Fath al-Mun'im: Sharh Sahih Muslim
فتح المنعم شرح صحيح مسلم
Publisher
دار الشروق
Edition Number
الأولى (لدار الشروق)
Publication Year
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
Genres
فتح المنعم شرح صحيح مسلم
كتاب الإيمان
الجزء الأول
الأستاذ الدكتور
موسى شاهين لاشين
دار الشروق
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
فتح المنعم شرح صحيح مسلم
١ -
1 / 3
جميع حقوق النشر والطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٣ - هـ - ٢٠٠٢ م
دار الشروق
القاهرة: ٨ شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر
ص. ب.: ٣٣ البانوراما -تليفون: ٤٠٢٣٣٩٩ - فاكس: ٤٠٣٧٥٦٧ (٢٠٢)
e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com
بيروت: ص. ب.: ٨٠٦٤ - هاتف: ٣١٥٨٥٩ - ٨١٧٢١٣ - فاكس: ٣١٥٨٥٩ ١ (٩٦١)
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٤٣].
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، الذى أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ومنحه ربه جوامع الكلم، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد
فهذه هى الطبعة الثانية والشاملة، أقدمها لأهل الحديث، بعد أن مد الله فى عمري وأعانني بفضله وكرمه، حتى انتهيت من كتابي فتح المنعم شرح صحيح مسلم، الذى بدأته منذ ثلاثة وعشرين عاما، واصلت فيها ليلي ونهاري، أسابق الزمن، وأخشى القدر.
ويشهد الله أنني لم أدخر وسعا، ولم تضعف همتي وعزيمتي في وقت من أوقات ذلك الزمن الطويل، ولكن البحر كان بعيد الشاطئ، عميق الغور، شديد الأمواج. والحمد لله الذى أتم علينا نعمته، وأسبغ علينا فضله.
وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها من وجوه:
الأول: أنني وضعت أسانيد الإمام مسلم بالهامش، ليفيد منها من أرادها من أهل الحديث، والتزمت
ألفاظها، واكتفيت فى صدرالصفحة بالمتن والراوي الأعلى مصدرًا بكلمة "عن".
الثاني: أنني أعدت أحاديث مسلم إلى ترتيبها، ولم أجمع الروايات المتعددة المتباعدة للحديث الواحد، كما فعلت فى الطبعة الأولى، حفاظا على أمانة النقل، بدلا من تقديم الهدف.
الثالث: الترقيم:
١ - وقد رقمت الأبواب، ولم ألتزم أحيانا بتبويب الإمام النووى ﵀.
٢ - ورقمت أحاديث الإمام مسلم مسلسلة من أول الكتاب إلى آخره، واعتمدت الرواية التى تزيد فى المتن، أو تنقص، أو تُغيِّر، ولو كلمة، وأعطيتها رقما.
1 / 5
أما الرواية القاصرة على الإسناد، وكذا الرواية التي تحيل المتن كله إلى السابق فلم أعتمدها ولم أعطها رقما مسلسلًا، لأن هدفي إحصاء المتون، وليس الأسانيد. وقد وضعت هذا الرقم المسلسل على السطر، يمين الأرقام الأخرى.
٣ - واعتمدت ترقيم المرحوم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، لأنه الذي اعتمد في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ليسهل عن طريقه الوصول إلى الحديث في كتابي، ووضعت هذا الرقم بسطا على شرطة أفقية، وهو -غالبا- يخص كل كتاب علمي بأرقام مستقلة، فيبدأ أحاديث كتاب الإيمان مثلا برقم ١ حتى نهاية كتاب الإيمان، ثم يبدأ كتاب الطهارة برقم ١ حتى نهايته وهكذا، فالمراجع للمعجم المفهرس إذا قرأ -م- الطهارة (٢٥) علم أن الحديث رواه مسلم في كتاب الطهارة رقم (٢٥) ولا عبرة بأبواب الإمام النووي تحت هذا الكتاب في الترقيم، وهو لا يعد الرواية التي اقتصرت على السند، وإن خالف هذه القاعدة في النادر.
ويعد الرواية التي جاءت أو غايرت، ولو جزءا من المتن، وإن خالف هذه القاعدة في النادر أيضا.
٤ - ورقمت أحاديث كل باب بأرقام مستقلة، جعلتها مقاما تحت أرقام الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي مفصولا بينهما بشرطة أفقية، ولا أعد جزء الرواية حديثا، ولا أرقمه، بل أضع بدل الرقم صفرين، إذ أعتبره ملحقا بالرواية السابقة، فأقول في الشرح مثلا: وفي روايتنا الرابعة كذا وفي ملحق روايتنا الرابعة كذا.
الرابع: كما تمتاز هذه الطبعة بجودة الإخراج، على أعلى مستوى، مستفيدين من التقدم الكبير في ميدان الطباعة والإخراج.
الخامس: أن التصحيح في هذه الطبعة أسند إلى علماء الحديث المتخصصين -جزاهم الله خيرا- فجاءت أصح من سابقتها، ونسأل الله العفو عما عساه يكون فيها مما لا يبرأ منه العمل البشري، ورحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي.
وإن أَنْسَ فلا أنسى شكر أهل الحديث وعلمائه الذين قدروا جهدي منذ البداية فشجعوني وقبلوه بقبول حسن، وقرروه على طلابهم في كليات أصول الدين -جامعة الأزهر، وفي الجامعات الإسلامية، في البلاد العربية وغير العربية. جزاهم الله خيرًا وحفظ بهم السنَّة والدين.
وأختم مقدمتي هذه بما ختمت به مقدمة الطبعة الأولى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾.
﴿رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾.
د. موسى شاهين لاشين
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الأولى
أحمده ﷾ وأستعينه وأستهديه، وأسأله التوفيق والسداد.
وأصلي وأسلم على خاتم النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢].
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، آتاه الحكمة وفصل الخطاب. فبين للناس ما نزل إليهم، ووضح لهم معالم دينهم، ورسم لهم طريق الخير في دنياهم وأخراهم، فجزاه الله عنا وعن جهاده في الإسلام خير الجزاء.
"أما بعد" فقد وفقني الله للإسهام في شرح مجموعة مختارة من أحاديث البخاري في كتابي "المنهل الحديث" تناولت فيه نحو أربعمائة حديث بالشرح المبسط المناسب لمستوى طلاب المعاهد الثانوية الأزهرية.
ولقد فكرت طويلا -بناء على طلب كثير من المشتغلين بالحديث وطلابه- في أن أكمل شرح أحاديث البخاري بنفس الطريقة والأسلوب، ولكن غلبتني فكرة أخرى بعد آَن عينت مدرسا للتفسير والحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، ورأيت أن المقرر في منهاجها أحاديث صحيح مسلم، وهو كتاب لم يخدم بالشرح كما خدم البخاري، وليس فيما ألفه المؤلفون في شرحه ما يغني الطالب أو يشبع الراغب وأحسست حاجة الطلاب إلى شرح يناسبهم، وعذرتهم في مطالبتهم بذلك وإلحاحهم وملاحقتهم لأساتذتهم.
أمام هذه الظروف فضلت التعجيل بشرح صحيح مسلم، في كتاب سميته (فتح المنعم) ورسمت له منهاجا وطريقة أرجو أن يسدد الله خطاي في سلوكها، وأن ينفع بها، إنه سميع مجيب.
سأجمع الروايات المتعددة للحديث الواحد، مادمت أعتقد أنها لحديث واحد، ثم أقوم بشرحها كوحدة؛ والواقع أن صحيح مسلم يضم كثيرا من الأحاديث المكررة بسبب اختلاف الرواة في رواياتها بالزيادة والنقص والتغيير والتقديم والتأخير، بل قد يفرق بين روايات الحديث الواحد بأحاديث
1 / 7
أخرى، كما فعل في حديث معاذ وإردافه خلف رسول الله ﷺ وتحديثه بحق الله على العباد وحق العباد على الله.
سأجمع أمثال هذه الروايات تفاديا لتكرار الشرح وتخلصا من إحالة اللاحق على السابق.
وسأختصر الأسانيد وأقتصر على الراوي الأعلى، وأوفر مجهودي ومجهود الطالب للبحث في متن الحديث وصلبه بدلا من التشتيت بين رجاله وشرحه، خصوصا وللإسناد كتبه وفرسانه، وقد قصرت الهمم وكلَّت العزائم، وعز ميدانه.
وسأبدأ بكتاب الإيمان، مؤجلًا شرح مقدمة مسلم إلى ما بعد شرح الأحاديث لأضعها في جزء خاص أسوة بالإمام الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.
وحرصا على تعميم النفع، واستفادة العامة والخاصة سأتناول شرح الحديث بعبارة مبسطة وأسلوب سهل تحت عنوان (المعنى العام).
ثم أتكلم عن كلمات الحديث وتراكيبه من الناحية اللغوية، وما يحتاجه طالب القسم العالي من النحو والبلاغة تحت عنوان (المباحث العريية).
ثم أبسط الأحكام الشرعية، وأجمع بين الروايات المختلفة، وأعرض آراء العلماء في وجه الاستدلال به أو الرد عليه، وأبرز ما يؤخذ منه من الأحكام والفوائد تحت عنوان (فقه الحديث).
هذا وإنني أقدر خطورة المهمة ومشقتها، وكم وقفت أمامها في خشوع ورهبة وإجلال.
مؤمنا بأن الميدان فسيح رفيع، ولكني أدخله معتمدا على تسديد الله وتوفيقه، مقرًا بالقصور، مصمما على عدم التقصير.
ولئن كنت قد أقدمت على أمر جلل فعذري أن الكل متهيب وجل، أو تعوقه العوائق، أو يقعده الكسل؛ وباب العلم والتأليف مفتوح للمكثر والمقل، وليس من الحكمة الوقوف أمامه، والتقاعس عن دخوله، استصغارا للنفس، وإستقلالا للجهد، إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله.
فإن وفقت وأصبت الهدف فحمدا لله وشكرًا، وذلك فضل الله، وإن كانت الأخرى فأسأله العفو والعافية، وقبول حسن القصد وإخلاص النية.
داعيا ربي بما دعا به الكليم ﵇ حيث قال ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)﴾ [طه: ٢٥ - ٢٨].
مناجيا بما ناجى به رسولنا الكريم ﷺ ﴿رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠].
د. موسى شاهين لاشين
1 / 8
كتاب الإيمان
1 / 9
(١) باب الإيمان بالقدر
١ - عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر: فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف. قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله ﷺ: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ﷺ وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال "ما المسئول عنها بأعلم من السائل " قال فأخبرني عن أمارتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " قال ثم انطلق. فلبثت مليا.
ثم قال لي: يا عمر "أتدري من السائل؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "
1 / 11
٢ - عن يحيى بن يعمر قال لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك قال فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة وساق الحديث
٣ - عن عمر ﵁ عن النبي وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئا
وبنحوه
قالت هو من عند الله
٤ - عن أبي هريرة ﵁ قال كان رسول الله ﷺ يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله ما الإيمان؟ قال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر "قال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال يا رسول الله ما الإحسان؟ قال "أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك". قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال "ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا ﷺ ﴿إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير﴾ [لقمان: ٣٤] قال ثم أدبر الرجل فقال رسول الله ﷺ" ردوا علي الرجل " فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا. فقال رسول الله ﷺ "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم"
٥ - مثله غير أن في روايته إذا ولدت الأمة بعلها يعني السراري
1 / 12
٦ - عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ سلوني فهابوه أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال "لا تشرك بالله شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان". قال: صدقت. قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله" قال: صدقت. قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: "أن تخشى الله كأنك تراه فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك" قال: صدقت. قال: يا رسول الله متى تقوم الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها إذا رأيت المرأة تلد ربها فذاك من أشراطها وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ ﴿إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير﴾ [لقمان ٣٤] قال ثم قام الرجل فقال رسول الله ﷺ "ردوه علي فالتمس فلم يجدوه فقال رسول الله ﷺ هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا.
-[المعنى العام]-
في مدينة البصرة بالعراق قام معبد الجهني يدعو لبدعة في الدين يقول: إن الله لم يقدر الأشياء أزلا ولم يسبق علمه بها قبل وقوعها
وتابعه جماعة من الذين احترفوا القراءة والبحث في غوامض أحكام الفروع والأصول وفزع المخلصون الغيورون لكن أنى لهم لسان معبد وقوة حجته؟ وأنى لهم فقه أتباعه وشهرتهم العلمية التي تخدع البسطاء.
لقد جاء موسم الحج وفتنة معبد تهاجم عقيدة المسلمين بالبصرة واستعد يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن للحج والعمرة وقد فكرا في الأمر ودبرا له، وصمما على أن يعودا إلى البصرة ومعهما السلاح القاطع لكل لسان يفتري على الحق ولن يكون هذا السلاح إلا فتوى مؤيدة بالحجة والبرهان من أهل الرأي والفقه من كبار الصحابة.
وأشرفا على المسجد الحرام بمكة فلمحا عند بابه عبد الله بن عمر العالم التقي الورع الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يعارضه في فتواه معارض فأسرعا إليه يحيطان به أحدهما عن
1 / 13
يمينه والآخر عن شماله وسلما عليه، ثم قال أسنهم وأبسطهم لسانا: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر جهتنا بالبصرة قوم عرفوا بالتبحر في العلم والتباحث فيه وظهروا ببدعة لم نسمعها في ديننا يزعمون أنه لا قدر وأن علم الله مستأنف بعد حصول الحوادث ووقوعها فماذا ترى فيهم؟
قال ابن عمر: إذا رجعتم إلى هؤلاء الضالين فأخبروهم أنني بريء منهم ومن قولهم ولا أحب أن ينتسبوا إلى ما أنتسب إليه، والله الذي لا أحلف بغيره لو ملك أحدهم مثل جبل أحد ذهبا فتصدق به أو أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر
ثم ساق لهم حديث سؤال جبريل، مستدلا به على أن الإيمان بالقدر جزء من الإيمان الشرعي وأنه لا يتم إيمان مؤمن من غير أن يؤمن بالقدر خيره وشره، قال:
حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه كان عند رسول الله ﷺ في يوم من الأيام فدخل عليهم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر سأل رسول الله ﷺ عن الإسلام ففسره له بأعمال الجوارح الظاهرة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
سأله عن الإيمان: فأجابه بأنه التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره.
سأله عن الإحسان في العبادة، فأخبره بأنه إتقانها ومراقبة الله فيها واستشعار أنه يراك في السر والعلن
سأله عن وقت الساعة، فقال إنها غيب اختص الله بعلمه.
سأله عن أشراطها وعلاماتها الصغرى فأخبره بما يفيد انقلاب الأوضاع الصحيحة وسوء الأحوال من كثرة العقوق والتطاول في البنيان.
ثم ولى الرجل ولم يعثروا له على أثر، فأخبرهم ﷺ بأنه جبريل جاء ليعلم الناس حسن السؤال وما ينفعهم في دنياهم وأخراهم.
وعاد يحيى بن يعمر وصاحبه إلى البصرة ونشرا فتوى ابن عمر، وأخذ الجدل والحوار وظل معبد الجهني ينفخ في نار البدعة حتى قتله الحجاج صبرا.
-[المباحث العربية]-
جمعت هنا ثلاث طرق للحديث، وسأفرد كل طريق بمباحثه العربية ثم أتكلم عنها كوحدة من جهة الشرح والأحكام حيث إنها في موضوع واحد وقصة واحدة، وبالله التوفيق.
1 / 14
الطريق الأول
(كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني) "أول" بالنصب خبر كان مقدم، ومعبد اسمها مؤخر وفي الكلام مضاف محذوف، أي أول من تكلم في نفي القدر، والقدر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان حكاهما ابن قتيبة عن النسائي يقال: قدرت الشيء وقدرته بتخفيف الدال المفتوحة وتشديدها إذا أحطت بمقداره والمراد هنا تقدير الله للأشياء وعلمه بها أزلا، وبقية الكلام عنه يأتي في فقه الحديث والبصرة مدينة معروفة بالعراق وفي بائها ثلاث لغات، والمشهور الفتح وليس في النسب إليها إلا الفتح والكسر، قال صاحب المطالع: ويقال لها: تدمر والمؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر، وقوله "بالبصرة" يوحي بأن آخرين سبقوا معبدا بنفي القدر في غير البصرة، وأن معبدا ليس أول المبتدعين لهذه البدعة على الإطلاق، بل هو فقط أول مبتدعها في البصرة، وبهذا قيل، فقد ذهب جماعة إلى أن هذه البدعة الضالة نشأت أول ما نشأت في مكة يوم احترقت الكعبة وابن الزبير محصور في مكة من قبل يزيد، فقال أناس: احترقت بقدر الله تعالى، وقال أناس: لم تحترق بقدر الله فالقيد على هذا بالبصرة للاحتراز وقيل: إن معبدا أول من قالها على الإطلاق، فالقيد للكشف والإيضاح ومعبد الجهني منسوب إلى جهينة، قبيلة من قضاعة نزلت الكوفة وقليل منهم نزل البصرة وكان يجالس الحسن البصري وقتله الحجاج صبرا.
(فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن) أنا تأكيد لضمير الرفع المتصل ليصح العطف عليه.
(حاجين أو معتمرين) في أكثر النسخ بأو على الشك وفي بعض النسخ بالواو الجامعة على أنهما كانا قارنين ويمكن القول بأن أو بمعنى الواو
(فقلنا) القائل أحدهما، ولم يرد في الروايات تعيينه، وعدت موافقة الثاني في حكم القول فأسند إليهما.
(لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ قال بعضهم: إن "لو" للتمني فلا تحتاج إلى جواب، أي ليتنا نلقى أحدا، وقال بعضهم: هي لو الشرطية أشربت معنى التمني والأصل لو لقينا أحدا فسألناه كان خيرا وقال ابن مالك: هي لو المصدرية أغنت عن فعل التمني والأصل: وددنا لو لقينا فحذف فعل التمني لدلالة "لو" عليه، وليس مرادهما أي واحد من الصحابة بل يقصدان واحدا فقيها عالما بدقائق الدين معتمدا في فتواه.
(فسألناه عما يقول هؤلاء) "فسألناه" معطوف على "لقينا" داخل في حكم التمني كأنهما تمنيا اللقاء والتمكن من السؤال، و"ما" موصولة وعائد الصلة محذوف، وفي الكلام مضاف محذوف والتقدير: فسألناه عن حكم القول الذي يقوله هؤلاء، والمراد حكم الشرع على القائلين به كما يؤخذ من جواب ابن عمر
1 / 15
(فوفق لنا) بضم الواو وكسر الفاء المشددة أي جعل وفقا لنا، وهو من الموافقة، وهي لفظة تدل على صدفة الاجتماع والالتئام وفي بعض الروايات "فوافق لنا" بزيادة ألف، أي فوافقنا بمعنى صادفنا.
(داخلا المسجد) "داخلا" حال من عبد الله، والمراد من المسجد: المسجد الحرام بمكة
(فاكتنفته أنا وصاحبي) حميد بن عبد الرحمن أي صرنا في ناحيتيه فقوله: "أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله" تفسير لاكتنافهما.
(فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي) أي يسكت ويفوضني في الكلام، لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني كما جاء في بعض الروايات.
(أبا عبد الرحمن) بتقدير حرف النداء والنداء بالكنية من مظاهر الإكبار والاحترام.
(إنه قد ظهر قبلنا ناس) اسم "إن" ضمير الحال والشأن و"قبلنا" بكسر القاف وفتح الباء بمعنى جهتنا بالبصرة.
(ويتقفرون العلم) بتقديم القاف على الفاء، ومعناه: يطلبونه ويتتبعونه، وروي بتقديم الفاء على القاف، ومعناه: يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه، وروي "يتقفون" بتقديم القاف وحذف الراء، ومعناه: يتتبعون، وروي "يتقعرون" أي يطلبون قعره، وروي "يتفقهون" من الفقه والفهم والكل صحيح المعنى، وإنما عظم يحيى بن يعمر شأن القدرية ووصفهم بالاجتهاد في العلم والتوسع فيه للمبالغة في استدعاء ابن عمر استفراغ الوسع في النظر فيما يزعمون، لأن أقوال الأغبياء قد لا يهتم العلماء بدفعها، ويكتفون في ردها بأقل جواب وليقدر ابن عمر انخداع الناس بهم وتأثرهم والاستجابة لهم ليصدر الفتوى الرادعة التي تحول بين الناس وبين هذا الكفران.
(وذكر من شأنهم) هذا من كلام بعض الرواة بعد يحيى، ومفعول "ذكر" محذوف تعظيما له بالإبهام والمعنى ذكر يحيى من شأنهم في البحث عن العلم شيئا عظيما، أو الحذف للتعميم لتذهب النفس فيه كل مذهب، أو الحذف لصون اللسان عن ذكره بمعنى: وذكر من شأنهم في الابتداع ونفي القدر ما يصان اللسان عن ذكره ويصح أن تكون "من" زائدة و"شأنهم" مفعول به على رأي بعض النحاة في جواز زيادة "من" مع المجرور المعرفة وبدون سبق نفي أو شبهة.
(وأنهم يزعمون أن لا قدر) يصح عطفه على مفعول "ذكر" فهو من كلام بعض الرواة دون يحيى، ويصح أن يكون من كلام يحيى، فيكون معطوفا على "يقرءون القرآن" وتكون جملة "وذكر من شأنهم" معترضة بين المتعاطفين، وأصل الزعم على التحقيق مصدر زعم إذا قال قولا حقا أو كذبا أو غير موثوق به، فمن الأول حديث "زعم جبريل" والذي معنا من الثاني ومنه قوله تعالى: ﴿زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا﴾ [التغابن: ٧] و"أن" في قوله "أن لا قدر" مخففة من الثقيلة،
1 / 16
واسمها ضمير الشأن محذوف، وخبر "لا" محذوف والتقدير: يزعمون أنه لا قدر موجود سابق على الأمور.
(وأن الأمر أنف) بضم الهمزة والنون أي مستأنف واقع ابتداء من غير سبق تقدير أو علم، يقال: كأس أنف أي لم يشرب منها، وإنما ابتدئ الشرب منها الآن، مأخوذ من أنف الشيء وهو أوله ومنه سمي الأنف لأنه أول الوجه شخوصا وظهورا.
(قال فإذا لقيت أولئك) القائل عبد الله بن عمر، والفاء في جواب شرط تقديره: إن كانت تلك حالهم فإذا لقيتهم فأخبرهم.
(أني بريء منهم وهم برآء مني) براءة ابن عمر منهم ومن زعمهم ظاهرة لكن إخباره ببراءتهم منه غير ظاهر، اللهم إلا أن يحمل الأسلوب على الكناية للمبالغة في اجتنابهم وقطع الصلة أيا كانت، كأنه يقول: لا صلة بيني وبينهم ولا صلة بينهم وبيني.
(والذي يحلف به عبد الله) أي والله، لأن ابن عمر لا يحلف بغير الله عملا بالحديث "من كان حالفا فليحلف بالله" وإنما ترك ذكره لئلا يتخذ سلما للحلف به، فالموصول مجرور بواو القسم.
(لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا) "مثل" اسم "أن" وخبرها متعلق الجار والمجرور و"ذهبا" تمييز و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف لاختصاص "لو" بالأفعال، والتقدير: لو ثبت أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، ومثلية جبل أحد غير مقصودة بل المقصود المبالغة في عظم الكم مع عظم النوع.
(فأنفقه) أي في أوجه الخير وفي سبيل الله، لأن الإنفاق في المعاصي غير مقبول من القدرية ولا من غيرهم.
(ما قبل الله منه) أي ما أثابه عليه، ولا يلزم من نفي الإثابة الصحة، وللبحث بقية في فقه الحديث.
(بينما نحن عند رسول الله ﷺ بينا وبينما ظرفا زمان يضافان إلى الجمل الإسمية والفعلية، وخفض المفرد بهما قليل، وهما في الأصل "بين" التي هي ظرف مكان استعيرت هنا للزمان، وأشبعت فيها الحركة فصارت بينا وزيدت عليها الميم فصارت بينما، ولما فيهما من معنى الشرط يفتقران إلى جواب يتم به المعنى وتصحب الجواب "إذ" أو "إذا" الفجائيتان، وقد يتجرد الجواب عنهما، والعامل فيهما جوابهما.
(ذات يوم) "ذات" جيء بها هنا للتأكيد، لرفع احتمال أن يراد باليوم مطلق الزمان، فهي بمنزلة عين في قولك: قابلت عين الأمير، وهي ظرف زمان، والعامل فيه معنى الاستقرار الذي في الخبر والتقدير: بينما نحن مستقرون عند النبي ﷺ في يوم.
1 / 17
(إذ طلع علينا رجل) معناه أنه فاجأهم طلوعه، فلم يروا من أين جاء وفي رواية "إذ أتاه رجل يمشي".
(شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) وفي رواية "شديد سواد اللحية".
(لا يرى عليه أثر السفر) ضبطه النووي بالياء المضمومة مبنيا للمجهول، وضبطه أبو حازم بالنون المفتوحة، وكلاهما صحيح والمراد بأثر السفر ما يصيب المسافر من غبار وشعث شعر وتكسر ثياب ونحوها. وفي رواية "أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا كأن ثيابه لم يمسها دنس" وفي رواية: "ولا يعرفه منا أحد" وكل هذه الأوصاف مع ما سيأتي من صنيع الرجل كانت مبعث استغراب الصحابة، كما كانت قرائن أكدها الرسول ﷺ بأنه جبريل.
(حتى جلس إلى النبي ﷺ "حتى" غاية لدنوه، لا لطلوعه والتقدير: طلع علينا ودنا حتى جلس، وفي بعض الروايات: "فتخطى حتى برك بين يدي النبي ﷺ".
(ووضع كفيه على فخذيه) يصح أن تكون هاء الغيبة الأولى والثانية للرجل، أي وضع الرجل كفيه على فخذي نفسه، وجلس جلسة المتعلم، واقتصر النووي على هذا التوجيه، ويصح أن تكون الأولى للرجل والثانية للرسول ﷺ أي وضع الرجل كفيه على فخذي النبي ﷺ على هيئة المسلم المستسلم المنتبه المصغي لما يقال، وجزم البغوي بهذا التوجيه، ويؤيده رواية ابن عباس "ثم وضع يده على ركبتي النبي ﷺ".
(وقال: يا محمد) لعله لم يقل يا رسول الله زيادة في التشبه بالأعراب تعمية لحاله، وقيل: لأن له دالة المعلم، فلا يرد عليه قوله تعالى: ﴿لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا﴾ [النور: ٦٣].
(أن تشهد أن لا إله إلا الله) "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف.
(وتقيم الصلاة) الفعل منصوب عطفا على "تشهد" والمراد من إقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها، من أقام على كذا بمعنى داوم عليه أو المراد فعلها تامة مستوفاة الأركان والشروط، من أقام العود إذا قومه وجعله معتدلا، واختصت الصلاة عرفا بهذا اللفظ لكثرة ما تتوقف عليه من الشروط ولما فيها من التكرار، بخلاف بقية العبادات.
(وتؤتي الزكاة) أي تعطيها لمستحقها أو للإمام ليدفعها إليهم، فحذف المفعول الأول والتقدير: وتؤتي الإمام الزكاة.
(وتحج البيت) "البيت" اسم جنس غلب على الكعبة حتى صار كالعلم عليها.
(إن استطعت إليه سبيلا) عني بالاستطاعة الزاد والراحلة والأمن، لا مطلق القدرة.
1 / 18
(قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه) القائل عمر بن الخطاب راوي الحديث وجملة "يسأله" في محل النصب على الحال من الهاء في "له" أو لا محل لها من الإعراب مستأنفة استئنافا تعليليا، كأنه قيل: لم عجبتم؟ فقيل: لأنه جمع بين السؤال والتصديق، وهما لا يجتمعان من سائل جاهل، بل يدل اجتماعهما على أن السائل خبير بالمسئول عنه، وفي رواية: "قال بعضهم لبعض: انظروا إليه كيف يسأله؟ وانظروا إليه كيف يصدقه؟ وفي رواية: "كأنه أعلم منه".
(فأخبرني عن الإيمان) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذ قد أخبرتني عن الإسلام فأخبرني عن الإيمان.
(أن تؤمن بالله) قيل: تعريف الإيمان بأن تؤمن بالله يستلزم الدور المحال حيث أخذ المعرف في التعريف، وأجيب بأن المراد من المعرف الإيمان الشرعي ومن التعريف الإيمان اللغوي، فكأنه قال: الإيمان الشرعي تصديق مخصوص، والمراد من الإيمان بالله التصديق بوجوده واتصافه بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص.
(وملائكته) المراد من الإيمان بالملائكة التصديق بوجودهم على ما وصفوا به من أنهم عباد مكرمون.
(وكتبه) أي الإيمان بأنها كلامه الحق، وفي رواية أبي هريرة "وكتابه" أي القرآن والإيمان به إيمان بالكتب المنزلة لأنه متضمنها، وقدم الملائكة على الكتب والرسل للترتيب الواقعي، فالملائكة أرسلوا بالكتب إلى الرسل.
(واليوم الآخر) قيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة وهو وإن لم يكن منها فهو متصل بها، من باب تسمية الشيء باسم مجاوره والمراد من الإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والجنة والنار.
(وتؤمن بالقدر) أعاد الفعل لزيادة الاهتمام والاعتناء بالقدر، لأنه موطن زلات العقول.
(خيره وشره) بدل من القدر، وخيره الطاعة وشره المعصية، زاد في رواية "وحلوه ومره" وحلوه: ما تميل النفس إليه، ومره: ما تنفر منه، وهذه الجملة هي سبب إيراد الحديث.
(فأخبرني عن الإحسان) الإحسان: مصدر أحسن يحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع وليس هذا المعنى مرادا هنا، وتقول: أحسنت العمل إذا أجدته وأتقنته وأخلصت فيه، وهو المراد، وتفسيره ﷺ الإحسان بما فسره به تفسير للشيء بسببه توسعا، إذ المراقبة سبب الإتقان.
(أن تعبد الله كأنك تراه) المصدر المنسبك من "أن تعبد" خبر مبتدأ محذوف، وجملة "كأنك تراه" حال من فاعل "تعبد" أي الإحسان أن تكون حالك في عبادتك مشبهة حال رؤيتك ربك الرقيب على عملك من حيث بذل الجهد في الإخلاص والإتقان.
1 / 19
(فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أي فإن لم تكن رائيا لربك على سبيل الحقيقة فاستشعر أنه يراك ومطلع عليك ومراقب أحوالك. وقد أول بعض الصوفية الحديث وأخذوا منه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وقدروا المعنى: فإن لم تكن، أي فإن لم تصر شيئا وفنيت نفسك حتى كأنك لست بموجود فإنك حينئذ تراه، فعلى هذا التأويل فعل "تكن" تام لا يحتاج إلى خبر و"تراه" في محل جواب الشرط، وقد هاجم الحافظ ابن حجر هذا التأويل بشدة فقال: أثبت قائل هذا جهله باللغة العربية وجهل أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله "تراه" محذوف الألف، لأنه يصير مجزوما جوابا للشرط ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس، فلا يصار إليه إذ لا ضرورة هنا، وأيضا لو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله "فإنه يراك" ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله، ويفسد هذا التأويل رواية أبي هريرة "فإنك إن لا تراه فإنه يراك" فسلط النفي على الرؤية. اهـ.
والمحقق في حملة الحافظ ابن حجر يجد للصوفية مخرجا من اعتراضاته الثلاثة: فقوله: لكان "تراه" محذوف الألف لأنه يصير مجزوما جوابا للشرط يمكن الجواب عنه بأن النحاة يجيزون رفع جواب الشرط على الاستئناف، قال ابن مالك:
وبعد ماض رفعك الجزا حسن
ورفعه بعد مضارع وهن
وتقدير الحديث على هذا فإن لم تكن وفنيت نفسك فأنت تراه.
وأما الاعتراض الثاني فيمكن للصوفية أن يقولوا: إن الفاء في "فإنه يراك" للتعليل والمراد من الرؤية لازمها وهو الرعاية، والمعنى: فإن فنيت نفسك تر ربك لأنك حينئذ في رعايته وهو يرعاك.
وأما اعتراضه الثالث فإنه يرد عليه ما أورده على الصوفية، فرواية أبي هريرة التي توجه النفي فيها إلى الرؤية ثابتة الألف رغم الجازم المتقدم، فلا مناص من تأويلها، وأفضل تخريج لها أن تحمل على حذف "تكن" ليصبح التقدير: إن لا تكن تراه، فتتطابق الروايتان بتوجه النفي إلى "تكن" لا إلى الرؤية.
وليس القصد من هذا الدفاع الانحياز إلى غلاة الصوفية والاقتناع برأيهم، وإنما القصد التحقيق العلمي والتخفيف من رميهم بالجهل، والاكتفاء بأن تأويلهم بعيد.
(فأخبرني عن الساعة) أي عن وقتها، بدليل رواية أبي هريرة "متى الساعة" و"متى تقوم الساعة" والمراد من الساعة القيامة، سميت بذلك لسرعة قيامها، أو لأنها عند الله ﷾ كساعة وسأل عن وقتها ولم يسأل ابتداء عن أمارتها ليكون في جواب النبي ﷺ زجر للناس عن السؤال عن وقتها، فقد أكثروا السؤال عنها كما قال الله تعالى ﴿يسألك الناس عن الساعة﴾ [الأحزاب ٦٣] فلما أجيبوا بأنه لا يعلمها إلا الله وجب أن يكفوا عن السؤال عنها، ولو سأل جبريل عن أمارتها ابتداء لضاعت هذه الفائدة.
1 / 20
(ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي لا علم لي ولا لك ولا لأحد بها، وكان هذا هو أصل ما يقال، لكنه عدل إلى المذكور، ليعم كل سائل ومسئول، بمعنى أن كل مسئول عن وقت الساعة لا يزيد في العلم بها عن السائل، وقد اعترض على هذا التعبير بأنه لا ينفي العلم بالساعة، لأن نفي الأفضلية في شيء لا يستلزم نفي الشيء، فالعبارة تنفي أفضلية الرسول ﷺ وزيادته في علم الساعة عن جبريل، ولا تنفي مساواتهما في العلم، وأجيب بأن نفي الأفضلية في العلم يحتمل المساواة في العلم ويحتمل المساواة في الجهل، ويحدد أحد الاحتمالين بقرينة، فلما قال "في خمس لا يعلمهن إلا الله" كما في رواية أبي هريرة تعين الاحتمال الثاني، وقيل إن المراد إفادة التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلمها.
(فأخبرني عن أمارتها) الأمارة بفتح الهمزة هي العلامة والقرينة الدالة على قربها.
(أن تلد الأمة ربتها) الرب: المالك، والمقصود بالربة: النسمة المالكة فيشمل الذكر والأنثى، وفي المراد منه أقوال كثيرة أهمها: أنه كناية عن كثرة أولاد السراري، فإن ولد الأم من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، ولا شك أنها مال لأبيه، وقد يتصرف الولد في مال أبيه في حياته تصرف المالكين بإذنه وهذا القول ضعيف لأن هذه الأمارة كانت موجودة بكثرة في عهده ﷺ وضعفت بل ندرت في هذه الأيام وقيل: كناية عن فساد الحال لكثرة بيع أمهات الأولاد فيتداولهن المالكون فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر.
وضعف هذا القول من ضعف سابقه وقيل: كناية عن كثرة الفتوحات والسبي وقيل: كناية عن أن الإماء يلدن الملوك لأن أمه حينئذ تكون من رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته وخير ما قيل: إنه كناية عن كثرة العقوق حتى يصير الولد لقلة بره بأمه كأنه مولاها كما جاء في رواية "ويكون الولد غيظا" أو أنه كناية عن رفع الأسافل، ويزكيه حديث "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع" وقد ورد في بعض الروايات "أن تلد الأمة بعلها" والصحيح في معناه أن المراد بالبعل المالك أو السيد فيكون بمعنى الرب.
(وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء) "الحفاة" جمع حاف وهو الذي لا نعل له و"العراة" جمع عار وهو الذي لا شيء عليه، و"العالة" الفقراء من عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، و"رعاء الشاء" بكسر الراء آخره همزة هم الرعاة بالراء المضمومة مع هاء التأنيث وخص أهل الشاة بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية.
(يتطاولون في البنيان) أي يتنافسون في رفع البناء ويتفاخرون ويتبارون والخطاب في "ترى" لكل من تأتى له الخطاب والمراد من الرؤية العلم ليدخل الأعمى والأمارة في الحقيقة التطاول لا رؤيته، والقصد من هذه الأمارة تبدل الحال أيضا.
(فلبث مليا) بضمير الفاعل الغائب للرسول ﷺ وفي كثير من الأصول المحققة "فلبثت"
1 / 21