أليس عجيبا في هذه الحياة أن ألذ شيء في الملكية هو خيالها.
صندوق الكتاكيت
كان أمس من أيام الشتاء المشهودة، ريح صر، وليل قر، حتى خصرت اليد، وقفقفت الأسنان، ويبست الأطراف، وتجلى «أمشير» بأجلى ما وسم به من هوج ورعن، حتى لو كان طفلا لسال لعابه، أو رجلا لسقطت عنه التكاليف!
ثم انجلى الليل عن صبح بديع: سماء صافية، وشمس مشرقة، حاولت أن آتي لهما بتشبيه جديد، فكانت الشمس في السماء أجمل من كل تشبيه قديم وحديث.
غادرت حجرتى إلى حديقتي الصغيرة المتواضعة فوجدت خادمي قد سبقت، فأخرجت صندوق الكتاكيت إلى الشمس لينعم ما فيه بحرارتها ودفئها - وقع عليه نظري، وصادف ذلك مني تفكيرا في موضوع أكتبه.
شعرت إذ ذاك بشخصيتين من نفسي تتناظران مناظرة عجيبة عنيفة أسجلها للقراء: - لم لا يكون (صندوق الكتاكيت) موضوعا طريفا؟ - إنه موضوع تافه لا يليق بأستاذ في جامعة، ولا بمدرس ولا بمساعد مدرس. إن الجامعيين وأمثالهم يجب أن تكون موضوعاتهم في أعلى السماء، أو أعمق الأرض، ويجب أن تصبغ بصبغة ميتافيزيقية، ويكون فيها الجوهر والعرض، والكمية والكيفية، والأنية والعلية. أما صندوق الكتاكيت فموضوع يثير الهزء والسخرية، ويستخرج من النفس عاطفة الازدراء والاحتقار. - ليس ذلك بصحيح ، فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الأشياء فكرة بديعة، أو رأيا طريفا. لقد قال تعالى:
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها
والكتكوت خير من البعوضة من جميع الوجوه؛ فالبعوضة منبع ألم، والكتكوت منبع لذة - والبعوضة إذا كبرت كانت أقوى على اللدغ وأقدر على الإيلام، والكتكوت إذا كبر كان دجاجة أو ديكا، يسيل لعاب الإنسان إذا تصوره على مائدة أنيقة، أو تخيله وقد أنضجه طاه ماهر.
وضرب الله الذباب مثلا، فقال تعالى:
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب . وأين الذباب من الكتكوت؟ وقد سميت في القرآن الكريم سور منه بالبقرة والنحل والنمل والعنكبوت!
Unknown page