ثم يأتي القدر فينثر نعمه ونقمه، وشره وخيره على الناس جميعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، ومرض في الأغنياء والفقراء. فتجد غنيا فاتر القوى منقوف الوجه، يبيت يتضور من الألم، ود لو خرج من كل ماله وجاهه لتعود إليه صحته؛ وبجانبه فقير مستحكم الخلقة، متين البنية، ممتلئ قوة وشدة وصلابة - وتجد جمالا في الأغنياء والفقراء؛ وقبحا في الأغنياء والفقراء؛ فهذه فقيرة مشرقة الجبين صافية الأديم، مفرطة الجمال، معتدلة القوام، لا تفتح العين على أجمل منها حسنا؛ وهذه سيدتها الغنية دميمة الخلقة، منكرة الطلعة، تنبو عن منظرها الأحداق، وتتفادى من مرآها الأبصار، تريد أن تتجمل بالصناعة والأصباغ والحلي والملابس فلا يزيدها ذلك كله إلا قبحا، على حين أن جارتها الفقيرة جميلة في طبيعتها، جميلة في بساطتها، جميلة حتى في ثيابها المهلهلة.
وللقدر في ذلك بدع - فأشهر طبيب في القلب يموت بالقلب، وأعظم جراح يموت بالتسمم، وتلد الفلاحة الفقيرة في الطريق وهي حاملة جرتها مملوءة ماء على رأسها، وتحمل طفلها وتذهب إلى بيتها سالمة غانمة؛ وسيدتها الغنية يحلل دمها وغير دمها قبل الوضع، ويعقم كل شيء في حجرة ولادتها، ويقف مشهورو الأطباء والطبيبات على بابها؛ حتى إذا آذنت ساعة الولادة بالقدوم استخدم كل ما وصل إليه الطب الحديث، والكيمياء الحديثة، والعلم الحديث، وأمعنت جمهرة الأطباء في التطهير والنظافة واتخاذ وسائل الراحة والحصانة، وغير ذلك مما لم أذكر منه إلا قليلا؛ ثم هي بعد تصيبها حمى النفاس، ويقف كل من الطب والعلم دهشا حائرا، ثم تسلم الروح إلى ربها، والقدر يهزأ بكل ذلك. •••
وهناك نوع من الأرستقراطية غريب، هو الأرستقراطية العلمية، فالمتعلمون ذوو الشهادات يعدون أنفسهم - وربما عدهم الناس أيضا - نوعا ممتازا من الناس، يختلفون عنهم نوعا من الاختلاف، ويرتفعون عليهم نوعا من الرفعة، كما ترتفع طبقة الأغنياء وكما ترتفع طبقة الأمراء؛ فالمتعلم ينظر إلى أخيه الشقيق الجاهل نظرة فيها شيء من التعاظم، وشيء من الازدراء، وشيء من الغرور، وإن ساواه في الدم، وإن ساواه في الغنى أو الفقر؛ وهو لغروره يظن أن شهادته تخوله الحق أن تكون آراؤه في كل شيء خير الآراء، وأن غير ذوي الشهادات لا يحق له أن يبدي رأيا بجانب رأيه حتى فيما ليس له اختصاص فيه.
وهو كذلك نوع من الأرستقراطية الكاذبة لا تعبأ به الطبيعة ولا تعيره أي التفات، فقد جعلت بين المتعلمين أذكياء وأغبياء، وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء؛ بل من غرور المتعلمين أن يسموا من لم يقرأ ولا يكتب جاهلا وأميا ونحو ذلك من الأسماء، ويسموا من يقرأ ويكتب متعلما، كأن وسيلة العلم والحكمة والعقل القراءة والكتابة وحدهما! ونحن لو نحينا غرور المتعلمين جانبا لهزئنا بالقراءة والكتابة في كثير من الأحيان، ولوجدناهما وسيلة من وسائل الرقي ولكن بجانبهما وسائل أخرى، ولوجدنا أنهما لا يستحقان هذا الغرور الذي ينشئ نوعا من الأرستقراطية؛ فالحكمة في تصريف الأمور لا تعتمد على التعليم الجامعي وسعة العلم كما تعتمد على الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية؛ ومن ثم قد ترى الجامعي الحائز لأرقى الشهادات العلمية، وهو أخرق في الحياة، سفيه التصرف، وأخاه - الذي يسمونه جاهلا أميا - حكيما في تصرفه مدبرا لشئونه وشئون إخوته الجامعيين، وترى الأمة قد تصاب على أيدي متعلميها في أحوالها السياسية والاجتماعية أكثر مما تصاب على أيدي جاهليها؛ والفلاح القروي الأمي قد يرزق من الحزم في تصريفه، وبعد النظر في آرائه، وصدق الشعور في وطنيته، ما لا يرزقه أخوه الأستاذ في الجامعة أو العالم الحائز لأرقى الدرجات العلمية، بل قد يصدر من الرأي العام الجاهل في شئون وطنه وفي المسائل الهامة التي تعرض عليه ما يفوق رأي متفلسفة المشرعين، وحيل القانونيين.
إن نظرنا إلى الذكاء، فالذكاء مشاع بين المتعلم والجاهل؛ وإن نظرنا إلى حكمة التصرف، والحزم في إدارة الأمور، وتدبير شئون الحياة - فذلك أيضا أمر مشاع بين الناس؛ ففيم غرور المتعلمين وإنشاؤهم أرستقراطية بجانب أرستقراطية الأموال والأعمال والطبقات؟ يطالبون أن يكال لهم المال جزافا، ويطالبون ألا يهينوا أنفسهم في عمل، ويطالبون أن يكون ميراثهم من آبائهم أكبر نصيب، ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه الأمة لهم، وحثالته لما يسمونه الجاهلين.
ما أسعد الأمة تخفف من غلوها في أرستقراطيتها - بجميع أنواعها - وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها.
ما فعلت الأيام
عرفته بالإسكندرية منذ عشرين عاما، شابا رقيق البدن، ضئيل الجسم، مسنون الوجه، شاحب اللون، أظهر مميزاته الرقة والتواضع والتدين، حيي الطبع، شديد الخجل؛ إن جلس في قوم اعتقل لسانه، وأطرق رأسه وأرخى عينيه، وإن صدرت منه هفوة أو شيء ظنه هفوة تمنى لو ساخت به الأرض، وظل يحاسب نفسه ويطيل تأنيبها؛ فآثر الانفراد وأخلد إلى الوحدة، واستأنس بالوحشة؛ فقلت معرفته بالناس، وقلت معرفة الناس به؛ لا يعرف من العالم إلا مدرسته التي يدرس فيها، وبيته الذي يأوي إليه، ومسجده الذي يتعبد فيه ؛ فأما الحياة وشئونها، وجدها وهزلها، وملاهيها وألاعيبها، فلا يدري منها شيئا؛ لا يجلس في مقهى لأنه يخل بمروءته، ولا يذهب إلى تمثيل أو سينما؛ لأنهما لا يخلوان من امرأة سافرة، ولا يشتري شيئا من بقال عنده لحم خنزير خوفا من أن تكون سكينه التي يقطع بها الجبن والحلوى قد مست الخنزير، فلا يطهرها مسح، إنما يطهرها غسل سبع مرات إحداهن بالتراب، ويغض طرفه إذا سار حذر أن تقع عينه على امرأة.
أعز شيء عليه في الوجود دينه، ومثله الأعلى رجل ظهارته دين، وبطانته دين. تفتير عينيه في خشوع دليل على أنه قضى شطر ليله في عبادة ومناجاة. أسبل عليه الدين نوعا لطيفا من الرضى بالقضاء والقدر، فلا يأسى على فائت، ولا يجزع على ميت، ولا يستخفه الفرح لخير، ولا يغلو في الحزن على شر؛ راض بما كان وما يكون، فكل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس؛ الرجل الطيب عنده من تدين، ورجل السوء عنده من لم يتدين، ويستحيل على رجل أن يكون طبيبا إذا شرب كأسا من خمر، أو لعب لعبة ميسر، أو ترك صلاة أو زكاة. يوفق دائما بين أعماله في الحياة وأوامر الدين - إذا أراد الرياضة ذهب إلى سيدي بشر لزيارته، أو لسيدي جابر لصلاة الجمعة فيه، أو أخذ جزءا من «الإحياء» وذهب إلى ربوة عالية يخلو فيها بنفسه ودينه وكتاب «الإحياء». وإن أراد أن يحفظ شيئا من الأدب حفظ في «نهج البلاغة»؛ لأنه يجمع بين البلاغة والدين، وإن عرضت فرصة في دراسته للغة العربية خرج من اللغة إلى الدين، وانقلب واعظا لتلاميذه، حتى استطاع أن يكون منهم فرقة دينية تلتزم الصلاة والصوم وشعائر الدين.
عرفته اتفاقا، ولست أدري الآن سبب المعرفة وكيف كانت، وكل ما أذكره أني عرفته، وفي لمحة تحولت المعرفة إلى صداقة فحب، فكان من خاصة إخواني وأقربهم مودة إلى قلبي، يأنس بي وآنس به، ويفضي إلي بدخيلة نفسه وكامن أسراره، عطفني عليه ظرف فيه، وأرأفني به رقة حواشيه، ملأ نفسي رحمة عليه قسوته على نفسه وأخذه لها في كل شيء بالأشد الأحزم، قد ملك الدين عليه نفسه، فروعه من كل نعيم خشية الحساب، وهول عليه كل لذة خوف العقاب، وغلبت عليه في كل تصرف فكرة الموت مخافة ما بعده، إن قال له قائل: «ولا تنس نصيبك من الدنيا» قال: «لتسألن يومئذ عن النعيم».
Unknown page