من أجل تغير تلك القيم الموسيقية التقليدية السائدة في العالم القديم على النحو الذي يكفل ملاءمتها للحضارة الهلينية ، أخذ الفيلسوف على عاتقه القيام بمهمة الدفاع عن الماضي، فقوم الموسيقى الجديدة على أسس أخلاقية وميتافيزيقية، وأصدر أحكاما مدوية ما زال صداها يتردد في موسيقى عصرنا الذي نعيش فيه.
Unknown page
ومن الواجب أن نذكر، عندما نتحدث عن الموسيقى اليونانية، أن الشاعر المنشد اليوناني كان موسيقيا في الوقت ذاته، ولم يكن يفصل الموسيقى عن الشعر؛ فقصائد هوميروس وأناشيد بندرا لم تكن تنشد إلا مع الموسيقى. وكان الشاعر والموسيقار في اليونان شخصا واحدا، وبلغ من اعتماد موسيقاه على النص الكلامي أن كل نغمة مفردة كانت ترتبط بكل مقطع في الكلام الملفوظ.
ويرجع أصل كلمة الموسيقى ذاتها إلى اليونانية، وكان ينظر إليها في الأصل بطريقة شبه أسطورية، على أنها فن أوحت به مباشرة، وخلفته ربة الفن (موزي
muse ). ولقد كان لليونانيين القدامى في البداية ثلاث ربات؛ ربة الدراسة (العلم)، وربة الذاكرة، وربة الغناء، ولكن كل فن أصبح له بمرور الوقت ربة راعية. وتروي الأساطير السابقة على عهد هوميروس أن «أورفيوس» خادم أبولو الذي كان مطربا ساحرا، ومنشدا للشعر، كان هو ذاته ابنا لإحدى الربات، وكانت لصوته خصائص سحرية تشفي المرضى، وتبعث التقوى في النفوس عند أدائها للطقوس الدينية. ولقد أشار أفلاطون في حديثه عن السفسطائي «بروتا جوراس» إلى التأثير الخلاب الذي تحدثه بلاغة بروتا جوراس، وكذلك أغاني أورفيوس في نفوس سامعيها.
1
وقد وصف أرستوفان «موزياوس
Museaus » تلميذ أورفيوس بأنه طبيب للنفوس، نستطيع أن نفترض أنه توصل إلى علاج مرضاه بسحر الأناشيد التي تنسبها الأساطير إليه. وقد عزا إليه أرسطو القول بأن «الموسيقى أعذب ما يتمتع به جنس البشر»،
2
ثم أضاف، مشيرا إلى موزايوس، أن الموسيقى يمكن استخدامها وسيلة تسري عن الإنسان العناء.
وقد وصف هوميروس الشعراء المغنين في «الأوديسية» بأنهم أقرب البشر إلى قلوب الآلهة؛ فقد وهبتهم الربة فن الغناء، لا لكي يطربوا نفوس الناس فحسب، وإنما لكي يسهروا على رعاية أخلاق البشر أيضا.
3
Unknown page
فهؤلاء الشعراء هم الرسل الذين يعيشون على الأرض، وينقلون الرغبات الإلهية إلى الإنسان. وبالموسيقى يستطيع الإنسان بدوره أن يبتهل إلى الآلهة لتخلصه من المرض والوباء. وقد وصف هوميروس كما روى «بلوتارك» بعده بقرون عديدة
4
كيف أوقف الإغريق نقمة أحد الأوبئة بقوة الموسيقى، وسحرها الذي بدد غضب الآلهة «بالأناشيد والأغاني المقدسة هدأت الآلهة راضية.»
ولقد ظلت علاقة الشاعر المنشد بربته، وهي العلاقة التي رأيناها من قبل عند هوميروس قائمة عند هزيود، الذي عاش في حوالي القرن الثامن ق.م. فقد أنبأنا بأن الربات ظهرت له بينما كان يطعم قطعان أبيه، وعهدن إليه بأن يكون رسولهن وشاعرهن، وأعطينه «عصا الشاعر؛ لتكون آية على رسالته كمنشد»، وقبل أن يفارقنه قلن له: «إننا نعرف كيف نقول كثيرا من الأكاذيب التي تقع من الآذان موقع الحقيقة، ولكننا نعرف أيضا كيف نصرح بالحقيقة عندما نشاء.» فلا عجب إذن أن حمل طاليس في القرن التالي على الأسطورة الهومرية؛ لأنها تشويه للواقع يحرص على الابتعاد عن الحقيقة. وقد اتهم هوميروس بأنه لا يقصر على خلق آلهة أسطورية، وربات ملهمات، بل يضفي على هؤلاء أيضا صفات إلهية. والأدهى من ذلك في نظر طاليس أن هوميروس كان يؤمن بأن البشر جميعا خاضعون لأهواء الآلهة ونزواتهم، واستغل مواهبه الفنية لينصح الإنسان بأن يسلم مصيره إلى أيدي الآلهة. أما هزيود فقد اتخذ موقفا أكثر إنسانية من مؤلهي البشر، ولكن ليس إلى الحد الذي يكفي لإرضاء طاليس، الذي أطلق عليه أرسطو اسم «أبي الفلسفة القديمة». لقد كان ما يريده طاليس من الشاعر المنشد اليوناني، هو أن يركز مواهبه لتلبية حاجات الإنسان فحسب، بدلا من أن يخلق أناشيد لآلهة غير موجودة.
وفي القرن ذاته حمل أكسنوفان (حوالي سنة 570ق.م.) الذي ينتمي إلى المدرسة الإيلية في الفلسفة، على آلهة هوميروس وهزيود، كما فعل طاليس، ولقد استغل أكسنوفان سلاح التهكم ببراعة، فألف شعرا كان لاذعا وثوريا فيما ينطوي عليه من مطالبة بالإصلاح الاجتماعي. وقد أنحى باللائمة على هوميروس وهزيود في كل ما يلحق البشر من الشرور؛ إذ إنهما «قد نسبا إلى الآلهة كل الأمور التي تعد عارا بين البشر، كالسرقة والزنا وخداع بعضهم البعض.» ومرد ذلك كله إلى أن الشعراء الأولين كانوا يصورون الآلهة بصورة بشرية «فالناس يصنعون الآلهة على شاكلتهم، ولو كان للخيل أو الثيران أو الأسود أياد تمكنهم من خلق أعمال فنية، لجعلوا الآلهة على شاكلتهم أيضا.» لذلك رأى أكسنوفان أن من الضروري القضاء على هذه الأوهام الشعرية «إن شئنا إصلاح الحياة الاجتماعية». وقد ألف السياسي «سولون» (638-588ق.م.) مقطوعات شعرية يتحسر فيها على انعدام المساواة بين الإنسان وآلهته. وقد طبق فلسفته الإنسانية على الموسيقى الأثينية بدورها، فرأى أن من الممكن تقوية الروح الأخلاقية والوطنية عن طريق الموسيقى، التي تؤدي بدورها إلى تقوية الدولة، وتقلل من اعتماد الناس على الآلهة المتقلبة. كذلك عبر ألكيوس
Alcaeus (600ق.م.) عن روح عصره في الأناشيد والأشعار السياسية التي ألفها، وحمل فيها على الطغاة وعلى أعدائه السياسيين. وقد كتب مع معاصرته المشهورة «سافو
Sappho »
5 (حوالي 600ق.م.) أغنيات حب وخمريات لبلاط لسبوس
Lesbos
الفخم. كذلك شهد القرن السابع ظهور شخصية موسيقية فذة، هي شخصية «أرخيلوخوس
Unknown page
Archilochos » الذي كان من أقوى دعاة التغيير، والذي كان يستخدم الأنغام المتنافرة من آن لآخر، كما أضاف أوزانا إيقاعية جديدة إلى الشعر.
ويرجع إلى أرخيلوخوس الفضل في الإسهام بثلاثة تجديدات في الموسيقى اليونانية، كانت لها قيمة جمالية كبرى؛ فقد استخدم الإيقاع السريع، واستحدث نماذج إيقاعية جديدة، أضفى بها على موسيقى عصره حيوية كانت تفتقر إليها من قبل على الأرجح. وقد أرجع إليه الكتاب المتأخرون فضل استحداث أوزان حية ثنائية المقاطع (
iambic )، وإيقاعات متغيرة معقدة، وإدماج أجزاء شبه كلامية بين فقرات اللحن. كما ينسب التاريخ إلى أرخيلوخوس فضل النهوض بالأغنية الموسيقية التي كانت تغنى بمصاحبة «الليرا
Lyre ». وأغلب الظن أن انتشار الفن الشعبي في عصره أتاح له أن يستوحي في كثير من ألحانه الفولكلور والأغاني التي يتداولها الناس. كذلك كان أرخيلوخوس يستخدم التنافر الموسيقي من آن لآخر؛ إذ يجعل الآلة المصاحبة تعزف نغمات مخالفة للحن الغنائي. وقد حمل أنصار التقاليد الموروثة على هذا النوع البدائي من تعدد النغم (البوليفونية)، ووصفوه بأنه تخليط نغمي.
على أن الشاعر بندار (حوالي 522-443ق.م.) قد فند في القرن التالي الآراء المخالفة للدين عند الفلاسفة في أنشوداته الغنائية؛ إذ إنه استخدم خياله في الرد عليهم قائلا: إن الأم التي رعت الآلهة والناس واحدة، غير أن الأولين هم الأفراد المميزون في الأسرة الأرضية، الذين لا يعرفون الموت ولا الشقاء البشري. ولذا ارتفع صوت بندار محذرا من أن محاكاة الآلهة تجديف، وعلى ذلك «فلا تحاول أن تصبح مثل زيوس؛ لأن الفانين لا تصلح لهم إلا الأشياء الفانية.» ولما كان بندار على إلمام واسع بالموسيقى بفضل تتلمذه على أبولودورس
Apollodorus
والموسيقار الشهير لاسوس الهرميوني
Lasus of Hermione ، فقد أهله إيمانه الديني ومقدرته الموسيقية لمدح الآلهة بالأغاني والأشعار. وقد أنبأنا بأنه «قرب فناء بيته كانت مجموعات من الفتيات ترقص وتغني ليلا في مدح أم الآلهة»، وعندئذ سأل الفيلسوف الشاعر الموسيقار
6
من هي أم الآلهة؟ أهي العنصر الأول؛ أي الواحد الذي يسبق كل شيء، والذي يتولد عنه كل شيء؟ يبدو أن الفيلسوف في بحثه في أصل الكون وطبيعته، كان يحدث بالفعل تغيرا في مصطلح هوميروس وهزيود، ويسمي الآلهة بالعناصر الأولية.
Unknown page
ولقد أحرز فيثاغورس (حوالي القرن السادس ق.م.) شهرة يحسد عليها؛ إذ عرف بأنه منشئ العلم الموسيقي عند اليونان، ومؤسس مدرسة فلسفية ذات تعاليم سرية. ولقد شاع في العالم القديم اعتقاد بأنه لم يترك وراءه كتابات، حتى لا يفشي أسرار طائفته، وأغلب الظن أن فيثاغورس كان متبحرا في الرياضيات والعلم، وأنه أسس مدرسته بوصفها مجمعا دينيا تدرس فيه الأخلاق والسياسة إلى جانب الفلسفة وعلم الصوت والحركة. وقد وضع فيثاغورس، في محاولته كشف أسرار الكون، أسس الاعتقاد الميتافيزيقي بأن الأعداد هي الحقاق الأصلية، ثم ازداد تلاميذه غلوا في التصوف، وأضافوا إلى ذلك أن الأعداد هي الماهيات الحقيقية التي تكون قوام الطبيعة كلها وتحكمها. ولما كان الإنسان جزءا من الطبيعة، فإنه تجسيد لمجموعة من الأعداد، وهو يرتبط عدديا بالطبيعة ارتباط الجزء بالكل، والذي يجعل الإنسان على ما هو عليه مكوناته العددية. أما في الطبيعة، كما في الفنون التي يخلقها الإنسان للوفاء بحاجاته، فإن التناسب والتماثل والانسجام والتنافر ينشأ عن علاقات رياضية، وعلى ذلك فالموسيقى وحدة تتألف من علاقات عددية. ولما كانت الأعداد تتصف بصفات أخلاقية كامنة فيها؛ لأن الطبيعة خيرة في أساسها، فمن الواجب تقويم الموسيقى على أسس أخلاقية؛ أي إن حجة الفيثاغوريين هي أنه إذ كانت العناصر المكونة للموسيقى لها خصائص أخلاقية، فلا بد أن للموسيقى ذاتها قيمة أخلاقية. ولقد أدت هذه النظرة الأخلاقية إلى الموسيقى إلى صبغ الكتابات اليونانية في الفلسفة الجمالية للموسيقى بصبغة أخلاقية اكتمل نموها وتطبيقها النظري عند أفلاطون. ولنستمع إلى ما يقوله أرسطو عن الفيثاغوريين: «لقد رأوا أن من الممكن التعبير بالعدد عن تغيرات السلالم الموسيقية ونسبها.» ولما كانت كل الأشياء الأخرى تبدو في طبيعتها الكاملة مصوغة في قالب الأعداد، ولما كانت الأعداد تبدو أول الأشياء في الطبيعة بأسرها، فقد اعتقدوا أن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء جميعا، وأن السموات كلها سلم موسيقي وعدد.
7
وهناك أدلة قوية تبعث على الاعتقاد بأن فيثاغورس قد سافر إلى مصر، ودرس علوم الفراعنة وفلسفتها الموسيقية، مثلما فعل المؤرخ هيرودوت في القرن الخامس. والأرجح أن فيثاغورس قد عاد إلى اليونان ومعه بعض النظريات البسيطة في علم الصوت، فضلا عن معتقدات أخلاقية محددة المعالم عن الموسيقى، اكتسبها من الكهنة المصريين. وهكذا بدأ يقول لتلاميذه إن الموسيقى البشرية الفانية ما هي إلا أنموذج أرضي للانسجام العلوي للأفلاك. أما الفيثاغوريون المتأخرون، فقد اعتقدوا أن السموات تنبعث عنها موسيقى بالفعل؛ فخلال حركة هذه الأجرام السماوية في السماء، تؤدي السرعة التي تتحرك بها إلى بعث أصوات منسجمة كأنها مجموعة غنائية تنشد في السماء، وترتبط سلسلة الأصوات التي تصدرها هذه الأجرام السماوية بعضها ببعض كما ترتبط أنغام السلم الموسيقي. أما السبب الذي لا نسمعها من أجله، فهو أننا اعتدناها على الدوام.
8
وتروي الأخبار المتواترة أن فيثاغورس قد اكتشف قرار السلم وجوابه، ثم استنبط المسافات الواقعة بينهما عن طريق سلسلة فريدة من التجارب طبق فيها المعرفة التي كان قد جمعها في أسفاره، على أفكار خصبة ابتدعها هو ذاته. وقد وجد فيثاغورس أنه: (1) إذ شد وترا مثبتا فوق قطعة من الخشب، (2) ووضع إصبعه في منتصف هذا الوتر الوحيد بالضبط، (3) وضرب على ذلك الوتر، فإن كل نصف فيه يتذبذب بضعف سرعة الوتر، وبذلك تنتج نغمة تماثل في صوتها النغمة الأصلية المنبعثة عن الوتر الكامل، ولكن كل مستوى أعلى من حيث حدة الصوت، ثم طبق هذه الطريقة على أوتار لها كثافة ودرجة توتر واحدة، ووجد أن أطوال الأوتار هي التي تتحكم في النغمة، ولكن الخواص الفيزيائية للأوكتاف (المسافة بين القرار والجواب) يمكن تفسيرها عن طريق تقسيم الوتر إلى قسمين متساويين، أيا كان طوله أو سمكه، ولكن كيف نملأ الفراغ الذي تكونه الأصوات العليا والدنيا في الأوكتاف؟ لقد وجد فيثاغورس أنه إذا قسم الوتر عند نقطة تمثل نسبة 3: 4، فإنه يحصل على مسافات الصوت الموسيقي الرابع، وإذا كانت النسبة 2: 3 حصل على مسافات الصوت الخامس. وكان ينظر إلى الصوت الثامن والرابع والخامس على أنها أصوات متوافقة، على حين أن الثالث والسادس أصوات متنافرة؛ أي غير متوافقة.
وقد عرف عن أرخوطاس التارنتي
Archytas of Tarentum ، الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع معاصرا أفلاطون، أنه اهتم بدراسة الجوانب الفيزيائية للموسيقى أكثر مما فعل أي فيثاغوري آخر، وكانت له في الموسيقى كتابات كثيرة متنوعة، لم تتضمن فقط كشوفه وحساباته الخاصة، بل تضمنت أيضا كشوف وحسابات غيره من الفيثاغوريين الذين كانوا يجرون تجارب على أسس حسابية عن النسب العددية المناظرة للصوت الثامن والرابع والخامس، وقد لاحظ أرخوطاس أولا أن الصوت لا ينتج إلا باصطدام شيء بشيء آخر أو احتكاكه به، ورأى ثانيا: أن «هناك أصواتا متعددة تخرج عن نطاق إدراكنا الطبيعي، نظرا إلى ضعف الاصطدام المؤدي إلى حدوثها، أو إلى بعد المسافة بين الذات وبين مصدر الصوت، أو حتى لأن الصوت قد يكون أعلى مما ينبغي»، واستنتج أرخوطاس ثالثا «أن الفرق في حدة الصوت راجع إلى نسبة الحركة التي تنقلها الضربة إلى الهواء». وقد ضرب أمثلة متعددة تأييدا لنظرياته هذه في علم الصوت، هي: «الصوت البشري، ونغمة المزمار والناي، وصوت الطلبة المستخدمة في الطقوس الدينية ». وعلى الرغم من أن أرخوطاس كان عميق التأثر بالعجائب العديدة التي يجلبها العدد، فإن كتاباته لا تتضمن أية إشارة إلى أي تفسير ديني أو سحري للعلاقات العددية، كما كانت الحال بين زملائه الفيثاغوريين. وقد توصل في علم الصوت إلى تحديد النسب العددية المناظرة للمسافات التي تفصل بين أنغام السلم الرباعي القديم بالنسبة إلى ثلاثة أنواع مختلفة من السلالم؛ الربع الصوتي الإنهارموني
enharmonic
والكروماتي
chromatic
Unknown page
والدياتوني
diatonic . أما من الجهة الجمالية، فكان يرى أن «الخصائص العقلية للعدد والتوافق رائعة في ذاتها بما فيه الكفاية»، ومن هذا انتهى - على خلاف الرأي الشائع في أيامه - إلى أن من الواجب في التعليم إخضاع الأدب للموسيقى.
9
فإذا انتقلنا إلى بركليس، مؤسس الإمبراطورية الأثينية، لوجدنا أنه جمع حوله أبرز شخصيات عصره في ميادين الفلسفة والأدب والفن؛ إذ كان فيدياس
phidias
المثال، وهيرودوت وثوكوديدس المؤرخان، وسوفوكليس وأوريبيدس المؤلفان المسرحيان، اللذان دافعا عن قضية الموسيقى المجددين، كان هؤلاء جميعا يزينون حياة أثينا بشخصياتهم الرفيعة. وفي هذا الجو أبدى الفيلسوف «أنكساجوراس» احتقارا عميقا للديانة الرسمية، أعرب عنه تحت رعاية صديقه وحاميه المستنير بركليس. وكان من الشخصيات الأخرى في الحياة الثقافية وفي مجالس بركليس، دامون
Damon ، الذي أشار إليه أفلاطون في محاورة «الجمهورية» على أنه حجة في الموسيقى وفنان يمارسها بالفعل. ولما كان دامون معلما لبركليس وصديقا حميما له، فقد أتاحت له صفته هذه أن يجعل للموسيقى مكانة هامة في تربية الشخصية وتكوين المواطن الصالح. وكان دامون يعتقد أن التأثير العميق للموسيقى «لا يؤدي فقط إلى إثارة الانفعالات المختلفة وتهدئتها، بل يؤدي أيضا إلى بث جميع الفضائل، كالشجاعة وضبط النفس، والعدالة ذاتها.» والواقع أن نوع المصنف الموسيقي يطبع النفس بطابعه الخاص، سواء أكان ذلك الطابع خيرا أم شرا، وذلك بالنسبة إلى القائم بأداء الموسيقى وإلى سامعها معا؛ فمن الممكن باستخدام التوافقات المناسبة خلق صفات جديدة أو إبراز صفات كامنة، لا في الصغار فقط، بل في الكبار أيضا.
10
وكان دامون يرى أن الموسيقى ضرورية لا للتعليم الثقافي فحسب، بل من أجل تكوين دولة قوية سليمة، ولكن الغريب أنه خالف الروح الديمقراطية السائدة في عصر بركليس، وذهب إلى أن التجديد في الأساليب والإيقاعات الموسيقية يعد نذيرا بتغير اجتماعي أو حتى بثورة. وكان يرى أنه لو غير الشاعر المنشد اليوناني أو نوع الأساليب الفنية أو الألوان الموسيقية، بحيث يغير أو ينوع الأنماط التقليدية للتعبير الموسيقى، فإن التأثير الانفعالي لهذه التجديدات يؤدي بدوره إلى تغير حضاري واجتماعي. وهكذا انتهى دامون، متفقا في ذلك مع الفيثاغوريين، إلى أن الموسيقى قيمة أخلاقية ينبغي استغلالها من أجل بلوغ هدف الروح الأخلاقية السليمة.
أما ديمقريطس (المولود حوالي عام 460ق.م.) فكان يرى أن الشاعر الموسيقار يحمل قبسا من الروح الإلهية. وقد امتدح هوميروس فوصفه بأنه شاعر ملهم من الآلهة، تعبر أعماله عن جمال منبعث من روح نشوانة، وقد وصف ديمقريطس الموسيقى بأنها أحدث الفنون عهدا، وبأنها لم تنشأ عن «الضرورة وإنما عن الفيض والوفرة». وكان يرى في الموسيقى، كما رأى فيها السياسي «سولون
Unknown page
Solon »، قوة تعليمية واجتماعية تتيح للإنسان أن يحفظ التوازن بين الرياضة البدنية والآداب. وكان ديمقريطس يؤمن، مع الفيثاغوريين، بأن الفنان يحتل موقعا وسطا بين الآلهة والإنسان، وأن الرسالة الإلهية للفنان الملهم تحتم عليه أن يساعد الإنسان على بعث التوافق بين نفسه وبين النفس الكلية عن طريق إيقاع الموسيقى ورشاقتها.
11
ولننتقل إلى سقراط (469-399ق.م.) الذي كان في الأصل نحاتا وابن نحات، ثم تحول إلى الفلسفة حتى يكرس حياته لتعليم شباب أثينا. ولقد صوره أفلاطون في «الجمهورية» على أنه متفق تماما مع دامون في آرائه الخاصة بالقيمة الأخلاقية والسياسية والتعليمية للموسيقى. وكان سقراط يرى أن الفلسفة التي تجعل الحياة العادية ذات معنى وهدف هي أرفع الفلسفات جميعا. وللموسيقى القدرة على تشكيل نفوس الصغار، وإعدادهم لحياة كهذه. وكما أن من الممكن تشكيل المجتمع تبعا ل «أنموذج في السماء»؛ فقد كان يعتقد بأن الموسيقى تستطيع ضبط النفس، بحيث تنسجم مع نفس الأنموذج المتغلغل في سلوك الأجرام السماوية وفاعليتها.
وعلى الرغم من أن سقراط كان معارضا لبلاغة السفسطائيين، فإنه اتفق مع بروتاجوراس على أن الميتافيزيقا لا يمكن أن تؤدي بالمرء إلا إلى الشك، وأن الرياضة ما هي إلا تأملات عميقة. ومن هنا فقد كرس بقية حياته لدراسة الأخلاق والتربية. وكان سقراط يؤمن بأن خلاص البشر إنما يكون في إقامة حياة ثقافية مستنيرة تحرر الإنسان من الأوهام، ومن الاستدلال الفاسد والتحامل. غير أن مثل هذه الإباحة، ومثل هذه الحرية الفكرية لم تكن معروفة حتى لأثينا الحرة الديمقراطية. وسرعان ما انقلبت عليه العناصر الأثينية المحافظة، ونظر إليه أرستوفان الذي كرس جزءا كبيرا من حياته لحماية التراث التقليدي، على أنه رمز آخر لما كان يراه حضارة منحلة بدأت تضرب أطنابها في أثينا. وكما سخر أرستوفان من التجديدات الموسيقية في شعره، فكذلك سخر من فلسفة سقراط في مسرحيته الساخرة «السحب»، ونظرا إلى أن سقراط كان يتشكك في قدرة الآلهة، ويجادل في فضائل الديمقراطية الأثينية، فقد اتهم بإفساد شباب أثينا، وحكم عليه بالموت.
وقد روى سقراط في الساعات الأخيرة من حياته حلما طاف به وهو نائم في زنزانة سجنه، وسجل تلميذه أفلاطون هذا الحلم في محاورة «فيدون»:
12 «طالما أتاني الوحي في الأحلام خلال حياتي بأن أؤلف موسيقى، وكان نفس الحلم يأتيني تارة بصورة وتارة بصورة أخرى، ولكنه كان دائما يقول لي نفس الكلمات أو ما يماثلها: ارع الموسيقى وألفها. وكنت أتصور حتى الآن أن كل ما هو مقصود بهذا هو حثي وتشجيعي على دراسة الفلسفة، التي كانت هدف حياتي، والتي هي أسمى أنواع الموسيقى وأفضلها.» وهنا يعرب سقراط عن شكه في اعتقاد أصبح يتخذ مبدأ تعليميا بين أتباع دامون، وهو أن دراسة الموسيقى لا ينبغي أن ينتفع منها إلا بوصفها مبحثا رياضيا يعد المرء لدراسة أرفع هي الفلسفة. كذلك قال فريدرش نيتشه في كتابه «ميلاد المأساة من روح الموسيقى اليونانية». إن هذا الحلم ينطوي ضمنا على اعتراف هو أن سقراط قد أيقن، وهو يواجه شبح الموت، بأن للديالكتيك والمنطق والعقل، حدودها التي لا تتعداها في اكتساب المعرفة، والسعي إلى تحقيق الحياة الطيبة؛ فللموسيقى قدرة تفوق قدرة العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية؛ إذ إن الموسيقى تتيح لنا الوصول إلى وحدة متوافقة مع الطبيعة.
القسم الثاني: أفلاطون
هناك أوجه شبه بين كتابات الفلاسفة اليونانيين في الموسيقى وبين الآراء الموسيقية للمصريين القدماء والصينيين والعبرانيين. ومعنى ذلك أن الفلسفات الموسيقية التي قد تكون راجعة إلى حضارات أسبق من ميلاد المسيح بحوالي 1500 سنة قد وجدت طريقها إلى الفكر اليوناني.
ولقد كان أفلاطون (427-347ق.م.) أشهر فيلسوف غربي يرى أن الموسيقى بمعناها الكلاسيكي والحديث، ينبغي أن تستخدم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، ولم تكن آراء أفلاطون عن مكانة الموسيقى في المجتمع المنظم أصيلة تماما، كما أنه لم يكن أول من بحث في التأثيرات الأخلاقية للموسيقى على الشخصية والسلوك الإنساني. ومع كل ذلك، فسيظل أفلاطون شخصية تاريخية فذة ينبغي أن نتخذها نقطة بداية في كل بحث للفلسفة الجمالية للموسيقى في الحضارة الغربية. ولم تكن كتاباته تتضمن مركبا جامعا بين النظريات الشرقية والغربية القديمة فضلا عن نظريات عصره فحسب، بل إن هذه الكتابات كانت تضم في داخلها التقاليد الموسيقية المتبعة لدى الجيل الأثيني السابق لجيله هو.
13
Unknown page
ولسنا نعلم إن كان أفلاطون قد عرف بالفعل فلسفة كونفوشيوس التي أذاع تعاليمها في الشرق؛ فقد تكون أوجه الشبه بين فلسفتيهما في الموسيقى مجرد مصادفة، ولكن هناك فقرات متعددة ظهرت أصلا لدى كونفوشيوس، ويكاد أفلاطون يردها حرفيا؛ ففي فقرة تتصل بالأخلاق والدين كتب كونفوشيوس يقول: «إن موسيقى «تشنج
Cheng » منحلة شهوانية، وموسيقى «سونج
Sung » ناعمة تبعث في النفس الطراوة والميوعة، وموسيقى «واي
Wei » سهلة متكررة، وموسيقى «تشي
Chi » خشنة تبعث في النفس روح التكبر. هذه الأنواع الأربعة من الموسيقى كلها حسية تفسد أخلاق الشعب؛ ولذا فليس من اللائق استخدامها في القرابين والتضحيات.» وفي الكتاب الثالث من الجمهورية أكد أفلاطون التأثيرات الأخلاقية للموسيقى بطريقة مشابهة إلى حد يدعو إلى الدهشة،
14
فدعا إلى استبعاد المقامين الإيوني
Ionian
والليدي
Lydian
Unknown page
من الدولة؛ لأن فيهما ميوعة وتخنثا يبعث الانحلال في الأخلاق. أما المقامان الدور
Dorian
والفريجي
، اللذان يتميزان بروح عسكرية، فمن الواجب استبقاؤهما. وهكذا بدأ أفلاطون تشييد مذهبه في الفلسفة الجمالية للموسيقى بأن عزا إلى المقامات الموسيقية (
modes ) اليونانية صفات أخلاقية . وانتهى في محاورة «القوانين» إلى نتيجة مشابهة لتلك التي رأيناها عند كونفوشيوس، فقال: إن «الإيقاعات والموسيقى بوجه عام هي محاكاة للخلال الطيبة والسيئة في الناس.»
15
ولقد تمسك أفلاطون بالرأي القائل إن الموسيقى ينبغي أن تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة والأخلاق. وكان يرى أن الموسيقى أرفع من الفنون الأخرى، على أساس أن تأثير الإيقاع واللحن في الروح الباطنة للإنسان وفي حياته الانفعالية أقوى من تأثير العمارة أو التصوير أو النحت. وهكذا فإن الطفل الذي يستمع إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه، دون أن يشعر، عادات وقدرات مرهفة تتيح له تميزا للخير من الشر. وبعد أن تشكل الموسيقى شخصية الطفل، وتجعله مستقرا في انفعالاته، تكشف له دراسة الفلسفة، عن وعي كامل، أسمى أنواع المعرفة.
ولقد كان للموسيقى والرياضة البدنية دور حيوي في خطة التعليم عند أفلاطون. وكان في رأيه أن الموسيقى ينبغي ألا تتبع الرياضة البدنية، بل إن الواجب - على عكس ذلك - هو أن تسبق الموسيقى الرياضة البدنية وتتحكم فيها؛ لأن الجسم لا يهذب الروح، وإنما الروح هي التي تشكل الجسم. وفضلا عن ذلك فإن الرياضة البدنية قد تصبح خشنة وتؤدي إلى غلظة الطبع، ومن هنا كان من الواجب تخفيفها وتهدئتها بالموسيقى. ومن جهة أخرى فإن الموسيقى دون الرياضة البدنية قد تبعث التخنث في نفس متذوق الفن؛ لذلك فإن المزج بين الموسيقى والرياضة البدنية باعتدال يؤدي إلى تكوين شاب أثيني متزن متناسق الطباع.
ولقد حدثت خلال حياة أفلاطون تجديدات موسيقية متعددة لم يهضمها أفلاطون ولم يحتملها، وإنما كان يتقبل فقط تلك الطريقة التقليدية، التي يكتب فيها شعر غنائي يتلى أو يغنى بمصاحبة الموسيقى. والواقع أن الشعر والموسيقى «ذلك الزوج الإلهي من الأصوات الساحرة» أخوان لا ينفصلان في الحياة الثقافية اليونانية، وكان لفظ «الموسيقى» يدل على الشعر واللحن معا. ولقد كان أفلاطون يرى أحدهما أهم من الآخر، فذهب إلى أنه لما كانت اللغة هي التعبير المباشر عن العقل، فلا بد أن يكون للكلمة أو البيت الشعري مكانة أرفع من اللحن؛ ذلك لأن النص الشعري نتاج العقل، أما اللحن فيؤدي إلى لذة الحواس فحسب، ومن هنا كانت له مكانة أدنى.
ولم يكن لدى اليونانيين نظام توافقي «هارموني» كما نعرفه اليوم، وإنما كان اللحن متوقفا تماما على النص وتابعا له. وكانت الموسيقى اليونانية مبنية بحيث توضع نغمة لكل مقطع، وكان من الشائع تقسيم المقاطع إلى «طويل» و«قصير» بحيث يساوي المقطع الطويل مقطعين قصيرين. وفي الوقت الذي بدأ فيه أفلاطون الكتابة، كان هناك اتجاه متزايد القوة إلى استخدام الشعر مجرد نص للموسيقى، وتشويه الكلمات بحيث تلائم الموسيقى، وكان هذا الاتجاه يثير الاحتجاج بالفعل.
Unknown page
16
وكان صوت أفلاطون هو أعلى الأصوات احتجاجا، ولكنه لم يكن منفردا في رأيه هذا.
وقد احتفظ أفلاطون بالرأي اليوناني التقليدي القائل بعدم وجوب الفصل بين الكلمات واللحن. ومن الطبيعي أن ينظر الشاعر المغني اليوناني الذي يلتزم التراث الكلاسيكي بدقة، إلى أي تميز كهذا على أنه تميز أكاديمي بحت؛ إذ إن الشاعر والموسيقي كانا واحدا، يؤلف أنشودته ويعزفها بوصفها أسطورة أو رواية شعرية ذات إيقاع موسيقي. ولما كان أفلاطون قد أكد أن النص الكلامي أرفع مرتبة؛ لأنه أخضع القالب الموسيقي للشعر، فإنه كان أكثر من غيره استياء من أولئك الموسيقيين الثوريين الذين كانوا في أيامه يؤلفون موسيقى دون كلمات لغرض سماع أصوات تبعث اللذة في الأذن فحسب؛ ولذا كتب يقول: عندما لا تكون هناك كلمات، فمن الصعب جدا إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يحاكيان أي شيء ذي قيمة.
17
ولقد انتقد أفلاطون التحديد الموسيقى نقدا لاذعا، وعلى الرغم من أنه كان هو ذاته فنانا خلاقا، فقد ظل على الدوام متعصبا في إبداء سخطه على الفنان الضال الذي تتبدى سوراته القلقة على الدوام في صورة أشكال فنية متغيرة. وكان أفلاطون يخشى من أن يؤدي التحرر المفرط في الفن إلى انتشار فوضى في الدولة، وعلى أساس اعتقاده هذا قال في الكتاب الرابع من «الجمهورية»: ينبغي أن يحرص حكامنا على أن تظل الموسيقى والرياضة البدنية على صورتها الأصلية، دون إدخال تجديدات عليها ، وعلى هؤلاء الحكام أن يبذلوا كل ما في وسعهم للاحتفاظ بهما سليمين، فإذا ما قال الشاعر إن البشر متعقلون إلى أبعد حد ب «أحدث ما لدى المغنين من أغان»، فإن هؤلاء الحكام يخشون من أن مدحه قد لا يكون موجها إلى أغان جديدة، وإنما إلى نوع جديد من الغناء، وهذا ما لا ينبغي امتداحه، أو تفسيره على أنه المعنى الذي قصده الشاعر؛ إذ إن أي تجديد في الموسيقى يجلب أخطارا شديدة على الدولة كلها وينبغي نظره، هذا ما قال به دامون
Damon ، وما أومن به بدوري، من أن المرء في الأصل لا يستطيع تغيير أساليب الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسا على عقب.
18
ولقد كانت محاربة التجديد، على أسس فلسفية ودينية، شائعة في الشرق بقدر ما كانت شائعة في الغرب؛ فقد روى فيثاغورس أن كبار كهنة فرعون كانوا يحتجون بشدة على تجديدات أساطين العزف، وكان من رأيهم أن التغيير الفني مصطنع، وأنه بالتالي خطر على الحياة الروحية والمادية للأمة.
كذلك روى هيرودوت أن المصريين كانوا يعتقدون أن لألحانهم الدينية أصلا مقدسا؛ ولهذا السبب لم يكونوا يسمحون بأية تجديدات أو يقبلون أنغاما أجنبية في طقوسهم الدينية. وقد توسع أفلاطون في هذه الفكرة في محاورة «القوانين»،
19
Unknown page
فأضاف أن المصريين قد نسبوا ألحانهم المقدسة إلى الربة إيزيس، ثم انتقل إلى امتداح قدرة المصريين على خلق ألحان يمكنها قهر الانفعالات الغريزية في الإنسان وتنقية الروح. والمعنى الكامن في أقواله هذه هو أن الألحان الوحيدة الجديرة بالتقدير هي المقامات والأنغام الموسيقية المحددة بدقة، على نحو من شأنه أن يجعل لها تأثيرا عاطفيا بفضل بساطتها المباشرة.
وكان من رأى أفلاطون أن البساطة الموسيقية لا تتعارض مع القانون الطبيعي؛ فإشاراته المتعددة إلى الموسيقى تتضمن الاعتقاد بأن في وسع الموسيقى أن تتيح للمرء بعث التوافق بين نفسه المتناهية، والنفس اللامتناهية، وذلك عن طريق المزج الرقيق بين أفكاره وأفعاله وبين الأجرام السماوية التي يتم بينها انسجام الأفلاك. أما التخليط الصوتي الصخب فلم يكن، في رأي أفلاطون، غريبا عن الثقافة اليونانية فحسب،
20
بل هو يؤدي إلى التضارب بين النفس البشرية وبين النظام المثالي للأشياء.
ولقد كان أفلاطون يعتقد بأن القوى التي تمارسها الموسيقى على الانفعالات البشرية قوى غير مأمونة، شبهها بقوة السحر. وكان ينظر إلى المزامير الموسيقية (التي تسمى عادة بالناي
flutes
في الترجمات الإنجليزية) على أنها ذات قدرة خاصة على الغواية، وكتب يقول إن الآلات المتعددة الأوتار التي أصبحت من البدع المنتشرة حينئذ تبعث الاضطراب في نفوس السامعين، وكان يعتقد أن الليرا (
Lyre ) التقليدي والصنج
harp
ومزمار الرعاة هي الآلات المأمونة أخلاقيا، ولا سيما في تعليم الصغار.
Unknown page
ومن الواجب في نظر أفلاطون أن تكون المعزوفات والمؤلفات الموسيقية معا ذات طبيعة بسيطة؛ ذلك لأنه كان يخشى أن تؤدي الاتجاهات الناعمة في الموسيقى إلى تخدير أعصاب المواطنين العاديين، مما يترك أثينا تحت رحمة أعدائها. كذلك خالف الموسيقيين في استخدامهم للإيقاعات المعقدة والقوالب الموسيقية المختلطة. وإذا كان تيموثيوس
Timotheus (حوالي 446-357ق.م.) وهو واحد من مشاهير المجددين في عصر أفلاطون، قد زاد أوتار الليرا إلى أحد عشر أو اثني عشر، فإن هذه الزيادة في ذاتها كانت تشكل خطرا ممكنا على الدولة القائمة. ومن جهة أخرى فقد كان أفلاطون معجبا بفلسفة الموسيقى السائدة في إسبرطة، وهي الفلسفة التي كانت تحظر أي خروج عن القواعد القديمة للموسيقى.
21
فيما يلي بعض أمثلة الحظر التي رواها بلوتارك عن إسبرطة: «ولقد كانوا يحترمون موسيقاهم القديمة، في جديتها وبساطتها، إلى حد أنهم لم يسمحوا بأي انحراف من القواعد السائدة ومقاييسها، حتى إن مجلس القضاء الأعلى
Ephori
أوقع، بناء على شكاوى تلقاها، عقوبة شديدة على ترباندر
Terpander (وهو موسيقار ذائع الشهرة والصيت، عرف بمهارته الفائقة، وبراعته في العزف على الصنج، كان يبدي للتراث القديم أعظم التبجيل، بحيث شهدت مدائحه بما كان يحمله من احترام للأفعال البطولية الفاضلة) فحرمه من صنجه، وزاد من قسوة العقوبة بأن عرض الصنج على الجماهير لتصب عليها غضبها، فعلقها بمسمار أمامهم، كل ذلك لأنه أضاف إلى الآلة الموسيقية وترا واحدا يزيد على العدد المعتاد المقرر، مع أنه لم يكن له نفع أو غرض في ذلك إلا تنويع الصوت، وجعله أنفع وأمتع. ولقد كانت أفضل الموسيقى عندهم هي أكثرها جدية وبساطة، وأقربها إلى الطبيعة. ومن أجل هذا السبب ذاته استل أحد هؤلاء القضاة سكينا قطع به أوتار صنج تيوثيوس؛ لأنه تجاوز عدد السبعة بها، أثناء دخوله في مسابقة في «الأعياد الكرنية
Carnean » التي كان يحتفل بها تمجيدا لأبولو. وهكذا بلغ من شدة تشبثهم بعاداتهم وأساليبهم القديمة أنهم لم يكونوا يتحملون أبسط تجديد، حتى ولو كان ذلك في أمور تافهة أو ضئيلة الأهمية؛ خشية أن يؤدي الإسراف في شيء إلى الإسراف في شيء آخر، حتى ينتهي الأمر بعد تغيرات متدرجة غير ملموسة، إلى تجاهل مجموع تشريعاتهم واحتقارها، مما يضعف الدعامة الرئيسية التي يرتكز عليها بناء حكومتهم، ويؤدي إلى تقويضها.»
22
ولقد تمثلت في تيموثيوس الرغبة الملحة القلقة للفنان الخالق في التغير. وعمل الشعراء الموسيقيون على التعبير عن مشاعرهم بأساليب ووسائط جديدة، تحدوا بها القوالب التقليدية. وقد روى تيموثيوس أنه قال: «لست أتغنى بالماضي.» ثم أعقب ذلك قوله: «في التجديد القوة ... إلى الجحيم يا ربة الفن العجوز.» ومضى التمرد في الفنون حثيثا، ولكن أرستوفان تصدى للتحدي الموجه إلى أنصار التقاليد، وقاد حملة ضد الاتجاه الجديد في الموسيقى، ثم سار في أعقابه معاصره فركراتيس
Unknown page
(القرن الخامس ق.م.) غير أن المجددين في ذلك العصر ظلوا يغيرون في الموسيقى والآلات، ملتمسين سبلا جديدة للتعبير. وقد أزعج هذا الاتجاه أفلاطون، وهو يرى الألحان والأنماط الإيقاعية التقليدية تلقى من الجمهور إعراضا متزايدا، بعد أن كانت هي المميزة للفن الهليني.
وظهرت أساليب جديدة أكثر تزويقا أصبحت هي محط الأنظار في عصره، ولو كان لنا أن نقبل شهادة بلوتارك لقلنا إن الموسيقى في عصر أفلاطون كانت تجيش بالعواطف.
ولقد كان لفظ «الموسيقى» يدل عند اليونانيين على مفهوم مزدوج؛ فهو من جهة يشمل جزءا من المناهج التعليمية كالقراءة والكتابة والرياضيات والرسم والشعر. ومن جهة أخرى كان يستخدم بالطريقة التي نستخدمه بها، فيدل على الموسيقى بمعناها الدقيق. ولقد كانت الموسيقى بالمعنى الأخير وثيقة الارتباط بالقراءة والكتابة والرياضيات والرسم والشعر، إلى حد أن أي تغيير في الموسيقى كان يراقب بحذر شديد؛ إذ إنه سيؤثر بالتالي في البرنامج التعليمي الكامل للشباب الأثيني.
وأهم ما في فلسفة أفلاطون في الموسيقى هو أن الموسيقى، من حيث هي مبحث تعليمي وثقافي، ينبغي أن تستخدم في تحقيق أخلاق فاضلة. وقد عرض أفلاطون في محاورة «طيماوس» مذهبا أنطولوجيا يتصور العالم على أنه من خلق عناصر هندسية. وفي خلال عملية إرجاع الطبيعة إلى أنموذج صوفي من العلاقات العددية، أعرب عن الرأي القائل إن الموسيقى قد وهبت للإنسان؛ لكي تجعله يحيا حياة منسجمة حكيمة،
23
وهكذا أصبحت للموسيقى وظيفة غائية تساعد على بلوغ الأخلاق الفاضلة.
ويمكننا أن نعرف بدقة كنه هذه التأثيرات الأخلاقية إذا رجعنا إلى مصادر كتلك الفقرات التي أعرب فيها أفلاطون، في محاورة «الجمهورية»، عن اقتناعه بأن من الواجب إبعاد المقامين الأيوني والليدي من الدولة؛ لأن لهما طابعا ناعما متراخيا، أما المقامان الدوري والفريجي بما لهما من طابع عسكري، فيجب إبقاؤهما. وبعد أن وضع أفلاطون أساسا أخلاقيا للمقامات اليونانية، انتقل إلى تحليل خصائصها؛ أي الإيقاع واللحن، ثم تساءل في محاورة «القوانين» إن كان الإيقاع واللحن في ذاتهما «يحاكيان الخلال الطيبة والسيئة في الناس»، وبعد أن أصبحت آراؤه الموسيقية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمبادئ الأخلاقية، طبقها بطريقة عملية دقيقة في جملتها على نوع بدائي من «البوليفونية» كان قد بدأ يذيع في أيامه، فوصفه بأنه تخليط نغمي، لا يمكن أن يسفر عنه إلا الاضطراب الذهني، ثم نصح الشاعر المغني اليوناني بأن يؤلف أنشودته الموسيقية، بحيث يمكن أداؤها «نغمة نغمة» لا بواسطة «مجموعة معقدة ومتنوعة من الأنغام» كما يحدث «عندما تعطينا الأوتار صوتا والشاعر أو واضع اللحن صوتا آخر». وهكذا قال أفلاطون محذرا: إن «التوافق والانسجام الذي تتجمع فيه مسافات قصيرة وطويلة، وأنغام بطيئة وسريعة، أو مرتفعة ومنخفضة»، وكذلك التنوعات المعقدة عندما تكيف مع أنغام الليرا، تؤدي قطعا إلى إثارة صعوبات «إذ إن المبادئ المتعارضة تبعث الاضطراب»،
24
والنتيجة التي تنبني على ذلك هي أن تنوع الإيقاع واللحن وتعقيدها أمر ينبغي تجنبه؛ لأنه يبعث الانقباض والاضطراب في الذهن مما قد يبعد الناس عن المجرى الطبيعي للأشياء، وينقلهم إلى عالم اللامعقولية والخبل.
وهكذا رأى أفلاطون أن الأنماط والأنغام الموسيقية المحددة بدقة، والتي تؤثر عاطفيا بفضل بساطتها المباشرة، هي وحدها المفيدة، وفي وسع النوع الصحيح من الموسيقى أن يساعد الإنسان على أن يوائم بين نفسه المتناهية وبين اللامتناهي. «... فالإيقاع والانسجام يجدان طريقهما إلى الأغوار الباطنة للنفس؛ حيث يستقران راسخين»،
Unknown page
25
أما التخليط الصوتي الصاخب فقد يجعل النفس البشرية تتضارب مع النظام المثالي للأشياء. وعلى ذلك فمن الواجب نبذ الشعراء المغنين الذين يضعون موسيقى غير ملائمة للنظام الطبيعي من صفوف المجتمع؛ إذ إنهم يحطمون النفوس، ويعجلون بهلاك المجتمع.
القسم الثالث: أرسطو
اقتبس أرسطو (384-322ق.م.) جزءا كبيرا من فلسفته من أفلاطون؛ فقد اتفق مع أستاذه على أن الموسيقى فن مقلد، صيغ على أنموذج الانسجام الكوني. كذلك نظر أرسطو إلى الموسيقى، كما نظر إليها اليونانيون عامة، على أنها أكثر الفنون تقليدا للشخصية وتمثيلا لها؛ إذ إنها صورة مباشرة للشخصية أو نسخة منها. «إن الإيقاع واللحن يهيئان محاكاة للغضب والرقة، وكذلك الشجاعة والاعتدال، وكل الصفات المضادة لهذه وغيرها من صفات الشخصية، وهذه المحاكاة لا تكاد تفترق عن الانفعالات الأصلية إلا قليلا، كما نعلم من تجربتنا الخاصة؛ إذ إن سماعنا لهذه يحدث في نفوسنا تغيرات. وليست عادة الشعور باللذة أو الألم إزاء التمثلات المجردة بمختلفة كثيرا عن نفس هذا الشعور إزاء الأشياء الواقعية.»
26
وإذن ففي الإيقاع واللحن نجد محاكاة شديدة الواقعية للغضب والهدوء، فضلا عن الشجاعة والاعتدال وأضداد هذه الصفات؛ أي إن المحاكاة الموسيقية لا تقتصر على الأحوال الشعورية فحسب، بل تشمل الصفات الأخلاقية والاستعدادات الذهنية أيضا؛ فالموسيقى التي يضعها شخص ما، تشكل شخصية المستمع في اتجاه الخير أو الشر. والموسيقى انعكاس لصانعها، والأمر في ذلك لا يقتصر على كون شخصية المرء تصور فيما يخلقه، بل إن من تصل موسيقاه إلى أسماعهم يتأثرون إلى حد بعيد.
كذلك ربما كان أرسطو متأثرا بأفلاطون عندما وضع النظرية القائلة إن المأساة «التراجيديا» ينبغي أن تتضمن أفعالا تثير الشفقة والخوف، حتى تتم عملية «التطهير
Kathaarsis » الانفعالي،
27
فلا شك أن أرسطو كان يعرف ذلك النص الذي لاحظ فيه أفلاطون في محاورة «القوانين» أن الحركة مفيدة للنفس والجسم معا؛ لأن الإيقاع يهدئ الخوف ويعيد التوازن النفسي؛ فقد قال أفلاطون: «إن انفعال الراقصات في أعياد الخمر، كذلك الأطفال، هو انفعال خوف، ينشأ عن عادة سيئة للنفس. وعندما يبعث أحد مثيرا خارجيا في هذا النوع من الانفعالات، فإن الحركة الآتية من الخارج تغلب على الحركة الداخلية الفظيعة العنيفة، وتحدث طمأنينة وهدوءا في النفس وتهدئ النبضات المضطربة للقلب، وهو أمر مرغوب فيه إلى حد بعيد؛ إذ يجعل النعاس يدب في أجفان الطفل، ويجعل الراقصات، مع بقائهن أيقاظا، يرقصن على المزمار بمعونة الآلهة التي يقدمن إليها قرابين مقبولة، ويبعث فيهن حالة ذهنية متزنة تحل محل التشنجات.»
Unknown page