بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: الفوز الكبير في أصول التفسير
المؤلف: الإمام أحمد بن عبد الرحيم (المعروف بـ «ولي الله الدهلوي» (المتوفى: ١١٧٦هـ)
عَرَّبَه من الفارسية: سلمان الحسيني النَّدوي
الناشر: دار الصحوة - القاهرة
الطبعة: الثانية - ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٦ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
1 / 26
مقدمة الكتاب
إن آلاء الله - تعالى - ونعمة على عبده الضعيف كثيرة لا تحصى، وأجل هذه النعم توفيقه إياي لفهم كتابه الحكيم، وإن ممن سيدنا رسول الله ﷺ على أصغر أفراد أمته، منزلة، عظيمة وفيرة، وأعظمها تبليغه ﷺ لكتاب ربه ﷿.
لقد تلقى الجيل الأول منه ﷺ القرآن الكريم، وتلقى الجيل الثاني من الجيل الأول وهكذا دواليك حتى وصل إلى العبد الضعيف فنال حظه من تلاوته وفهمه وتدبره. اللهم صل على هذا النبي الكريم، سيدنا ومولانا شفيعنا أفضل صواتك وأيمن بركاتك وعلى آله وأصحابه، وعلماء أمته أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد!
يقول الفقير إلى الله، ولي الله بن عبد الرحيم - عاملهما الله - تعالى - بلطفه العظيم -: إنه لما فتح الله - تعالى - على بابا من كتابه الحكيم، خطر لي أن أقيد الفوائد النافعة التي تنفع إخواني في تدبر كلام الله ﷿ وأرجو أن مجرد فهم هذه القواعد يفتح للطلاب طريقًا واسعًا إلى فهم
1 / 27
معاني كتاب الله - تعالى -، وأنهم لو قضوا أعمارهم في مطالعة كتب التفسير، أو قراءتها على المفسرين، لا يظفرون بهذه القواعد والأصول بهذا الضبط والتناسق.
وسميتها "بالفوز الكبير في أصول التفسير" وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقد جمعت مقاصد هذه الرسالة في خمسة أبواب، وهي كما يلي:
١ - الباب الأول: في العلوم الخمسة التي يدل عليها القرآن الكريم نصًا، حتى وكأن القرآن نزل بالأصالة لهذه العلوم الخمسة.
٢ - الباب الثاني: في وجوه خفاء نظم القرآن بالنسبة إلى أفهام أهل هذا العصر، وتجليتها بأوضح بيان.
٣ - الباب الثالث: في بيان لطائف نظم القرآن، والأسلوب القرآني البديع.
٤ - الباب الرابع: في مناهج التفسير، وبيان أسباب الاختلاف ووجوهه في تفسير الصحابة والتابعين.
٥ - الباب الخامس: في بيان غريب القرآن، وأسباب النزول التي لابد من حفظها للمفسر، ويحظر بدونها الخوض في التفسير.
1 / 28
الباب الأول
العلوم الخمسة الأساسية التي يشتمل عليها القرآن
ليعلم أن المعاني التي يشتمل عليها القرآن لا تخرج عن خمسة علوم:
١ - علم الأحكام: كالواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، سواء كانت من قسم العبادات أو المعاملات، أو الاجتماع أو السياسة المدنية.
ويرجع تفصيل هذا العلم وشرحه إلى الفقيه.
٢ - علم الجدل: وهي المحاجة مع الفرق الأربع الباطلة، اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.
ويرجع في شرح هذا العلم وتعريفه إلى المتكلم.
٣ - علم التذكير بآلاء الله: كبيان خلق السموات والأرض وإلهام العباد ما يحتاجون إليه، وبيان الصفات الإلهية.
٤ - علم التذكير بأيام الله: وهو بيان تلك الوقائع والحوادث التي أحدثها الله - تعالى - إنعامًا على المطيعين ونكالا للمجرمين (كقصص الأنبياء - عليهم الصلوات
1 / 29
والتسليمات - ومواقف شعوبهم وأقوامهم معهم) .
٥ - علم التذكير بالموت وما بعد الموت: كالحشر والنشر والحساب والميزان، والجنة والنار.
ويرجع تفصيل هذه العلوم وبيانها وذكر الأحاديث والآثار المتعلقة بها إلى الواعظ والمذكر.
اسلوب القرآن الكريم في عرض العلوم القرآنية:
وقد جاءت هذه العلوم في القرآن الكريم على طريقة العرب الأولين، لا على منهج العلماء المتأخرين، فلم يلتزم في آيات الأحكام، منه، طريق الإيجاز والاختصار كمؤلفي المتون الفقهية، ولا طريق تنقيح الحدود والقيود، كما يفعله الأصوليون.
وقد التزم في آيات الجدل والمخاصمة إيراد الأدلة المشهورة المسلمة، والبراهين الخطابية، لا تنقيح البراهين، وتقسيمها على طريقة المنطقيين.
ولم يراع في الانتقال من مقصد إلى آخر، ومن موضوع إلى موضوع آخر، تلك المناسبة، التي يراعيها الأدباء المتأخرون، بل ألقى على عباده ما رآه مهمًا، سواء كان مقدمًا أو مؤخرًا.
1 / 30
حقيقة أسباب النزول:
وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي سبب النزول، والحق أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة.
فالسبب الحقيقي - إذن - في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطبين. وسبب نزول آيات الأحكام إنما هو شيوع المظالم ووجود الأعمال الفاسدة فيهم. وسبب نزول آيات التذكير (بآلاء الله وأيامه وبالموت) إنما هو عدم تيقظهم وتنبههم بما يرون ويمرون عليه من آلاء الله وأيامه، وحوادث الموت، وما سيكون بعده من وقائع هائلة.
أما الأسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تجشم بيانها المفسرون فليس لها دخل في ذلك إلا في بعض الآيات الكريمة، التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي ﷺ أو قبله، بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض في ترقب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب، ولا يزال ترقبه إلا بسيط القصة وبيان سبب النزول.
لأجل ذلك يلزمنا أن نشرح هذه العلوم بطريقة لا نحتاج معها إلى إيراد قصص جزئية.
1 / 31
الفصل الأول
في علم الجدل
لقد وقع الجدل في القرآن الكريم مع الفرق الأربعة الباطلة: المشركين، واليهود والنصارى والمنافقين.
طريقان للجدل في القرآن الكريم:
وكان هذا الجدل والاحتجاج على طريقين:
١ - الأول أن تذكر العقيدة الباطلة وينص على شناعتها وفسادها واستنكارها، فحسب.
٢ - الثاني أن تحدد الشبهات التي وقع فيها هؤلاء الفرق، ثم تعرض حلولها وأجوبتها بالأدلة البرهانية أو الخطابية.
مفهوم الحنيف:
وقد كان المشركون يسمون أنفسهم "حنفاء" ويدعون التدين بملة سيدنا إبراهيم ﵇.
والحنيف هو من ينتمي إلى إبراهيم ﵇ ويتدين بملته، ويلتزم شعائره.
1 / 33
شعائر الملة الإبراهيمية:
وإن شعائر الملة الإبراهيمية هي: حج بيت الله الحرام، واستقباله في الصلوات، والغسل من الجنابة والاختتان، وسائر خصال الفطرة، وتحريم الأشهر الحرم، وتعظيم المسجد الحرام، وتحريم المحرمات النسبية والرضاعية، والذبح في الحلق، والنحر في اللبة، والتقرب بالذبح والنحر إلى الله - تعالى - لاسيما في أيام الحج.
بعض شرائع الملة الإبراهيمية:
وقد كان الوضوء، والصلاة، والصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والصدقة على اليتامى والمساكين، والإعانة على نوائب الحق، وصلة الأرحام، أمورًا مشروعة في أصل ملة إبراهيم ﵇ وكانوا يتمادحون بهذه الأعمال ويرونها فضيلة ومفخرة، إلا أن جمهور المشركين تركوها وانصرفوا عنها، وأصبحت عندهم هذه الأمور والشعائر كأن لم تكن شيئًا.
وكان تحريم القتل والسرقة والزنا والربا والغصب ثابتًا معلومًا في أصل الملة الحنيفية، ويجري استنكارها عندهم في الجملة، ولكن جمهور المشركين كانوا يرتكبونها، وينساقون وراءها بحكم النفس الأمارة بالسوء.
1 / 34
العقائد الثابتة لدى المشركين وانحرافهم عنها:
وكانت عقيدة إثبات وجود الله - تعالى - وأنه خالق الأرض والسموات العلى، وأنه مدبر الحوادث العظام، وأنه قادر على إرسال الرسل، ومجاز للعباد على أعمالهم، وأنه قادر مقدر للحوادث العظيمة، قبل وقوعها، وأن الملائكة عباد الله المقربون، وأنهم يستحقون الإكرام، كل ذلك كان ثابتًا عندهم، ويدل على ذلك شعرهم، ولكن جمهور المشركين، وقعوا في شبهات كثيرة تجاه هذه المعتقدات، لاستبعاد بعض الأمور، وعدم ألفتهم لإدراكها والإحاطة بمفاهيمها.
وقد كان ضلال هؤلاء وانحرافهم في الشرك والتشبيه والتحريف، وجحود الآخرة، واستبعاد رسالة سيد المرسلين ﷺ وشيوع الأعمال القبيحة والمظالم فيما بينهم، وابتداع الطقوس والتقاليد الباطلة، واندراس العبادات والشعائر الحقة الصحيحة.
حقيقة الشرك ومظاهره وأنواعه:
والشرك هو: إثبات الصفات الخاصة بالله - تعالى - لغيره، مثل إثبات التصرف المطلق في الكون بالإدارة المطلقة التي يعبر عنها "بكن فيكون" أو إثبات العلم الذاتي الذي
1 / 35
لا يحصل بالاكتساب عن طريق الحواس والدليل العقلي، والمنام والإلهام وأمثال هذه الوسائل المادية أو الروحية، أو إثبات إيجاد شفاء المريض، أو إثبات اللعنة على شخص أو السخط عليه بحيث ينقلب نتيجة هذا اللعن والسخط معدما، أو مريضًا أو شقيًا، أو الرحمة لشخص والرضا عنه بحيث ينقلب هو بسبب هذه الرحمة والرضا غنيًا صحيحًا، معافى، سعيدًا.
وهؤلاء المشركون لا يعرفون مع الله - تعالى - شريكًا، في خلق الجواهر (أي أصول المادة) وتدبير الأمور العظام، ويعترفون بأنه لا قدرة لأحد إذا أبرم الله - تعالى - شيئًا وقضى به أن يمانعه ويقف دونه، إنما إشراكهم في أمور خاصة ببعض العباد، إذ أنهم يظنون أن سلطانًا عظيمًا من السلاطين العظام، كما يرسل عبيده وأصحابه الزلفى لديه إلى بعض نواحي مملكته للقيام ببعض الأمور الجزئية، ويجعلهم متصرفين فيها - إلى أن يصدر عنه قرار آخر - باختيارهم وسلطتهم، وأنه لا يقوم بشئون الرعية وأمورهم الجزئية بنفسه، بل يكل ذلك إلى الولاة والحكام، ويقبل منهم شفاعتهم وتزكيتهم للموظفين الذين يعملون تحت إشرافهم، والمتصلين بهم، والمتزلفين لديهم، كذلك قد خلع ملك الملوك على الإطلاق - تعالى شأنه - على بعض عباده المقربين خلعة الألوهية، وجعل سخطهم ورضاهم مؤثرًا في عباده الأخرين.
1 / 36
فكانوا - لأجل ذلك - يرون من الضرورة التزلف إلى أولئك العباد المقربين حتى يكون هذا وسيلة لصلاحية القبول في حضرة الملك الحقيقي، وتنال شفاعتهم - في حقهم - عند الجزاء على الأعمال الحساب - الخطوة والقبول لديه - سبحانه -.
ونظرًا لهذه الملاحظة والتصور الذي رسخ في نفوسهم حدثتهم أنفسهم بالسجود أمامهم والذبح لهم والحلف بأسمائهم والاستعانة بقدرتهم المطلقة، ونحت صورهم وتماثيلهم من الحجر والصفر والنحاس وغير ذلك. وجعلها قبلة للتوجه إلى أرواحهم، وتدرج الجهلة من هذا الطريق إلى أن بدأوا يعبدون هذه الصور والتماثيل ويعتقدون أنها آلهة بذاتها، ووقع في المعتقدات خلط والتباس وفساد عظيم.
معنى التشبيه وصوره:
والتشبيه عبارة عن إثبات الصفات البشرية (أو أي صفة من صفات المخلوقين) لله - تعالى - فكانوا يقولون مثلا: إن الملائكة بنات الله، وأن يقبل شفاعة عباده ولو لم يرض بها كما يفعل الملوك - أحيانا - مع الامراء الكبار وحكام الولايات، وإنهم - لما لم يستطيعوا إدراك السمع والبصر حسبما يليق بشأن الألوهية - قاسوهما على أسماعهم
1 / 37
وأبصارهم، ووقعوا في التجسيم ونسبة التحيز إلى الله - سبحانه -.
منشأ التحريف ومظاهره:
أما التحريف فإن قصته هي أن أولاد سيدنا إسماعيل ﵇ كانوا على شريعة جدهم - إبراهيم ﵇ حتى وجد فيهم "عمرو بن لحى" - لعنه الله - ووضع لهم الأصنام وشرع لهم عبادتها، واختراع طقوس البحيرة والسائبة والحام، والاستقسام بالأزلام وأمثال هذه من الطقوس والبدع، وقد كان ذلك قبل بعثة النبي ﷺ بقرابة ثلاثمائة سنة.
وكان هؤلاء الجهلة يستدلون بآثار آبائهم، ويرونها عندهم حجة قاطعة.
وأما أحوال البعث والحشر والنشر فإن الأنبياء السابقين وإن تعرضوا لبيانها فإنهم لم يبينوها أو لم تتضمن صحفهم بيانها بذلك التفصيل والإسهاب الذي نجده في القرآن الكريم، ولذلك كان المشركون قليلي الإطلاع على تفاصيلهما، ويستبعدون وقوعهما.
وكانوا بالرغم من اعترافهم بنبوة جدهم سيدنا إبراهيم ﵇ ونبوة سيدنا إسماعيل ﵇
1 / 38
حتى بنبوة سيدنا موسى ﵇ أيضا، تحول الصفات البشرية (التي يتسم بها الأنبياء) بينهم وبين رؤية جمالهم الحقيقي، وتحجبهم - لجهلهم وقلة إدراكهم - عن الإطلاع على مكانتهم الحقيقية، وكانوا لعدم تفطنهم وإدراكهم لحقيقة التدبير الإلهي والحكمة الإلهية التي تقتضي بعثة الأنبياء والمرسلين، يستبعدون رسالة الرسل لاعتقادهم أن الرسول ينبغي أن يكون مثل المرسل (وأن يكون بينهما اشتراك في الصفات) ويوردون لأجل ذلك شبهات واهية ركيكة، فيقولون مثلا:
* كيف يكون النبي محتاجًا إلى الطعام والشراب؟
* ولماذا لم يرسل الله ملكًا رسولا؟
* وما هو الغرض في أنه لا يوحى إلى كل شخص على حدته، وهلم جرًا؟
وإذا كنت - أيها القاري - تتوقف في التسليم بصحة ما يقال عن عقائد المشركين وأعمالهم، فانظر إلى المخرفين في هذا العصر، لاسيما من يقطنون منهم بأطراف دار الإسلام، ما هي تصوراتهم عن "الولاية"، فرغم أنهم يعترفون بولاية الأولياء المتقدمين، يرون وجود الأولياء في عصرنا هذا من المستحيلات، ويؤمون القبور والعتبات، وقد ابتلوا بأنواع
1 / 39
من الشرك والبدع والخرافات، وتمكن منهم التحريف والتشبيه، وتغلغل في نفوسهم حتى لم تبق بحكم ما جاء في الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم، إلخ" بلية من البلايا ولا فتنة من الفتن إلا وطائفة من طوائف المسلمين - اسمًا - تخوض فيها وتعلق بها، عافانا الله سبحانه عن ذلك.
وبالجملة فإن رحمة الله تعالى - اقتضت بعثة سيد الأنبياء محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - في الجزيرة العربية، وأمره بإقامة الملة الحنيفية، ومجادلة هؤلاء الفرق الباطلة عن طريق القرآن العظيم، وقد كان الاستدلال في مجادلتهم بالمسلمات التي هي بقايا الملة الإبراهيمية، ليتحقق إلزام ويقع الإفحام.
الجدل القرآني مع المشتركين:
لقد رد الله - تعالى - على المشركين ومعتقداتهم الباطلة بشتى الطرق، وبيانها كما يلي.
١ - أولا: مطالبتهم بالدليل على ما يزعمون، ونقض تمسكهم بتقليد آبائهم.
٢ - ثانيًا: إثبات أن لا تساوي بين الرب والعباد وأن الرب - تعالى - مختص باستحقاق أقصى غاية التعظيم بخلاف جميع عباده وجمع مخلوقاته.
1 / 40
٣ - ثالثًاَ: بيان إجماع الأنبياء والمرسلين على هذه الحقيقة الكبرى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ .
٤ - رابعًا: بيان شناعة عبادة الأصنام، وأن الاحجار ساقطة عن مرتبة الكمال الإنساني فكيف تظل بمرتبة الألوهية، يسجد لها ويتوجه إليها!
ومثل هذا الرد والتفنيد لأولئك المشركين الذين كانوا يعتقدون هذه الأصنام آلهة معبودة لذاتها.
الرد على التشبيه:
وكان الرد على التشبيه بعدة طرق:
١ - أولًا: بمطالبتهم بالدليل على دعواهم، ونقض تمسكهم بتقليد آبائهم.
٢ - ثانيًا: ببيان ضرورة التجانس بين الوالد والولد، (للرد على عقيدة الابنية) وظاهرة انه مفقود، باد ذلك للعيان.
٣ - ثالثًا: بيان شناعة نسبة ما هو مكروه ومذموم لديهم - كما تدل على ذلك مواقفهم - إلى الله - تعالى - قال تعالى ﴿أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾
1 / 41
وقد سبق هنا الرد لقوم اعتادوا المقدمات المشهورة والمتوهمات الشعرية وكان أكثرهم من هذا القبيل.
الرد على التحريف:
وكان الرد على التحريف بإثبات أمرين:
١ - أنه لم يؤثر عن أئمة الملة الحنيفية (إبراهيم وإسماعيل وغيرهما من الأنبياء الماضين) ما يقولون من تحريفات.
٢ - أنه من اختراعات من ليسوا بمعصومين وابتداعاتهم.
الرد على استبعاد القيامة:
وكان الرد على استبعاد البعث والحشر والنشر بوجوه عديدة.
١ - بالقياس على إحياء الأرض بعد موتها، وأمثال ذلك.
٢ - بتنقيح المناط وهو عبارة - هنا - عن بيان شمول القدرة الإلهية، وإمكان الإعادة بعد البدء بل يسرها وسهولتها.
٣ - ببيان موافقة أهل الكتب السماوية كلهم في الإخبار بالقيامة، واعتقادها.
1 / 42
الرد على منكري الرسالة:
وكان الرد على المنكرين للرسالة والمستبعدين لها بالوجوه التالية:
١ - وقوع الرسالة وتحققها للأنبياء الماضين.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ .
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ .
٢ - الرد على استبعاد الرسالة واستغرابها بأنها - هنا - عبارة عن الوحي الإلهي (الذي يتلقاه رجل من البشر باصطفاء الله إياه) .
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ .
وتفسير الوحي بما لا يكون من المستحيلات.
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ .
1 / 43
٣ - بيان أن عدم ظهور المعجزات التي يقترحونها على الرسول، وعدم موافقة الله - تعالى إياهم في تعيين شخص يتوخون رسالته، وعدم إرساله - تعالى شأنه - الملائكة رسلا بين الناس، وعدم إيحائه إلى كل شخص من الأشخاص، كل ذلك ينبني على المصالح الكلية التي يقصر علمهم عن إدراكها وتعجز عقولهم عن الإحاطة بمراميها.
ولما أن أكثر الناس الذين بعث إليهم الرسول ﷺ كانوا مشركين، لذلك فإن هذه المعاني قد تكررت في القرآن الكريم بأساليب متعددة وفي سور كثيرة، وبتأكيدات بالغة، ولم يتحاش القرآن العظيم تردادها وتكرارها، فإنه حقيق أن يكون خطاب الحكيم المطلق لهؤلاء الجهلة، والضعيفي العقول كذلك بتأكيد بليغ وتكرار مزي.
- الجدل القرآني مع اليهود -
أنواع ضلال اليهود:
لقد كان اليهود يؤمنون بالتوراة، وكان ضلالهم التحريف في أحكام التوراة، سواء كان تحريفا لفظيًا أو تحريفًا معنويًا، وكتمان آيات التوراة، وإلحاق ما ليس منها بها، والتقصير في تنفيذ أحكامها، والعصبية الشديدة لديانتهم، واستنكار رسالة سيدنا محمد ﷺ وسوء الأدب مع رسول الله -
1 / 44
ﷺ ﵎، والبخل والحرص، وأمثالها من الرذائل الخلقية.
التحريف اللفظي:
وقد تحقق لدى الفقير أن تحريفهم اللفظي إنما كان في ترجمة التوراة وما يجري مجراها، لا في أصل التوراة وهذا هو قول ابن عباس ﵄.
التحريف المعنوي وبعض أمثلته:
أما التحريف المعنوي فإنه عبارة عن التأويلات الفاسدة وحمل الآيات على غير معانيها المرادة بتعسف وانحراف عن قصد السبيل. ونذكر فيما يلي عددًا من وجوه التحريف المعنوية:
المثال الأول:
١ - منها: أن الفرق بين المتدين الفاسق والكافر الجاحد معتبر في كل ملة من الملل، وتوعد الكافر بالخلود في النار والعذاب الأليم وأثبت للفاسق خروجه من النار بشفاعة الأنبياء والمرسلين وجاء التصريح في كل ديانة بذلك باسم التدين بتلك الديانة، فأثبت ذلك في التوراة لليهود
1 / 45
والعبريين، وفي الإنجيل للنصرانيين، وفي القرآن العظيم للمسلمين.
والحقيقة أن مناط الحكم هو الإيمان بالله - تعالى - وباليوم الآخر، والإيمان بالنبي الذي بعث لهم، والنقياد له والعمل بشريعته، والاجتناب عن نواهيه، لا خصوص الديانة وخصوص الطائفة المسماة باليهود والنصرانيين وغيرهم، ولكن اليهود بدأوا يظنون أن كل من كان يهوديًا أو عبريا، فهو من أهل الجنة، ولابد أن تناله شفاعة الأنبياء وتخلصه من العذاب، وأنه لا يمكث في النار إلا أيامًا معدودات، ولو لم يكن مناط الحكم - الذي قد سبق بيانه - متحققًا ولم يكن إيمانه بالله - تعالى - على الوجه الصحيح ولا يملك شيئًا من الإدراك الصحيح لمعنى الرسالة والآخرة، وهذا هو الخطأ الصريح والجهل الصرف.
ولما أن القرآن العظيم مهيمن على الكتب السابقة ومبين لما فيها من إبهام وغموض، فقد كشف شبهاتهم هذه ورد عليها ردودًا واضحة مقنعة.
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
1 / 46