211

Fath Qadir

فتح القدير

Publisher

دار ابن كثير،دار الكلم الطيب - دمشق

Edition Number

الأولى

Publication Year

١٤١٤ هـ

Publisher Location

بيروت

هَذَا يَحْتَمِلُ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُبَاشِرُ ولا يقبّل، فتكون هذا الْحِكَايَةُ لِلْإِجْمَاعِ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَكُونَا لِشَهْوَةٍ، وَالِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: عَكَفَ عَلَى الشَّيْءِ: إِذَا لَازَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِي حَوْلَهُنَّ «١» صَرِيعُ وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَكِفُ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهُ: عَاكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمُعْتَكِفٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالِاعْتِكَافُ فِي الشَّرْعِ: مُلَازَمَةُ طَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى شَرْطٍ مَخْصُوصٍ. وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ، وَلِلِاعْتِكَافِ أَحْكَامٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أَيْ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ حُدُودُ اللَّهِ، وَأَصِلُ الْحَدِّ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ وَالسَّجَّانُ: حَدَّادًا، وَسُمِّيَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي: حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ مِنْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحُدُودُ: حُدُودًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَصْحَابَهَا مِنَ الْعَوْدِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهَا: النَّهْيُ عَنْ تَعَدِّيهَا بِالْمُخَالَفَةِ لَهَا وَقِيلَ: إِنْ حُدُودَ اللَّهِ هِيَ مَحَارِمُهُ فَقَطْ، وَمِنْهَا الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْمُعْتَكِفِ، وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهَا عَلَى هَذَا وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْحُدُودَ يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الْهَادِيَةَ إِلَى الْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ أصحاب الرسول ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَكَانَ يَوْمُهُ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ أَنِمْتَ؟ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْفَجْرِ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، فَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْبَرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا إِذَا صَامَ أَحَدُهُمْ يَصُومُ يَوْمَهُ حَتَّى إِذَا أَمْسَى طَعِمَ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى امْرَأَتَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رسول الله! إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ نَفْسِي، وَذَكَرَ مَا وَقَعَ مِنْهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِلَى مِثْلِهَا من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام

(١) . في القرطبي ٢/ ٣٣٢: «بينهنّ» .

1 / 215