١٠٢ - صلاة الكسوف
يقول السائل: ما قولكم فيما تنشره وسائل الإعلام عن ظاهرة كسوف الشمس وكيف كان هدي النبي ﷺ عند حدوث الكسوف؟
الجواب: اهتمت وسائل الإعلام المختلفة بظاهرة كسوف الشمس وبينت أسبابها وحذرت الناس من آثارها الضارة على العين عند نظرهم إلى الشمس في حال الكسوف. وأغفلت جانبًا هامًا يتعلق بكسوف الشمس وهو أن هذه الحادثة هي جزء من النظام العجيب والدقيق الدال على قدرة الله ﷾: قال الله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) سورة الزمر الآية ٥. وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) سورة النحل الآية ١٢. وقال تعالى: (وَيُرِيكُمْءَايَاتِهِ فَأَيَّءَايَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) سورة غافر الآية ٨١. وقال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) سورة يس الآية ٤٠. وقال تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) سورة فاطر الآية ١٣. وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) سورة لقمان ٢٩. وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) سورة الحج ٤٦. وقد قرر علماء الفلك أسبابًا معينة لكسوف الشمس وظن كثير من الناس أن هذا يتنافى مع كون الكسوف آية من آيات الله ﷾ يخوف الله بهما عباده. فقد ورد في الحديث أن الرسول ﷺ قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده وإنهما لا ينخسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئًا فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام ابن دقيق العيد: [وفي قوله ﵊ (يخوف بهما عباده) إشارة إلى أنه ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية. وقد ذكر أصحاب الحساب لكسوف الشمس والقمر أسبابًا عادية. وربما يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله ﵇ (يخوف الله بهما عباده) وهذا الاعتقاد فاسد. لأن لله تعالى أفعالًا على حسب الأسباب العادية وأفعالًا خارجة عن تلك الأسباب. فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض فإذا كان ذلك كذلك فأصحاب المراقبة لله تعالى ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى ما شاء. وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها. ولهذا كان النبي ﷺ عند اشتداد هبوب الريح يتغير ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد وإن كان هبوب الريح موجودًا في العادة. والمقصود بهذا الكلام: أن يعلم أن ما ذكره أهل الحساب من سبب الكسوف لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله تعالى. وإنما قال النبي ﷺ هذا الكلام لأن الكسوف كان عند موت ابنه إبراهيم. فقيل: إنها إنما كسفت لموت إبراهيم. فرد النبي ﷺ ذلك] إحكام الأحكام ١/٣٤٩-٣٥٠. على أن في ظاهرة الكسوف أمرًا يتنبه له المؤمن ويلتفت إليه إذا كان غيره لا يلتفت إليه وهو التذكير بقيام الساعة وانتهاء هذا العالم فإن مما ثبت بطريق الوحي اليقيني أن هذا الكون سيأتي عليه يوم ينفرط فيه عقده وينتثر نظامه فإذا سماؤه قد انفطرت وكواكبه قد انتثرت وشمسه قد كورت وجباله قد سيرت وأرضه قد زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها وآذن ذلك كله بتبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبروز الخلق لله الواحد القهار. إن الشمس والقمر ليسا أبديين ككل شيء في هذا العالم إنهما يجريان كما قال الله خالقهما إلى أجل مسمى، نعم مسمى معلوم عند الله خفي مجهول عند الناس ولكن المؤمن يوقن به ولا يغفل عنه فإذا شاهد ظاهرة كالكسوف والخسوف انتقل قلبه من اليوم إلى الغد ومن الحاضر إلى المستقبل وخصوصًا إذا تذكر قول الله تعالى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ولعل هذا سر ما جاء في رواية بعض الصحابة في حديث الكسوف أن النبي ﷺ قام فزعًا يخشى أن تكون الساعة - مع أن للساعة مقدمات وعلامات وأشراط كثيرة اخبر عنها النبي ﷺ بنفسه ولم تقع بعد - ولهذا استشكل بعض العلماء هذه الرواية ولكن يمكن حملها على أنه ﷺ فعل ذلك تعليمًا لأمته وإرشادًا لها لتكون على ذكر من أمر الساعة على كل حال ولا سيما إذا تأخر الزمان وظهرت معظم الأشراط والأمارات. فتاوى معاصرة ١/٢٤٢. وبهذا يظهر لنا أنه لا إشكال في كون الكسوف يقع حسب أسباب فلكية معروفة لتوسط القمر بين الأرض والشمس فيحجب ضوء الشمس وأنه يحدث في مواعيد معروفة مسبقًا ومحسوبة بدقة وبين كون الكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده فإن المؤمن يتيقن أن كل سبب ومسبب خاضع لإرادته تعالى مخلوق بقدرته سبحانه فإذا وقع شيء غريب حدث عند المؤمن الخوف لقوة اعتقاده بأن الله تعالى يفعل ما يشاء وأنه ذو العظمة الباهرة التي لا نهاية لها وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب أدت إلى تلك الحادثة الغريبة التي خرقت النظام المعتاد. وذلك كمثل من ضبط الساعة ذات الجرس المنبه كي يرن جرسها في وقت معين فهل يمتنع عن الاستيقاظ والانتباه لكونه يعلم ذلك من قبل؟ فكذلك أعلمنا النبي ﷺ أن هذه التغييرات جعلها الله لحكمة عظيمة ألا وهي العظة والذكرى فهل من مدكر) هدي النبي ﷺ في الصلوات الخاصة ص ١٦٣. هدي النبي ﷺ في صلاة الكسوف: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ في السنة العاشرة للهجرة خرج النبي ﷺ إلى المسجد فزعًا يجر رداءه فتقدم فصلى ركعتين قرأ في الأولى فاتحة الكتاب وسورة طويلة جهر بالقراءة ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه من الركوع فأطال القيام وهو دون القيام الأول وقال لما رفع رأسه سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم أخذ في القراءة ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع رأسه من الركوع ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى فكان في كل ركعة ركوعان وسجودان ... ثم انصرف فخطب بهم خطبة بليغة حفظ منها قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا) . وقال: (لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفًا من الجنة حين رأيتموني أتقدم ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضًا حين رأيتموني تأخرت) . وفي لفظ: (ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع منها. ورأيت أكثر أهل النار النساء. قالوا: وبم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) زاد المعاد ١/٤٥٠-٤٥١. أحكام صلاة الكسوف وما يتعلق بها: ١. صلاة الكسوف سنة مؤكدة عند أكثر أهل العلم. ٢. صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان تصلى جماعة في المسجد يقرأ الإمام جهرًا الفاتحة ثم سورة طويلة كالبقرة ثم يركع ركوعًا طويلًا ثم يقوم من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة كآل عمران ثم يركع ركوعًا طويلًا ثم يرفع ثم يسجد وفي الركعة الثانية يفعل مثلما فعل في الأولى. ٣. يشرع للإمام أن يخطب بعد انتهاء صلاة الكسوف اقتداء برسول الله ﷺ قال الإمام البخاري باب خطبة الإمام في الكسوف وقالت عائشة وأسماء: (خطب النبي ﷺ ثم ساق الإمام البخاري حديث عائشة ﵂ وفيه: (ثم قام - أي النبي ﷺ فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: هما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة) ورواه مسلم أيضًا. وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم، أيضًا عن عائشة ﵂ ذكرت أن النبي ﷺ بعد انتهائه من صلاة الكسوف: (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ثم قال: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا) . ٤. علّمنا النبي ﷺ أنه عند حدوث الكسوف فعلينا أن نفزع إلى الصلاة وإلى ذكر الله والتكبير والصدقة والتعوذ من عذاب القبر ودعانا إلى الإقلاع عن المعاصي وخاصة الزنا وما أدى إليه لما في هذه الفاحشة من خطورة وفظاعة وتدمير للمجتمع وتحطيم للقيم والأخلاق.
فعلى المسلمين أن يتذكروا هذه التوجيهات النبوية وأن يعملوا بمقتضاها وأن يقلعوا عن الذنوب والمعاصي التي عمت وطغت وانتشرت وظهرت في كل مكان.
6 / 102