حَالهمَا أَن يميزا عَن بَقِيَّة الصَّحَابَة بِهَذِهِ الخصوصية الْعُظْمَى رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وكرم الله وجههما. ٤٣ وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ: عَن قَوْله ﷺ: (إِن من إجلال الله إكرام ذِي الشيبة الْمُسلم، وحامل الْقُرْآن غير الغالي فِيهِ وَلَا الجافي عَنهُ، وإكرام السُّلْطَان المقسط) . هَل المُرَاد من قَوْله: (غير الغالي فِيهِ) أَن يبْذل جهده فِي قِرَاءَته من غير تدبر وتفكر. وَمن قَوْله: (وَلَا الجافي عَنهُ) هُوَ أَن يتْرك قِرَاءَته ويشتغل بتفسيره وتأويله؟ أَو مَا فِي بعض حَوَاشِي المصابيح: أَن الغالي الَّذِي يُجَاوز الْحَد فِي قِرَاءَة الْقُرْآن لِأَن مِمَّا أَمر الله بِهِ الْقَصْد فِي الْأُمُور وَخير الْأُمُور أوساطها. وكلا الطَّرفَيْنِ قصد الْأُمُور ذميم انْتهى. فَإِن قُلْتُمْ بِهَذَا الْمَعْنى فَهَل بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين قَوْله ﷺ: (لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رجل آتَاهُ الله الْقُرْآن فَهُوَ يقوم بِهِ آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار) الحَدِيث: تنَاقض أَو لَا؟ وَعَن قَوْله ﷺ: (من مسح رَأس يَتِيم كَانَ لَهُ بِكُل شَعْرَة تمر عَلَيْهِ يَده حَسَنَات) هَل المُرَاد بِالْمَسْحِ حَقِيقَته أَو الْكِنَايَة عَن الشَّفَقَة عَلَيْهِ والتلطف بِهِ؟ فَإِن قُلْتُمْ كِنَايَة فَمَا المُرَاد من قَوْله: (كَانَ لَهُ بِكُل شَعْرَة تمرّ عَلَيْهَا يَده حَسَنَات) . فَأجَاب بقوله: المُرَاد بالغالي فِيهِ المتجاوز لما فِيهِ من الْحُدُود وَالْأَحْكَام الاعتقادية والعملية والآداب والأخلاق الظَّاهِرَة والباطنة وَغير ذَلِك من سَائِر الكمالات الَّتِي حث الْقُرْآن عَلَيْهَا، فَمن حفظ أَلْفَاظه وَتجَاوز شَيْئا من هَذِه الْمَذْكُورَات كَانَ غير مُسْتَحقّ للإكرام والتعظيم بِحَسب مَا ارْتَكَبهُ بِمَعْنى أَنه يُؤَاخذ ويذم عَلَيْهِ من حيثُ إرتكابه لذَلِك، وَإِن كَانَ يسْتَحق الْإِكْرَام والتعظيم من جِهَات أُخَر لكَونه مُسلما أَو حَافِظًا لِلْقُرْآنِ أَو نَحْو ذَلِك، فَلَيْسَ المُرَاد نفي التَّعْظِيم لَهُ مُطلقًا بل بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي ذكرته فَتَأَمّله. وَالْمرَاد (بالجافي عَنهُ) من لَا يخضع لما فِيهِ من الْآيَات الباهرة والأدلة المتكاثرة وَلَا يتَأَمَّل مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ نظمه من بَدَائِع الْمعَانِي وإحكام المباني بل يمره بِلِسَانِهِ مَعَ قساوة قلبه وجفاوة لبه فَهُوَ كحمار الرَّحَى وثور الحراثة والإستقاء، ولسنا مُتَعبدَّين بِمُجَرَّد حفظه، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود الْأَعْظَم بإنزاله والتعبد بِحِفْظ أَلْفَاظه هُوَ هِدَايَة الْقُلُوب ورجوعها بالاستكانة والخضوع إِلَى علام الغيوب وتنزهها عَن كل خلق ذميم وَعمل رَمِيم، فَمن ظفر بذلك مَعَ حفظه فقد ظفر بالكنز الْأَعْظَم، وَمن ظفر بِالْأولِ فَقَط فَهُوَ آخذ من الْكَمَال بِمَا يسْتَحق بِسَبَبِهِ أَن يكرم ويعظم، وَمن قنع بِحِفْظ الْأَلْفَاظ وخلا عَن تِلْكَ الْمعَانِي بِأَن غلا أَو تجافى فَهُوَ بعيد عَن الْكَمَال غير مُسْتَحقّ أَن يبلغ بِهِ مبالغ الكُمَّل من الرِّجَال فَهَذَا وَالله أعلم بِمُرَاد نبيه ﷺ هُوَ المُرَاد من هَذَا الحَدِيث، وَيُؤَيّد مَا ذكرته. حَدِيث أَحْمد وَأبي يعلى وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ (اقْرَءُوا الْقُرْآن وَاعْمَلُوا بِهِ وَلَا تجفوا عَنهُ وَلَا تغلوا فِيهِ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ) . وَأما مَا ذكره السَّائِل من عِنْده فبعيد من اللَّفْظ وَالْمعْنَى، وَمَا نَقله عَن بعض حَوَاشِي المصابيح فَهُوَ كَلَام يجب الْإِعْرَاض عَن ظَاهره لمنابذته للسنَّة الغرَّاء. فَقَالَ قَالَ ﷺ: (أَعْبَدُ النَّاس أَكْثَرهم تِلَاوَة لِلْقُرْآنِ) رَوَاهُ الديلمي. وَقَالَ: (أفضل الْعِبَادَة قِرَاءَة الْقُرْآن) رَوَاهُ ابْن قَانِع. وَقَالَ: (أفضل عبَادَة أمتِي تِلَاوَة الْقُرْآن) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) أَنه ﷺ قَالَ: (الْقُرْآن ألف ألف حرف وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف ألف حرف، قمن قَرَأَهُ صَابِرًا محتسبًا كَانَ لَهُ بِكُل حرف زَوْجَة من الْحور الْعين) . وروى النّحاس والسجزي والخطيب أَنه ﷺ قَالَ: (اقْرَءُوا الْقُرْآن فَإِنَّكُم تؤجرون عَلَيْهِ أمَا إِنِّي لَا أَقُول ألم حرف وَلَكِن ألف عشر وَلَام عشر وَمِيم عشر فَتلك ثَلَاثُونَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَغَيرهمَا. وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ أَنه ﷺ قَالَ: (أحبّ الْعَمَل إِلَى الله الْحَال المرتحل الَّذِي يضْرب من أول الْقُرْآن إِلَى آخِره، وَمن آخِره إِلَى أَوله كلما حل ارتحل) . وَفِي حَدِيث عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ (اقْرَأ الْقُرْآن فِي ثَلَاث إِن اسْتَطَعْت) . ولمنابذة ذَلِك أَيْضا لما هُوَ مَعْرُوف من أَحْوَال السّلف رضوَان الله عَلَيْهِم، فَإِن أَكْثَرهم كَانُوا يختمون الْقُرْآن فِي كلّ سبع لَيَال مرّة، وَكَانَ كَثِيرُونَ يختمون فِي كل يَوْم وَلَيْلَة ختمة، وَختم جمَاعَة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة ختمتين، وَآخَرُونَ فِي كلّ يَوْم وَلَيْلَة ثَلَاث ختمات، وَختم بَعضهم فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ثَمَان ختمات أَرْبعا بِاللَّيْلِ وأربعًا بِالنَّهَارِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ بعد ذكره لذَلِك: وَمِمَّنْ ختم أَربع ختمات فِي اللَّيْل وأربعًا فِي النَّهَار السَّيِّد الْجَلِيل ابْن الْكَاتِب الصُّوفِي ﵁ وَهَذَا أَكثر مَا بلغنَا فِي الْيَوْم وَاللَّيْل، وروى السَّيِّد الْجَلِيل أَحْمد الدَّوْرَقِي بِإِسْنَادِهِ عَن مَنْصُور بن زَاذَان بن عباد من التَّابِعين ﵃، أَنه كَانَ يخْتم الْقُرْآن فِيمَا بَين الظّهْر وَالْعصر ويختمه أَيْضا فِيمَا بَين الْمغرب
1 / 42