مسالة «الدور» جرت
بيني وبين من أحب
لولا مشيبي ما جفا
لولا جفاه لم أشب
وإلى الآن لم أدر من المصيب! هل الضحك يبعث السرور، أو السرور يبعث الضحك؟ ودخلت المسألة في دور من الفلسفة مظلم كالعادة، وانتقلت إلى بحث بيزنطي، فلنغلق هذا الباب، ولنعد إلى «الضحك».
يقول المناطقة في أحد تعريفاتهم للإنسان: «الإنسان حيوان ضاحك»، وهذا عندي أظرف من تعريفهم الآخر: «الإنسان حيوان ناطق»، فالإنسان في هذا الزمان أحوج إلى الضحك منه إلى التفكير، أو على الأصح نحن أحوج ما نكون إلى التفكير والضحك معا.
ولكن لم خصت الطبيعة الإنسان بالضحك؟
السبب بسيط جدا. فالطبيعة لم تحمل حيوانا آخر من الهموم ما حملته الإنسان، فهم الحمار والكلب والقرد وسائر أنواع الحيوان أكلة يأكلها في سذاجة وبساطة، وشربة يشربها في سذاجة وبساطة أيضا؛ فإذا نال الحمار قبضة من تبن وحفنة من فول وغرفة من ماء، فعلى الدنيا العفاء؛ ولكن تعال معي فانظر إلى الإنسان المعقد المركب! يحسب حساب غده كما يحسب حساب يومه، وكما يحسب أمسه؛ ويخلق من هموم الحياة ما لا طاقة له به، فيحب ويهيم بالحب حتى الجنون، ويشتهي ويعقد شهواته حتى لا يكون لعقدها حل، فإذا حلت من ناحية عقدها من ناحية؛ ثم إذا سذجت اللذة وتبسطت لم تعجبه، بل أخرجها من باب اللذة، وعقد أملا على لذة معقدة؛ وإذا تفلسف - والعياذ بالله من فلسفته - خرج بها عن المعقول، وحاول أن ينال ما فوق عقله، ولم تعجبه الأرض والسماوات مجالا لبحثه؛ إنما يريد الحقيقة والماهية والكنه، وويل له من كل ذلك! أستغفر الله؛ فقد نسيت أن أذكر هموم الموظف بالعلاوات والترقيات، وما كان منها استثنائيا، وما كان غير استثنائي، وما يترتب على ذلك من معاشات وحساب تمغة، وما إلى ذلك من أمور لا تنتهي، وهذا أيضا من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك.
أقول: إن الطبيعة عودتنا أن تجعل لكل باب مفتاحا، ولكل كرب خلاصا، ولكل عقدة حلا، ولكل شدة فرجا؛ فلما رأت الإنسان يكثر من الهموم ويخلق لنفسه المشكلات والمتاعب التي لا حد لها، أوجدت لكل ذلك علاجا، فكان الضحك.
والطبيعة ليست مسرفة في المنح، فلما لم تجد للحيوانات كلها هموما لم تضحكها، ولما وجدت الإنسان وحده هو المهموم المغموم، جعلته وحده هو الحيوان الضاحك. •••
Unknown page