فيلسوف العرب الكندي
المعلم الثاني الفارابي
الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي
بطليموس العرب ابن الهيثم
شيخ المجددين في الإسلام ابن تيمية الفيلسوف
فيلسوف العرب الكندي
المعلم الثاني الفارابي
الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي
بطليموس العرب ابن الهيثم
شيخ المجددين في الإسلام ابن تيمية الفيلسوف
فيلسوف العرب والمعلم الثاني
فيلسوف العرب والمعلم الثاني
تأليف
مصطفى عبد الرازق
فيلسوف العرب الكندي
قبيلته ونسبه
ينتسب الفيلسوف «يعقوب الكندي» إلى كندة، «وكندة» هي من بني كهلان وبلادهم باليمن
1
وكان لكندة ملك بالحجاز واليمن، وفي الأغاني:
2 «قال أبو عبيدة: حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل بعد بيت هاشم بن عبد مناف في قريش ثلاثة بيوت ومنهم من يقول أربعة: بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري بيت قيس، وبيت آل زراره بن عدس الدارميين، وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام بيت شيبان، وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن.»
وأما «كندة» فلا يعدون من أهل البيوتات إنما كانوا ملوكا.
وقال الكلبي: قال كسرى للنعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة؟
قال: نعم.
قال: بأي شيء؟
قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع، والبيت قبيلته فيه.
قال: فاطلب لي ذلك. فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر، بيت قيس بن عيلان، وآل حاجب بن زرارة بيت تميم، وآل ذي الجدين بيت شيبان، وآل الأشعث بن قيس، بيت كندة.
قال: فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم فأقعد لهم الحكام العدول، فأقبل من كل قوم منهم شاعر، وقال لهم: ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه وفعالهم، وليقل شاعرهم فيصدق، فقام حذيفة بن بدر وكان أسن القوم وأجرأهم مقدما فقال ...
ثم قام الأشعث بن قيس، وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته بالنعمان، فقال: لقد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر، وقديم زحفها الأكبر، وأنا غياث اللزبات.
فقالوا: لم يا أخا كندة؟
قال : لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه، وتقلدنا منكبة الأعظم، وتوسطنا بحبوحه الأكرم.
ثم قام شاعرهم فقال:
إذا قست أبيات الرجال ببيتنا
وجدت له فضلا على من يفاخر
فمن قال: كلا أو أتانا بخطة
ينافرنا يوما فنحن نخاطر
تعالوا فعدوا يعلم الناس أينا
له الفضل فيما أورثته الأكابر
ثم قال بسطام بن قيس فقال: ... ثم قام حاجب بن زرارة فقال: ... ثم قام قيس بن عاصم فقال: ... فلما سمع كسرى ذلك منهم قال: «ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه فأسنى حباءهم.»
وفي كتاب المعارف لابن قتيبة عند الكلام على أديان الجاهلية: «وكانت اليهودية في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة.»
3
هذه سيرة يعقوب الكندي في الجاهلية. •••
أما نسبه في الإسلام فهو: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس.
وقد بقي لكندة مجدها في الإسلام: فمن كندة من كان له ذكر في الفتوح والثورات
4
ومنهم من ولي الولايات
5
ومنهم من تقلد القضاء.
قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق:
6 «ولي القضاء من كندة بالكوفة أربعة: جبر بن القشعم، ثم شريح، ثم عمرو بن أبي قرة، ثم حسين بن حسن الحجري، ولاه خالد بن عبدالله القسري.»
ومنهم: الشعراء كجعفر بن المكفوف شاعر الشيعة، وعزام بن المنذر من المعمرين وهو الذي يقول في شعره:
ووالله ما أدري أأدركت أمة
على عهد ذي القرنين أو كنت أقدما؟
متى تنزعا عني القميص تبينا
جناجن لم يكسين لحما ولا دما
وأول من أسلم من آباء الكندي الأشعث بن قيس،
7
قال ابن الأثير الجزري:
8
وفد إلى النبي سنة عشر من الهجرة في وفد كندة وكانوا ستين راكبا فأسلموا ... وكان الأشعث ممن ارتد بعد النبي فسير أبو بكر الجنود إلى اليمن، فأخذوا الأشعث أسيرا فأحضر بين يديه فقال له: استبقني لحربك وزوجني بأختك، فأطلقه أبو بكر وزوجه بأخته، وهي أم محمد بن الأشعث، ولما تزوجها اخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملا ولا ناقة إلا عرقبه، وصاح الناس: كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني ولله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل خذوا أثمانها فما رئي وليمة مثلها، وشهد الأشعث اليرموك بالشام ففقئت عينه ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولا ونهاوند، وسكن الكوفة وابتنى بها دارا، وشهد صفين مع علي وكان ممن ألزم عليا بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان - رضي الله عنه - استعمله على أذربيجان، وكان الحسن بن علي تزوج بنته فقيل: هي التي سقت الحسن السم فمات ... وتوفي سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربعين.
وقال الحافظ البغدادي
9
عن الأشعث بن قيس إنه «قدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في وفد كندة، ويعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة، وله عن النبي
صلى الله عليه وسلم
رواية، وقد شهد مع سعد بن أبي وقاص قتال الفرس بالعراق، وكان على راية كندة يوم صفين مع علي بن أبي طالب، وحضر قتال الخوارج بالنهروان، وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات في الوقت الذي صالح فيه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان وصلى عليه الحسن ... الأشعث بن قيس يكنى أبا محمد.
مات في آخر سنة أربعين بعد قتل علي ... مات بعد قتل علي بن أبي طالب بأربعين ليلة فيما أخبر ولده، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين.»
وأما محمد بن الأشعث، فقيل: إنه ولد على عهد رسول الله واستعمله ابن الزبير على الموصل.
10
وذكر الزبير بن بكار في تسمية أولاد علي أن مصعب بن الزبير لما غزا المختار بعث على مقدمته محمد بن الأشعث، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب فقتلا، وكان ذلك سنة سبع وستين.
ولمحمد بن الأشعث ولد يسمى عبد الرحمن خرج على الحجاج واستولى على خراسان، ثم سار إلى جهة الحجاج وغلب على الكوفة وقويت شوكته، ثم أمد عبد الملك الحجاج بالجيوش، فانهزم عبد الرحمن ولحق بملك الترك، وأرسل الحجاج بطلبه وتهدد ملك الترك بالغزو إن أخره، فقبض ملك الترك على عبد الرحمن وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إلى الحجاج، فلما نزل في مكان في الطريق ألقى عبد الرحمن نفسه من سطح فمات وذلك في سنة خمس وثمانين.
ويظهر أن هذا الحادث، حادث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الذي يصوره الدكتور طه حسين في كتابه «الأدب الجاهلي» بقوله: «ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد ثار بالحجاج وخلع عبد الملك، وعرض ملك آل مروان للزوال وكان سببا في إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام، وكان الذين قتلوا في حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف»، يظهر أن هذا الحادث جنى على منزلة بيت الأشعث بن قيس عند آل مروان، فخفت ذكرهم في التاريخ حوالي جيلين، من أجل ذلك سكت التاريخ عن إسماعيل بن محمد بن الأشعث أخي عبد الرحمن، وعن ابنه عمران، وهما جدان من جدود يعقوب بن إسحاق الكندي، بل قد سكت التاريخ عن شأن «الصباح» اللهم إلا ما جاء في كتاب «أخبار الحكماء»
11
نقلا عن ابن جلجل الأندلسي، كما جاء أيضا في كتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»:
12
وقال سليمان بن حسان: «إن يعقوب بن إسحاق الكندي شريف الأصل بصري كان جده ولي الولايات لبني هاشم.»
ويظهر أن في هذه الرواية خلطا؛ لأن الذي ولي الولايات لبني هاشم إنما هو إسحاق بن الصباح كما أجمع عليه سائر المؤرخين، ولأن الكندي لم يكن بصريا وإنما كان من الكوفة، على أن الصباح كان من عشيرته في مقام رفيع حتى أصبحوا ينتسبون إليه، فيقال لهم: بنو الصباح كما يقال: بنو الأشعث بن قيس.
وإذا كانت صلة بني الأشعث بن قيس بالخلفاء من بني مروان قد انقطعت منذ خروج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، وعبد الملك بن مروان، فإن بيت الكندي ظل في الكوفة من بيوتات المجد والحسب الشامخ، ولما تولى الخلافة العباسيون عاد بيت الكندي إلى الظهور في ميدان السياسة والحكم، فتولى إسحاق بن الصباح الكوفة في أيام المهدي والرشيد.
وإسحاق بن الصباح الكندي الأشعثي مذكور في كتب رجال الحديث على أنه ضعيف مقل من الطبقة السابعة؛ أي: أنه عاش في المائة الثانية من الهجرة.
13
أما كتب التاريخ والأدب فتذكر كثيرا من أخبار ولايته وعزه وجاهه وكرمه وصلته بالشعراء والعلماء ومظاهر غناه ونبله وأخذه بأسباب الترف والنعيم.
وقال ابن سعد
14
كان إسحاق الصباح الأشعثي صديقا لنصيب:
15
وقدم قدمة من الحجاز فدخل على إسحاق وهو يهب لجماعة وردوا عليه برا وتمرا، فيحملونه على إبلهم ويمضون، فوهب نصيب جارية حسناء يقال لها: «مسرورة» فأردفها خلفه ومضى وهو يقول:
إذا احتقبوا برا فأنت حقيبتي
من الشرفيات الثقال الحقائب
ظفرت بها من أشعثي مهذب
أغر، طويل الباع، جم المواهب
فدا لك يا إسحاق كل مبخل
ضجور، إذا عضت شداد النوائب
إذا ما بخيل المال غيب ماله
فمالك عد، حاضر، غير غائب
إذا اكتسب القوم الثراء فإنما
يرى الحمد غنما من كريم المكاسب
وقال فيه أيضا:
فتى من بني الصباح يهتز للندى
كما اهتز مسنون الفرار عتيق
فتى لا يذم الضيف والجار رفده
ولا يجتويه صاحب ورفيق
أغر، لأبناء السبيل موارد
إلى بيته، تهديهم، وطريق
وإن عد أنساب الملوك وجدته
إلى نسب يعلوهم ويفوق
فما في بني الصباح إن بعد المدى
على الناس، إلا سابق وعريق
وإني لمن شاحنتم لمشاحن
وإني لمن صادقتم لصديق
وورد ذكر إسحاق بن الصباح في كتاب «البيان والتبيين»
16
للجاحظ في قصة من قصص بهلول بن عمرو الصيرفي الكوفي الذي كان من عقلاء المجانين، وكان محبوبا عند الرشيد وغيره من الخلفاء وتوفي في حدود سنة 190ه / 806م، قال الجاحظ: «ومن مجانين الكوفة: بهلول وكان يتشيع، قال له إسحاق بن الصباح: أكثر الله في الشيعة مثلك قال: بل أكثر الله في المرجئة مثلي وأكثر في الشيعة مثلك.»
وأول عهد إسحاق بن الصباح بالولايات والحكم كان في سنة 159 في عهد الخليفة المهدي الواقع بين سنتي 158-169.
ويروى:
17
أن المهدي ضم إلى شريك بن عبد الله النخعي الكوفي المتوفى سنة 177 الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بن الصباح، ثم ولى إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكوفة، وولى شرطه النعمان بن جعفر الكندي فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بن جعفر، ويقال: إن شريكا القاضي هو الذي أشار على المهدي باختيار إسحاق، وظل يتناوب ولاية الكوفة مع هاشم بن سعيد، وروح بن حاتم، وموسى بن عيسى إلى عهد الرشيد الواقع بين 170-193، وهؤلاء كانوا سراة الكوفة ووجوهها.
وكان موسى بن عيسى واليا على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحد ما صنع بك، عزلك عن القضاء، فقال شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب ذلك عليهم، فقال موسى: ما ظننا أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به، وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه بمال أعطاه إياه، وهو ابن عم أبي جعفر.
فوالد الكندي كان يزاحم بمنكبه أبناء عمومة الخليفة، وكانت ولاية الكوفة دولة بينه وبينهم، بل كان ابن عم الخليفة يلجأ إلى إسحاق بن الصباح ليلين من شكيمة القاضي شريك بن عبد الله.
والظاهر أن إسحاق بن الصباح توفي في أواخر عهد هارون الرشيد المتوفى سنة 193، وظلت قرابته تتصل بخدمة الخلفاء، فإن المؤرخين لا يعرضون لإسحاق بعد زمن الرشيد، وقد سبقت الإشارة إلى قول كتب الرجال: إنه من أهل المائة الثانية.
على أنا نجد اسم جعفر بن محمد بن الأشعث في أسماء من ولاهم الرشيد خراسان، على ما في تاريخ الطبري، وذكر الطبري
18
أيضا أن الرشيد اتهم هرثمة فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد، والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث إلخ.
وأما شريك القاضي فيروى عن حزمه وعدله قصص كثيرة، فمن ذلك ما رواه عمر بن هياج بن سعد قال: أتت امرأة يوما شريك بن عبد الله قاضي الكوفة وهو في مجلس الحكم فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، قال: من ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، كان لي بستان على شاطئ الفرات، فيه نخل ورثته عن أبي وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطا، وجعلت فيه رجلا فارسيا يحفظ النخل ويقوم به، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من جميع إخوتي، وساومني ورغبني فلم أبعه، فلما كان هذه الليلة بعث بخمسمائة غلام وفاعل فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعلم من نخلي شيئا واختلط بنخل إخوتي، فقال: يا غلام أحضر طينة، فأحضر، فختمها وقال: امض إلى بابه حتى يحضر معك، فجاءت المرأة بالطينة المختومة فأخذها الحاجب ودخل على موسى فقال: قد أعدى القاضي عليك وهذا ختمه، فقال: ادع لي صاحب الشرطة فدعا به، فقال: امض إلى شريك وقل: يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي، فقال صاحب الشرطة: إن رأى الأمير أن يعفيني من ذلك، فقال: امض ويلك، فخرج وقال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى حبس القاضي بساطا وفراشا وما تدعو الحاجة إليه، ثم مضى إلى شريك، فلما وقف بين يديه أدى الرسالة، فقال لغلام المجلس: خذ بيده فضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله قد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه إلى الحبس ...
19
وشريك هذا هو أبو عبد الله: تولى القضاء بالكوفة أيام المهدي ثم عزله موسى الهادي، وتولى القضاء بعد ذلك بالأهواز، توفي بالكوفة سنة 177 أو 178ه وكان هارون الرشيد بالحيرة فقصده ليصلي عليه فوجدهم قد صلوا عليه فرجع.
جرى بينه وبين مصعب بن عبد الله الزبيري كلام بحضرة المهدي، فقال له مصعب: أنت تنتقص أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فقال القاضي شريك: والله ما انتقص جدك وهو دونهما. ودخل يوما على المهدي فقال له: لا بد أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث خصال، قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: إما أن تلي القضاء أو تحدث ولدي وتعلمه، أو تأكل عندي أكلة؛ وذلك قبل أن يلي القضاء، فأفكر ساعة ثم قال: لأكلة أخفها على نفسي.
فأجلسه وتقدم إلى الطباخ أن يصلح له ألوانا من المخ المعقود بالسكر الطبرزد والعسل وغير ذلك، فعمل ذلك وقدمه إليه، فأكل فلما فرغ من الأكلة قال له الطباخ: والله يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدا.
قال الفضل بن الربيع: فحدثهم والله شريك بعد ذلك، وعلم أولادهم، وولي القضاء لهم.
وقد كتب له برزقه على الصيرفي فضايقه النقد، فقال له الصيرفي: إنك لم تبع به بزا. فقال له شريك: بل والله بعت به أكثر من البز، بعت به ديني.
وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463: «قال عبد الله بن مصعب: حضرت شريكا في مجلس أبي عبيد الله، وعنده الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والجريري (وهو رجل من ولد جرير كان خطيبا للسلطان)، فقال شريك: حدثنا أبو إسحاق ... عن عمر بن الخطاب قال: إنا كنا نأكل لحوم هذه ونشرب عليها النبيذ ليقطعها في أجوافنا وبطوننا، فقال الحسن بن زيد: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق، فقال شريك: أجل والله ما سمعت، شغلك عن ذلك الجلوس على الطنافس في صدور المجالس.»
نشأته وبيئته
تاريخ ميلاد الكندي غير معروف إلا ظنا، وقد أشرنا فيما مضى إلى أن الراجح أن ميلاده كان في أواخر حياة أبيه الذي توفي في زمن الرشيد، والرشيد توفي سنة 193ه / 808م.
فالغالب: أن الكندي ولد في مطلع القرن التاسع الميلادي حوالي 801م / 185ه كما رجحه «ده بوير».
20
ولما كان يعقوب بن إسحاق الكندي قد توفي في أواسط القرن الثالث الهجري كما سيأتي تحقيقه، ولم يكن أحد ممن ترجموا له أشار إلى أنه كان من المعمرين، فمن المرجح أنه ولد في عواقب عمر أبيه وأن أباه تركه طفلا، فنشأ في الكوفة في أعقاب تراث من السؤدد ومن الغنى، وفي حضن اليتم وظل الجاه الزائل.
وإذا كان جاه بني الأشعث بن قيس لم يزل بزوال إسحاق، فإن عهدهم الزاهر في الكوفة قد تولى بموته، وكانوا انتشروا في البلاد، فلم يبق للصبي اليتيم إلا أمه التي لا نعرف من شأنها قليلا ولا كثيرا.
كانت الأيم تريد بالضرورة لولدها أن يعيش كأبيه ميسرا وجيها، فدبرت له ماله ونشأته مقتصدا مرهفا غنيا، ثم ساقته في سبيل العلم لما آنست من ذكائه المتوقد وشوقه إلى التهام المعارف، حتى إذا فاتته فخامة الحكم لم تفته جلالة العلم والحكمة.
ولقد وصف الجاحظ
21
مجد العالم الغني عن الناس وصفا لعله يمثل ما أملته لابنها أم الكندي إذ يقول: «ولقد دخلت على إسحاق بن سليمان في إمرته فرأيت السماطين والرجال مثولا وكأن على رءوسهم الطير، ورأيت فرشته وبزته.
ثم دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحواليه الأسفاط والرفوف والقماطير والدفاتر والمساطر والمحابر، فما رأيته قط أفخم ولا أنبل ولا أهيب ولا أجزل منه في ذلك اليوم؛ لأنه جمع مع المهابة المحبة، ومع الفخامة الحلاوة، ومع السؤود الحكمة.»
كانت علوم الأحكام الدينية ووسائلها هي العلوم التي تروج يومئذ سوقها، وتكسب صاحبها كرامة عند الخلفاء المحتاجين إلى أهل هذه العلوم في إقامة ملكهم على سند من السياسة الشرعية، وكانت هذه العلوم أيضا تهب صاحبها جلالا في قلوب العامة الذين تهمهم من الدين شعائره وشرائعه.
وكانت فيما حوالي هذا الزمن نكبة البرامكة يتناقل الناس أخبارها الفاجعة، فيتمثلون ما في شرف الولايات والحكم من أخطار.
وقد شهدت أم الكندي عهد «شريك» القاضي العالم الديني، ورأت سلطانه يغالب سلطان ابن عم الخليفة في الكوفة ويذل ما لزوجها من حسب وجاه شامخ.
وكل سلطانه يقوم على علمه ودينه، وكانت الأحاديث عن عزة شريك وشدته في الحق على أهل الشرف والجاه سمر المجالس.
أمثال هذه الأسمار عن شريك وغير شريك كانت جديرة أن ترغب الناس في العلوم التي شأنها أن توصل إلى هذه المنزلة، وهي كما ذكرنا علوم الأحكام الدينية ووسائلها.
أما علوم الكلام، فلم تكن حين ذاك برغم تشجيع الخلفاء لها إلا فنونا من النظر العقلي مبتدعة، ينكرها أهل الزعامة الدينية وهي بعيدة الصلة بالحياة وحاجاتها ، فلا جاه لها من دين ولا من دنيا.
وأما الفلسفة وما إليها، فلم تكن إلا علوما دخيلة يشتغل بتعريبها أناس لا هم مسلمون ولا من العرب.
وكان من تحدثه نفسه بمعالجة بعض هذه العلوم من المسلمين لا يلقى من الثقة بعلمه ما يلقاه أهل هذا الشأن من غير المسلمين، قال الجاحظ في كتاب البخلاء
22
متحدثا عن أسد بن جاني: «وكان طبيبا فأكسد مرة، فقال له قائل: السنة وبيئة، والأمراض فاشية، وأنت عالم ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة، فمن أين تؤتي في هذا الكساد؟ قال: أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب، لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليبا، ومراسل، ويوحنا، وبيرا، وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى، وأبو زكريا، وأبو إبراهيم، وعلي رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون علي رداء حرير أسود، ولفظي لفظ عربي وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جند يسابور.»
ثقافته
كان طبيعيا إذا أن تدفع أم الكندي طفلها إلى العلوم الدينية وآلاتها، فتعلم علوم اللغة والأدب وشدا من علوم الدين شيئا، ولكن الطفل كان بفطرته طلعة، يلتمس أن يدرك بعقله الأشياء وعللها ويريد أن يحيط بكل شيء علما، فما هو إلا أن بلغ رشده وأصبح أمره بيده، حتى انطلق يرضي شهوة عقله فيتصل بعلم الكلام، ويشارك المتكلمين في مباحثهم ويغلبه حب المعرفة، فلا يجد فيما تمارسه بيئته الإسلامية العربية ما يكفي حاجة عقله الطموح، ويقتحم غمار الفلسفة وما إليها من العلوم المنقولة عن يونان وفارس والهند، ولا يجد فيما يترجمه النقلة غنى، فيحاول أن يرد هذه العلوم في منابعها، ويتعلم اليونانية، ويترجم بها ويصلح ما يترجمه غيره، ويتصل بالثقافة اليونانية اتصالا ظاهر الأثر في عواطفه وفي تفكيره.
قال المسعودي في مروج الذهب:
23
وقد كان يعقوب الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا: أنه أخ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأشياء، ويوردها من حديث الآحاد والأفراد، لا من حديث الاستفاضة والكثرة، وقد رد عليه أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي في قصيدة له طويلة، ووكد خلطه نسب «يونان» بقحطان على حسب ما ذكرنا آنفا في صدر هذا الباب فقال:
أبا يوسف إني نظرت فلم أجد
على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ
بلاهم جميعا لم يجد عندهم عندا
أنقرن إلحادا بدين محمد
لقد جئت شيئا يا أخا كندة إدا
وتخلط يونانا بقحطان ضلة
لعمري لقد باعدت بينهما جدا
ويظهر أن الكندي كان عارفا بالسريانية، وكان ينقل الكتب منها إلى العربية.
فقد جاء في كتاب «أخبار العلماء بأخبار الحكماء»:
24 «ومما اشتهر من كتب بطليموس وخرج إلى العربية ... كتاب «الجغرافيا في المعمور من الأرض».» وهذا الكتاب نقله الكندي إلى العربية نقلا جيدا ويوجد سريانيا.»
وفي كتاب «طبقات الأطباء»
25
نقلا عن أبي معشر: حذاق الترجمة في الإسلام أربعة: حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري.
ومترجمو الكندي يكادون يتفقون على أنه (كان كثير الاطلاع).
26
يقول ابن النديم في الفهرست:
27 «فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها». ويقول صاحب كتاب «أخبار الحكماء»:
28 «المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية.»
وقد يكون تبحره في هذه الفنون دليلا على أنه تعلم من اللغات ما أعانه على ذلك.
وفي مواضع متفرقة من كتاب «الفهرست» ما يدل على أن الكندي كان محيطا بمذاهب الحرنانية الكلدانيين المعروفين بالصابئة ومذاهب الثنوية الكلدانيين.
وقد نقل صاحب الفهرست
29
وصف هذه المذاهب حكاية من خط أحمد بن الطيب في أمرهم، حكاها عن الكندي.
وورد كذلك في الفهرست «قال الكندي: إنه نظر في كتاب يقر به هؤلاء القوم وهو مقالات لهرمس في التوحيد لا يجد الفيلسوف إذا أتعب نفسه مندوحة عنها والقول بها.»
30
وفي الفهرست أيضا ما يدل على أن الكندي كان خبيرا بمذاهب الهند معنيا بدرسها، فقد جاء فيه ما نصه: «قرأت في جزء ترجمته ما هذه حكايته: «كتاب فيه ملل الهند وأديانها، نسخت هذا الكتاب من كتاب كتب يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم سنة تسع وأربعين ومائتين».» لا أدري الحكاية التي في هذا الكتاب لمن هي؟
إلا أني رأيته بخط يعقوب بن إسحاق الكندي حرفا حرفا، وكان تحت هذه الترجمة ما هذه حكايته بلفظ كاتبه: حكى بعض المتكلمين بأن يحيى بن خالد البرمكي بعث برجل إلى الهند ليأتيه بعقاقير موجودة في بلادهم وأن يكتب له أديانهم فكتب له هذا الكتاب.»
31
وقال محمد بن إسحاق: الذي عنى بأمر الهند في دولة العرب: يحيى بن خالد وجماعة البرامكة واهتمامها بأمر الهند وإحضارها علماء طبها وحكماءها.»
تعلم الكندي في الكوفة، وانتقل إلى بغداد، واشتغل بعلم الأدب، ثم بعلوم الفلسفة، كما ذكر ذلك ابن نباتة المصري في كتابه «سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون».
32
أما صاحب كتاب «أخبار الحكماء» فيذكر في ترجمة الكندي نقلا عن ابن جلجل الأندلسي: أن يعقوب بن الصباح كان شريف الأصل بصريا، وكان جده ولي الولايات لبني هاشم ونزل البصرة وضيعته هناك وانتقل إلى بغداد، وهنالك تأدب، وينقل عن ابن أبي أصيبعة مثل ذلك.
وإذا كان فيما نقله القفطي وابن أبي أصيبعة خطأ من ناحية جعل الكندي بصريا، ففيه أيضا تعارض؛ إذ كيف يكون بصريا ثم يقال: نزل البصرة؟
على أنه ليس ببعيد أن يكون الكندي نزل البصرة قبل ذهابه إلى بغداد، وليس ببعيد أن كانت له ضيعة هناك.
أما تاريخ انتقاله من الكوفة إلى البصرة وتاريخ ذهابه إلى بغداد فليس عندنا منهما خبر.
وقد كانت الكوفة والبصرة وبغداد مراكز الثقافة في بلاد الإسلام على اختلاف فنونها.
وفي كتاب «طبقات الأطباء»:
33 «أن يعقوب بن إسحاق كان عظيم المنزلة عند المأمون، والمعتصم، وعند ابنه أحمد.»
وليس لدينا ما يدل على أن صلة الكندي بهؤلاء الخلفاء كانت عبارة عن دخوله في المناصب إلا ما يروى من أنه كان مؤدبا لأحمد بن المعتصم.
ومع ممارسة الكندي للأدب وما إليه حتى قال صاحب كتاب «أخبار الحكماء »: «وخدم الملوك مباشرة بالآدب»، وحتى نقلوا عنه حكايات في نقد الشعر، وفي الجدل في أسرار البلاغة العربية، وحتى ذكروا أن له كتابا في صنعة البلاغة،
34
مع ذلك فإن الأدب لم يكن هو الميدان الذي ظهرت فيه مواهب الكندي وآثار عبقريته.
وفي كتاب «سرح العيون» لابن نباتة المصري: «حكى أنه كان حاضرا عند أحمد بن المعتصم وقد دخل أبو تمام، فأنشده قصيدته السينية، فلما بلغ إلى قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال الكندي: ما صنعت شيئا. قال: كيف؟ قال: ما زدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب.» وأيضا أن شعراء دهرنا تجاوزوا بالممدوح من كان قبله، ألا ترى إلى قول العكوك في أبي دلف:
رجل أبر
35
على شجاعة عامر
باسا وغبر في محيا حاتم
فأطرق أبو تمام ثم أنشد:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس
ولم يكن هذا في القصيدة، فتعجب منه. ثم طلب أن تكون الجائزة ولاية عمل. فاستصغر عن ذلك. فقال الكندي: ولوه فإنه قصير العمر، لأن ذهنه ينحت من قلبه. فكان كما قال.
وقد يكون في ذلك ظهرت له دلائل من شخصه على قرب أجله.
وسمع الكندي إنسانا ينشد ويقول:
وفي أربع مني حلت منك أربع
فما أنا أدري أيها هاج لي كربي؟
خيالك في عيني؟ أم الذكر في فمي؟
أم النطق في سمعي؟ أم الحب في قلبي؟
فقال: والله لقد قسمها تقسيما فلسفيا.
وسمع رجلا ينشد قول ربيعة الرقي:
لو قيل للعباس: يا ابن محمد
قل: لا، وأنت مخلد، ما قالها
فقال ليس يجب أن يقول الإنسان في كل شيء: نعم، وكان الوجه أن يستثنى، ثم قال:
هجرت في القول لا، إلا لعارضة
تكون أولى بلا في اللفظ من نعم
وهذه الشواهد تعرب عن منهج الكندي في النقد الأدبي، وهو مذهب فلسفي يقوم على العناية بسلامة المعنى من الوجهة المنطقية واستقامته في نظر العقل .
وفي كتاب «دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني:
36 «فصل واعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أن ههنا فروقا خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة، ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر، بل لا يدرون أنها هي، ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل. روي عن ابن الأنباري أنه قال: ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس
37
وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوا، فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، والألفاظ متكررة والمعنى واحد، فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل، وقولهم: إن عبد الله لقائم، جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني، قال: فما أحار المتفلسف جوابا.
وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض، فما ظنك بالعامة ومن هو في عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟
واعلم أن ههنا دقائق لو أن الكندي استقرى وتصفح وتتبع مواقع «إن» ثم ألطف النظر وأكثر التدبر لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل.»
وقد نسبت إليه أشعار رواها ابن نباتة في «سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون» ورواها غيره ممن ترجموا له، منها قوله في وصف قصيدة:
تقصر عن مداها الريح جريا
وتعجز عن مواقعها السهام
تناهب حسنها حاد وشاد
فحث بها المطايا والمدام
ومنها أيضا:
أناف الذنابي على الأرؤس
فغمض جفونك أو نكس
38
فإن الغنى وفي [فقيز] غدا
39
وإن التعزز بالأنفس
وكائن نرى من أخي عسرة
غني وذي ثروة مفلس
وكم كاتم شخصه ميت
40
على أنه بعد لم يرمس
41
وظاهر من هذا الشعر: أن يعقوب الكندي لم يكن جديرا بأن يعد في الشعراء ولم يكن أديبا يتصرف في أفانين البيان بالأساليب البارعة.
ويذكر بعض من ترجموا له أنه كان يعاب بضعف بيانه.
قال الشهرزورى في كتاب «نزهة الأرواح»:
42 «ذكر أبو سليمان السجزي أنه اجتمع هو وجماعة من الحكماء عند الملك أبي جعفر بن بويه بسجستان فجرى حديث فلاسفة الإسلام، فقال الملك: ما وجدنا فيهم على كثرتهم من يقوم في أنفسنا مقام سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، فقيل له: ولا الكندي، قال: ولا الكندي، فإن الكندي على غزارته، وجودة استنباطه، رديء اللفظ، قليل الحلاوة، متوسط السيرة، كثير الغارة على حكمة الفلاسفة، «وثابت»
43
ألزم للقطب وأشد اعتسافا بهذا الفن، ثم جميع الناس يتفاوتون بعدها ولهما السبق.»
أسلوبه
وأسلوب الكندي في الترجمة لما يدرس بعد كما أشار إلى ذلك الأستاذ «مسنيون» في كتابه «مجموع نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام»:
44
إذ يقول: «ولما كان أكثر ما كتب الكندي قد عبثت به يد الضياع إلا بقايا توجد في ترجمات لاتينية مثل رسالته في العقل، فإن على الباحث في أسلوب الكندي أن يكتفي بالنزر القليل الذي وصل إلينا من مؤلفاته بالعربية كرسالته في كمية ملك العرب أو ما وصلنا من التراجم التي أصلحها الكندي مثل كتاب «أتولوجيا» الذي نقله إلى العربية عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي.
والذي يلاحظ في أسلوب الكندي اعتمادا على هذه المصادر الضئيلة أن فيه غموضا يأتي بعضه من أن الألفاظ الاصطلاحية الفلسفية لم تكن استقرت في نصابها وتحددت معانيها.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في كتاب «أتولوجيا» ص2: «وإذ قد ثبت في اتفاق أفاضل الفلاسفة أن علل العالم القديمة البادية أربعة: وهي الهيولى، والصورة، والعلة الفاعلة، والتمام»، والذي سماه التمام هو الذي سمى فيما بعد العلة الغائية، كما يؤخذ من سابق كلامه ولاحقه.
ومن أمثلة ذلك أيضا: استعماله في كتاب «أتولوجيا» كلمة «مبسوط» بمعنى «بسيط» كما جاء في صفحة 16: قلنا «وما الذي يمنع النفس إذا كانت في العالم الأعلى من أن تعلم الشيء المعلوم دفعة واحدة، واحدا كان المعلوم أو كثيرا، لا يمنعها شيء عن ذلك ألبتة؛ لأنها مبسوطة ذات علم مبسوط فعلم الشيء الواحد مبسوطا كان أو مركبا دفعة واحدة.
وقد يكون الغموض من عدم وضوح المعنى في نفسه؛ وقد أشار إلى ذلك الأستاذ «جلسن»
45
في كلامه على نظرية العقل عند الكندي حسبما ورد في رسالته في العقل الموجودة باللاتينية، حيث يقول: «المعاني ضعيفة كأن الكندي كان يكابد في امتلاك ناصيتها عناء.»
والواقع: أن الأصول التي كان يرجع الكندي إليها مترجمة كانت إلى العربية أو غيرها أو موجودة في لغاتها الأصلية لم تكن تخلو من تحريف ومن غموض، وكان طبيعيا أن يجد الكندي عناء في استخلاص معان منها مستقيمة في نظر العقل منتظمة النسق.
وكان جهد الكندي في استخلاص هذه المعاني مجتمعا إلى جهده في إبرازها في لغة لم تذلل للأبحاث العلمية، يظهر في أسلوب الكندي، فيضعف من روعة بيانه حين يقاس بأساليب البلغاء من أدباء العربية في ذلك العهد، ويضعف من وضوح معانيه أيضا، مع ميل الكندي للإيجاز والاقتصار من الألفاظ على ما يضبط المعنى، ويمثله في الذهن مستقيما.
والظاهر: أن الغموض كان غالبا على أساليب المشتغلين بالبحوث العلمية في عصر الكندي لأسباب مختلفة يشير إلى بعضها الجاحظ في كتاب «الحيوان»
46
إذ يقول:
قلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الموضع الذي تدعوني إليه قلت حاجتهم إلي فيها، وإنما كانت غايتي المنالة، فأنا أضع بعضها هذا الموضع المفهوم لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا، وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى هذا التكسب ذهبت.
ولكن ما بال إبراهيم النظام وفلان وفلان، يكتبون الكتب لله بزعمهم، ثم يأخذها مثلي في موافقته وحسن نظره وشدة عنايته ولا يفهم أكثرها؟!
وما كان الكندي يلتمس بعلمه المنالة والكسب، فقد كان غنيا بما ورث من آبائه وبما قد وصل إليه من بر الخلفاء.
معيشته
وكان يعيش مرفها يجمع في داره ما يجمع أرباب الرفه من صنوف الحيوان العجيبة، ذكر الجاحظ في كتاب «الحيوان» أنه كان في منزل أبي يوسف بن إسحاق الكندي هران ذكران يلاحظ فيهما شذوذ، ونص عبارته: «وكان عند يعقوب بن الصباح الأشعثي هران ضخمان أحدهما يكوم الآخر متى أراده من غير إكراه، ومن غير أن يكون المسفود يريد من السافد مثل ما يريد منه السافد» ...
47 «وخبرني صاحبنا هذا أن في منزل أبي يوسف بن إسحاق الكندي هرين ذكرين عظيمين يكوم أحدهما الآخر، وذلك كثيرا ما يكون، وأن المنكوح لا يمانع الناكح، ولا يلتمس منه مثل الذي يبذله له.»
48
وكان في دار الكندي أسباب للنعيم المادي إلى جانب أسباب المتاع العقلي كما يشهد له ما نقلناه عن كتاب «الحيوان».
وكان للكندي ضيعة بالبصرة كما أشرنا إليه آنفا، وكانت له ببغداد دور يستغلها بالأجر كما يؤخذ من كتاب «البخلاء» للجاحظ.
وكان الكندي بعد أن ترك الاشتغال بفنون الأدب، وترك علم الكلام، وانصرف بكليته إلى علوم الفلسفة وما إليها، يعيش عيشة عزلة وانكباب على الدرس، يدل على ذلك ما روي من شعره الذي أسلفناه.
المكتبة الكندية
وكانت له مكتبة زاخرة، كما تدل عليه القصة التي نقلها ابن أبي أصيبعة.
49
إذ يقول: «كان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر في أيام المتوكل يكيدان كل من ذكر بالتقدم في معرفة، فأشخصا سند بن علي إلى مدينة السلام وباعداه عن المتوكل، ودبرا على الكندي حتى ضربه المتوكل، ووجها إلى داره، فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها في خزانة سميت «الكندية»، ومكن هذا لهما استهتار المتوكل بالآلات المتحركة، وتقدم إليهما في حفر النهر المعروف «بالجعفري»، فأسندا أمره إلى أحمد بن كثير الفرغاني الذي عمل المقياس الجديد بمصر، وكانت معرفته أوفى من توفيقه؛ لأنه ما تم له عمل قط، فغلط في فوهة النهر المعروف «بالجعفري»، وجعلها أخفض من سائره، فصار ما يغمر الفوهة لا يغمر سائر النهر، فدافع محمد وأحمد ابنا موسى في أمره، واقتضاهما المتوكل، فسعى بهما إليه فيه، فأنفذ مستحثا في إحضار سند بن علي من مدينة السلام فوافى، فلما تحقق محمد وأحمد ابنا موسى أن سند بن علي قد شخص أيقنا بالهلكة ويئسا من الحياة، فدعا المتوكل بسند وقال له: ما ترك هذان الرديان شيئا من سوء القول إلا وقد ذكراك عندي به، وقد أتلفا جملة من مالى في هذا النهر، فاخرج إليه حتى تتأمله وتخبرني بالغلط فيه؛ فإني قد آليت على نفسي إن كان الأمر على ما وصف لي أن أصلبهما على شاطئه، وكل هذا بعين محمد وأحمد ابني موسى وسمعهما، فخرج وهما معه فقال محمد بن موسى لسند: يا أبا الطيب إن قدرة الحر تذهب حفيظته، وقد فرغنا إليك في أنفسنا التي هي أعلاقنا، «وما ننكر: إنا أسأنا، والاعتراف يهدم الاقتراف، فتخلصنا كيف شئت، قال لهما: والله إنكما لتعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة؛ ولكن الحق أولى ما اتبع، أكان من الجميل ما أتيتماه إليه من أخذ كتبه؟ والله لا ذكرتكما بصالحة حتى تردا عليه كتبه.
فتقدم محمد بن موسى في الكتب إليه، وأخذ خطه باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها، فقال: قد وجب لكما علي ذمام برد كتب هذا الرجل ولكما ذمام بالمعرفة التي لم ترعياها في، والخطأ في هذا النهر يستتر أربعة أشهر بزيادة دجلة.
وقد أجمع الحساب على أن أمير المؤمنين لا يبلغ هذا المدى، وأنا أخبره هذه الساعة أنه لم يقع منكما خطأ في هذا النهر إبقاء على أرواحكما، فإن صدق المنجمون أفلتنا الثلاثة؛ وإن كذبوا وجازت مدته حتى تنقص دجلة وتنضب أوقع بنا ثلاثتنا.
فشكر محمد وأحمد هذا القول منه واسترقهما به، ودخل على المتوكل فقال له: ما غلطا. وزادت دجلة وجرى الماء في النهر فاستتر حاله، وقتل المتوكل بعد شهرين.
وسلم محمد وأحمد بعد شدة الخوف مما توقعا.»
كان الكندي يعيش في بغداد في رخاء في دار تحوي من الكتب ما احتاج ابنا موسى بن شاكر أن يفرداه في خزانة سميت «الكندية» لكثرة تلك الكتب ونفاستها، وبنو موسى بن شاكر هم كما يقول صاحب الفهرست:
50
وهؤلاء القوم ممن تناهى في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب، وأتعبوا فيها نفوسهم، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة.
فهم كانوا ممن يجمع الكتب ويعرف أقدارها، واهتمامهم بأمر مكتبة الكندي دليل على عظم شأنها.
شخصيته
ويظهر أن نوع الحياة التي كان يحياها الكندي الفيلسوف بحكم ما فيها من عزلة، وانقطاع عن مجامع الأدباء والعلماء، واتصال بالمترجمين والفلاسفة، وهم غير مسلمين ولا عرب، لم يكن من شأن ذلك أن يجعل الكندي خفيفا على أرواح من يرون في الحياة غير ما يرى.
ولعل هذا هو السر في أن عمرو بن بحر الجاحظ جعل من الكندي في كتابه البخلاء موضوع أسمار وفكاهات.
51
فالكندي عند الجاحظ مثل في البخل: «لا يزال يقول للساكن وربما قال للجار: إن في الدار امرأة بها حمل، والوحمى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها ولو بغرفة أو لعقة، فإن النفس يردها اليسير، فإن لم تفعل ذلك بعد إعلامي إياك فكفارتك أن أسقطت غرة عبد أو أمة، ألزمت نفسك ذلك أم أبيت.
قال: فكان ربما يوافي إلى منزله من قصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام؛ وإن كان أكثرهم يفطن ويتغافل، وكان الكندي يقول لعياله: أنتم أحسن حالا من أرباب هذه الضياع، إنما لكل بيت منهم لون واحد وعندكم ألوان.
وكان الكندي يشترط على السكان أن يكون له روث الدابة وبعر الشاة، ونشوار العلوفة، وأن لا يخرجوا عظما، ولا يخرجوا كساحة، وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى في بيته، وكان في ذلك يتنزل عليهم، فكانوا لطيبه وإفراط بخله، وحسن حديثه يحتملون ذلك.»
وافتن الجاحظ في خياله فأنشأ على لسان الكندي احتجاجات يساجل بها الساكنين عنده تبريرا لشح نفسه، وطمعه في النزر القليل، وأسلوب الجاحظ نفسه ظاهر كل الظهور في تلك الاحتجاجات، على ما فيها من تكلف الجدل الفلسفي.
على أن الجاحظ في تشنيعه على الكندي تند منه كلمات بإقراره بعقل الرجل وعلمه، وأنه ينقم منه الشح بالطعام، وترويج ذلك الشح.
فهو يقول في مقدمة كتابه: «... وذكرت ملح الحزامي واحتجاج الكندي، ورسالة سهل بن هارون، وكلام ابن غزوان، وخطبة الحارثي ... ولم احتجوا مع شدة عقولهم بما أجمعت الأمة على تقبيحه، ولم فخروا مع اتساع معرفتهم بما أطبقوا على تهجينه، ولم سخت نفس أحدهم بالكثير من التبر وشحت بالقليل من الطعم، وقد يعلم أن الذي منعه يسير في جنب ما بذله، وأنه لو شاء أن يحصل بالقليل مما جاد به أضعاف ما بخل كان ذلك عتيدا ويسيرا موجودا.»
52
ويروي الجاحظ في بخل الكندي القصة الآتية:
وحدثني عمرو بن نهيوى قال: تغديت يوما عند الكندي فدخل عليه رجل كان له جارا، وكان لي صديقا فلم يعرض عليه الطعام ونحن نأكل، وكان أبخل من خلق الله، قال: فاستحييت منه، فقلت: سبحان الله لو دنوت فأصبت معنا مما نأكل، قال: قد والله فعلت، فقال الكندي: ما بعد الله شيء، قال عمرو فكتفه والله كتفا لا يستطيع معه قبضا ولا بسطا، وتركه ولو مد يده لكان كافرا، ولكان قد جعل مع الله جل ذكره شيئا.
53
كان الكندي رجلا منصرفا إلى جد الحياة، عاكفا على الحكمة ينظر فيها التماسا لكمال نفسه، ويقوم بأول محاولة لتوطيئها ومدافعة ما يعوق قومه عن الإقبال عليها من العصبية الجنسية والعصبية الدينية، وقد يكون ذهابه إلى أن يونان بنو عمومة للعرب من وسائله لتهدئة ثائرة العرب على علوم العجم، كما كانت له وسائل للتوفيق بين الدين والعلوم الحكيمة مدافعة لنفرة المسلمين من هذه العلوم.
ويقول ظهير الدين البيهقي:
54 «وقد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات.»
كان الكندي هادئا في حياته آخذا بأسباب الاقتصاد والنظام وسياسة النفس ومجاهدة شهواتها، ومن حكمه المأثورة: «اعص الهوى، وأطع ما شئت»، «لا تنجو مما تكرهه حتى تمتنع عن كثير مما تحب وتريد »، «إن النظر في كتب الحكمة اعتياد النفوس الناطقة».
وروى له الشهرزوري:
55 «من ملك نفسه ملك المملكة العظمى واستغنى عن المؤن، ومن كان كذلك ارتفع عنه الذم وحمده كل واحد، وطاب عيشه»، «ولو أفسد أحد أحسن أعضائه كان مذموما، وأشرف الأعضاء الدماغ، ومنه الحس والحركة وسائر الأفعال الشريفة، ومستعملو السكر يدخلون الفساد على أدمغتهم، ومتى توالى السكر على بدن مرض دماغه، واشتد ضعفه، وبعد عن القوة الممدة للأفعال الإرادية والنفسانية.»
وما كان ذلك ليعجب الجاحظ الضاحك الساخر العايش عيشة الأدباء من غير نظام ولا حدود ولا اقتصاد.
لا جرم كان الجاحظ يسخر من الكندي ويشنع عليه لبعد ما بين طباعيهما، وبعد ما بين سلبهما في الحياة.
وكان الجاحظ بصريا وكان الكندي كوفيا، وبين أهل البلدين عداوة وتنافس، والجاحظ معتزلي ولم يكن يسلم من لذعاته إلا من تحرم بحرمة الكلام.
وفي كتاب الحيوان:
56 «وسمع رجل ممن قد نظر بعض النظر تصويب العلماء لبعض الشكاك بإجراء ذلك في جميع الأمور، حتى زعم أن الأمور كلها يعرف حقها من باطلها بالأغلب، وقد مات ولم يخلف عقبا واحدا يدين بدينه، فلو ذكرت اسمه مع هذه الحال لم أكن أسأت، ولكني على كل حال أكره التنويه بذكر من تحرم بحرمة الكلام، وشارك المتكلمين في أسماء الصناعة، ولا سيما إذا كان ممن ينتحل تقديم الاستطاعة.»
والكندي لم يكن ممن تحرم بحرمة الكلام، بل هو قد ألم به في أول أمره مسايرة لحكم الوقت ثم انصرف عنه إلى الفلسفة.
ولم يكن الكندي ممن يخافهم الجاحظ عندما كتب كتاب البخلاء، يقول الجاحظ في مقدمة الكتاب: «وقد كتبنا لك أحاديث كثيرة غير مضافة إلى أربابها إما بالخوف منهم وإما بالإكرام لهم.»
ويظهر أن الجاحظ ألف كتاب «البخلاء» في أخريات حياته بالبصرة، وهو مريض ما بين سنتي 254، 255 كما استنتجه
Van Vloten
في مقدمته لطبعة ليدن.
وقد توفي الكندي قبل ذلك التاريخ كما سيأتي تحقيقه، ولم يكتف الجاحظ بإشاعته حديث البخل مكبرا عن الكندي في كتابه «البخلاء»، بل ألف رسالة في فرط جهل الكندي ، ولعل تشنيع الجاحظ هو أساس لكل ما تناقل الرواة من بعده. فابن النديم صاحب الفهرست يقول عن الكندي: «وكان بخيلا». ويقول ابن نباتة في سرح العيون: «ومن نوادره وكلامه في البخل كان يقول: إنك تقول للسائل: لا ورأسك إلى فوق، ومن ذل العطاء أنك تقول: نعم وأنت رأسك إلى أسفل.
وكان يقول: سماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب فينفق فيسرف فيفتقر فيغتم فيعتل فيموت ... ومن وصيته لولده: «يا بني كن مع الناس كلاعب الشطرنج تحفظ شيئك وتأخذ من شيئهم، فإن مالك إذا خرج عن يدك لم يعد إليك، واعلم أن الدينار محموم فإذا صرفته مات، واعلم أنه ليس شيء أسرع فناء من الدينار إذا كسر والقرطاس إذا نشر، ومثل الدرهم كمثل الطير الذي هو لك ما دام في يدك فإذا ند عنك صار لغيرك. وقال المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى
ولا يبقى الكثير مع الفساد
لحفظ المال خير من فناه
وسير في البلاد بغير زاد
وأعرف هنا بيتا بيت أكثر من مائة ألف في المساجد، وهو قول القائل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى
تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
فاحذر يا بني أن تلحق بهم.»
أما ابن أبي أصيبعة فيروى ما نصه:
57
ومن كلامه مما أوصى به لولده أبي العباس، نقلت ذلك من كتاب «المقدمات» لابن بختويه، قال الكندي: يا بني الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب، وقول: لا، يصرف البلا؛ وقول نعم، يزيل النعم، وجماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب، وينفق فيسرف فيفتقر فيغتم، فيعتل فيموت. والدينار محموم فإن صرفته مات، والدينار محبوس فإن أخرجته فر، والناس سخرة فخذ شيئهم واحفظ شيئك، ولا تقبل ممن قال اليمين الفاجرة فإنها تدع الديار بلاقع.
أقول: وإن كانت هذه من وصية الكندي، فقد صدق ما حكاه عنه ابن النديم البغدادي في كتابه، فإنه قال: إن الكندي كان بخيلا.
ولا يكتفي ابن نباتة بما نسبه من الوصايا السخيفة للكندي، بل هو يجعل فيلسوف الإسلام رجلا أحمق متكلفا سخيفا. فهو يروي في كتابه:
وقال يوما لجارية كان يهواها: إني أرى فرط الاعتياصات من المتوقعات على طالبي المودات مؤذنات بعدم المعقولات، فنظرت إليه وكان ذا لحية طويلة فقالت: إن اللحى المسترخيات على صدور أهل الركاكات محتاجة إلى المواسي الحالقات.
هكذا يبلغ العبث بالتاريخ حدا يشوه من خلق الكندي ومن عقله، وقد كان الرجل في خلقه وفي عقله من أعظم ما عرف البشر. يقول «ده بوير» في دائرة المعارف الإسلامية عند ترجمته للكندي: إن «كوردان»
Curdan
وهو فيلسوف من فلاسفة النهضة
La Renaissance
يعد الكندي واحدا من اثني عشر هم أنفذ الناس عقلا، وأنه كان في القرون الوسطى يعتبر واحدا من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية.
آثاره وآراؤه ومنزلته العلمية
نبغ الكندي في علوم الحكمة، وصار كما يقول الأستاذ «مسنيون»:
58 «إمام أول مذهب فلسفي إسلامي في بغداد، وله أبحاث طريفة ثم إليه يرجع الفضل بعد ذلك في تحرير جملة من التراجم العربية لمصنفات يونانية في الفلسفة.»
ويدل عدد ما نسبه المترجمون له من الكتب في الموضوعات المختلفة على سعة معارفه، وكثرة اطلاعه.
وقد جعل ابن النديم
59
كتب الكندي سبعة عشر نوعا: «(1) كتبه الفلسفية (2) كتبه المنطقية (3) كتبه الحسابيات (4) كتبه الكريات (5) كتبه الموسيقيات (6) كتبه النجوميات (7) كتبه الهندسيات (8) كتبه الفلكيات (9) كتبه الطبيات (10) كتبه الأحكاميات (11) كتبه الجدليات (12) كتبه النفسيات (13) كتبه السياسيات (14) كتبه الأحداثيات (15) كتبه الأبعاديات (16) كتبه التقدميات (17) كتبه الأنواعيات.» «وقد يقع في تعديد كتب الكندي خلاف بين المؤرخين بالزيادة والنقص؛ ولكنهم متفقون على أن له في أكثر العلوم مؤلفات من المصنفات الطوال والرسائل القصار، كان: فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ويسمى فيلسوف العرب».
60
وفي «طبقات الأمم» لصاعد:
61 «ولم يكن في الإسلام من اشتهر عند الناس بعلوم الفلسفة حتى سموه فيلسوفا غير يعقوب.»
وفي كتاب «أخبار الحكماء»:
62 «يعقوب بن إسحاق ... أبو يوسف الكندي المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية، متخصص بأحكام النجوم وأحكام سائر العلوم، فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها.»
وقد ذكر مثل ذلك صاحب «طبقات الأطباء»
63
وزاد: «أن له مصنفات جليلة ورسائل كثيرة جدا في جميع العلوم.»
أما ابن نباتة المصري فيقول في شرحه لرسالة ابن زيدون:
64 «الكندي هو يعقوب بن الصباح المسمى في وقته «فيلسوف الإسلام» من ولد الأشعث بن قيس، كان أبوه ابن الصباح من ولاة الأعمال في الكوفة وغيرها في أيام المهدي والرشيد، وانتقل يعقوب إلى بغداد واشتغل بعلم الأدب، ثم بعلوم الفلسفة جميعها فأتقنها وحل مشكلات كتب الأوائل، وحذا حذو أرسطاطاليس وصنف الكتب الجليلة الجمة، وكثرت فوائده وتلامذته، وكانت دولة المعتصم تتجمل به وبمصنفاته، وهي كثيرة جدا.»
والكندي هو بلا ريب أول مسلم عربي اشتغل بالفلسفة التي كانت إلى عهده وقفا على غير المسلم العربي، وكان معاصرا لأبي الحسن ثابت بن قرة الحراني الصابئي و«قسطا» بن لوقا البعلبكي المسيحي، وكانوا ثلاثتهم أعلاما في مملكة الإسلام بعلم الفلسفة في وقتهم، كما ذكر ذلك صاعد في كتاب «طبقات الأمم» وكان ذلك جديرا بأن يثير على الكندي أحقادا من كل نوع، فمنها حسد منافسين كعداوة ابني موسى بن شاكر، ومنها إنكار متشددين في دينهم كما رأينا في شعر الناشي. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره صاحب «الفهرست» عند الكلام على أبي معشر المنجم قال: «وكان أولا من أصحاب الحديث، ومنزله في الجانب الغربي بباب خراسان، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة، فدس عليه الكندي من حسن له النظر في علوم الحساب والهندسة؛ فدخل فيه فلم يكمل له، فعدل إلى علم أحكام النجوم، وانقطع شره عن الكندي بنظره في هذا العلم؛ لأنه من جنس علوم الكندي.»
وذكر المسعودي في «مروج الذهب»
65
شيئا من آراء الكندي في تأثر العالم بالأشخاص العلوية:
وقد قال يعقوب بن إسحاق الكندي في بعض رسائله في أفعال الأشخاص العلوية والأجرام السماوية في هذا العالم: إن جميع ما خلق الله صير بعضه لبعض عللا، فالعلة تفعل في معلولها آثار ما هي لديه علة، وليس يؤثر المفعول المعلول في علته الفاعلة.
والنفس علة الفلك لا معلولة له ، فليس يؤثر الفلك فيها أثرا؛ إلا أن من طباع النفس أن تتبع مزاج البدن إذا لم تجد شيئا، كما هو موجود في الزنجي الذي حمي موضعه فأثرت فيه الأشخاص الفلكية، جذبت الرطوبات إلى أعاليه، فأجحظت عينيه وأهدلت شفتيه، وأفطست أنفه وعظمته، وأشالت رأسه بكثرة جذب الرطوبات إلى أعالي بدنه، فخالف بذلك مزاج دماغه عن الاعتدال، فلم تقدر نفسه على إظهار فعلها فيه بكمال، ففسد تمييزه وأخرجت الأفعال العقلية منه.
ولئن كان الكندي قد اشتغل بالتنجيم القائم على ربط الحوادث الأرضية بحركات النجوم، وعوارض الأفلاك ومطالع الكواكب، وألف الكتب التي كان لها يومئذ شأن عظيم، فإنه اشتغل أيضا بالأبحاث الفلكية العلمية، وظهر تميزه في هذه الأبحاث لعهده وبعد عهده، واقتبس من مذاهب الهنود ما لم يكن مقتبسا في فنون العرب الفلكية من قبله، وكانت له آراء طريفة بناها على أرصاده وحسابه بنفسه، وأسعده في ذلك تبحره في الرياضيات، والهندسيات.
والشهرزوري يجعل الوصف الأول للكندي: كونه مهندسا، وكذلك يفعل البيهقي، فهما يقولان: «يعقوب بن إسحاق الكندي كان مهندسا، خائضا غمرات العلم.»
وكان كما يقول «ده بوير» مولعا بتطبيق الرياضيات لا في العلم الطبيعي وحده، بل في الطب أيضا؛ فهو مثلا يفسر عمل الأدوية المركبة بالتناسب الهندسي الحادث من مزاج صفاتها الحسية، أي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة.
وجاء في كتاب «الفهرست»
66
ما يدل على غرام الكندي بتطبيق الرياضيات: «وقال الكندي: القلم على وزن نفاع؛ لأن الفاء ثمانون والنون خمسون والألف واحد والعين سبعون، ذلك مائتان وواحد، والقلم، الألف واحد، واللام ثلاثون، والقاف مائة واللام ثلاثون والميم أربعون، فذلك مائتان وواحد.»
وقد يدل على هذه النزعة إلى تطبيق الرياضيات على الطب والعلاج ما يرويه المترجمون للكندي من أنه كان يجعل من اللحون الموسيقية طبا لبعض الأمراض، وعلم الموسيقى كان يومئذ معتبرا فرعا من فروع العلوم الرياضية، وكان الكندي عالما بالموسيقى وبالطب، وله فيهما مؤلفات.
روى صاحب كتاب «أخبار الحكماء»:
67 «وقد ذكروا، من عجيب ما يحكى عن يعقوب بن إسحاق الكندي هذا، أنه كان في جواره رجل من كبار التجار، موسع عليه في تجارته، وكان له ابن قد كفاه أمر بيعه وشرائه، وضبط دخله وخرجه وكان ذلك التاجر كثير الإزراء على الكندي والطعن عليه، مدمنا لتعكيره والإغراء به، فعرض لابنه سكتة فجأة، فورد عليه من ذلك ما أذهله، وبقي لا يدري ما الذي له في أيدي الناس وما لهم عليه، مع ما دخله من الجزع على ابنه، فلم يدع بمدينة السلام طبيبا إلا ركب إليه واستركبه لينظر ابنه ويشير عليه من أمره بعلاج، فلم يجبه كثير من الأطباء لكبر العلة وخطرها إلى الحضور معه؛ ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناء، فقيل له: أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة، فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب، فدعته الضرورة إلى أن يحمل على الكندي بأحد إخوانه، فثقل عليه في الحضور، فأجاب وصار إلى منزل التاجر، فلما رأى ابنه وأخذ مجسه أمر بأن يحضر إليه من تلامذته في علم الموسيقى من قد أنعم الحذق بضرب العود، وعرف الطرائق المحزنة والمزعجة، والمقوية للقلوب والنفوس، فحضر إليه منهم أربعة نفر، فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الدساتين! ونقلها! فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة والكندي آخذ مجس الغلام، وهو في خلال ذلك يمتد نفسه ويقوى نبضه، ويراجع إليه نفسه شيئا بعد شيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم، وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائما لا يفترون، فقال الكندي لأبيه: سل ابنك عن علم ما تحتاج إلى علمه مما لك وعليك وأثبته، فجعل الرجل يسأله وهو يخبره، ويكتب شيئا بعد شيء، فلما أتى على جميع ما يحتاج إليه غفل الضاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها وفتروا، فعاد الصبي إلى الحال الأولى وغشيه السكات، فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به، فقال: هيهات إنما كانت صبابة قد بقيت من حياته ولا يمكن فيها ما جرى، ولا سبيل لي ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته، إذ قد استوفى العطية والقسم الذي قسم الله له.»
عني الكندي بالكيمياء فيما عني به من العلوم، ووضع فيها مصنفات وذكر في بعض رسائله تعذر فعل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله، وخدع أهل هذه الصناعة وجهلهم، وأبطل دعوى الذين يدعون صنعة الذهب والفضة، وترجم الكندي هذه الرسالة: «بإبطال دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة من غير معادنها»، وقد نقض هذه الرسالة على الكندي «أبو بكر محمد بن زكريا الرازي».
وقد ذكر «أبو القاسم صاعد» في كتابه «طبقات الأمم»
68
عن الكندي عند ذكر تصانيفه: «أنه كان مع تبحره في العلم يأتي بما يصنفه مقصرا: فيذكر مرة حججا غير قطعية، ويأتي مرة بأقاويل خطابية وأقاويل شعرية، وأهمل صناعة التحليل التي لا تحرر قواعد المنطق إلا بها: وإن يكن جهلها فهو نقص عظيم، وإن يكن ضن بها فليس ذلك من شيم العلماء، وأما صناعة التركيب التي قصدها في تواليفه فلا ينتفع بها إلا المنتهي الذي هو في غنى عنها بتبحره في هذا النوع.»
قال ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء»:
69 «أقول هذا الذي قاله القاضي صاعد عن الكندي فيه تحامل كثير عليه، وليس ذلك مما يحط من علم الكندي، ولا مما يصد الناس عن النظر في كتبه والانتفاع بها.»
ورأى «ابن أبي أصيبعة» في الكندي وتآليفه يبينه بقوله: «وترجم من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل ولخص المستصعب، وبسط العويص». ويقول القفطي في الكندي مثل ذلك.
ولسنا ندري كيف يقولون: إن الكندي أهمل صناعة التحليل في المنطق؟ مع أنا نجد في أسماء كتبه تفسيرات وشروحا على «أنولوطيقا الأولى» تحليل القياس، وعلى «أنولوطيقا الثانية» البرهان، ولم يترك الكندي قسما من أقسام المنطق لم يعرض له بالشرح والبيان وبالاختصار أحيانا، فلعل تلك الكتب لم يتصل بالقاضي «صاعد» علمها، فكتب ما كتب، ويؤيد ذلك أن «صاعدا» ذكر أن عدد كتب الكندي نحو خمسين، على حين يبلغ بها غيره 150، بل قيل : هي 265 كتابا.
والكندي صاحب مؤلفات في «الجغرافيا» فقدت فيما ضاع من كتبه؛ لكنها كانت مرجعا لمن جاء بعده من المؤلفين، وكانت تظهر آثار اطلاعه الواسع وفكره العميق، ونجد في كتب المسعودي نماذج منها. •••
فيما أسلفنا دليل على إحاطة الكندي بكل أنواع المعارف التي كانت لعهده على اختلافها إحاطة تدل على سعة مداركه وقوة عقله، وعظم جهوده، وقد ألف في كل تلك العلوم كتبا ورسائل يشهد ما عرف منها وما تنوقل من مقتطفاتها بما للكندي من استقلال في البحث ونظر ممتاز.
وإذا كنا لا نعرف للكندي مصنفات في العلوم الدينية، فإن في بعض مؤلفاته آثارا من معرفته بعلوم الدين، بل هو قد عالج مسائل علم الكلام وكتب فيها.
أما شأنه في الفلسفة فهو أهم شئونه ومظهر عبقريته، ومناط الخلود لاسمه في ثنايا التاريخ.
والكندي يقول عن الفلسفة فيما روى عنه ابن نباتة المصري:
علوم الفلسفة ثلاثة: فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع؛ والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع؛ والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع.
وإنما كانت العلوم ثلاثة؛ لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى إما أن يكون لا يتصل بالهيولى البتة وإما أن يكون قد يتصل بها.
فأما ذات الهيولى فهو المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي؛ وأما ما ليس بذي هيولى فإما أن يتصل بالهيولى، فإن له انفرادا بذاته كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف، وإما لا يتصل بالهيولى البتة وهو علم الربوبية.
70
وقد كان هذا المنحى في فهم معنى الفلسفة وتقسيمها باعتبار الموضوع توجيها للفلسفة الإسلامية منذ نشأتها.
والكندي هو الذي وجه الفلسفة الإسلامية وجهة الجمع بين أفلاطون وأرسطو؛ وهو الذي وجهها في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين.
وليس فيما بين أيدينا من آثار الكندي ما يمكننا من استخلاص مذهبه الفلسفي نسقا كاملا.
ويقول بعض مترجميه كابن نباتة: إنه حذا حذو أرسطو، ويقول «ابن أبي أصيبعة»: احتذى في تآليفه حذو أرسطوطاليس .
ويورد له الشهرزوري أقوالا كلها بسط لآراء أفلاطون منها: «أما أفلاطون فإنه قال: إن مسكن الأنفس العقلية إذا تجردت، كما قالت الفلاسفة القدماء، خلف الفلك في عالم الربوبية حيث نور الباري، وليس كل نفس تفارق البدن تصير من ساعتها إلى ذلك المحل؛ لأن في الأنفس ما يفارق البدن وفيها دنس وأشياء حسنة، فمنها ما يصير إلى فلك عطارد فيقيم فيه مدة، فإذا تهذبت ونفت ارتقت إلى عالم العقل وجازت الكل، فصارت في أجل محل لا تخفى عليها خافية، وواصلت نور الباري تعالى، وصارت تفكر في الأشياء قليلها وكثيرها كعلم الواحد بأصبعه الواحدة، وصارت الأشياء كلها لها مكشوفة وبارزة، فحينئذ يفوض الباري إليها من سياسة العالم أشياء تلتذ بها وبعقلها والتدبير لها.»
ولعل الشهرزوري يشير بذلك إلى إيثار الكندي لأفلاطون.
والأشبه أن يكون الكندي قد بنى مذهبه على ما صح في نظره من الآراء المختلفة من غير تقيد بما نسب لأفلاطون ولا بما نسب لأرسطو، بيد أنه كان بلا شك يراهما إمامي هذا الشأن، فهو كما يقول «ده بور»: «بحق، كان من أهل الترجيح والتخير.»
وقد سار على نهجه أكثر من بعده من فلاسفة الإسلام.
الكندي هو «فيلسوف العرب» كما في كتاب «أخبار الحكماء» وكتاب «طبقات الأطباء»: «ولم يكن في الإسلام من اشتهر عند الناس بمعاناة علوم الفلسفة حتى سموه فيلسوفا غير يعقوب هذا»، وفي الفهرست: «وسمي فيلسوف العرب.»
ويقول ابن نباتة: «الكندي هو يعقوب بن الصباح المسمى في وقته فيلسوف الإسلام.»
والكندي كان جديرا بهذه التسمية في وقته وسيظل بها جديرا، فإنه أول عربي مسلم مهد للفلسفة سبيل الانتشار بين العرب وفي ظل الإسلام، فقد كان أمر الترجمة من قبله لنقلة حرصهم على الترجمة الحرفية مع ضعف بيانهم العربي يجعل تراجمهم رموزا يستعصى حلها، حتى جاء الكندي يترجم بنفسه ويصلح هذه التراجم ليسهل تناولها؛ ولكيلا تنفر من أساليبها أذواق العرب، ثم درس الكندي هذه الكتب المترجمة ويسر من موضوعاتها ما كان معسرا، واختار ما صح من آرائها في نظره فبسطه إن كان محتاجا لبسط، ولخصه إن كان محتاجا لتلخيص، وجاهد كما بينا من قبل في تزيين الفلسفة في أعين العرب جهادا مكللا بالنصر، بذل فيه كل ما يستطيع إنسان أن يبذله من نعيم الحياة وجاهلها، وصبر في سبيل ذلك على أذى أشرنا إلى بعضه فيما مضى.
والكندي هو الذي وجه الفلسفة الإسلامية في وجهتها فسارت في سبيلها على أيدي تلاميذه ومن أخذ عن تلاميذه.
وقد أورد صاحب الفهرست أسماء تلاميذ الكندي بقوله: «تلاميذ الكندي ووراقوه: حسنويه ونفطويه وسلمويه وآخر على هذا الوزن، ومن تلامذته: أحمد بن الطيب ونذكره فيما بعد، وأخذ عنه أبو معشر.»
71
وذكر في موضع آخر:
72 «دبيس تلميذ الكندي هو محمد بن يزيد ...» وفي ذلك دلالة على أن تلاميذ الكندي لم يعرف عددهم على استقصاء، كما غاب عنا أسماء من تلقى عنهم ضروب العلم المختلفة.
عقيدته
بقي أن البيهقي قال في كتابه «تاريخ حكماء الإسلام» عن الكندي: «واختلفوا في ملته فقال قوم: [كان] يهوديا ثم أسلم، وقال بعضهم كان نصرانيا». وقال الشهرزوري في «نزهة الأرواح»: «وقيل: كان يهوديا ثم أسلم، وقيل: كان نصرانيا»، ويلاحظ أن المؤلفين كليهما لم يذكرا للكندي نسبا إلا أنه يعقوب بن إسحاق، وليس في الاسمين ما يميز ملته، فدل ذلك على أنهما خلطا بين أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الأشعثي وبين كندي آخر. ولا يستحق هذا الاشتباه إلا أن ينبه إليه. وفي كتابي البيهقي والشهرزوري أخطاء تاريخية كثيرة ظاهرة البطلان عند الكلام على غير الكندي، وفي النسخ التي بين أيدينا منهما تحريفات كثيرة على أنه لا يبعد أن تكون هذه الأضاليل من آثار ما كان يدسه على الكندي خصومه تشويها لذكره وتشنيعا عليه.
وفاته
هذا وقد ذكر صاحب كتاب «أخبار الحكماء» سبب موت الكندي بقوله: «قال أبو معشر: وكانت علة يعقوب بن إسحاق أنه كان في ركبته خام، وكان يشرب له الشراب العتيق فيصلح، فتاب من الشراب وشرب شراب العسل، فلم تنفتح له أفواه العروق، ولم يصل إلى أعماق البدن وأسافله شيء من حرارته ، فقوي الخام فأوجع العصب وجعا شديدا، حتى تأتى ذلك الوجع إلى الرأس والدماغ فمات الرجل؛ لأن الأعصاب أصلها من الدماغ.»
أما تاريخ وفاته فلم يعرض لذكره أحد عرفناه ممن ترجموا له من الأقدمين، وقد حاول المحدثون أن يحددوا ذلك التاريخ من سبيل الاستنباط: فمنهم من جعل موته سنة 246ه / 860م كالأستاذ «مسنيون» في نصوصه الصوفية، ومنهم من جعله نحو سنة 260ه / 873م كالأستاذ «نالينو» في محاضراته في الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى.
ويقول «ده بوير» في دائرة المعارف الإسلامية: إن الكندي كان يعيش سنة 257ه / 870م حيث اعتقد أنه يستطيع أن يؤكد للخلافة العباسية، وهي يومئذ مهددة بالقرامطة، بقاء يدوم حوالي 450 عاما.
وقد نقلنا فيما سبق عن الفهرست ما يثبت أن الكندي نسخ كتابا بخطه سنة 249 رآه ابن النديم. وفي تاريخ الطبري عند الكلام على موت المنتصر بالله سنة 248 والتشاور في تعيين خلفه: أن محمد بن موسى المنجم سعى في دفع الخلافة عن أحمد بن المعتصم؛ لأنه صاحب الكندي الفيلسوف.
كل هذا يباعد رأي الأستاذ «مسنيون».
ثم إن الجاحظ المتوفى سنة 255ه يذكر ما ذكره عن الكندي في كتابيه «الحيوان» و«البخلاء» في صيغة الماضي الدالة على أن الكندي كان ميتا حين كتب كتابه، وكتاب «البخلاء» مؤلف على الراجح سنة 254ه وكتاب «الحيوان» سابق عليه. فالكندي لم يكن حيا في سنة 254ه ولا في سنة 253ه إن صح أن الجاحظ كتب «الحيوان» في هذه السنة.
وتدل رسالة الكندي في ملك العرب وكميته على أنه شهد عهد الخليفة المستعين، وشهد الفتنة التي قتل في أعقابها المستعين آخر رمضان سنة 252، فالراجح أن الكندي توفي في أواخر سنة 252.
هوامش
المعلم الثاني الفارابي
نسبه وموطنه
لا خلاف بين المؤرخين في أن اسم الفارابي «محمد» وأنه ملقب «بأبي نصر»، وقد اختلفوا بعد ذلك في نسبه: فمنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان، كما في «عيون الأنباء» لابن أبي أصيبعة، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن طرخان بن أوزلغ كابن خلكان، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان كالقفطي والبيهقي ، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن طرخان كابن النديم في الفهرست، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن نصر كصاعد في الطبقات، ويقول صاعد في موضع من كتابه: أبو نصر محمد بن نصر.
فلا اتفاق على تسمية آبائه ولا على ترتيبهم، وإذا كان اسم أبيه موضع خلاف فلا غرو أن أحدا من المؤرخين لم يشر إلى اسم أمه ولا إلى نسبها.
وأكثر المترجمين للفارابي يذكرون أنه تركي، لكن صاحب طبقات الأطباء يقول: «وكان أبوه قائد جيش وهو فارسي المنتسب»، ولا سبيل إلى تحقيق نسبه من هذه الناحية لتقارب البلادين واشتراك الأعلام فيهما، وإذا صح أن أباه كان قائد جيش فهو لم يكن من كبار القواد الذين يشيد بذكرهم التاريخ، ولعل فيما امتاز به الفارابي من الشجاعة والصبر على احتمال متاعب الدرس ومشاق الأسفار وشظف العيش ما يشعر بأنه سليل أبطال.
ولم يقف الخلاف في أمر الفارابي عند حد التضارب في نسبه؛ فقد اختلف المؤرخون في وطنه الأول أيضا.
والفارابي منسوب إلى فاراب، ولم يشذ عن القول بذلك إلا ابن النديم في الفهرست، فإنه يقول: أصله من الفارياب من أرض خراسان، وإلا البيهقي في كتابه المخطوط في تاريخ الحكماء، فإنه يذكر أن الفارابي من فارياب (تركستان). لكن النسبة إلى فارياب هي فاريابي، وقد ذكر معجم البلدان أسماء جماعة من الأئمة نسبوا إليها منهم محمد بن يوسف الفاريابي.
وفاراب التي ينتسب إليها فيلسوفنا، وتسمى باراب أيضا هي ناحية كبيرة واسعة وراء نهر جيحون (أموداريا)، كذا يقول ياقوت عند الكلام على باراب، ولكنه يقول عند ذكر فاراب: «ولاية وراء نهر سيحون (سرداريا) في تخوم بلاد الترك وهي أبعد من الشاشن قريبة من بلاساغون، ومقدارها في الطول والعرض أقل من يوم إلا أن بها منعة وبأسا، وهي ناحية سبخة لها غياض ولهم مزارع في غرب الوادي تأخذ من نهر الشاش.»
والشاشن هي مدينة بما وراء النهر ثم ما وراء نهر سيحون متاخمة لبلاد الترك، ويتبين من ذلك أن لا خلاف بين عبارتي ياقوت، فإن «فاراب» وراء نهري جيحون وسيحون معا، ثم إن فاراب على جانبي الفرع الأكبر لنهر سيحون وهي في طرف بلاد الترك «تركستان».
ويقول ابن حوقل (نحو سنة 367ه / 977م): إن على الشاطئ الغربي من سرداريا كانت توجد مدينة «وسيج» التي ولد بها الفيلسوف أبو نصر الفارابي، والمستشرقون يعتمدون هذا القول، لكن كثيرين من مؤلفي العربية كالقفطي وابن أبي أصيبعة وابن خلكان صرحوا بأن الفارابي من مدينة فاراب.
وقال ابن خلكان: إن هذه المدينة تسمى في عهده «أطرار»، ويقول الأستاذ بارتولد في الفصل الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية: «إن الإصطخري الذي وجد في أوائل القرن العاشر يذكر أن قصبة ولاية فاراب كانت مدينة تسمى «قدر» في شرقي نهر سرداريا على نصف فرسخ من مجراه، وعلى الشاطئ الغربي من هذا النهر على فرسخين دون «قدر» توجد «وسيج» التي هي حصن صغير.»
أما المقدسي الذي نبغ في أواخر القرن العاشر الميلادي فهو يذكر أن قصبة «فاراب» كانت تسمى باسم الولاية، وعنده أن «قدر» مدينة حديثة النشأة.
ويرجح الأستاذ «بارتولد» أن تكون فاراب التي لم يذكرها ابن حوقل ولا الإصطخري هي المدينة الحديثة النشأة.
أما «قدر» فهي المدينة القديمة، «وأطرار» هي نفس مدينة «فاراب» وهي أحدث منها.
وعلى ذلك فالراجح أن الفارابي ولد بوسيج كما ذكره ابن حوقل، ونسب إلى ولاية فاراب لا إلى المدينة المسماة بهذا الاسم التي حلت محل مدينة «قدر»، ثم حلت محلها «أطرار».
مولده ونشأته
ولسنا نعرف مولد الفارابي إلا بالتقريب استنتاجا مما ذكره المؤرخون في وفاته، فقد ذكر ابن خلكان أنه توفي سنة 339ه / 950-951م، وقد ناهز ثمانين سنة ويكون إذا مولده حول سنة 259ه / 872-873م.
ولا يعرف شيء عن طفولته وشبابه، إنما يقول المؤرخون: إنه خرج من بلده وانتقلت به الأسفار، إلى أن وصل بغداد وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي فتعلم اللسان العربي وأتقنه، ثم اشتغل بعلوم الحكمة على أبي بشر متى بن يونس، وهو مسيحي نسطوري معروف بين تراجمة الكتب اليونانية وإليه انتهت رئاسة المنطقيين في عصره، وعلى الطبيب المنطقي المسيحي يوحنا بن حيلان، ولم يذكر له المؤرخون أساتذة غيرهما.
وإذا كنا لا نعرف التاريخ الذي خرج فيه الفارابي من بلده ولا التاريخ الذي وصل فيه إلى بغداد، فإنا نستطيع أن نتلمس بعض هذه التواريخ استنباطا من ثنايا كلام المترجمين للفارابي.
يقول صاعد في «طبقات الأمم»: «أخذ - أي: الفارابي - صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر.» والخليفة المقتدر توفي سنة 320ه / 932م. ويقول ابن خلكان: إن الفارابي ارتحل من بغداد إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان فأخذ عنه طرفا من المنطق.
ويؤخذ من ذلك أن يوحنا كان يشتغل بحران أولا، ثم انتقل إلى بغداد ومات بها قبل سنة 320ه، أما أبو بشر متى بن يونس فقد كان شيخا كبيرا يقرأ في بغداد كتاب أرسطاطاليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه، فحضر أبو نصر دروسه زمنا قبل انتقاله إلى حران، ولعلنا نستطيع أن نقدر زمن درسه ببغداد، ثم اشتغاله بحران ثم انتقال أستاذه يوحنا بن حيلان إلى بغداد ومقامه فيها إلى أن مات، بنحو عشر سنين، فيكون دخول الفارابي إلى بغداد لأول مرة حوالي سنة 310ه، ولا يكون هذا الفرض جزافا إذا راعينا ما ينقله ابن أبي أصيبعة من أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج، فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السراج يقرأ عليه صناعة المنطق، وأبو بكر بن السراج توفي سنة 316ه، فلا بد أن يكون تبادل التعلم بينه وبين الفارابي قبل وفاته بست سنين على الأقل، خصوصا إذا روعي ما لاحظه بعض زملائنا المشتغلين بدراسة تاريخ النحو من أن ابن السراج قد تأثر في مؤلفاته النحوية بأساليب المنطق وقواعده.
ثقافته ورحلاته
قد خرج الفارابي إذا من بلده قاصدا إلى بغداد حوالي سنة 310 وهو يومئذ يناهز الخمسين، فحضر دروس أبي بشر بن متى في المنطق وتعلم في أثناء ذلك العربية عن ابن السراج في مقابل تعليمه المنطق.
والظاهر أن الفارابي حين وصل إلى بغداد لم يكن جاهلا للعربية ولا للعلوم الحكمية كما يفيده كلام المؤرخين، فليس من المعقول أن الإمام ابن السراج المجمع على فضله وجلالة قدره في النحو والأدب يتعلم المنطق عن ناشئ يتلقى دروسه الأولى، ثم يتأثر عقله بأسلوب هذا الناشئ وتعاليمه، وليس بالمعقول أن من يجهل اللغة العربية يبتدئ بتعلم ألفها وبائها عن ابن السراج.
إنما خرج الفارابي من بلاده ليتصل بأئمة الحكمة والعلم في العراق والشام تكميلا لما عنده من العلم والحكمة.
وقد ذكروا أنه إنما أخذ عن أبي بشر متى بن يونس وعن يوحنا بن حيلان علم المنطق، وأخذ العربية عن ابن السراج، فكيف تعلم الرياضيات، وقد قالوا: إنه كان رياضيا بارعا؟ وكيف تعلم الموسيقى وقد كان يحسنها تلحينا وتوقيعا؟ حتى ليحكى كما في ابن خلكان أن الآلة المسماة بالقانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب، ويقول غير ابن خلكان: إنه وضع آلة تشبه القانون، وكتابه في الموسيقى أشهر كتب الفن كما أنه كان في صباه يضرب بالعود ويغني، ويقول «كارا دو فو» في دائرة المعارف الإسلامية: إن دراويش المولوية لا تزال تحتفظ بأغان قديمة منسوبة إليه.
ثم إنه كان له بالطب معرفة، بل ذكر بعضهم أنه مارسه عملا، وأنكر ذلك آخرون.
فهل لم يتعلم كل هذه العلوم، وهي لا تستغني عن موقف إلا بعد مجيئه إلى بغداد؟!
ثم إنهم ذكروا أنه كان يعرف لغات كثيرة عند قدومه إلى بغداد، ورووا أساطير تدل على أنه كان يعرف سبعين لغة، ومع ما في ذلك من الشطط فإنه لا يخلو من أثر الحق، إذ هو بالضرورة كان يعرف التركية، ولعله كان يعرف الفارسية وقد أتقن العربية، وهو يتحدث في بعض كتبه عن اللغة اليونانية حديث خبير بها، فهل يضطلع بعلم هذه اللغات إلا الرجل العليم؟!
بعد أن قضى الفارابي وطره من دروس أبي بشر متى تحول عن بغداد إلى حران فأخذ عن يوحنا بن حيلان المنطق أيضا، ثم إنه قفل راجعا إلى بغداد كما يقول ابن خلكان، وقرأ بها علوم الفلسفة وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها. ويقال: إنه وجد كتاب النفس لأرسطاطاليس وعليه بخط أبي نصر الفارابي: إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة، ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت السماع الطبيعي لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته.
ويذكر ابن خلكان أن الفارابي ألف في بغداد معظم كتبه، ثم انتقل الفارابي إلى الشام، ثم توجه إلى مصر وعاد إلى الشام، واتصل هناك بسيف الدولة بن حمدان الذي عرف له فضله وأكرم وفادته فعاش في كنفه حتى مات.
وكلام المؤرخين مضطرب في أمر هذه الانتقالات، وقد أورد ابن خلكان في كتاب الوفيات أن أبا نصر ذكر في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية أنه ابتدأ بتأليفه في بغداد وأكمله في مصر.
وليس في كتاب السياسة المدنية المطبوع شيء من هذا، وذكر ابن أبي أصيبعة أنه ابتدأ بتأليف كتاب المدينة الفاضلة، والمدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المبدلة، والمدينة الضالة ببغداد، وحمله إلى الشام في أواخر سنة 330، وتممه بدمشق في سنة 331، وحرره ثم نظر في النسخة بعد التحرير فأثبت فيها الأبواب، ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولا تدل على قسمة معانيه فعمل الفصول بمصر في سنة 337، وذكر ابن أبي أصيبعة في موضع آخر من ترجمته ما نصه: «ونقلت من خط بعض المشايخ أن أبا نصر سافر إلى مصر سنة 338 ورجع إلى دمشق وتوفي بها سنة 339.»
والظاهر أن الفارابي رجع من بغداد إلى دمشق سنة 339، وهي السنة التي حدث فيها وباء ببغداد وغلاء مفرط حتى أكل الناس الجيف، وفيها حدثت فتنة البريدي.
وأقام بدمشق في شظف من العيش وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة، قال ابن أبي أصيبعة نقلا عن الآمدي: إن الفارابي كان في أول أمره ناطورا في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها والتطلع إلى آراء المتقدمين وشرح معانيها.
وكان ضعيف الحال حتى إنه كان في الليل يسهر للمطالعة والتصنيف ويستضيء بالقنديل الذي للحارس، وبقي على ذلك مدة.
وملك سيف الدولة حلب سنة 333 وبسط حمايته على العلم والأدب، فقصد إليه الفارابي وآوى منه إلى ركن شديد، ثم إنه عظم شأنه وظهر فضله واشتهرت تصانيفه وكثرت تلاميذه ...
وقد عاش منذ ذلك الحين في كنف سيف الدولة منقطعا إلى التعليم والتأليف، غير منقطع عن الأسفار التي كان بها مغرما، وبلغت به أسفاره إلى مصر ثم رجع إلى الشام. ولعله كان يتنقل بين حلب عاصمة الحمدانيين ودمشق التي كانت تدخل في حوزتهم تارة وتخرج أخرى.
وفاته
وظل هذا حاله إلى أن توفي بدمشق سنة 339 وصلى عليه سيف الدولة في أربعة أو خمسة عشر من خواصه، ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير.
كذلك ذكر المؤرخون وفاة أبي نصر وكلامهم يدل على أنه مات بدمشق موتا طبيعيا، لكن البيهقي في كتابه المخطوط الموجود بدار الكتب المصرية المسمى تاريخ الحكماء روى عن موت الفارابي رواية هذا نصها:
وقد سمعت من أستاذي - رحمه الله - أن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان، فاستقبله جماعة من اللصوص الذي يقال لهم: القبان، فقال لهم أبو نصر خذوا ما معي من الدواب والأسلحة والثياب وأخلوا سبيلي، فأبوا ذلك وهموا بقتله. فلما صار أبو نصر مضطرا، ترجل وحارب حتى قتل ومن معه. ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام مواقع فطلبوا اللصوص، ودفنوا أبا نصر وصلبوهم على جذوع عند قبره. وبعض من لم يكن له معرفة بالتواريخ يحكي أن أبا نصر قد عراه الماليخوليا، ومر على شط دجلة برجل يبيع التمر، فقال له: كيف تبيع التمر؟ فأجاب الرجل بكلام غير ملائم فضربه، وقال: أسألك عن الكيف، وأنت تجيب عن الكم.
ولو صحت حكاية قتل الفارابي لأشار إليها من ترجموا له ممن كان زمنهم قريبا من زمنه كأبي الحسن على المسعودي المتوفى سنة 346ه / 957م. على أنا لاحظنا في ترجمة البيهقي للفارابي خلطا تاريخيا يزعزع الثقة بها، وهذه الرواية المنقولة عن قتل الفارابي تشبه أن تكون تحريفا لما رواه المؤرخون عن مقتل أبي الطيب المتنبي الشاعر المشهور في عودته من بلاد فارس إلى الشام سنة 354ه.
وقد وقع للبيهقي خلط أيضا في ترجمة الفارابي حيث نقل عن كتاب أخلاق الحكماء أن الصاحب إسماعيل بن عباد بعث إلى أبي نصر هدايا وصلات واستدعاه إليه، وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئا، حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري، ودخل مجلس الصاحب متنكرا إلى آخر ما ذكره من رواية تشابه القصة المروية عن اتصال الفارابي بسيف الدولة.
والصاحب إسماعيل بن عباد ولد سنة 326، فهو عند موت الفارابي كان صبيا لم يجاوز 13 عاما.
أما صلاة ابن حمدان في بعض خواصه على أبي نصر التي عني المؤرخون بتسجيلها، فهي آية مودة وتكريم من سيف الدولة لرجل آتاه الله حكمة تتعالى عن عقول العامة وقلوبهم.
نمط حياته
وقد عاش الفارابي عيشة الزهاد حياته كلها، فلم يقتن مالا ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا.
وكان يستطيع أن يستمتع برفه العيش، خصوصا في شيخوخته أيام استظلاله بظل الملك الجواد سيف الدولة بن حمدان، لكنه لم يكن يتناول من سيف الدولة إلا أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضروري العيش، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته ولو شاء زيادة لوجد مزيدا.
وروى ابن أبي أصيبعة أنه كان يتغذى بماء قلوب الحملان
1
مع الخمر الريحاني فقط.
قال ابن خلكان: «وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالبا إلا عند مجتمع ماء، أو مشتبك رياض ويؤلف هناك كتبه ويتناوبه المشتغلون عليه»، وفي مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: «وكان منفردا بنفسه لا يكون إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ويؤلف كتبه هناك وكان أكثر كتبه في الرقاع، ولم يصنف في الكراريس إلا قليلا؛ ولذلك كانت أكثر تصانيفه فصولا وتعليقات وبعضها مبتورا ناقصا.»
وتلك حياة فيلسوف زاهد وموسيقي شاعر.
والفارابي إنما كان يعتزل الناس ويؤثر الوحدة لما رأى أن أمر النفس وتقويمها أول ما يبتدئ به الإنسان، حتى إذا أحكم تعديلها وتقويمها ارتقى منها إلى تقويم غيرها، كما ذكر ذلك في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين تبريرا لتخلي أفلاطون عن كثير من الأسباب الدنيوية وإيثاره تجنبها.
ولم يكن الفارابي ضجرا بالحياة ولا متبرما بالناس، أما الخمر فما نحسبه كان يشربها شهوة وتلهيا، ذلك الرجل الذي كف نفسه عن شهوات الحياة ولهوها.
وقد يكون شعر الفارابي ضاع فيما ضاع من آثاره، ولولا شك ابن خلكان شكا وجيها لرجح عندنا أن يكون الفارابي هو القائل:
محيط السموات أولى بنا
فماذا التنافس في مركز
قصص نبوغه ومواهبه
وأما إبداعه الموسيقي فقد رويت فيه أعاجيب: فمن ذلك ما حكاه ابن خلكان إذ يقول: إن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف، فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائما، فوقف فقال له سيف الدولة: اقعد، فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرجوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان، فقال: أحسن أكثر من سبعين لسانا. فعظم عنده ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن. فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله: فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن نأكل؟ فقال: لا، فهل تشرب؟ فقال: لا، فهل نسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت. فقال له سيف الدولة : وهل تحسن في هذه الصناعة شيئا؟ فقال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيدانا وركبها، ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبا آخر ثم ضرب بها فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب بها ضربا آخر فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياما وخرج.
ولئن كانت هذه الحكاية أدنى إلى الأساطير منها إلى التاريخ، فهي تشبه أن تكون غلوا مجاوزا لا اختراعا صرفا.
وقد روي للفارابي شعر فيه نفحة من أساليب الفلاسفة أحيانا، وفيه أحيانا صريخ محب للعزلة سيئ الرأي في الناس.
ومما روي من شعره:
يا علة الأشياء جمعا والذي
كانت به من فيضه المتفجر
رب السموات الطباق ومركز
في وسطهن من الثرى والأبحر
إني دعوتك مستجيرا مذنبا
فاغفر خطيئة مذنب ومقصر
هذب بفيض منك رب الكل من
كدر الطبيعية والعناصر عنصري
روى له هذا الشعر ابن أبي أصيبعة، وروى له أيضا:
لما رأيت الزمان نكسا
وليس في الصحبة انتفاع
كل رئيس به ملال
وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا
به من العزة اقتناع
أشرب مما اقتنيت راحا
لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى
ومن قراقيرها سماع
وأجتني من حديث قوم
قد أقفرت منهمو البقاع
وروي
2
له أيضا:
بزجاجتين قطعت عمري
وعليهما عولت أمري
فزجاجة ملئت بحبر
وزجاجة ملئت بخمر
فبذي أدون حكمتي
وبذي أزيل هموم صدري
وذكر ابن خلكان أنه وجد في مجموعة أبياتا منسوبة إلى الفارابي هي:
أخي خل حيز ذي باطل
وكن للحقائق في حيز
فما الدار دار مقام لنا
وما المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا على
أقل من الكلم الموجز
وهل نحن إلا خطوط وقعن
على نقطة وقع مستوفز
محيط السموات أولى بنا
فماذا التنافس في مركز
وقد شك ابن خلكان في صحة هذه الأبيات، وذكر أنه رآها في كتاب الخريدة منسوبة إلى شاعر من شعراء القرن السادس معاصر لصاحب الكتاب.
ونحن نشك في صحة معظم هذا الشعر أن يكون للفارابي؛ لما في أسلوبه من تكلف ينبو عنه أسلوب فيلسوفنا وطبعه، ولما في معانيه من تبرم بالحياة والناس، واستهتار بالشراب.
مكانته الفلسفية ومؤلفاته
يقولون الحكماء أربعة: اثنان قبل الإسلام وهما أفلاطون وأرسطو، واثنان في الإسلام وهما أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا، وكان بين وفاة أبي نصر وولادة أبي علي حوالي ثلاثين سنة، وكان أبو علي تلميذا لتصانيف الفارابي يعترف أنه لولاها لما اهتدى إلى فهم ما بعد الطبيعة.
وكما لقب أفلاطون بالحكيم الإلهي وأرسطاطاليس بالمعلم الأول، لقب الفارابي بالمعلم الثاني، وابن سينا بالشيخ الرئيس.
وآراء الناس مختلفة في تقديم الفارابي أو ابن سينا، فالقفطي يقول عن الفارابي: «فيلسوف المسلمين غير مدافع»؛ ويقول ابن خلكان عنه: «وهو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا المقدم ذكره بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه.»
أما الشهرستاني فيقول عند الكلام على فلاسفة المسلمين: «ومنهم الفارابي، وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن سينا.»
ويقول ابن سبعين الفيلسوف الصوفي الأندلسي، الذي يقال: إنه انتحر بمكة شوقا إلى الاتصال بالله سنة 669ه، في كتاب له مخطوط، ما نصه نقلا عن المجموعة التي نشرها الأستاذ «ماسينيون»:
وأما الفارابي اضطرب وخلط وتناقض وتشكك في العقل الهيولاني، وزعم أن ذلك تمويه ومخرفة، ثم شك في النفس الناطقة: هل غمرتها الرطوبة، أو حدثت بعد وتنوع اعتقاده في بقاء النفوس، بحسب ما ذكر في كتاب الأخلاق، وكتاب المدينة الفاضلة، والسياسة المدنية، وأكثر تآليفه في المنطق. وعدة كتبه نحو خمسة وسبعين كتابا، وفيها من الإلهيات تسعة، وهذا الرجل أفهم فلاسفة الإسلام، وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير، ومات وهو مدرك ومحقق وزال عن جميع ما ذكرته، وظهر عليه الحق بالقول والعمل، ولولا التطويل لذكرت ذلك مفصلا.
وابن سبعين هذا قد تناول بالنقد اللاذع، بل بالتحقير الشنيع، ابن سينا والغزالي وابن رشد.
ويقول الأستاذ «كارا دو فو» في ترجمته للفارابي بدائرة المعارف الإسلامية : «ومذهب الفارابي هو مذهب الفلاسفة، أعني الأفلاطونية الجديدة الإسلامية، الذي بدأه من قبله الكندي، ووجد في كتب ابن سينا من بعده أكمل عبارة عنه، وقد يكون من الراجح أن الفارابي يخالف الكندي وابن سينا في بعض المواضع، ولكن من العسير تعيين هذه المواضع. ومن المناسب التحفظ بل الشك في تفسير ما يتعلق بتفصيل مذهبه. والواقع أنا لا نعرف من آثاره إلا قليلا، ثم إن أسلوبه لا يخلو من غموض. وفيما عرفنا من رسائله ما هو مصوغ في صورة حكم في نهاية الإيجاز، من غير نظام في ترتيبها، ثم إنه لا يمكن البت عن يقين بأن مؤلفات كثيرة كمؤلفات الفارابي يتداولها تأثير أرسطو وأفلاطون وأفلوطين تتجرد من التناقض، على أن الفكرة التي تعتبر قاعدة لهذا المذهب، وهي التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من ناحية، وبين هذه الفلسفة الملفقة والعقيدة الإسلامية من ناحية أخرى، ليست في نفسها سليمة من التضارب.»
وهذه العبارة في جملتها قد تبين بيانا صحيحا عن مكانة كل من الكندي والفارابي وابن سينا في الفلسفة الإسلامية، وإن كانت تفاصيلها لا تخلو من نقد.
والفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا في المنطق، وأثره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني، إذ كان أرسطو هو الأول. هذا هو رأي بعض المترجمين للفارابي، ومنهم «كارا دو فو»، وفي كتاب «أبجد العلوم» لحسن صديق خان ما نصه:
وفي حاشية المطالع لمولانا لطفي: أن المأمون جمع مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق، وثابت بن قره، وترجموها بتراجم متخالفة مخلوطة غير ملخصة ومحررة لا توافق ترجمة أحدهم للآخر، فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة، بل أشرف أن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي. ثم إنه التمس منه ملك زمانه المنصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم، ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة، فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه «بالتعليم الثاني». فلذلك لقب «بالمعلم الثاني». وكان هذا في خزانة المنصور إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد المنصور كما هو مسودا بخط الفارابي، غير مخرج إلى البياض؛ إذ الفارابي غير ملتفت إلى جمع تصانيفه، وكان الغالب عليه السياحة على زي القلندرية. وكانت تلك الخزانة بأصفهان وتسمى «صوان الحكمة»، وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزيرا لمسعود، وتقرب إليه بسبب الطب حتى استوزره وسلم إليه خزانة الكتب، فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب، ووجد فيما بينها التعليم الثاني، ولخص منه كتاب الشفاء. ثم إن الخزانة أصابها آفة فاحترقت تلك الكتب، فاتهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته، ثم أحرقها لئلا تنتشر ولا يطلع عليه، فإنه بهتان وإفك؛ لأن الشيخ مقر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة، كما صرح به في بعض رسائله. وأيضا يفهم في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني.
وفي ذلك القول خطأ تاريخي: فإن منصور بن نوح الساماني إنما ولي أمر خراسان بعد سنة 343 بعد موت الفارابي.
ولا ينتهي فضل الفارابي عند تفسير كتب أرسطو وتصحيح تراجمها، والتمهيد بذلك للنهضة الفلسفية في الإسلام التي تكاملت من بعده؛ بل له أيضا أنظار مبتدعة، وأبحاث في الحكمة العلمية والعملية عميقة سامية، لم تتهيأ بعد للباحثين كل الوسائل لتفصيلها تفصيلا وافيا، وللفارابي كتاب في المدينة الفاضلة، كما أن لأفلاطون كتابا في الجمهورية الفاضلة.
والفارابي هو أول من عني بإحصاء العلوم وترتيبها في كتابه «إحصاء العلوم»، الذي نشره (سنة 1931) الدكتور عثمان أمين مدرس الفلسفة بكلية الآداب، ووضع له مقدمة طيبة، وعني بنشره أيضا المستشرق الإسباني «بلانسيا» في سنة 1934.
ومن أجل ذلك يعتبر بعض الباحثين أبا نصر أول واضع في العالم لنواة دوائر المعارف.
ولئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب، فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة، وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير البشري، وفي تاريخ المثل العليا للحياة الفاضلة. •••
هذا، ولما كان من المتعذر في عجالة كهذه أن نعرض بتفصيل لنظريات الفارابي الفلسفية، فقد رأينا أن نعرض منها جانبا يتمثل فيه ابتكاره وطرافة نظراته وهو مذهبه في ترتيب العلوم وتقسيمها:
مذهب الفارابي في إحصاء العلوم
3
ذكر الفارابي في مقدمة كتابه «إحصاء العلوم، أو مراتب العلوم» ما نصه:
قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه». وقد يتبادر إلى الناظر أن قصد الفارابي إنما هو تعديد أشهر العلوم المعروفة لعهده مع بيان مسائلها إجمالا. وحينئذ يكون كل فضل الفارابي في كتابه أنه سبق إلى فكرة جمع أسماء العلوم المشهورة والتعريف بما تشتمل عليه جملة، ويكون كتابه أجدر أن يسمى «إحصاء العلوم»؛ لكنه لا يكون صاحب مذهب في تصنيف العلوم وترتيبها. على أنه يبقى مع هذا الفرض لكتاب الفارابي فضل السبق إلى تدوين ما لا يستغني عنه مثقف من المشاركة في أهم العلوم المعروفة لعهده. وقد أشار المعلم الثاني إلى هذا في قوله في مقدمة كتابه: «وينتفع به المتأدب المتفنن الذي قصده أن يشدو جمل ما في كل علم، ومن أحب التشبه بأهل العلم ليظن أنه منهم.
ولعل ما نسميه اليوم «الموسوعة» أو «دائرة المعارف» أو «المعلمة» لا يخرج في الجملة عن أن يكون من هذا الباب، فليس مجانبا للحق قول من يرى أن الفارابي هو أول من وضع دائرة معارف، ولسنا نعرف من قبل الفارابي من قصد إلى تدوين جملة المعارف الإنسانية في زمنه موطأة مجملة يسهل تناولها على المتأدبين. •••
على أننا نلاحظ أن الفارابي في كتاب «إحصاء العلوم» لم يعمد إلى تعديد العلوم الجزئية على غير نسق؛ بل هو قد صنف العلوم أصنافا، فجمع أفرادا من العلوم في علم اللسان مثلا، وفي علم التعاليم، وفي العلم المدني. وإذا لم يكن نبه في بعض الأقسام على اشتماله على عدة علوم كما في علم الفقه وعلم الكلام، فليس ذلك بمانع من تضمن هذه الأقسام لعلوم متفرعة في عهد الفارابي، وبذلك يتبين أن الفارابي إنما قصد إلى إحصاء العلوم بمعنى الإحاطة بأصنافها صنفا صنفا. ففي كتابه تقسيم للعلوم. وللفارابي في هذا التقسيم أو التصنيف للعلوم مذهب لا نعرف أنه سبق إليه بملاحظة ما فيه من الشمول، وهو قد قسم العلوم ثمانية أقسام: (1) علم اللسان (2) علم المنطق (3) علم التعاليم (4) العلم الطبيعي (5) العلم الإلهي (6) العلم المدني (7) علم الفقه (8) علم الكلام.
أما جعله كتابه خمسة فصول فالظاهر أنه لم يلاحظ فيه إلا تقسيم مؤلفه إلى أجزاء متقاربة المقدار، وبين أنه بنى تصنيفه للعلوم على اختلاف الموضوعات التي تتناولها بالبحث اختلافا بالذات أو بالحيثية، فما يبحث عن الألفاظ الدالة عند أمة، منطوقة كانت هذه الألفاظ أو مكتوبة، هو علم اللسان. وما يبحث عن المعقولات هو المنطق، وهكذا. وذلك جلي لكل ناظر في الكتاب.
صنف الفارابي العلوم أصنافا ثمانية، ثم راعى في سرد هذه الأصناف ترتيبا معينا لم يعرض في كتاب «إحصاء العلوم» لتفسيره، ولكن وجهة نظره في هذا الترتيب تتبين لنا من كتب له أخر، مثل كتاب «التنبيه على سبيل السعادة» وكتاب «تحصيل السعادة» وكتاب «السياسات المدنية» وكتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة».
4
وخلاصة القول في ذلك أن السعادة هي غاية يتشوقها كل إنسان، وأن كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحو نحوها على أنها كمال، وكل غاية يتشوقها الإنسان، فإنما يتشوقها على أنها خير.
ولما كانت السعادة إذا حصلت للإنسان لم يحتج بعدها أن يسعى لغاية أخرى غيرها، تبين من ذلك أن السعادة هي آثر الخيرات وأعظمها وأكملها، وهي أحرى الأشياء بأن تكون مكتفية بنفسها.
والسعادة ليس ينالها الإنسان بأحواله التي لا يلحقها حمد ولا ذم؛ ولكن بجملة أحواله التي يلحقه بها حمد أو ذم.
وهي ثلاثية؛ أحدها: الأفعال التي يحتاج فيها إلى استعمال أعضاء بدنه الآلية، مثل القيام والقعود والنظر والسماع.
والثاني: عوارض النفس، مثل الشهوة واللذة والفرح والغضب والشوق والرحمة.
والثالث: هو التمييز بالذهن.
والسعادة ليست تنال بالأفعال الجميلة متى كانت عن الإنسان باتفاق، أو بأن يحمل عليها من غير أن يفعلها طوعا؛ بل بأن تكون له وقد فعلها طوعا وباختياره، وأن يختار الجميل في كل ما يفعله وفي زمان حياته كله.
وهذه الشرائط يجب أن تكون في عوارض النفس الجميلة أيضا.
والسعادة ليست تنال بجودة التمييز ما لم يكن بقصد وصناعة، ومن حيث يشعر الإنسان بما يميز كيف يميز، وفي كل حين من زمان حياته.
وكل إنسان مفطور من أول وجوده على قوة بها تكون أفعاله وعوارض نفسه وتمييزه على ما ينبغي، وتكون على غير ما ينبغي: فالأمران ممكنان على حد سواء، ثم تحدث بعد ذلك للإنسان حال يكون بها أحدهما أشد إمكانا من الآخر.
أما القوة التي يفطر الإنسان عليها من أول وجوده، فليس إلى الإنسان اكتسابها، وأما الحال الأخرى فإنها إنما تحدث باكتساب من الإنسان لها.
وجودة التمييز هي التي بها تحصل لنا معارف جميع الأشياء التي للإنسان أن يعرفها، وهي صنفان: صنف شأنه أن يعلم، وليس شأنه أن يفعل، مثل علمنا أن العالم محدث وأن الله واحد. وصنف شأنه أن يعلم ويفعل، مثل علمنا أن بر الوالدين حسن، وأن الخيانة قبيحة، وأن العدل جميل، وأن علم الطب يكسب الصحة.
وكل واحد من هذين الصنفين له صنائع تجوزه.
فالصنائع أيضا صنفان: صنف لنا به علم ما يعلم فقط، وصنف لنا به علم ما يمكن أن نعمل، والقوة على عمله.
وهذا الصنف الأخير قسمان: قسم يتصرف به في البدن، مثل الطب والتجارة والفلاحة وسائر الصنائع، وقسم يتصرف به الإنسان في السير أيها أجود ويتميز به أعمال البر والأفعال الصالحة، وبه يستفيد القوة على فعلها.
وكل واحدة من هذه الصنائع الثلاث له مقصود من المقاصد الإنسانية الثلاثة: اللذيذ والنافع والجميل، والنافع إما نافع في اللذة، وإما نافع في الجميل.
والصناعات البدنية مقصودها النافع، والتي تميز بها السير وتستفاد القوة على ما يستحسن، مقصودها الجميل من قبل تحصيلها العلم، واليقين بالحق، واليقين بالحق جميل، فإذن الصنائع صنفان: صنف مقصوده تحصيل الجميل، وصنف مقصوده تحصيل النافع.
والصناعة التي مقصودها تحصيل الجميل فقط هي التي تسمى الفلسفة وتسمى الحكمة على الإطلاق.
ولما كانت السعادات إنما ننالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة قنية، وكانت الأشياء الجميلة إنما تصير لنا قنية بصناعة الفلسفة، فلازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي بها تنال السعادة، ولما كانت الفلسفة إنما تحصل بجودة التمييز، وكانت جودة التمييز إنما تحصل بقوة الذهن مع إدراك الصواب، كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع هذه، وقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على ما هو حق بيقين، وما هو باطل بيقين، ونقف على الباطل الشبيه بالحق والحق الشبيه بالباطل، فلا نغلط ولا ننخدع، والصناعة التي نستفيد منها هذه القوة تسمى صناعة المنطق.
فيلزم ضرورة أن تكون العناية بهذه الصناعة تتقدم العناية بالصنائع الأخر.
ولما كانت صناعة المنطق هي أول شيء يشرع فيه بطريق صناعي، لزم أن تكون الأوائل التي يشرع فيها أمورا معلومة سبقت معرفتها للإنسان فلا يعرى من معرفتها أحد.
وهي أمور حاصلة في ذهن الإنسان من أول وجوده غريزية فيه، غير أن الإنسان ربما لم يشعر بما هو حاصل في ذهنه، حتى إذا سمع اللفظ الدال عليه شعر به. وكثير من الأشياء التي يمكن الشروع بها في صناعة المنطق لا يشعر بتفصيلها وهي حاصلة في ذهن الإنسان، فينبغي متى قصد التنبيه عليها أن تحضر أصناف الألفاظ الدالة على أصناف المعاني المعقولة، حتى إذا شعر بتلك المعاني ورأى كل واحد منها على حياله اقتضت حينئذ من المعاني ما شأنه أن يستعمل في تكشف هذه الصناعة.
فلذلك ينبغي أن يكون في صناعة النحو التي تشتمل على أصناف الألفاظ الدالة غناء ما في الوقوف على أوائل هذه الصناعة؛ لأن موضوعات المنطق هي المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات.
ثم قسم الفارابي العلوم بعد ذلك قسمين: (1)
علوم نظرية وهي تشتمل على علوم التعاليم أي: العلوم الرياضية بأنواعها والعلم الطبيعي والعلم الإلهي. (2)
علوم عملية وقد ذكر منها العلم المدني (أي: علم الأخلاق وعلم سياسة المدينة) ثم علم الفقه وعلم الكلام.
ويظهر أن الفارابي قد قدم العلوم النظرية على العلوم العملية لتوقف هذه على تلك، فالأولى دعامة للثانية.
هوامش
الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي
فلسفة المتنبي في الميزان
للمتنبي منذ هتفت باسمه الأيام أنصار وخصوم:
وأنصار المتنبي يصفونه بالفلسفة مدحا له وتنويها برفعة شأنه. أما خصوم المتنبي فيقولون: هو فيلسوف في مقام الذم له والغض من مكانته.
المتنبي فيلسوف عند خصومه؛ لأن له شعرا يدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة مثل:
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
وقوله:
ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى
ونرضى الذي يسمي الإله ولا يكني
ويقول صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه:
1 «والعجب ممن ينتقص أبا الطيب ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة، وفساد المذهب في الديانة كقوله:
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
وهو يحتمل لأبي نواس قوله:
قلت والكأس على
كفي تهوي لالتثامي
أنا لا أعرف ذا
ك اليوم في ذاك الزحام
وقوله:
يا عاذلي في الدهر ذا هجر
لا قدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي
يذكر إلا لموت والقبر
فاشرب على الدهر وأيامه
فإنما يهلكنا الدهر»
والمتنبي فيلسوف عند خصومه لما يستعمل في شعره من ألفاظ المناطقة والفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، مثل قوله في وصف فرس: «سبوح لها منها عليها شواهد»، وقوله:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين
صحوت فلم تحل بيني وبيني
هذا من استعمال كلمات الصوفية المعقدة ومعانيهم المغلقة، ومثل قوله في استعمال ألفاظ المناطقة:
ولقد رمت بالسعادة بعضا
من نفوس العدى فأدركت كلا
وقوله:
شفاك الذي يشفي بجودك خلقه
فإنك بحر كل بحر له بعض
وقد استعمل المتنبي كلمات الفلاسفة في أبيات منها:
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم
أيحيط ما يفنى بما لا ينفد
ومنها:
فلم ندع منها سوى المحال
في لا مكان عند لا منال
وأورد المتنبي في شعره أسماء أرسطاليس وبطليموس وجالينوس وبقراط، وأشار إلى مذهب المانوية، وإلى مذهب السوفسطائية، ومذهب التناسخ، وإلى مذاهب الشيعة وغلاتهم مثل قوله:
وغيث ظننا تحته أن عامرا
علا لم يمت أو في السحاب له قبر
وذكر ابن نباتة في شرح رسالة ابن زيدون أن له أشعارا لم تدخل في ديوانه مثل قوله:
وتركت مدحي للوصي تعمدا
إذ كان نورا مستطيلا شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
وصفات نور الشمس تذهب باطلا
قال: «وهو شبيه بنفسه.»
ومن آيات فلسفة المتنبي عند خصومه أنه يعمد إلى العويص من المعاني خروجا عن طريق الشعراء إلى مذاهب الفلاسفة في مثل قوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا
للمنتهى ومن السرور بكاء
وقوله:
خلقت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
ومما يحسن أن نشير إليه في هذا المقام أن من خصوم المتنبي من حاول أن يرد المعاني الجيدة في شعره إلى من سبقه من الشعراء، وأن يرد حكمه وأمثاله إلى كلمات لأرسططاليس؛ ليخرج أبا الطيب من زمرة الشعراء ومن زمرة الفلاسفة معا. •••
أما أنصار المتنبي فيقول قائلهم:
ووجدنا أبا الطيب أحمد بن الحسين قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعان منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم؛ وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغريبة، وهو في الحالتين على غاية الفضل وسبيل نهاية من النبل، وقد أوردت من ذلك ما يستدل به على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة مما أتى في شعره موافقا لقول أرسططاليس في حكمته.
2
هذا كلام الحاتمي خصم المتنبي عندما أراد أن يرجع في خصومته إلى العدل، وقد جمع في رسالته مائة موضع وافق فيها أبو الطيب أقاويل المعلم الأول.
وفي بعض هذه المواضع تكلف ظاهر في الوصل بين قول الشاعر وقول الفيلسوف نورد منه أمثالا:
قال أرسطو: من صحة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت سنة عمل فيها بحسب السياسة.
وقال المتنبي:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
وقال أرسطو: من جعل الفكرة في موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك من جعل البديهة في موضع الفكرة.
وقال أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن المحدثين محمد كمال حلمي بك الذي يقول: «إذا كانت الفلسفة كما يقول المشتغلون بها نظرية وعملية، فإن أبا الطيب لم يحرز قصب السبق في الأولى، ولكنه كان في الثانية أصدق نظرا وأبقى أثرا: دقيق النظر، كثير الاستنتاج، ماهر في التوليد، غزير المادة في ضرب الأمثال وقياس الأشباه بالأشباه، وهو فوق ذلك من أكبر الوصافين. فلا غرو أن أجاد في تصوير الحالات النفسية ومظاهر الأخلاق وتقريب المعاني البعيدة إلى متناول الناس أجمعين.»
3
ويقول في موطن آخر:
وقد آن لي أن أستخلص من آراء أبي الطيب وأفكاره حكما إجماليا في تقدير فلسفته، وينبغي بادئ ذي بدء أن أقول: إن صاحبنا لم يكن فيلسوفا نظريا كابن سينا مثلا، ولا خلقيا كابن حزم، ولا مؤدبا صوفيا كالغزالي. فمن هذه الناحية لا يصح أن يقارن بهم، فمقام فلسفتهم ليس في متناول الشعراء ولا ينبغي لهم ولا يستطيعون، وغاية ما يقال عن شاعرنا: أنه مفكر له آراء لا نقطع بأنها ثمرة نظره ونتيجة تحقيقه، كما لا ندعي أنه استعارها من غيره، فإن صح إطلاق الفلسفة على مجموعة من الأفكار، فأبو الطيب جدير بأن يتسمى فيلسوفا؛ لأن مجموعة أفكاره حافلة مستفيضة، ويمكن للناقد أن يجد لها انسجاما وارتباطا بين أجزائها، وقد تناول فيها البحث بإشارات موجزة عن مسائل شتى تتعلق بالحياة، وخطة السير فيها وتقدير خلق الناس، ومعاملتهم على مقتضى خلقهم.
4
أما الأستاذ عباس محمود العقاد فيقول:
والمتنبي على وجه خاص أولى من عامة شعرائنا (ما عدا المعري) بالنصيب الأوفى في عالم المذاهب والآراء؛ لأن الحقائق المطبوعة لا تكاد تقر في نفسه حتى يرسلها إلى ذهنه ويكسوها ثيابا من نسجه. ويغلب أن يوردها بعد ذلك مقرونة بأسبابها، معززة بحججها، على نمط لا يفرق بينه وبين أسلوب الفلاسفة في التدليل إلا طابع السليقة وحرارة العاطفة. فتأمل في قوله:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
أو قوله:
إذا أتت الإساءة من لئيم
ولم ألم المسيء فمن ألوم
أو قوله:
ألف هذا الهواء أوقع في الأنف
س أن الحمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
5
ويقول أيضا:
فزوى وجهه عن مباحث ما وراء الطبيعة وأبعدها إلى مؤخرة فكره ... كلا ليس للمتنبي صبر على هذه الفلسفات ... إنما هو فيلسوف الحياة سننها وصروفها، وليس فيلسوف الحياة مصادرها ومصائرها.
6
ويقول الأستاذ في إجمال ما فصله من مذهب المتنبي في غاية الحياة وأصل الأخلاق والفضائل:
فالسيادة هي غاية الحياة، والقوة هي أصل الأخلاق والفضائل والمحور الذي تدور عليه المحامد والمناقب. وهو يحيط بأمور كثيرة في شعره، ولكنه يطبعها جميعا بهذا الطابع ويردها بلا استثناء إلى مقياسه هذا الذي لا يتغير في قصيدة عن قصيدة ولا في بيت عن بيت، ولا يسع أحدا بعد الأبيات المطردة والأمثلة المتواترة التي سقنا بعضها هنا، والتي لم تأت عفوا ولا فلتة ولا انتحالا، إلا أن يذكر نظائرها من فلسفة فريدريك نيتشه نبي دين القوة في العصر الحديث.
7
ويرى الأستاذ شفيق جبري «أن المتنبي إذا خلد، فإن الذي يخلده إنما هي تلك الحكم الرائعة التي استفاضت في شعره، فاستشهد الناس بها بحسب ما يقتضيه مقام الاستشهاد: فكأن أبا الطيب لسان حال البشر بأجمعه، فقد يقذف المتنبي في بيت أو فى بيتين مذهبا فلسفيا أو علميا يشتغل به المفكرون كل حياتهم ... قد تكثر هذه النظرات الفلسفية في شعر المتنبي؛ ولكني أمر بها كما مر بها أبو الطيب نفسه؛ لأنها لا تؤلف الفلسفة التي أريد الكلام عليها، أي: لا تؤلف فلسفة المتنبي وإنما هي خطرات قد يجوز أن يكون اقتبسها من الكتب المترجمة، أو دله عليها عقله الكبير فلم يتوسع فيها؛ وإنما الذي توسع فيه النظر في الحياة وأخلاق أصحاب هذه الحياة ... فكأن الحياة قد عرضت عليه صورها المختلفة وأشكالها المتباينة، فاستنبط من خيرها وشرها ومن حلاوتها ومرارتها، ومن كرمها ولؤمها أمثالا قذفها في أبيات وأنصاف أبيات، فالرجل قد جرب كثيرا حتى أحكمته التجاريب، وتغلغل في بواطن القلوب فأعطته مقاليد أسرارها، فلا يكاد يحدث حادث في هذه الحياة إلا ونجد في شعر أبي الطيب ما يمثل هذا الحادث، فما أقرب الحكمة من طرف لسانه، وما أجراها على شق قلمه، والحكمة إذا كانت بنت التجاريب، كانت أعلق بالأذهان وأسير في الأيام؛ والمتنبي ابن التجاريب.»
8
وللأستاذ محمود محمد شاكر رأي في فلسفة المتنبي فهو يقول:
ونحن لا ننفي عن أبي الطيب التأثر بالفلسفة وغيرها مما يداخلها أو تداخله على مذهب الأوائل، وكيف يكون ذلك والدنيا يومئذ موج متلاطم بالجدل والخصام، والعلماء يومئذ كثيرون، وأصحاب المذاهب الغريبة متوافرون، وأصحاب الجدل مغرمون بإقامة الشبهة وردها بالحجة والبرهان العقلي، والكتب المخلفة كثيرة لم تذهب بعد، وهي كتب نشأ منها بعد علم الكلام الذي اختلطت به الفلسفة وصارت أصلا من أصوله؛ والمساجد لذلك العهد كانت عامرة بالصخب الذي لا يجدي ولا ينفع في أصول الدين وعقائده، فلسنا نشك بعد أن هذا الفتى المتوقد، الذي قال عنه كثير ممن رأوه إنه كان واسع العلم والمعرفة قد اختلط وسمع وبحث ونظر وجادل، وأخذ بأطراف مما سمع وقرأ وحفظ، حتى بان ذلك في شعره الأول بيانا لا خفاء فيه، وقل بعد أن استحكمت قوته، وغلب عليه الأصل الشعري الذي استولى على أكثر موهبته وقدرته.
إلى أن قال:
وقد كان في هذا القسم من شعره يلجأ إلى الأساليب الفلسفية في استخراج المعاني وتوليدها، وكان يكثر من التقسيم الفلسفي والتوجيه المنطقي وغيره من ألوان كلام المتفلسفة والمتكلمة والمتزندقة أيضا، حتى فسدت معاني شعره؛ فلذلك كان أكثر ما تجد من ساقطه ومرذوله مما عابه عليه النقاد، وخاصمه به المتعصبون عليه هو من هذا القسم الذي قاله في صباه إلى أطراف سنة 328 على وجه التقريب لا التحقيق.
هذه خلاصة آراء المتقدمين والمحدثين في فلسفة المتنبي، ولا يتسع المقام للبحث فيها والموازنة بينها.
وإذا كان أنصار المتنبي وخصومه يكادون يتفقون على أنه فيلسوف؛ فهل كان المتنبي يرى نفسه فيلسوفا كما كان يرى نفسه الشاعر الفرد؟ جاء في كتاب الصبح المنبي:
وسئل أبو الطيب عنه [البحتري] وعن أبي تمام وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.
9
وعجيب أن يعترف المتنبي بالسبق لشاعر ، وهو الذي ملأ الدنيا بشعره فخارا فهو يقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت بعد صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدا
ويقول:
وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
قواف إذا سرن من مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا
ولي فيك ما لم يقل قائل
وما لم يسر قمر حيث سارا
ولم نجد شعرا للمتنبي وصف فيه نفسه بالفلسفة أو الحكمة على كثرة ما تغنى بمديح نفسه؛ بل إننا لم نجد الوصف بالحكمة والفلسفة في مدائح المتنبي إلا قوله:
عربي لسانه، فلسفي
رأيه، فارسية أعياده
وقوله:
تفكره علم ومنطقه حكم
وباطنه دين وظاهره ظرف
وقوله:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
جالست رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكا متبديا متحضرا
ولا يدل ذلك على أن المتنبي لم يكن يعرف للفلسفة قدرها؛ فقد يكون تجنبه ذكرها في بلاد الحمدانيين؛ لأن الفلسفة كانت لا تزال معتبرة في ذلك الوسط العربي علما من علوم الأوائل الأعاجم، غير إسلامي ولا عربي.
مصادر فلسفته
قلنا: إن أنصار المتنبي وخصومه متفقون على أنه فيلسوف، وقد حاول بعض الباحثين في القديم والحديث أن يردوا فلسفة المتنبي إلى أصولها، وأن يتعرفوا العوامل التي أثرت في المتنبي تأثيرا فلسفيا. وذكر البغدادي أن المتنبي «كان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة، فهوسه وأضله كما ضل.»
10
وقد عرض لهذه الرواية الأستاذ محمود محمد شاكر، فقال:
والظن عندنا أنه لقي أبا الفضل هذا، وكان يدعي الفلسفة ويتبجح بذكرها، ويظن بنفسه العلم به ويعرض نفسه لقراءة درس فيها، وكان في ذلك أضحوكة يعجب منها ويتفكه بها، وكانت صورته في ذلك كله تستقصي الضحك وتستخرجه، فقال له أبو الطيب هذه القصيدة تندرا به وعبثا وسخرية ... والعجب للأصفهاني صاحب إيضاح المشكل الذي مر في أول كلامنا ذكره أن يزعم أن معتوها كأبي الفضل هذا النكرة قد هوس أبا الطيب وأضله كما ضل، فمن كان في بديهة المتنبي وذكائه وتوقده لا يلعب به رجل مغمور غير مذكور كهذا الذي ذكروه، وظاهر أمر الأصفهاني أو من قال له ذلك، أنه وقع إليه خبر أبي الطيب وتندره بأبي الفضل هذا الدعي على الفلسفة، فقلب الخبر من معنى الهزل إلى معنى الجد، ونسب إلى المتنبي الأخذ عنه والاقتداء بسخفه وهذيانه، فلولا جاءوا بشيخ مذكور من شيوخ الفلسفة وادعوا ذلك فيما ادعوا على الرجل.
وقد أشرنا من قبل إلى أن الحاتمي جمع في رسالته مائة موضع وافق أبو الطيب فيها أرسطو؛ وذلك يدل على أن أبا الطيب متأثر بفلسفة أرسطو. ولا شك أن أثر الفلسفة الأرسطاطاليسية قد وصل إلى المتنبي كما وصل إلى جمهرة المفكرين المثقفين في عصر المتنبي ومن قبله ومن بعده.
على أن كل المترجمين للمتنبي والباحثين في فلسفته قد أغفلوا رجلا لعله صاحب الأثر الأكبر في فلسفة المتنبي: ذلك الرجل هو أبو نصر الفارابي.
اتصل الفارابي بسيف الدولة حين ملك سيف الدولة حلب سنة 333، وبسط حمايته على العلم والأدب، وقد عاش الفارابي منذ ذلك الحين في كنف سيف الدولة، منقطعا إلى التعليم والتأليف، غير منقطع عن الأسفار التي كان بها مغرما، وقد عظم شأن الفارابي في كنف سيف الدولة وظهر فضله، واشتهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، وتوفي الفارابي سنة 339 وصلى عليه سيف الدولة في أربعة أو خمسة عشر من خواصه.
وقد دخل أبو الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة سنة 337، وبقي في ظل سيف الدولة إلى سنة 346، فالمتنبي عاشر الفارابي في حمى سيف الدولة مدة سنتين، ولا بد أن يكون حضر مجالسه وطالع كتبه، ولا بد أن يكون صدى فلسفة الفارابي قرع سمع المتنبي قبل ذلك ولاحظنا أن فيما يرويه المؤرخون من روايات وأساطير في شأن الفارابي والمتنبي تشابها يؤدي إلى الخلط أحيانا. ذكر المؤرخون وفاة أبي نصر على أنه مات بدمشق موتا طبيعيا؛ لكن البيهقي روى عن موت الفارابي رواية هذا نصها:
وقد سمعت أستاذي - رحمه الله - يقول: إن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان، فاستقبله جماعة من اللصوص الذين يقال لهم: الفتيان، فقال لهم أبو نصر: خذوا ما معي من الدواب والأسلحة والثياب وأخلوا سبيلي، فأبوا ذلك وهموا بقتله، فلما صار أبو نصر مضطرا، ترجل وحارب حتى قتل ومن معه، ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام موقعا، فطلبوا اللصوص ودفنوا أبا نصر، وصلبوهم على جذوع عند قبره.
11
أليست هذه الرواية - وهي من الأساطير - شبيهة بما رواه المؤرخون عن مقتل المتنبي؟
وقد حكى ابن خلكان حكاية ورود أبي نصر على سيف الدولة، وفيها أنه لما قال له سيف الدولة: «اجلس حيث أنت»، تخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه ... إلى آخر القصة، وفي ذلك بعض الشبه بما يروون من الشروط التي اشترطها أبو الطيب لمصاحبة سيف الدولة.
وإذا جئنا إلى ما يدور في شعر أبي الطيب من المعاني الفلسفية وجدنا لذلك أصولا فيما وصل إلينا من كتب الفارابي، وتقصي كل ذلك أو أكثره ليس مما تحتمله هذه الفرصة؛ على أني أضرب لذلك الأمثال:
يكثر المتنبي من القول في الطبع وأنه يعسر تغييره أو يتعذر فيقول: «وتأبى الطباع على الناقل»؛ ويقول:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب
ع وعند التعمق الزلل
وقد أثار الفارابي في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين مسألة الخلاف بين أرسطو وأفلاطون في أن الأخلاق كلها عادات تتغير، وأنه لا شيء منها بالطبع، وأن الإنسان يمكنه أن ينتقل من كل واحد منها إلى غيره بالاعتياد والدربة، كما جاء في كلام أرسطو، أو أن الطبع يغلب العادة كما ذكر أفلاطون في كتاب السياسة.
ويقول المتنبي:
قضاء من الله العلي أراده
ألا ربما كانت إرادته شرا
ويقول الفارابي:
وكل كائن فبقضائه وقدره والشرور أيضا بقدره وقضائه.
12
ورويت للفارابي أشعار يجري فيها من المعاني مثل ما يجري في شعر المتنبي.
وأحسب أن ما أورده الحاتمي في رسالته من الأقاويل المنسوبة إلى أرسطو التي وافقها المتنبي قد يكون معظمها من كلام الفارابي، فإن الحاتمي لم يبين لنا مواقعها من كتب أرسطو، وإذا لم تكن من كلام الفارابي فقد تكون وصلت إلى المتنبي من كتب الفارابي؛ فقد ذكر المؤرخون أن له كتابا اسمه «فصول مجموعة من كلام القدماء»، وهو لم يصل إلينا بعد.
ويقول كارا دو فو في كتابه «مفكرو الإسلام»:
لم يسترع انتباهي عندما ذكرت الفارابي في كتابي في ابن سينا بضع صفحات توجد في رسالة أهل المدينة الفاضلة، على أن تلك الصفحات جديرة بأن تسترعي النظر، وليست هي تلك التي يصف فيها الفارابي المدينة الكاملة؛ بل هي في فصل يحاول فيه الفارابي أن يصف المدن الناقصة، في ذلك الفصل آراء في عمل القهر والقوة في الجماعة وفي التدافع من أجل الحياة وفي الحقد مبسوطة في كثير من القوة حتى نتدانى على وجه عجيب بعض أفكار الفيلسوف نيتشه الحديثة جدا.
13
والآراء التي يشير إليها كارا دو فو هي ما جاءت في كتاب الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة»، ونصه:
والمدن الجاهلة والضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة. منها أن قوما قالوا: إنا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادة، وكل واحد منها يلتمس إبطال الآخر، ونرى كل واحد منها إذا حصل موجودا، أعطى مع وجوده شيئا يحفظ به وجوده من البطلان، وشيئا يدفع به عن ذاته فعل ضده، ويجوز به ذاته عن ضده، وشيئا يبطل به ضده ويفعل به جسما شبيها به في النوع، وشيئا يقتدر به على أن يستخدم سائر الأشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام وجوده.
وفي كثير منها جعل له ما يقهر به كل ما يمتنع عليه، وجعل كل ضد من كل ضد ومن كل ما سواه بهذه الحال ؛ حتى تخيل لنا أن كل واحد منها هو الذي قصدوا أن يجاز له وحده أفضل الوجود دون غيره؛ فلذلك جعل له كل ما يبطل به كل ما كان ضارا له وغير نافع له ، وجعل له ما يستخدم به ما ينفعه في وجوده الأفضل. فإنا نرى كثيرا من الحيوان يثب على كثير من باقيها فيلتمس إفسادها وإبطالها، من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعا: يظهر كأنه قد طبع على أن لا يكون موجود في العالم غيره، أو أن وجود كل ما سواه ضار له، على أن يجعل وجود غيره ضارا له، وإن لم يكن منه شيء آخر على أنه موجود فقط، ثم إن كل واحد منهما إن لم يرم ذلك التمس أن يستعبد غيره فيما ينفعه، وجعل كل نوع من كل نوع بهذه الحال، وفي كثير منها جعل كل شخص من كل شخص في نوعه بهذه الحال. ثم جعلت هذه الموجودات أن تتغالب وتتهارب، فالأقهر منها لما سواه يكون أتم وجودا. والغالب أبدا إما أن يبطل بعضا؛ لأن في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرة في وجوده هو؛ وإما أن يستخدم بعضا ويستعبده؛ لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو ...
فقال قوم بعد ذلك: إن هذه الحال طبيعة الموجودات، وهذه فطرتها والتي تفعلها الأجسام الطبيعية بطبائعها هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها، والمروية برويتها ... وإن الإنسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد ...
14
وإذا لاحظنا ما تنبه له كارا دو فو من صلة التشابه بين بعض ما أورده الفارابي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة وبين مذاهب نيتشه في العصور الحديثة، ثم لاحظنا ما تنبه له الأستاذ عباس العقاد من صلة التشابه بين آراء المتنبي وآراء نيتشه، تبين من ذلك ما يؤيد ما نذهب إليه من أثر الفارابي وفلسفته في المتنبي وشعره.
وما أريد إلا أن أوجه الأنظار إلى البحث في الصلة بين فلسفة الفارابي وفلسفة المتنبي، ويبدو لي بادئ الرأي أن المتنبي في مذاهبه الفلسفية متأثر بنزعات القرامطة في اعتبار الغلبة والسيادة مطمح الحياة، وفي طبيعة المتنبي استعداد لقبول هذه المبادئ، وقد استطاعت فلسفة الفارابي أن تؤثر في تفكير المتنبي وفي مذاهبه الخلقية؛ ولكنها لم تستطع أن تنزع من نفسه حب الغلبة وحب المال الذي يراهما الفارابي من دأب أهل الجاهلية، حيث يقول في كتاب السياسات المدنية بصدد الغلبة: «وههنا شيء آخر محبوب جدا عند كثير من أهل الجاهلية وهو الغلبة، فإن الفائز بها عند كثير منهم مغبوط...»؛
15
ويقول في نفس الكتاب بصدد المال: «ومدينة النذالة واجتماع أهل النذالة هو الذي يتعاون على نيل الثروة واليسار ... وأفضل هؤلاء عندهم أيسرهم، وأجودهم احتيالا في بلوغ اليسار ...»
16
وجملة القول أن المتنبي سليل الفارابي في فسلفته.
ولئن كان أبو نصر غير متبرم بالحياة ولا سيئ الظن بالبشر، فقد كانت تجد له في ساعات الوحدة والعزلة والغربة نزوات من الضجر يفيض بها لسانه فيقول:
لما رأيت الزمان نكسا
وليس في الصحبة انتفاع
كل رئيس به ملال
وكل رأس به صداع
لزمت بيتي وصنت عرضا
له من العزة امتناع
أما المتنبي فقد كان متبرما بالناس وبالأيام، ولم يكن من أهل القناعة، بل كان من أهل الطموح والغلبة؛ فهو يقذف في زفراته بالشرر في وجوه البشر:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روى رمحه غير نادم
ولم يكن المتنبي من أهل التردد بحكم طموحه واندفاعه؛ لكن تتابع الهزائم والفشل كان يميل به في بعض أوقاته إلى الشك أو ما يشبه الشك فيقول:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
وإذا كان حقا على الباحثين في فلسفة المتنبي أن يذكروا صلتها بفلسفة الفارابي، فمن الحق عليهم أيضا أن يكشفوا عن أثرها في فلسفة أبي العلاء المعري. فإن أبا العلاء المعري مدين في كثير من اتجاهاته الفلسفية لشعر أبي الطيب المتنبي؛ فقد كان أبو العلاء يجل أبا الطيب كل الإجلال، وفي كتاب الصحيح المنبي ما نصه: «قيل: كان أبو العلاء المعري إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبو نواس كذا، قال البحتري كذا، قال أبو تمام كذا، فإذا أراد المتنبي قال: قال الشاعر كذا، تعظيما له.»
17
وقد جمع أبو العلاء في فلسفته بين قناعة الفارابي وتبرم المتنبي، وأربى في الشك على كل شاك، فالمعري إذن سليل الفلسفتين.
والأدب العربي فيما نعلم لم ينتج غير المتنبي وغير المعري شاعرا فيلسوفا، ومن فضل المتنبي على الفلسفة أنه بثها في الشعر يوم كانت تلتمس لها منفذا إلى العقول والقلوب في تقية وفي وجل، ولعل شعر المتنبي كان من أسباب عناية الكتاب والشعراء بالدراسات الفلسفية استكمالا لفنهم وطمعا في اللحاق بذلك الشاعر الفيلسوف الذي شغلت به الألسن وسهرت في شعره العيون.
هوامش
بطليموس العرب ابن الهيثم
التعريف بابن الهيثم
احتفلت القاهرة منذ بضع سنين احتفالا كبيرا في الساحة الجامعية الكبرى بذكرى وفاة ابن الهيثم، وقد شهدت القاهرة منذ أكثر من تسع من مئات السنين تشييع جنازته في غير احتفال، من قبة كان يقيم فيها على باب الجامع الأزهر إلى قبر يجهل التاريخ موضعه من تلك القبور التي يقول فيها شيخ المعرة:
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
هذا مصداق الحكمة المأثورة عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه: «فر من الشرف يتبعك الشرف، واحرص على الموت توهب لك الحياة». وكان ابن الهيثم يفر من شرف الدنيا وجاهها؛ حتى ليروي بعض المؤرخين أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي ولي الخلافة سنة 386ه / 996م وتوفي سنة 411ه / 1021م ولاه بعض الدواوين، فضاق بذلك صدره ولم يجد سبيلا للخلاص من فتنة الحكم وفتنة الحاكم إلا بإظهار الجنون والخبال، واحتمل الحبس في داره والحجز على ماله عدة سنين، فلما مات الخليفة عاد الفيلسوف إلى الاشتغال بعلمه وفلسفته في عزلة وزهادة وكفاف من العيش.
وابن الهيثم هو أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، وممن ترجموا له من يسميه محمدا، وأبوه في بعض الروايات يسمى الحسين، ويستنتج من كلام ابن أبي أصيبعة أن مولد ابن الهيثم يقع حوالي 354ه / 965م. أما وفاته فيقول القفطي: إنها في حدود عام 430ه / 1039م. ويزيد القفطي بعد ذلك: «ورأيت بخطه جزءا في الهندسة وقد كتبه في سنة 432ه / 1040-1041م.»
ولم نر أحدا ممن ترجموا لابن الهيثم عرض لنشأته الأولى، اللهم إلا أن مولده كان بالبصرة، والظاهر أن ابن الهيثم من أصل عربي؛ واسم جده الأعلى «الهيثم» ليس من الأسماء التي تداولها الأعاجم في الإسلام. وأصل الهيثم فرخ النسر. ولسنا نعرف شيئا عن دراسات ابن الهيثم الأولى ولا عن أساتذته.
وبالجملة فإن الدور الأول من حياة ابن الهيثم، أي: مدة إقامته بالبصرة محاطة بالغموض، ويفهم من كلام بعض المؤرخين أنه أقام بالشام زمنا. ويقول البيهقي في كتاب تتمة صيوان الحكمة: «وأقام بالشام عند أمير من أمراء الشام، فأدر عليه ذلك الأمير وأجرى عليه أموالا كثيرة، فقال له أبو علي: يكفيني قوت يوم وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي إن أمسكته كنت خازنك وإن أنفقته كنت قهرمانك
1
ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي، فما قبل بعد ذلك إلا نفقة احتاج إليها ولباسا متوسطا.»
ولعل سفره إلى مصر كان في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي. ومن المؤلفين من يقول: إن الحاكم بأمر الله هو الذي استدعاه إلى مصر. وكان ابن الهيثم حينئذ يسكن الشام. وفي بعض الروايات أن ابن الهيثم سافر أولا إلى مصر ولقي الحاكم ثم خاف على نفسه منه، فسار إلى الشام وعاد بعد وفاة الحاكم إلى القاهرة، والرواية الأولى أرجح من الرواية الثانية التي انفرد بها الشهرزوري. وفي مصر كانت حياة ابن الهيثم العلمية وفيها ألفت أكثر مصنفاته. ولا نعرف من تلاميذه غير واحد يعد من الفلاسفة هو أبو الوفاء مبشر بن فاتك من أعيان أمراء مصر، كما جاء في كتاب دي بور. ويذكر ابن أبي أصيبعة أن إسحاق بن يونس المتطبب بمصر له تعليق علقه عن ابن الهيثم في كتاب ديوفنطس في مسائل الجبر؛ وعلى ذلك فإسحاق أيضا من تلاميذه، وإذا كان ابن الهيثم بصري المولد فقد انتقل إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره، فلا غرو أن يلقبه صاعد في طبقات الأمم بالمصري.
كان ابن الهيثم - على ضآلة جسمه وقصر قامته - دائم الاشتغال، قوي الذكاء، كثير التصانيف، وافر الزهد، سامي النفس، محبا للخير.
منزلته الفلسفية وآثاره
ذكر صاعد في طبقات الأمم ابن الهيثم في المشهورين بإحكام بعض أجزاء الفلسفة ممن اشتهر بعلم حركات النجوم وهيئة العالم، وقال القفطي «صاحب التصانيف والتآليف المذكورة في علم الهندسة، كان عالما بهذا الشأن، متقنا له، متفننا فيه، قيما بغوامضه ومعانيه، مشاركا في علوم الأوائل.» أما البيهقي فيقول في ترجمته: «الحكيم بطليموس الثاني أبو علي بن الهيثم، كان تلو بطليموس في العلوم الرياضية والمعقولات؛ وتصانيفه أكثر من أن تحصى.»
ويقول ابن أبي أصيبعة: «كان متفننا في العلوم، لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه.»
والشهرزوري يقول: «كان عالما بالرياضات والمعقولات، وتصانيفه أكثر من أن تحصى.»
وأقوال العلماء الغربيين في ابن الهيثم تجري على مثل هذا النمط، فيقول “Suter”
في مقاله عن ابن الهيثم في دائرة المعارف الإسلامية: «وكان أحد أقطاب الرياضيين والطبيعيين من العرب؛ وكان أيضا عالما بالطب وبسائر علوم الأوائل خصوصا فلسفة أرسطو». ويذكر دي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام» الذي ترجمه الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريده: «ونجد في القاهرة في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس من الهجرة) رجلا من أعظم الرياضيين والطبيعيين في العصور الوسطى هو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم»، ويقول
Sarton : «أكبر عالم طبيعي مسلم، ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر في جميع الأزمان، وكان أيضا فلكيا ورياضيا وطبيعيا وكتب شروحا عدة على مؤلفات أرسطو وجالينوس.»
ويتبين من ذلك أن الآراء متفقة على أن ابن الهيثم من الطراز الأول بين الرياضيين والطبيعيين في الشرق والغرب، وتكاد تتفق الآراء على أن مرتبته في سائر العلوم الفلسفية دون هذه المرتبة.
ولقد كانت آراء ابن الهيثم الرياضية والطبيعية موضع الدراسة والبحث منذ عهد بعيد. أما مؤلفاته في سائر أجزاء الفلسفة فهي على كثرتها وخطر كثير من موضوعاتها لم تتناولها أيدي الباحثين ولم ينشر منها شيء مترجما ولا في لغته الأصلية. ولا يقوم هذا دليلا على أن فلسفة ابن الهيثم الإلهية وما إليها أقل طرافة وعمقا من مذاهبه في الطبيعة والرياضة. وليس من الميسور الآن تكوين صورة واضحة مفصلة لآراء ابن الهيثم في المنطق وما وراء الطبيعة والسياسة والأخلاق؛ إذ ليس في متناول أيدينا عن هذه الآراء إلا بعض ما نقله المترجمون له، وإلا إشارات وردت استطرادا في بعض رسائله الرياضية أو الطبيعية، ومن هذه المصادر القليلة المجملة نستطيع أن نلم إلماما بمذاهب ابن الهيثم الفلسفية.
ينقل ابن أبي أصيبعة من خط ابن الهيثم في مقالة له قوله: «إني لم أزل منذ عهد الصبا مرويا في اعتقادات هذه الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم ما تعتقده من الرأي. فكنت متشككا في جميعه، موقنا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق ... فخضت لذلك ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا، ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جددا، فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطوطاليس ... فلما تبينت ذلك أفرغت وسعي في طلب علوم الفلسفة؛ وهي ثلاثة: علوم رياضية وطبيعية وإلهية». وبعد أن عدد مصنفاته قال: «ثم شفعت جميع ما صنعته من علوم الأوائل برسالة بينت فيها أن جميع الأمور الدنيوية والدينية هي من نتائج العلوم الفلسفية»، ويقول بعد ذلك: «فإن ثمرة هذه العلوم هو علم الحق والعمل بالعدل في جميع الأمور الدنيوية، والعدل هو محض الخير الذي بفعله يفوز ابن العالم الأرضي بنعيم الآخرة السماوي.»
وهذا الرأي الذي يرد إلى الفلسفة وعلومها كل شئون الدنيا والدين، ويجعل علم الحق وعمل العدل نتيجة لها، ليس هو رأي الفلاسفة الإسلاميين من قبل ابن الهيثم ولا من بعده؛ فإنهم يجعلون علم الحق وعمل العدل شركة بين الفلسفة والدين على نحو يختلف تفصيله باختلاف الفلاسفة، على أن لابن الهيثم كتابا في إثبات النبوات، وإيضاح فساد رأي الذين يعتقدون بطلانها، وذكر الفرق بين النبي والمتنبي، ولوددنا أن يتسنى الاطلاع على هذا الكتاب لنعرف ما الذي أبقى ابن الهيثم للنبوة بعد أن أعطى للفلسفة ما أعطى.
ولابن الهيثم عناية بالمنطق الأرسطاطاليسي وله فيه مؤلفات لم تصل إلى الباحثين، وهو يعرض في بعض كتبه الرياضية والطبيعية إلى أبحاث تتصل بالمنطق، ففي كتاب المناظر يعني ابن الهيثم بتحليل الإدراك إلى عناصره المختلفة تحليلا طريفا؛ ويثير في هذا الكتاب وفي غيره موضوعات جليلة تتعلق بمنهج البحث العلمي واعتماده أولا على الأمور الحسية وتتعلق بقيمة النظرية العلمية ووظيفتها. وابن الهيثم يطبق المناهج المنطقية فيما يعالجه من الطبيعيات والرياضيات، وقد أشار إلى كثير من ذلك الأستاذ مصطفى بك نظيف في محاضرته القيمة عن «الحسن بن الهيثم والناحية العلمية منه وأثره المطبوع في علم الضوء.»
بقيت ناحية تستحق النظر من نواحي ابن الهيثم: هي الناحية الأخلاقية والسياسية. ولابن الهيثم كتاب في السياسة ذكره ابن أبي أصيبعة في مؤلفاته في أخريات حياته بعد سنة 419ه، وله في الأخلاق رسالة لطيفة ما سبقه بها أحد على ما جاء في تتمة صيوان الحكمة، وفي كتاب نزهة الأرواح للشهرزوري.
وأساس الأخلاق عند ابن الهيثم إيثار الحق وطلب العلم، والحق ليس هو بأن يدركه الكثير من الناس؛ لكن هو بأن يدركه الفهم الفاضل منهم؛ ولذلك يقول ابن الهيثم على ما نقله من خطه ابن أبي أصيبعة: «فكنت كما قال جالينوس في المقالة السابعة من كتابه في حيلة البرء يخاطب تلميذه: لست أعلم كيف تهيأ لي منذ صباي، إن شئت قلت: باتفاق عجيب، وإن شئت قلت: بإلهام من الله، وإن شئت قلت: بالجنون أو كيف شئت أن تنسب ذلك، إني ازدريت عوام الناس واستخففت بهم ولم ألتفت إليهم، واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئا أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين». ويكرر ابن الهيثم هذه المعاني في كلامه، ويشير إلى أنه إنما يبتغي من إيثار الحق وطلب إدراك العلم والمعارف النفسية أن يتحقق بفعل ما فرضته عليه هذه العلوم من ملابسة الأمور الدنيوية وكلية الخير ومجانبة كلية الشر فيها؛ ليعتاض عن صعوبة ما يلقاه بذلك مدة البقاء المنقطع في دار الدنيا دوام الحياة منعما في الدار الآخرة.
ونجد في بعض ما روى المؤرخون ما يدل على حرص ابن الهيثم على الحق والعدل. وذكر البيهقي أن أميرا من الأمراء جاء ابن الهيثم متعلما فقال له أبو علي: أطلب منك للتعليم أجرة وهي مائة دينار في كل شهر. فبذل ذلك الأمير مطلوبه وما قصر فيه وأقام عنده ثلاث سنين، فلما عزم الأمير على الانصراف قال له أبو علي: خذ أموالك بأسرها فلا حاجة لي إليها، وأنت أحوج إليها مني عند عودك إلى مقر ملكك ومسقط رأسك، وإني قد جربتك بهذه الأجرة؛ فلما علمت أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم بذلت مجهودي في تعليمك وإرشادك. واعلم أن لا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير. ثم ودعه وانصرف. وفي ذلك كله ما يشعر بأن ابن الهيثم في مبادئه السياسية والأخلاقية ينزع إلى نوع من الأرستقراطية، يجاوز به تقسيم طبقات الناس بحسب ما يصلحون له من الأعمال في الحياة الاجتماعية إلى الاستخفاف بالعامة وازدرائها. وابن الهيثم يريد بالعامة الذين يزدريهم من ليس همهم الحق والخير فهم يؤثرون على طلب الحق والعدل، ومن أجل ذلك لم يبذل علمه للأمير إلا بعد ما وثق من استهانته بالمال في سبيل طلب المعارف النفسية والعمل بالعدل الذي هو محض الخير. ولابن الهيثم كلمات مأثورة ذكرها البيهقي تدل على نزعاته الأخلاقية منها قوله: «ابذل لمعارفك معروفك وللمستعد علمك واحرس عرضك ودينك»؛ ومنها «إذا وجدت كلاما حسنا لغيرك فلا تنسبه إلى نفسك واكتف باستفادتك منه، فإن الولد يلحق بأبيه والكلام بصاحبه، وإن نسبت الكلام الحسن الذي لغيرك إلى نفسك نسب غيرك نقصانه ورذائله إليك.»
وإذا كان الذي أسلفنا من البيان لا يعطي صورة كاملة للمذاهب الأخلاقية والسياسية المدونة في كتابي ابن الهيثم اللذين لم يصلا إلينا، فإن الذي أسلفنا يدل على مبلغ الكمال الخلقي في نفس رجل لا يرى في الحياة غير إيثار الحق والعدل، ولا جرم فقد عاش ابن الهيثم ما عاش جاهدا في طلب الحق والعمل بالعدل، وإحياء ذكره بعد وفاته بمئات السنين تكريم للمثل الإنسانية العليا في العلم والأخلاق.
هوامش
شيخ المجددين في الإسلام ابن تيمية الفيلسوف
سجين القلعة
في أواخر سنة 728ه كان في قلعة دمشق إمام من أئمة المسلمين، شيخ جاوز السابعة والستين من عمره، يعاني ألم الاعتقال والسجن، وحيدا ليس معه إلا أخ له يقوم بخدمته، وكان الشيخ يقاسي فوق ألم السجن ألما آخر هو على نفسه أشد وقعا: فقد منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواة ولا قلما ولا ورقا. وكتب عقيب ذلك بفحم، يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم، وبقي أشهرا على ذلك مقبلا على التلاوة والعبادة، وذكر أخوه أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، وانتهيا إلى قوله تعالى:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر . ثم مرض الشيخ بضعة وعشرين يوما، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه فلم يفجأهم إلا موته، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبرجة، فأسف الخلق عليه، وحضر جمع كثير إلى القلعة، فأذن لهم في الدخول، وجلس جماعة عنده قبل الغسل، وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن.
توفي الشيخ سحر ليلة عشرين من ذي القعدة، ودفن وقت العصر أو قبله بيسير، وصلي عليه بجامع دمشق، وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفا، وفي كتاب فوات الوفيات:
وحضرها من الرجال والنساء أكثر من مائتي ألف، وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، وقيل: إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها نحو خمسمائة درهم، وقيل: إن الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه لأجل القمل دفع فيه مائة وخمسون درهما. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء عظيم، وتضرع كثير.
ورثاه جماعة، منهم زين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة 749ه، الذي قال يخاطب تلك الجماعات المحتشدة حول نعش الإمام، تلقى عليه مناديلها وعمائمها للتبرك:
ألم يك فيكمو رجل رشيد
يرى سجن الإمام فيستشاط
ثم يعتذر ابن الوردي عن نصيبه من التقصير في حق شيخ مظلوم، يذكر هو أنه اجتمع به بدمشق سنة 715ه بمسجده بالقصاعين، ويقول:
وبحثت بين يديه في فقه وتفسير ونحو، فأعجبه كلامي وقبل وجهي، وإني لأرجو بركة ذلك.
يعتذر ابن الوردي بخوف الشر؛ ولعل الألوف المؤلفة التي تزاحمت حول سرير السجين بعد موته، كانت كلها تعتذر من تقصيرها في مدافعة الظلم بعذر ابن الوردي.
يقول الشاعر المؤرخ في رثائه لأستاذه:
وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي
ففيه لقدر مثلكم انحطاط
أما والله لولا كتم سري
وخوف الشر لانحل الرباط
وكنت أقول ما عندي ولكن
بأهل العلم ما حسن اشتطاط
فما أحد إلى الإنصاف يدعو
وكل في هواه له انخراط
سيظهر قصدكم يا حابسيه
وننبئكم إذا نصب الصراط
فها هو مات عنكم واسترحتم
فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا
وحلوا واعقدوا من غير رد
عليكم وانطوى ذاك البساط
هذه الصورة التي ترينا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية سجينا في قلعة دمشق نحو عامين لاتهامه في دينه من غير أن يرتفع صوته بالتوجع لشيخوخته المعذبة، أو بالإنكار على الظالمين، ثم ترينا فزع الناس حين فجأهم نعيه وتزاحمهم حول نعشه يصيحون بالبكاء ويلتمسون البركات، هذه الصورة هي أصدق مثال لاضطراب الأخلاق والعواطف في ذلك العصر المضطرب، عصر الحروب الصليبية في عواقبها، والغارات التترية في عنفوانها، عصر دولة المماليك البحرية في مصر والشام التي ابتدأ عهدها في منتصف القرن السابع الهجري.
نشأ أبو العباس أحمد بن تيمية في هذا العصر القلق ولقيته المحن منذ طفولته.
سيرته وفتاواه
ولد في حران غير بعيد من دمشق عاشر ربيع الأول سنة 661ه / 22 يناير سنة 1263 في بيت علم ودين. فأبوه شهاب الدين أبو أحمد عبد الحليم بن تيمية يقول فيه الذهبي: «وكان إماما محققا كثير الفنون وتوفي سنة 682»، وجده شيخ الإسلام مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية أحد الحفاظ الأعلام، قال الذهبي: «كان معدوم النظير في زمانه رأسا في الفقه وأصوله، وصنف التصانيف، واشتهر اسمه وبعد صيته»، وقال ابن رجب في طبقاته: «كان المجد يفتي أحيانا أن الطلاق الثلاث المجموعات إنما يقع منها واحدة فقط.»
توفي مجد الدين سنة 652، وتوفيت ابنة عمه زوجته بدره المكناة بأم البدر قبله بيوم واحد، وكانت من رواة الحديث. وفي بني تيمية غير أم البدر نساء محدثات.
وفي سنة 667 هاجر والد تقي الدين بن تيمية بجميع أهله إلى دمشق فرارا من جوار التتر، وقد خرجوا بليل وكانت كل ثروة هذه الأسرة المهاجرة محمولة معها على عجلة لعدم الدواب، وهي كتب كثيرة يشترك في الحرص عليها النساء والرجال.
وثقل الحمل على العجلة فغرزت في الرمل، وخاف القوم على زخرهم في الحياة أن يتبدد، فما زالوا يجاهدون حتى وصلوا إلى دمشق بكتبهم سالمين.
وفي دمشق تلقى ابن تيمية فنون العلم عن أبيه وغيره، ومن أساتذته زينب بنت مكي.
وكان يتوقد ذكاء وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ.
وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان.
وكانت لا تكاد نفسه تتشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.
وجرى منذ شبابه على طريقة واحدة من الزهد في المأكل والملبس ولم يتزوج ولم يتسر.
ولما توفي والده سنة 681، وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، قام مقامه مرة في تدريس الفقه على مذهب الإمام أحمد وفي تفسير القرآن وحج في سنة 691.
وفي سنة 698 أملى جواب سؤال ورد من حماه في آيات الصفات كقوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى ، وفي أحاديث الصفات أيضا كقوله
صلى الله عليه وسلم : «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن».
وفي هذا الجواب - وهو الرسالة المطبوعة من الجزء الأول من مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية بعنوان «العقيدة المجموعية الكبرى » - يرد ابن تيمية على المتكلمين مذاهبهم في الصفات بعد بسطها ردا لا يخلو من عنف ثم يقول:
والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ويختص به. فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرض، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق ولوازمها، واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا.
وقد قام جماعة من الفقهاء على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى وبحثوا معه، ومنع من الكلام، ثم حضر مع القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له، وقال هو وأخوه جلال الدين: «من قال عن الشيخ.»
استراح الشيخ بعد ذلك من الفتن حوالي سبع سنين، يظهر أنه شغل فيها عن حرب العلم واللسان بحرب الرمح والسنان.
ففي سنة 699 قدم غازان ملك التتر إلى دمشق فخرج الناصر محمد بن قلاوون إلى قتاله، فانهزم عسكر الناصر وقتل جماعة من الأمراء، وملك غازان دمشق ما خلا قلعتها، وخطب بها وحصل لأهلها من التتر المشقة العظيمة؛ ثم أخذ الناصر في التجهيز لقتالهم؛ لأن ابن تيمية جاء على البريد وحثه على ذلك، فخرج إليهم وهزمهم.
وكان ابن تيمية في الجيش مع المحاربين، وتلك فيما يظهر كانت أول زورات ابن تيمية لمصر. وفي سنة 705 اشترك ابن تيمية في قتال النصيرية، قال ابن الوردي في تاريخه:
وأمنت الطرق بعدهم، وكانوا يتخطفون المسلمين ويبيعونهم من الكفار، وكان الذي أفتى بذلك ابن تيمية، وتوجه مع العسكر.
ولم يكد يفرغ الشيخ من قتال النصيرية في جبالهم المنيعة حتى استدعي في نفس تلك السنة إلى مصر، وعقد له مجلس بحضوره القضاة وأكابر الدولة، ثم حبس في الجب بقلعة الجبل ومعه أخواه سنة ونصفا بسبب ما نسب إليه من التجسيم. وخرج بعد ذلك. ثم عقد له مجلس في شوال سنة 707 لكلامه في المتصوفة الاتحادية، وأمر بتسفيره إلى الشام على البريد، ثم أمر برده من مرحلة، وسجن بحبس القضاة سنة ونصفا، ثم أخرج إلى الإسكندرية وحبس في برج ثمانية أشهر، إلى أن عاد السلطان الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأطلقه.
ويقول صاحب فوات الوفيات: إنه اجتمع بالسلطان في مجلس حافل بالقضاة وأعيان الأمراء، فأكرمه السلطان إكراما عظيما، وشاوره في قتل بعض أعدائه، فأبى الشيخ ذلك وجعل كل من آذاه في حل. وسكن الشيخ القاهرة وتردد الناس عليه، ثم توجه صحبة الناصر إلى الشام في سنة 712، وكانت مدة غيبته عن دمشق أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع عظيم فرحا بمقدمه؛ وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة، وفي سنة 812 ورد مرسوم السلطان بمنع الشيخ من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق، وعقد لذلك مجلس، ونودي به في البلد. ويقول ابن الوردي: «وبعد هذا المنع والنداء أحضر إلى رجل فتوى من مضمونها أنه إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا جملة بكلمة أو بكلمات في طهر أو أطهار، قبل أن يرتجعها أو تقضي العدة، فهذا فيه قولان للعلماء، أظهرها أنه لا يلزمه إلا طلقة واحدة، ولو طلقها الطلقة بعد أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد وكان الطلاق مباحا فإنه يلزمه؛ وكذلك الطلقة الثالثة إذا كانت بعد رجعة أو عقد جديد وهي مباحة فإنها تلزمه، ولا تحل له بعد ذلك إلا بنكاح شرعي لا بنكاح تحليل والله أعلم. وقد كتب الشيخ بخطه تحت ذلك ما صورته: هذا منقول من كلامي كتبه أحمد بن تيمية.»
وفي سنة 720 عقد لابن تيمية بدمشق مجلس وعاتبوه بمسألة الطلاق وحبسوه بالقلعة، ثم أخرج في سنة 721 بعد أن قضى في السجن خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، وفي آخر الأمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأن السفر وشد الرحال منهي عنه لقوله
صلى الله عليه وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، مع اعترافه بأن الزيارة بلا شد رحل قربة فشنعوا عليه بها. وكتب فيها جماعة بأنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوة ، فيكفر بذلك وأفتى عدة بأنه مخطئ بذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم؛ ووافقه جماعة. وكبرت القضية فاعتقل الشيخ بقلعة دمشق في شعبان سنة 726، وحبس جماعة من أصحابه وعزر جماعة، ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية، فإنه حبس بالقلعة أيضا. وبقي الشيخ سجينا بضعة وعشرين شهرا حتى وافاه حمامه.
وجملة الأمر فيما أصاب ابن تيمية من الفتن والمحن أن رجال الدين في ذلك العصر هاجوا عليه، وأهاجوا ذوي السلطان والعامة بسبب فتواه في مسألة الصفات، وتلك الفتوى أثارت سخط المتكلمين الذين نسبوه إلى التجسيم، ثم رد ابن تيمية على القائلين: بوحدة الوجود من الصوفية، واشتد في نقدهم وتسفيه آرائهم، فسخط عليه المتصوفة. وأفتى بعد ذلك ابن تيمية بفتاواه في أمر الطلاق فأغضب الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، وفيهم القضاة ولهم يومئذ في المملكة سلطان.
وبذلك اجتمع على ابن تيمية المتكلمون والصوفية والفقهاء يكيدون له ويحسدونه ويتبرمون بتنقيصه لأقدار العلماء، وتجريحه لآرائهم.
بل يقول المؤرخون: إن أبا حيان النحوي حضر عند ابن تيمية لما قدم إلى القاهرة سنة سبعمائة، فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ومدحه بأبيات. ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه؛ فقال ابن تيمية: «إيش سيبويه». ويقال: إن ابن تيمية قال له: «ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصوما؛ بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت». فنافره أبو حيان وقطعه، وذكره في تفسيره البحر بكل سوء، وكذلك في مختصره النهر.
فابن تيمية قد أثار على نفسه الحفيظة من كل علماء عصره حتى علماء النحو.
وما زال القوم يدبرون له الكيد في السر والعلن حتى نبشوا له فتوى كان مضى عليها عهد طويل ، وهي فتواه في شد الرحال إلى زيارة القبور. وهو يرى أن نذر السفر إلى قبر الخليل - عليه السلام - أو قبر النبي
صلى الله عليه وسلم
نذر لا يجب الوفاء به باتفاق الأئمة الأربعة؛ فإن السفر إلى هذه المواضع منهي عنه. ويقول ابن تيمية: وقد رخص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجوا بحجة شرعية.
وكان لنشر هذه الفتوى بين الناس مع إحاطتها بالكيد والتشنيع وقع في النفوس لم يطفئ نار فتنته إلا اعتقال الشيخ.
وإذا كان خصوم ابن تيمية لم يتقوا الله فيه حين طعنوا في دينه، وهو الرجل التقي الذي نشأ معما في الدين ومخولا، فإن ابن تيمية قد أعان على نفسه.
نقل ابن حجر العسقلاني في كتاب الدرر الكامنة عن الذهبي ما نصه:
فإنه كان، مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين بشرا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب منه، وصدمة للخصم تزرع له عداوة في النفوس.
وغالى قوم فنسبوا ابن تيمية إلى الكبر والعجب، فقد جاء في تعليق على كتاب «القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي» نقلا عن كتاب «قمع المعارض لابن الفارض» للسيوطي ما نصه:
فوالله ما رمقت عيني أوسع علما ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له: ابن تيمية، مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد نقبت في رزيته وفتنته حتى مللت سنين متطاولة، فما وجدت قد أخره في أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا بالكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار.
دعوته
يذكر جولد زيهر في كتاب عقيدة الإسلام وشريعته: «أن ابن تيمية لم يصب حظا من النجاح، وبعد أن تقاذفته المحاكم الدينية مات في السجن سنة 1328م. وكان هم الكاتبين بعد وفاته أن يبحثوا هل كان ملحدا أم كان من الأتقياء المدافعين عن السنة.»
ويقول الأستاذ كرد علي بك في كتاب خطط الشام: «وقد أشبه ابن تيمية في دعوته في الإسلام لوثيروس صاحب المذهب الإنجيلي في النصرانية؛ بيد أن مصلح النصرانية نجح في دعوته، ومصلح الإسلام أخفق ويا للأسف.»
وابن تيمية لم يخفق في دعوته الإصلاحية وإن أبطأ نجاحه قرونا؛ ولهذا الإبطاء عندي سبب هو أن عصر الرجل لم يدرك كنه مذهبه، فعني العلماء يومئذ بما في فتاوى ابن تيمية من المسائل الجزئية، وعنوا بعنف أسلوبه في نقد العلماء وكبار المؤلفين.
وأخذ هو يجري في تيارهم فيعني بالجزئيات والدفاع عن آرائه فيها حتى أصبحت أصول مذهب ابن تيمية يعسر استخلاصها من بين المؤلفات الضخمة والرسائل الكثيرة والمؤلفات الجدلية في أمور فرعية ومسائل جزئية، ولم يخطئ من قال: «ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظمة منزلته.»
وابن قيم الجوزية هو الذي فهم من دون علماء عصره مذهب أستاذه ومهده للأجيال من بعده.
كان ابن تيمية كما أسلفنا في عصر اضطراب وقلق يشمل بلاد الإسلام، وكان المسلمون عرضة لغارات المهاجمين لهم من الخارج، وكانوا عرضة للفرقة والشقاق بين أهل المذاهب والفرق منهم.
وابن تيمية لم يكن يعتقد أن المسلمين يهلكون بعدو يسلط عليهم من غيرهم، وهو يقرر ذلك في رسالته المسماة «قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة»، فيقول: «وقد ثبت في الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سأل ربه ألا يهلك أمته بسنة
1
عامة فأعطاه ذلك، وسأله ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك.»
من أجل هذا وجه ابن تيمية همه إلى ما يجمع شمل المسلمين ويدفع عنهم الفرقة التي تجعل بأسهم بينهم، وعنده أن ذلك لا يكون إلا باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما يتنازعون فيه إلى الكتاب والسنة، وهو يقول في تفسير سورة الإخلاص:
بهذه النصوص وغيرها تبين أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما يتنازعون فيه إلى الكتاب والسنة.
وكان ابن تيمية مؤمنا بأن الإسلام سيغلب هجمات خصومه وتفرق أبنائه، ويقول في الرسالة القبرصية التي هي خطاب لسرجواس ملك قبرص يدعوه به إلى الإسلام: «والإسلام في عز متزايد وخير مترافد؛ فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد قال: إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وهذا الدين في إقبال وتجديد، وأنا ناصح للملك وأصحابه والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة والإنجيل والفرقان.»
ويرى جولد زيهر أن ابن تيمية يمثل في قوة نزعات الحنابلة في التشدد في أمر البدع؛ فهو يحارب كل البدع التي غيرت الإسلام في عقائده وأحكامه عن حقيقته الأولى، محاربا أيضا آثار الفلسفة في الإسلام؛ بل محاربا المذاهب الكلامية للأشعري، ومحاربا التصوف ومذاهبه في وحدة الوجود، وكان يبذل في ذلك من الجهد ما كان يبذله من المحاربة لزيارة قبر النبي وقبور الأولياء، وجعل شد الرحال إلى قبر النبي معصية، وإن كان ذلك معتبرا منذ أزمان من متممات الحج إلى بيت الله الحرام.»
ويقول جولد زيهر بعد ذلك:
كانت الدولة الإسلامية في هم مما أصابها من أثر الخراب المغولي، فأصبحت الفرصة سانحة لتوجيه الشعب إلى إصلاح الإسلام بالعودة إلى السنة التي كان الخروج عنها مدعاة لغضب الله.
فلسفته
إذا صح أن ابن تيمية كان محاربا للفلسفة ولما اتصل بالفلسفة من علوم الكلام، فكيف السبيل إلى التماس جانب فلسفي لمن يعادي الفلسفة ويحاربها؟
أما أن ابن تيمية كان سيئ الرأي في فلسفة يونان وفي فلسفة الإسلاميين الذين يعتبرهم تبعا لفلاسفة يونان، فهذا ما لا نكران له؛ وكتب ابن تيمية مملوءة بالرد على مذاهبهم. لكن ابن تيمية لم يكن يعرض لنقد المذاهب الفلسفية من جهة مخالفتها للدين فحسب، بل من جهة مخالفتها لصريح العقل كذلك. وعند ابن تيمية أن صريح العقل لا يخالف صريح النقل بحال. وهو يقول في كتاب القياس في الشرع الإسلامي:
فصل - فهذه نبذة يسيرة تدلك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذين لا يعلم لهم فيه مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودا وعدما، كما أن المعقول الصريح دائر مع أخبارها وجودا وعدما، فلم يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل.
ويقول في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان:
والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح المعقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا.
نظر ابن تيمية في الكلام والتصوف والفلسفة نظرا عميقا: فكتبه تدل على سعة اطلاع على المذاهب الفلسفية وتاريخها، وحسن تصويره لما يعرض للرد عليه من مذاهب الفلسفة ينبئ عن علم وفهم، وطريقته في جودة الترتيب والتقسيم والتبيين لا تخلو من أثر الفلسفة، شأنه في ذلك شأن الغزالي الذي كان أكثر شيء طعنا في الفلسفة وصدا عنها مع أن عقله كان في أغلب الأمر عقلا فلسفيا وكان أسلوبه في الجدل أسلوب الحكماء.
واحترام ابن تيمية لنظر العقل هو الذي جعله يتسامى عن التقليد، بحيث كان إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بعينه بل بما يقوم دليله عنده. وليس يرى للمعرفة طريقا غير الوحي والعقل، أما الكشف الصوفي فهو ينكره ويرده بالدليل العقلي وبالدليل السمعي معا.
كان ابن تيمية قويا في تفكيره وفي جدله بما راض عقله على العلوم التعليمية من الحساب والجبر والمقابلة والفرائض، والعلوم العقلية من الفلسفة والكلام وأصول الفقه، يقول الذهبي في حديثه عن ابن تيمية: «وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير. وأما معرفته بالملل والنحل فلا أعلم له فيها نظيرا، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب.»
وإذا كان للعلوم الفلسفية أثرها في تفكير شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن تفكيره أحيانا لا يستوفي التمحيص الفلسفي. ومن أمثلة ذلك ما يذكره في كتاب «الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»:
فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئا لك يا ولي الله فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك. وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك. ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته أو أخرجته بسرعة ... وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير.
ولابن تيمية في بعض الأحايين تسامح في أمر الخلافات الدينية يتسع لحرية التفكير خير اتساع، ثم تدركه حدة الجدل فينقض من حرية التفكير ما بنى.
يقول في رسالته - قاعدة أهل السنة والجماعة: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال:
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هنا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
حتى إذا عرض للرد على القائلين: بوحدة الوجود من متصوفة الإسلام في رسالته في حقيقة مذهب الاتحاديين، قال في ابن عربي: «مقالة ابن عربي في فصوص المحكم، وهي مع كونها كفرا فهو أقربهم إلى الإسلام، لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرا؛ ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره؛ بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى.»
ويقول في الصدر الرومي: «وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه؛ لكنه كان أكفر وأقل علما وإيمانا وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ. ولما كان مذهبهم كفرا كان كل من حذق فيه كان أكفر.»
وهذا التفاوت في أساليب ابن تيمية وبعض مذاهبه مما جعل أثر مؤلفاته في الأجيال من بعده متفاوتا. فمذهب الوهابيين يتصل بسبب إلى ابن تيمية، ونزعة الإصلاح الديني عند الشيخ محمد عبده تتصل بسبب إلى ابن تيمية أيضا.
آثاره
هذا وكتب ابن تيمية متداولة بين خاصة العلماء الدينيين منذ أزمان لم تقو على الصد عنها هجمات الخصوم، وقد طبع منها عدد غير قليل في مصر وفي غير مصر، ولا يزال ما لم يطبع منها كثيرا. ويقول تلميذه الذهبي: «إنه كان يكتب في اليوم والليلة من التفسير ومن الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحوا من أربعة كراريس أو أزيد، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمسمائة مجلد.»
وإذا كانت آراء ابن تيمية في التفسير والفقه قد أصبحت موضع الدرس والتقدير بين المشتغلين بالتفسير والتشريع في عصرنا، حتى اقتبس تشريعنا الإسلامي الحديث بعض ما سجن من أجله ابن تيمية وعذب في الأيام الخالية، فإنا نرجو أن تتوجه همم المشتغلين بالفلسفة وعلوم الكلام والتصوف إلى درس آراء ابن تيمية في الفلسفة والكلام والتصوف.
وهذه الدراسة نافعة في توضيح آراء كلامية وصوفية وفلسفية، كشف ابن تيمية غموضها بفكره النفاذ، وردها إلى أصولها وأحسن بيانها بقوله الواضح المبسوط.
ولابن تيمية في ثنايا رده على الفلاسفة والمتكلمين والصوفية نظرات فلسفية طريفة قد تفتح لدراساتنا الفلسفية الناشئة آفاقا جديدة.
هذا، وقد ذكر بعض من ترجموا لابن تيمية أن له كتابا في الرد على المنطق، وفي كتاب كشف الظنون: «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان لابن تيمية.»
وليس في المكاتب المعروفة نسخ من هذا الكتاب؛ غير أن الأستاذ الميمني الهندي خبرني أن لديهم في الهند نسخة هي الوحيدة فيما يظن، وأنهم يزمعون نشرها.
وقد وجدت في مكتبة الأزهر مجموعة رسائل لجلال الدين السيوطي، فيها ما يدل على أنها بخط المؤلف، ومن بينها رسالة اسمها «كتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» وأورد المصنف عقب هذا الكتاب متصلا به كتابا آخر له سماه «كتاب جهد القريحة في تجريد النصيحة» ويقول في مقدمته:
وبعد فما زال الناس قديما وحديثا يعيبون فن المنطق ويذمونه، ويؤلفون الكتب في ذمه، وإبطال قواعده ونقضها وبيان فسادها، وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام أحد المجتهدين تقي الدين بن تيمية، فله في ذلك كتابان: أحدهما صغير ولم أقف عليه؛ والآخر مجلد من عشرين كراسا سماه: «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان»، وقد أردت تلخيص فوائده في كراريس قليلة تقريبا على الطلاب وتسهيلا على أولي الألباب، فشرعت في ذلك وسميته «جهد القريحة في تجريد النصيحة» والله الهادي للصواب.
وقال السيوطي في آخر الكتاب:
هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية، وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب، وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسا، ولم أحذف من المهم شيئا، إنما حذفت ما لا تعلق له بالمقصود، مما ذكر استطرادا أو ردا على مسائل من الإلهيات أو نحوها أو مكررا أو نقضا لعبارات بعض المناطقة، وليس راجعا لقاعدة كلية في الفن أو نحو ذلك، وإذا طالع كل أحد كتابي هذا المختصر استفاد منه المقصود أكثر مما يدركه من الأصل؛ فإنه وعر صعب المأخذ ولله الحمد والمنة.
وتدور موضوعات الكتاب جملة حول أربعة مباحث؛ ذلك أن المناطقة يبنون فنهم على أن العالم إما تصور أو تصديق: فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد؛ والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس.
ويرد ذلك ابن تيمية إلى أربعة مقامات: مقامين سالبين؛ ومقامين موجبين، فالأولان قولهم: إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد وإن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس؛ والآخران إن الحد يفيد العلم بالتصورات وإن القياس يفيد العلم بالتصديقات.
ويتناول الشيخ تقي الدين هذه الدعاوى الأربع بالنقد محاولا إبطالها بالأدلة العقلية .
ولو أن الدراسات المنطقية سارت منذ عهد ابن تيمية على منهاجه في النقد، بدل الشرح والتفريع والتعمق، لبلغنا بهذه الدراسات من التجديد والرقي مبلغا عظيما.
وعسى أن يتدارك شباب هذا الجيل ما فات أجيالا ماضية، فإن ميادين العلم والفلسفة تنتظر جهود الشباب.
هوامش
Unknown page