تقريظ الشيخ العلامة الجليل
صالح بن إبراهيم البليهي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. ﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فمن المعروف بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ يعتبر من المجددين لدين الإسلام. وكذلك أولاده وأحفاده وتلامذة الجميع قاموا بما قام به ودعوا إلى ما دعا إليه من توحيد الله وإفراده بالعبودية بجميع أنواعها. ومن تلامذته عالم فاضل متبحر في فنون العلم هذا العالم هو "حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر" ﵀ هذا العالم الذي هو من فطاحلة العلماء له أجوبة سديدة وحكيمة في الرسائل المشهورة التي رتبها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ﵀. وله رسالة جيدة ونافعة ومفيدة ينبغي لطالب العلم أن يقرأها ويتأملها جيدًا لما فيها من العلم النافع. هذه الرسالة أسماها "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وسبب كتابة الرسالة هو أن غالبًا الشريف أمير مكة أرسل إلى الإمام عبد العزيز بن سعود يطلب منه أن يرسل إليه من العلماء لديه من يناظر علماء الحرم. وذلك في سنة ١٢١١ هـ وحيث إن هذه مهمة عظيمة ولها نتائجها ولها
1 / 3
ما بعدها أرسل إليه الإمام عالمًا متضلعًا ومتبحرًا في فنون العلم:
وخاصة علم العقائد والتوحيد هو "حمد بن ناصر آل معمر".
فلما وصل حمد بن ناصر مع رفقائه إلى مكة وقضوا عمرتهم. جمع الشريف علماء مكة ثم جرت المناظرة في جلسات عديدة. وحضر هذه المناظرة من أهالي الحجاز الخلق الكثير. والجم الغفير: وبعد مساجلات وأخذ ورد ومناظرات حارةٍ طار شررها: وثار دخانها بعد ذلك كانت أعلام النصر ترفرف في جانب الشيخ حمد بن معمر: حيث ظهر على المناظرين: بالدليل والبرهان: والحجة والبيان: وهكذا كان وهكذا يكون كل من كان في جانب الحق سوف يعلوا وسوف يكون مرفوع الرأس وسوف ينتصر: وسوف يكون غلابًا لخصمه. تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
ومما جرى في جلسات المناظرة أن علماء مكة من الحنفية والمالكية والشافعية سألوا حمد بن ناصر عن مسائل عديدة فأجابهم عن ثلاث مسائل.
أجابهم بما يشفي العليل ويروي الغليل. ويزيل الشبهات. ويحرق المغالطات: وقال إذا أجبتم على هذه المسائل الثلاث أجبناكم عن بقية المسائل: كما قيل ويقال ليس الخبر كالعيان بعد ذلك أفسح المجال للقارئ الكريم ليقرأ المسائل الثلاث ويقرأ جوابها: حيث كانت بين يديه والله الموفق والهادي إلى طريق الرشاد.
وبعدما تقدم أقول للقراء الأفاضل لنا جميعًا أخ في الله. هو الأستاذ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم. وفيما أعتقد أنه وفقه الله فكر في موضوع ما فكر فيه غيره وقد تحققت فكرته المباركة بالعمل وها هو سدد الله خطاه في بداية الطريق
1 / 4
هذه الفكرة هي إيجاد وإظهار الكتب والرسائل التي كتبها علماء الدعوة السلفية: وهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلامذته وتلامذة التلاميذ فقام الأستاذ عبد السلام بنشر هذه الرسائل وتحقيقها وتخريج أحاديثها. وترقيم الآيات القرآنية الموجودة فيها وما ذاك إلا لأن الكتب والرسائل التي كتبها هؤلاء العلماء الأفاضل أكثر العلماء وطلبة العلم الذين درسوا في المعاهد والكليات والجامعات والمتوسطات والثانويات، لا يعرفون عن هذه الكتب القيمة شيئًا. وهي من تراثنا النفيس الغالي فجزى الله الأخ الفاضل الأستاذ عبد السلام بن برجس خير جزاء وأثابنا الله وإياه ثواب المحسنين والمصلحين ورزقنا الله وإياه الإخلاص في النية والقول والعمل.
وأول رسالة حققها الأخ عبد السلام وخرّج أحاديثها وأبرزها للوجود هي دحض شبهات على التوحيد للشيخ العلامّة مفتي الديار النجدية في زمنه عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.
والرسالة الثانية التي حققها الأخ عبد السلام هي سؤال وجواب في أهم المهمات للشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
والرسالة الثالثة هي تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام للعالم العلامة سليمان بن سحمان.
والرسالة الرابعة التي هي الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب للشيخ العلامة ابن معمر وهي التي بين يدي القارئ.
فجزى الله الأخ عبد السلام عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأعظم الله لنا وله الأجر والثواب.
1 / 5
وهكذا ينبغي لطلاب العلم أن ينزلوا إلى ميادين العلم ليستفيدوا ويفيدوا أمة الإسلام بما ينفعها في عقائدها وأحكام دينها.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال ذلك وأملاه الفقير إلى الله صالح بن إبراهيم البليهي. الجمعة ٢٠/ ٧/ ١٤٠٧ هـ.
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
"مقدمة المحقق"
الحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب والموازين، لتقوم الحجة على جميع العالمين، وليتميز حزب الله من حزب الشياطين.
أحمده سبحانه على ما أولانا من النعم الظاهرة والباطنة، ودفع عنا من الشرور والنقم المتغايرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمد الذي محا الله به عبادة الأوثان والأشجار والأصنام، وأزال به معالم الكفر والفجور والأنصاب والأزلام، وأبطل به ما عليه أهل الجاهلية من ظلم وإجرام، فأشاد الله به الحنيفية ملة إبراهيم ﵊، بعد أن أضحت مطموسة الأعلام، ووعده بحفظها ونشرها على مدى السنين والأيام، فأيّده بالقرآن الذي فيه الهدى والبيان والشفاء للأسقام، وآتاه معه جوامع النطق والكلام، فأزكى الله وأتمّ سلامة عليه وعلى أصحابه الأجلاّء الكرام، الذين حقّقوا التوحيد وقاموا به حق القيام، وناضلوا عنه بكل ما أتوا من قوة وحسن خصام، وحاربوا من حد وانحرف عنه وصرف العبادة لغير الملك العلاّم حتى استقام عليه الحاضر والباد كما ينبغي ويرام فلا ترى في وقتهم من يهرع إلى أصحاب القبور في المُدْلهمّات الجسام، ولا من يفزغ إلى الدعاء والتوسل بالأنبياء والصالحين في النكبات العظام، ولا
1 / 7
من يُشِيد القبور بالقباب والحرير والرّخام، فرضي الله عنهم كما حفظوا لنا دين الإسلام، ورضي الله عمّن اتبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم القيام.
أما بعد، فهذه هي الرسالة الثانية من سلسلة رسائل وكتب علماء نجد الأعلام، وهي من كتابات الشيخ العالم العلاّمة حمد بن ناصر آل معمر -رحمه الله تعالى- اسمها "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب".
وهذه الرسالة فريدة في بابها، بديعة في أسلوبها وخطابها، مهذّبة ومنقّحة لطلاّبها، اشتملت مع صغر حجمها على تقرير التوحيد، ونقض جذور الشرك والتنديد، وذلك بالأدلّة الواضحة من الكتاب والمجيد، ومن صحيح سنة أفضل الخلق والعبيد ﷺ فهي رسالة جديرة بالاهتمام، رفيعة القدر والمقام، ينبغي أن يستعين بها الطلاّب، وأن لا يرغب عنها العلماء أولو الألباب.
1 / 8
النسخ المعتمد عليه في التحقيق
توفر لدي عند الشروع في تحقيق هذا الكتاب عدة نسخ:
الأولى: نسخة خطية محفوظة في مكتبة الرياض السعودية تحت رقم "٨٦/ ٦١٣" تقع في أربع وعشرين لوحة. وهي نسخة حسنة الخط، لم يذكر فيها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ. لكن ذكر الناسخ ما يدل على أنها كتبت في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ﵀ وذلك في قوله:
" … طلب غالب والي مكة المشرفة من عبد العزيز بن محمد بن سعود والي نجد، متعنا الله بحياته … " فعلى هذا تكون هذه النسخة قد كتبت في حياة المؤلف ﵀ لأن الإمام عبد العزيز توفي سنة "١٢١٨ هـ" وتوفي المؤلف بعده بسبع سنين فهذه النسخة كتبت قطعًا قبل سنة "١٢١٨ هـ" والرمز إلى هذه النسخة بحرف "أ".
الثانية: نسخة خطية أيضًا محفوظة في مكتبة الرياض السعودية تحت رقم "٨٦/ ٦٠٧" تقع في خمس وعشرين لوحة. وهي نسخة حسنة الخط، كثيرة الأخطاء الإملائية، كتبت بخط المسمّى "عبد الله بن أحمد" ولم يذكر ناسخها تاريخ النسخ.
وهذه النسخة كتبت بعد وفاة الإمام بعد العزيز بن محمد أي بعد سنة "١٢١٨" كما يشعر بذلك قول الناسخ: " … والي نجد ﵀ وتغمده برحمته … " والإشارة إلى هذه النسخة بحرف "ب".
1 / 9
الثالثة: النسخة المطبوعة في مطبعة المنار بمصر سنة "١٣٤٤ هـ" ضمن كتاب الشيخ العلامة سليمان بن سحمان "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية". وهناك نسخة رابعة طبعت في الرياض قديمًا بمطبعة "النور" وهي صورة من النسخة الثالثة تمامًا.
تنبيه وقع في جميع النسخ غلط في اسم المؤلف حيث كتب "أحمد" والصواب "حمد" ووقع في "ب" و"المطبوعة" "المعمري" والصواب "المعمّر" بدون ياء النسب ..
تنبيه ثان: نظرًا لكثرة الأغلاط الإملائية في نسخة "ب" والزيادات التي تكون غالبًا من النساخ كـ"سبحانه" عند لفظ الجلالة و"﵁" عند ذكر الصحابة وما شابه ذلك مما لا أثر له لم أذكر تغاير النسخ فيه.
1 / 10
ترجمة المؤلف" (*)
هو الإمام العالم العلاّمة، الحبر البحر الفهامة، المحقق المجتهد، الحافظ المتفنن، قامع المشبهين، ورافع راية الموحدين، الشيخ الجليل، المدقق النبيل، حمد بن ناصر بن عثمان بن حمد بن عبد الله بن محمد (**) بن حمد بن حسن بن طوق بن سيف آل معمّر (^١) العنقري السَّعدي" (^٢) التميمي النجدي الحنبلي.
وحسن بن طوق هذا هو الذي نزح من "ثرمداء" إلى "ملهم" ثم أتى إلى "العيينة" وكان فيها آل يزيد من بني حنيفة فاشتراها منهم عام " (٨٥٠) هـ" واستوطنها هو وأولاده. وما زالت تنمو شيئًا فشيئًا حتى بلغت الذروة -بين بلدان نجد- في التقدم العمراني وكثرة السكان
_________
(*) مصادر الترجمة:
١ - روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين للقاضي.
٢ - الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ ١٢ للشيخ ابن قاسم.
٣ - علماء نجد خلال ستة قرون للبسام.
٤ - عنوان المجد لابن بشر.
(**) وقع في شجرتنا "راجح" بدل "محمد". وقد كتب لي بعض كبار آل معمّر هذا النسب وأثبت اسم "محمد" بدل "راجح" وهذا هو الذي أثبته المؤرخ حسين بن حسن في كتابه "أعلام تميم- ص ٣٩١".
قلت ولعلّ لقبه "راجح" و"محمد اسمه والله تعالى أعلم.
(^١) ويجتمع كاتب هذه الترجمة مع المؤلف في الجدّ السابع.
(^٢) نسبة إلى بني سعد بن زيد مناة بن تميم.
1 / 11
والحركة التجارية والعلمية لا سيما في زمن الأمير -عبد الله بن محمد بن معمر- كما قاله ابن بشر في عنوان المجد.
وذكر الشيخ الفاضل عبد الله بن بسام -حفظه الله- في كتابه علماء نجد "١/ ٢٣٩" أن بين المترجم له، وحسن بن طوق قرابة من عشرة أجداد لم يستطع العثور على أسمائهم. هكذا قال: والصواب أن بينه وبين حسن خمسة أجداد، وأسماؤهم معروفة، وقد أثبتها من شجرتنا "آل عبد الكريم"، ومن كبار أسرة "آل معمّر".
ولد هذا العالم الجليل في مدينة "العيينة" سنة "١١٦٠ هـ" وكانت يومؤذ أكبر مدن نجد، كما أنها بلد عشيرته آل معمّر -حكّام العيينة- فكان من بيت حكم وإمارة.
ومن المعلوم أن العيينة بعد قيام دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب تأثرت بدعوته، وصار فيها أناس من أنصار منهجه، فنشأ المترجم فيها وأخذ العلم عن علمائها الذين هم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولما شبّ رغب في التزود من العلم فرحل إلى "الدرعية" مقرّ دعوة شيخ الإسلام. ولازم فيها شيخ الإسلام ملازمة الظل، فانتفع بذلك أعظم الإنتفاع، كما أخذ العلم عن غيره من علماء الدرعية كالشيخ سليمان بن عبد الوهاب، والشيخ حسين بن غنام.
وثابر على تحصيل العلم بجد واجتهاد، ووافق ذلك منه فهمًا جيدًا، وذكاء حادًا، وحفظًا قويًا، فبرز في العلوم الشرعية عامة، وأدرك في العلوم العربية إدراكًا جيدًا، وبلغ مبلغًا كبيرًا حتى صار من أكابر علماء نجد، ومن أوسعهم إطلاعًا، وأطولهم باعًا، وأجوبته أكبر شاهد على ذلك.
1 / 12
قال ابن قاسم: بلغ في العلوم العقلية والنقلية مبلغًا، له اليد الطولي في الأصول، والفروع، والحديث، واللغة العربية، وغيرها، قليل المثل في الديانة والعبادة، جمع أنواع المحاسن والمعالي، قرن بين خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والتدريس والتصنيف، والفتاوى والنصائح، أوحد العصر في أنواع الفضائل، مجالسه بالعلم معمورة، وبالفقهاء مشحونة، وأوقاته بالخير مقرونة، وأخلاقه بالذكاء مشهورة، اهـ.
قال ابن بسام فلما بلغ هذا المبلغ الكبير من العلم، جلس للتدريس في مدينة الدرعية الزاهية بالعلماء والآهلة بالطلاب، والمستمعين، فنفع الله تعالى بعلمه خلقًا كثيرًا، واستفاد منه جم غفير، فصار من طلابه النابهون
ابنه الشيخ عبد العزيز بن معمر -صاحب كتاب "منحة القريب المجيب في الردّ على عباد الصليب"-، والشيخ المحدّث الفقيه العلاّمة سليمان بن عبد الله آل الشيخ، والشيخ العلاّمة الإمام عبد الرحمن بن حسن، والشيخ المحقق الجليل عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن مشرّف، والشيخ عثمان بن عبد الجبار بن شبانة، والشيخ علي بن حسن اليماني، والشيخ جمعان بن ناصر، وغيرهم من العلماء. كما قصد بالأسئلة والفتاوى من أنحاء الجزيرة العربية فأجاب عنها الأجوبة المحررة السديدة التي تدل على العلم الواسع، والفقه النقي، والباع الطويل في
1 / 13
جميع العلوم الشرعية فجاءت في فتاويه ورسائله فوائد زائدة عما كتبه من قبله من الفقهاء تنبئ عن حسن تصرف، وجمال تخريج على كلام العلماء الذين سبقوه، ففتاويه ورسائله لو جمعت لجاءت سفرًا كبيرًا مفيدًا، ولكنها طبعت مفرقة مع فتاوى ورسائل علماء نجد، اهـ.
وقال محمد بن عثمان القاضي: وكان ذا مكانة مرموقة، وله شهرة بلغت الآفاق، ولكلمته نفوذ، وكان واعظ زمانه، ولمواعظه وقع في القلوب، غزير الدمعة لا تفارق خدّه … وكان يعظ الناس أدبار الصلوات في الدرعية وفي الحجاز مدة إقامته فيه، ويأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، والولاة يشدّون من أزره، ونفع الله به أممًا لا يحصون، ومحا بدعًا كانت في الحجاز، فهدم الشريف قبابًا كانت على القبور بسبب إرشاداته القيمة، وله هيبة، ولكلامه وقع في القلوب، اهـ.
قال الشيخ ابن بسام -حفظه الله- حدثني وجيه الحجاز الشيخ السلفي محمد بن حسين نصيف قال حدثني رجل ثقة من آل عطية من أهل جدة عن أبيه قال: جمعنا في مسجد عكاشة حينما قدم حمد بن ناصر بكتاب الصلح بين سعود وغالب فصعد المنبر وخطب خطبة بليغة تدور حول تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة، ثم حذّر من ترك الصلوات، وأمر بأدائها في المساجد، ونهى عن شرب الدخان، وبيعه وتعاطيه، كما أمر بهدم القباب التي على القبور، وأمر بالحضور إلى المساجد لسماع رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فامتثل الناس هذا كله، فصرتَ لا ترى الدخان لا استعمالًا ولا بيعًا، وصارت المساجد تزدحم بالمصلين وهدمت القباب التي على القبور، وصار الناس يحضرون لسماع الدرس، اهـ.
1 / 14
وقد كان موضعَ الثقة من الأمراء، فقد بعثه الإمام عبد العزيز عام "١٢١١ هـ" إلى الشريف غالب أمير مكة -وقد تقدم ذكر سبب هذه البعثة وما دار فيها-.
ولولا مكانته العلمية، وعقليته الراسخة، ما اختاره الإمام عبد العزيز وأيده علماء الدرعية على أن يكون السفير الكبير في هذه المهمة العظيمة، فصار يجادل العلماء بمذاهبهم، ويرد عليهم من كتبهم، وأقوال أئمتهم.
وفي سنة "١٢٢٢ هـ" بعثه الإمام سعود رئيسًا لقضاة مكة المكرمة فمكث يقضي، وسدد في أحكامه، وظل في منصبه حتى توفاه الله في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة "١٢٢٥ هـ" في مكة، وصلى عليه المسلمون تحت الكعبة المشرّفة، ثم خرجوا به من الحرم إلى البيضية، وخرج الإمام سعود بن عبد العزيز من القصر وصلى عليه بعدد كثير ودفن في مكة، اهـ. من ابن بشر كما في الروضة.
1 / 15
وجد بأول النسخ ما نصه (^١):
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (^٢) الحمد لله الذي نصر الدين، بالحجة والسيف والتمكين، وجعل لدينه من ينفي (^٣) عنه غلو الغالين، وتحريف المحرفين، بالدلائل (^٤) القاطعة والبراهين.
أما بعد، فلما كان في السنة الحادية عشر بعد المائتين والألف من هجرته ﷺ طلب غالب والي مكة المشرفة من عبد العزيز بن محمد بن سعود والي نجد متعنا الله بحياته (^٥) أن يبعث إليه عالمًا من علمائه، وليناظر علماء الحرم الشريف في شيء من أمور الدين. فبعث إليه عبد العزيز الشيخ حمد (^٦) بن ناصر بن عثمان الحنبلي في ركب فلما وصلوا والي مكة بها جمع علماء الحرم الشريف، وأرباب مذاهب الأئمة الأربعة خلا الحنابلة فوقعت مناظر عظيمة بين الشخ حمد (^٧) المذكور وعلماء الحرم الشريف ومقدمهم يومئذ في الكلام الشيخ عبد الملك الحنفي فوقعت المناظرة في مجالس عديدة لدى والي مكة بمشهد عظيم من أهلها وذلك في شهر رجب من السنة "١٢١١ هـ" المذكورة من هجرته ﷺ فظهر الحق وبان، وانخفض الباطل واستكان، وأقرّ الخصم بعد البيان، ومما سألوه عنه ثلاث مسائل فأجاب أيّده الله بروح منه بما يشفي العليل،
_________
(^١) وهذا الكلام ليس من كلام المؤلف كما يدل عليه السياق.
(^٢) "وبه نستعين" ليست في "ب".
(^٣) في "ب" "ينافي".
(^٤) في "أ" "بالأدلة".
(^٥) في "ب" "رحمه الله تعالى وتغمده برحمته".
(^٦) وقع في جميع النسخ "أحمد" وهو خطأ والصواب ما أثبته.
(^٧) وقع في جميع النسخ "أحمد" وهو خطأ والصواب ما أثبته.
1 / 16
ويبتهج به من يتبع (^١) الدليل، وسميت هذه الأجوبة "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" (^٢) المسألة الأولى ....
_________
(^١) في "ب" "يبتغي".
(^٢) سبب تسمية هذه الرسالة بهذا الإسم ما ذكر في حاشية نسخة "أ" قال الناسخ: وأخبرني من لا أتهم: لقد قال عبد المالك المشار إليه: لا نسلم لكتاب الله، ولا لسنة، ولا لكلام الأئمة خلا أبا"*" حنيفة فهذا سبب إسم الأجوبة انتهى.
وأظن أن واضع هذا الإسم هو صاحب النسخة "أ" أو المؤلف والله أعلم.
_________
"*" في أصل الحاشية: "أبي حنيفة".
1 / 17
سبب تأليف هذه الرسالة وصفتها
لما كانت السنة الحادية عشرة بعد المائتين والألف "١٢١١ هـ" من هجرة المصطفى ﷺ أرسل أمير مكة الشريف غالب بن مساعد إلى الإمام عبد العزيز بن سعود ﵀ يطلب منه أن يبعث إليه بعض علماء بلده، ليتحقق عن كنه دعوتهم التي أوشكت على دخول مصره، وليناظروا علماء الحرم في مسائل من فروع الدين وأصله. فما كان من الإمام عبد العزيز إلا أن أرسل إليه بعض العلماء المحققين، الذين لهم قدم راسخ في المناظرة بالحجج والبراهين، ليمطوا اللثام عن حقيقة دعوة أهل نجد الموحدين، وليرشقوا بنبال التوحيد شبه المشركين، وكان على رأسهم حمد بن معمّر أحد العلماء المبرّزين.
فلما وصلوا إلى بيت الله الحرام، وأدوا العمرة براحة وسلام، استقبلهم الشريف غالب استقبالًا جميلًا، وأكرمهم إكرامًا جزيلًا. ثم بعد ذلك عقدت المناظرة، واشتدّت الخصومة والمشاجرة -بين الشيخ حمد وعلماء مكة الزاخرة- وقد حشدت الحشود لهذه المساجلة، واجتمع الناس لها من الحاضرة والبادية (^١). فأقام عليهم الشيخ حمد الحجة والدليل، وقطع عليهم المحجة والسبيل، وأبان لهم قبح ما عليه الآباء
_________
(^١) وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ﵀ في ردِّه على البكري "ص ٣٥٩": وأهل السنة إذا تقابلوا هم وأهل البدعة فلهم نصيب من تقابل المؤمنين والكفار، اهـ.
1 / 18
ومشائخ الجيل، من صرف العبادة لغير الله بدون برهان أو تعليل. فخضعت لأدلّته أعناقهم، وذلّت لها حجتهم (^١) وبرهانهم، وتيقنوا أن الحق فيما جاءهم. ولكن الشيطان أملى لهم، وزيّن لهم سوء أعمالهم، فنكسوا على رؤوسهم، وقالوا ما قاله أشياعهم وأسلافهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [سورة الزخرف- ٢٣]. قال الشيخ حسين بن غنّام في كتابه "روضة الأفكار والأفهام" ٢/ ٢٠٢:
وصفة ما جرى منهم أنهم حضروا ببيت الشريف، تجاه بيت الله المنيف، فأول ما فتتحوا به التكلم والتخاطب، وأجمعوا عليه في المطالب، وجرى بينهم التحاور والمفاوضة، والتخاطب فيه والمراوضة، مسألة قتال الموحدين من الناس، والكشف عن وجهها حجب الإلتباس، فطلب حمد بيان الحجة والدليل، والبرهان السالم من الأعاليل، والنص القاطع للاحتمال والتأويل، والقامع لسائر الأقاويل، على ذلك المنهج والسبيل، فأتى لهم بالنص القاطع القامع، لكل أذن صاغية وسامع، وجلب من الأحاديث الصحيحة الراجحة، والأدلّة الباهرة اللائحة، ما شفى وكفى، وصيرهم من قطع اللسان والحجة على شفا وأزاح عن محياها القتام ونفا، فعصفت على بيت عنكبوتهم نسيم الحق فهفى، ومزّق آثارهم ومنارهم بعدما هبّ عليهم وسفى، وأوقفهم على المنصوص، فأقرّوا وسلموا لتلك النصوص، وصدر منهم إذعان بعدما حملهم الشيطان على كون تلك لم تكن في الكتب مسطّرة، ولا موصولة فيها ومقررة، وتفوهوا بحضرة الشريف بذلك، حتى أوقفهم حمد على ما هنالك، ونقل من الكتب
_________
(^١) قال شيخ الإسلام أبو العباس ﵀ في الاقتضاء "١/ ٨٧ - ط. الرياض": والحجة: اسم لكل ما يحُتج به من حق وباطل، اهـ. كلامه.
1 / 19
التي عندهم ما ضعضع وِجْدهم، وجلب عليهم علتهم وجهدهم، فوطفت جباههم من العرق، لما داخلهم من الخجل والفرق، فلم يكن لهم حينئذ بدٌ ولا حيلة، حين قرؤا حجته ودليله، ولم يستطع منهم إنسان، على جحود ذلك البرهان، بل صار منهم إقرار وإذعان … إلى أن قال ﵀ ص ٢٠٣:
فلما انقضت تلك الأيام والليال، وتقضت ساعات المناظرة والجدال، طلبوا من حمد بن ناصر بن معمّر، تأصيل ما برهن به واحتج به وقرّر، وكَتْب ما سجله عليهم وسطر، فانتدب لذلك أدام الله نفعه وكثر، فجمع لديهم عجالة وعجل لهم في سُوحِهِم رسالة، أوجز فيها المقالة، وأتى فيها بما فيه كفاية في الحجة والدلالة، يذعن بعد سمعها كل منصف عاقل، ويشهد بفضل قائلها كل فاضل، ويقر بصدقها وصحة مضمونها الأمثل، ولا عبرة بمنافق أو غبي أو جاهل.
بنى للحق المبين على أساسها صرحًا، وأجاد فيما أحكمه من التحرير إضاحًا وشرحًا، فأفاد فيما نحاه من التحبير صدعًا وصدحًا، وترك مناظريه يعانون في الجواب عنها كدحًا، فلم يدركوا من سعيهم ربحًا، بل زادوا فيما زخرفوه عن الصواب بعدًا ونزحًا فهي عليك مجلوة، وحججها مقروءة ومتلوة، مميطة لوضيء حسنها النقاب، سافرة الوجه للنقاد والنقاب، خالية من شين الإسهاب والإطناب … انتهى بتصرف كثير.
ولقد صدق هذا الشيخ المنصف فيما قرره، وسيقف القارئ على هذا بقراءة ما كتبه الشيخ حمد وسطّره. والله المسؤول المرجو أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه
1 / 20
وصلى الله وسلم وبارك على سيّد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه والتابعين (^١).
حرره الفقير إلى عفو ربه القدير
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
الرياض ٢٠/ ١١/ ١٤٠٥ هجرية
_________
(^١) ولا يفوتني في هذه المقدمة أن أتقدم بخالص الشكر والثناء لفضيلة شيخنا العلاّمة الجليل صالح بن إبراهيم البليهي -حفظه الله تعالى- حيث تكرم بقراءة هذه الرسالة وتقريظها مع ما أنيط به من المشاغل، وما يقوم به من الافتاء والتدريس والإجابة عن المسائل، والدعوة إلى الله ﷿ بالقلم واللسان في جميع المحافل.
1 / 21
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة الأولى
[قالوا: ما قولكم فيمن دعا نبيًا أو وليًا واستغاث بهم (^١) في تفريج الكربات، كقوله يا رسول الله أو يا ابن عباس أو يا محجوب أو غيرهم من الأولياء والصالحين].
الجواب: الحمد لله نحمده (^٢)، ونستعينه (^٢)، ونستغفره (^٢)، ونعوذ (^٢) بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وقفى أثرهم إلى آخر الزمان.
أما بعد، فإن (^٣) الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتب هدى وذكرى للمؤمنين، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة- ٣]، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل- ٨٩]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ
_________
(^١) في "أ" به.
(^٢) وقع في "أ" أحمد … أستعينه … أستغفره … بالهمزة.
(^٣) في "أ" فقد.
1 / 27