لأقرأ وتوسمت تَوْبَته فرأيته مَرِيضا بِضيق النَّفس مَرضا شَدِيدا بِحَيْثُ صَار مشرفًا على زهوق نَفسه، فَقلت لَهُ: إِن اعتقدت فِي ابْن الفارض ضمنت لَك أَن الله يُشْفيك من هَذَا الْمَرَض فَقَالَ لي: هَذَا لَهُ معي مُدَّة من السنين، فَقلت: وَإِن كَانَ قَالَ: أفعل فخُفف عَنهُ ثمَّ خف عَنهُ، فمشيت مَعَه يَوْمًا لأحسن عقيدته، فَقَالَ لي: أمَّا ذَات الرجل فَلَا أحكم عَلَيْهَا بِكفْر، وَأما كَلَامه فَفِيهِ مَا هُوَ كفر، فَقلت: ظلم دون ظلم، ثمَّ تركت الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، وَصَارَ ذَلِك الْمَرَض ملازمه لَكِن بخفة نسبية، وَلَقَد كَانَ بعض تلامذة البقاعي أَيْضا وَهُوَ الشَّيْخ الْعَلامَة نور الدّين الْمحلي يَقُول: أما ذَات الرجل فَلَا أحكم عَلَيْهَا بِكفْر وَأما كَلَامه فَفِيهِ مَا هُوَ كفر. فَإِن قلت من المنكرين من نفع الله بِعِلْمِهِ. قلتُ: المنكرون على قسمَيْنِ. قسم مِنْهُم لم يقصدوا بإنكارهم مَحْض النَّصِيحَة للْمُسلمين بل مَحْض تعصب، وَرَأَوا ذَلِك وَغلب عَلَيْهِم نوع من الْحَسَد وَحب إبداء خلاف أهل الْعَصْر قصدا لتميزهم عَلَيْهِ بالأشياء الغريبة والاشتهار عَنْهُم أَنهم يُنكرُونَ الْمُنكر وَلَا يخَافُونَ أحدا، وَنَحْو ذَلِك من الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة الَّتِي لم يصحبها نوع إخلاص. وَمِنْهُم الشَّيْخ البقاعي وعلاء الدّين البُخَارِيّ وَمن ضاهاهما، وَلَقَد أدّى البقاعي تعصُبه إِلَى أَن أنكر على حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ قَوْله: لَيْسَ فِي الْإِمْكَان أبدع مِمَّا كَانَ، وشنع بِمَا أوغر مِنْهُ الصُّدُور حَتَّى دخل ليسلم على بعض أهل الْعلم فَوَجَدَهُ فِي مَكَان خَال فَأخذ ذَلِك الرجل تاسومته وَضرب بهَا البقاعي حَتَّى أشرف على التّلف، وَصَارَ وَهُوَ يضْربهُ يوبخه وَيَقُول لَهُ: أَنْت الْمُنكر على الْغَزالِيّ أَنْت الْقَائِل فِي حَقه كَذَا وَكَذَا حَتَّى جَاءَ النَّاس وخلصوه مِنْهُ وَلم ينتطح فِيهَا شَاتَان، وَبعد ذَلِك قَامَ عَلَيْهِ أهل عصره وعاندوه وصنفوا فِي الذبّ عَن الْغَزالِيّ والردّ على البقاعي كتبا عديدة. وَحَاصِل الْجَواب عَن كَلَام الْغَزالِيّ الْمَذْكُور: أَن إِرَادَة الله ﷾ لما تعلّقت بإيجاد هَذَا الْعَالم وأوجده وَقضى بِبَقَاء بعضه إِلَى غَايَة، وببقاء بعضه الآخر لَا إِلَى غَايَة وَهُوَ الْجنَّة وَالنَّار كَانَ ذَلِك مَانِعا مِنْ تعلق الْقُدْرَة الإلهية بإعدام جَمِيع هَذَا الْعَالم، لِأَن الْقُدْرَة لَا تتَعَلَّق إِلَّا بالممكن وإعدام ذَلِك غير مُمكن لَا لذاته بل لما تعلق بِهِ مِمَّا ذَكرْنَاهُ، وَلما كَانَ إعدامه مُحالًا لما قُلناه كَانَ إيجاده الأول على غَايَة الْحِكْمَة والإتقان وَكَانَ أبدع مَا يُمكن أَن يُوجد لِأَنَّهُ لَا يُوجد غَيره لما تقرّر. وَالْقسم الثَّانِي: قوم قصدُوا بإنكارهم مَحْض النَّصِيحَة للْمُسلمين، وذبَّ هَؤُلَاءِ الجهلة المتصوّفة الَّذين يشتغلون بمطالعة كتب ابْن عَرَبِيّ وَأَتْبَاعه مَعَ خلوهم عَن الْعُلُوم الرسمية وَالْأَحْوَال الكشفية واتصافهم بِالْجَهْلِ الْمَحْض، ويتخذونها ديدنًا حَتَّى يفهموا مِنْهَا غير المُرَاد، وَهَؤُلَاء الكُفْر أقرب إِلَيْهِم من الْإِسْلَام، وَلَقَد شاهدنا مِنْهُم جمَاعَة يَأْكُلُون فِي رَمَضَان ويختلون فِي نَهَاره بالمُرْدِ فِي الْحمام، ويفعلون مَا هُوَ أقبح من ذَلِك وَيَقُولُونَ: نَحن لَا نشْهد إِلَّا الله، وَهَذِه التحليلات والتحريمات إِنَّمَا يُخَاطب بهَا المحجوبون عَن الله كهؤلاء الْفُقَهَاء المنكرين، وقومًا يستبيحون أكل أَمْوَال النَّاس وَيَقُولُونَ: الْأَشْيَاء كلهَا مَمْلُوكَة لله سُبْحَانَهُ وَنحن من عبيده، وقومًا تُلْهِيهِمْ مطالعة كتبه عَن الْجَمَاعَة وَأَدَاء الْفَرَائِض فِي أَوْقَاتهَا وَغير ذَلِك، فَهَؤُلَاءِ لَا يُمترى فِي سفههم وجهلهم وَيجب زجرهم عَن مطالعة كتب الشَّيْخ، لَا لنَقص فِيهَا بل لنَقص فِي هَؤُلَاءِ، وَلَقَد شافهني بَعضهم بِكَثِير مِمَّا قَدمته، وَبَعْضهمْ يَقُول: الْعَالم قديم وَالْكفَّار لَا يُعَذبُونَ فِي جَهَنَّم. قلت: من أَيْن لَك هَذَا؟ فَقَالَ: صرح بِهِ الشَّيْخ محيي الدّين بن عَرَبِيّ، فَانْظُر كَيفَ فهم عبارَة الشَّيْخ على ظَاهرهَا وأعتقد ذَلِك، وَمَا درى الْجَاهِل الْمَغْرُور أَن المُرَاد بهَا غير ذَلِك كَمَا صرّح بِهِ الشَّيْخ فِي بعض كتبه، وَلَقَد قَالَ قدّس الله سرّه ونوّر ضريحه: نَحن قوم تحرم المطالعة فِي كتبنَا إِلَّا لعارف باصطلاحنا، فَانْظُر كَيفَ هَذَا نصّ صَرِيح من الشَّيْخ بِتَحْرِيم المطالعة على هَؤُلَاءِ الجهلة المغرورين الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالدّينِ، فالمنكرون إنْ قصدُوا بالإنكار الْمُبَالغَة فِي زجر مثل هَؤُلَاءِ فَلَا حرج عَلَيْهِم، وهم فِي أَمن من الشَّيْخ وَأَتْبَاعه، لأَنهم ساعون فِي غَرَض الشَّيْخ من عدم مطالعة هَؤُلَاءِ كتبه، وَلَقَد بَلغنِي عَن بعض المنكرين أَنه قيل لَهُ: أترضى أَن يكون خصمك يَوْم الْقِيَامَة الشَّيْخ محيي الدّين بن عَرَبِيّ وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى؟ فَقَالَ: نعم، لِأَن الشَّيْخ إِن كَانَ محقًا فَهُوَ ينْكَشف لَهُ أَن إنكاري إِنَّمَا كَانَ لله فيفرح بذلك وَإِن كَانَ مُبْطلًا فالغلبة لي فَأَنا آمن مِنْهُ على كل تَقْدِير، فَتَأمل كَيفَ أنصف هَذَا مَعَ أَنه منحط عَن دَرَجَة الْكَمَال على كل تَقْدِير إِذْ التَّسْلِيم أسلم، لَكِن أهل هَذَا الْقسم أحسن حَالا من أهل الْقسم الأول، وَمن انْتَشَر علمه من المنكرين علمنَا أَنه لم يكن من الْقسم الأول بل من الْقسم الثَّانِي، وَيَا عجبا
1 / 40