وعلى الجملة فإن قال علماء الكيمياء: إن المادة لا تنعدم، فكل ما في الوجود يقرر أن «لا شيء ينعدم». إن كان هذا حقا فويل للخير يقصده عن الخير أنه لم ير بعينه آثار عمله، وويل للخير صرفه عن خيره نكران الجميل وجحد المعروف، وويل للمجد عدل به عن جده أن لم يسبح الناس باسمه، ويشيدوا بذكره، ومرحى لمن كان مبدؤه «الخير للخير، ولا شيء ينعدم».
نجار ونجار
استأجر دكانا أمام منزلنا الأسطى حسن النجار.
وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره، مهزول الجسم، أصفر الوجه، ينتعل نعلا بالية، ويلبس ثيابا رثة، وعلى رأسه طربوش أسفله أسود، وأعلاه أحمر، قد دفعه إلى الوراء ليظهر «قصته» من شعره، فرعها فروعا ورفعها إلى السماء لتناطح السحاب.
ينظر إليك بعين منتفخة كأنه قريب العهد دائما بنوم طويل ثقيل، ويمشي متطرحا كأن في رأسه دائما فضلة خمار، وعلى وجهه غبرة كأن الماء لم يمسه أبدا؛ أقوى شيء فيه لسانه في السباب، وصوته في النزاع.
ليس لفتح دكانه أو إغلاقه موعد، ولا لعمله وراحته وقت محدد، يحلو له أحيانا أن يغلقه في الصباح ويفتحه في الظهر إذا بدأ الناس يقيلون، وأحيانا يسره أن يتركه مغلقا طول النهار ويفتحه ليلا حيث يبدأ الناس في النوم، فيضيء مصباحه، ويخرج عدده وأدواته في الشارع، ويأخذ في نجارته ما حلى له ذلك، فحينا إلى الفجر، وحينا إلى الصباح؛ تحاول أن تصده عن ذلك وتنصحه فيظهر الطاعة ثم يستمر في خطته؛ وأحيانا تنقلب دكانه في الليل حانة يجتمع وأصحابه فيتنادمون ويتشاربون؛ حتى إذا تمشت الخمر في مفاصلهم، ودبت في عظامهم، ذهبت بهم كل مذهب، وأخذت منهم كل مأخذ، فتغنوا أحيانا، ووقع الغناء في نفوسهم أحسن وقع، وصاحوا جميعا بصوت واحد: آه! ممدودة ما طاوعتهم أنفاسهم - وأحيانا يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات، ويعقبون كل نكتة بضحكة عالية تسر نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم.
وإذا فتح الدكان نهارا فمعرض غريب، لا لجودة المصنوعات، ولا دقة المعروضات، ولكن لأصحاب الحاجات قد أتو يطالبون بإنجاز أعمالهم، والشكوى من تأخير طلباتهم؛ ثم يصل الأمر في أغلب الأحيان إلى تدخل البوليس، وأحيانا يكون ما هو أدهى وأمر، إذ يكون قد سلم إليه صاحب حاجة دولابه أو كرسيه لإصلاحه، فلم يجد دولابه ولا كرسيه؛ لأن الأسطى حسن اضطرته الحاجة الملحة فباعه وأضاع ثمنه.
وهكذا أصبح شارعنا بحمد الله معرضا في النهار للسباب والمنازعات والخصومات والبوليس، ومنتدى جميلا ليلا لأهل السماح الملاح، إلى الصباح.
وأخيرا عدت من عملي يوما فرأيت الزحام شديدا على دكان الأسطى حسن، وإذا جلبة وضوضاء، وصياح يملأ الآذان، وإذا المنادي ينادي لبيع عدد النجارة وأدواتها:
منشار في حالة جيدة!
Unknown page