يسئل عَن مُرَاده فَإِن فسره بِشَيْء عمل بِهِ فَانْظُر وفقك الله إِلَى هَذِه الْعبارَات تَجِد المنكرين الَّذين يتهجمون على هَذَا الرجل الْعَظِيم ويجزمون بِكُفْرِهِ قد ارتكبوا متن عمياء وخبطوا خَبْط عشواء، وَإِن الله أعمى بصائرهم وأصم آذانهم عَن ذَلِك حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَكَانَ سَببا لمقتهم وَعدم الِانْتِفَاع بعلمهم. وَمِنْهَا: أَن علمهمْ وزهدهم ورفضهم الدُّنْيَا والسوى جملَة وَاحِدَة قَاض بنزاهتهم عَن هَذِه المقالات الشنيعة، فترجَّح بذلك عدم الْإِنْكَار عَلَيْهِم لِأَن عبارتهم حَقِيقَة فِيمَا اصْطَلحُوا فِيهِ، فَلَا يجوز الْإِنْكَار عَلَيْهِم إِلَّا بعد معرفَة مَدْلُول كَلَامهم ثمَّ معرفَة اصطلاحهم، ثمَّ يطبق ذَلِك الِاصْطِلَاح على ذَلِك الْمَدْلُول وَينظر هَل يطابقه أم لَا، وَنَحْمَد الله، المنكرون عَلَيْهِم كلهم جاهلون بذلك إذْ لَيْسَ مِنْهُم أحد أتقن عُلُوم المكاشفات بل وَلَا شم لَهَا رَائِحَة، وَلَا أحد مِنْهُم ملك زمامه لأحد مِنْهُم حَتَّى أحَاط باصطلاحاتهم. فَإِن قلت: لَا أسلم أَن اللَّفْظ حَقِيقَة لَا مجَاز فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ، فعين لي مَا هُوَ أوضح من ذَلِك؟ قلت: إِنْكَار ذَلِك عناد، وعَلى تَقْدِير عدم تَسْلِيم مَا ذكرنَا فاالصواب للمعترض أَن يَقُول فِي عِبَارَته: هَذِه الْعبارَة تحْتَمل وُجُوهًا ويبينها، ثمَّ يَقُول: إِن أَرَادَ كَذَا فَكَذَا أَو كَذَا فَكَذَا، وَلَا يَقُول من أول وهلة هَذَا كفر هَذَا جهل وَخُرُوج عَن دَائِرَة النَّصِيحَة الَّتِي يزْعم أَنه أرادها، أَلا ترى أَن ابْن الْمقري لَو كَانَ غَرَضه النَّصِيحَة لما كَانَ يُبَالغ وَيَقُول: من شكّ فِي كفر طَائِفَة ابْن عَرَبِيّ فَهُوَ كَافِر، فانتقل من الحكم عَلَيْهِم بالْكفْر إِلَى الحكم على من لم يتَيَقَّن كفرهم، فَانْظُر إِلَى هَذَا التعصب الَّذِي بلغ الْغَايَة وَفَارق بِهِ إِجْمَاع الْأَئِمَّة، وانتقل بِهِ إِلَى كفر غير الْمُتَيَقن كفرهم ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النُّور: ١٥ ١٦] وَانْظُر أَيْضا إِلَى مَا أفهمته عِبَارَته. من أَنه يجب على الكافة اعْتِقَاد كفرهم وَإِلَّا كفرُوا، وَهَذَا لَا قَائِل بِهِ بل رُبمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَحْذُور صرح بِهِ هُوَ قبل فِي رَوْضِهِ تبعا لأصله حيثُ قَالَ من كفَّر مُسلما لذنبه بِلَا تَأْوِيل كفر، وَهَذَا قد كفرَّ مُسلمين، وَلَا عِبْرَة بِمَا يؤوله لِأَن مَا يَقُوله من التَّأْوِيل إِنَّمَا يُقبل فِي حق من أنكر عَلَيْهِم، لِأَن كلماتهم قد توهم ذَلِك فِي اعْتِقَاده، وَأما من لم يرَ كَلَامهم إِلَّا نورا بَين يَدَيْهِ واعتقد ولايتهم فَكيف يتهاجم مُسلم على تكفيره وَلَا يتهاجم على ذَلِك إِلَّا مَنْ رَضِي لنَفسِهِ بالْكفْر على احْتِمَال، وَلَقَد ظهر فِي هَذِه الْكَلِمَة من التعصب والتعدي على سَائِر الْمُسلمين نسْأَل الله من فَضله أَن يغْفر لقائلها. وَلَقَد تَوَاتر وشاع وذاع أَن من أنكر على هَذِه الطَّائِفَة لَا ينفع الله بِعِلْمِهِ ويبتلى بأفحش الْأَمْرَاض وأقبحها، وَلَقَد جربنَا ذَلِك فِي كثير من المنكرين حَتَّى أَن البقاعي غفر الله لَهُ كَانَ من أكَابِر أهل الْعلم، وَكَانَ لَهُ عبادات كَثِيرَة وذكاء مُفْرط وَحفظ بارع فِي سَائِر الْعُلُوم لَا سِيمَا علم التَّفْسِير والْحَدِيث، وَلَقَد صنف كتبا كَثِيرَة أَبى الله أَن ينفع أحدا مِنْهَا بِشَيْء، وَله كتاب فِي مناسبات الْقُرْآن نَحوا من عشرَة أَجزَاء لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص بِالسَّمَاعِ، وَأما غَيرهم فَلَا يعرفونه أصلا، وَلَو كَانَ هَذَا الْكتاب لشَيْخِنَا زَكَرِيَّا أَو غَيره مِمَّن يعْتَقد لَكَانَ يكْتب الذَّهَب لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة لم يوضع مثله لَكِن: ﴿كُلًاّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وهَؤُلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الْإِسْرَاء: ٢٠] وَلَقَد بَالغ البقاعي فِي الْإِنْكَار وصنَّف فِيهِ مصنَّفات كلُّها صَرِيحَة فِي غَايَة التعصُّب والميل عَن سَبِيل الاسْتقَامَة، وَمن ثمَّ جوزي بِمَا مرَّ وبأقبح مِنْهُ، وَهُوَ أَنه ضبط عَلَيْهِ فِي مناسباته فَحكم بتكفيره وإهدار دَمه، وَلم يبْق من ذَلِك إِلَّا إزهاق روحه لَوْلَا اسْتَعَانَ بِبَعْض الأكابر حَتَّى خلصه من تِلْكَ الورطة، واستتيب فِي الصالحية بِمصْر وجدد إِسْلَامه، وَلَقَد قيل لَهُ آخر أمره: مَا الَّذِي تنتقد على الشَّيْخ محيي الدّين؟ قَالَ: أنتقد عَلَيْهِ مَوَاضِع فِي فتوحاته خمس عشر موضعا أَو أدْون، فَأنْظر إِلَى هَذَا الَّذِي يُخَالف مَا فِي مصنفاته من ذكر مَوَاضِع كَثِيرَة من الفتوحات وَغَيرهَا وَالتَّصْرِيح بِأَنَّهَا كفر، وَهل هَذَا إِلَّا لمزيد التعصب، وَلَقَد كَانَ لَهُ تلامذة أكَابِر أخذُوا بقوله وَمَا يَعْتَقِدهُ وَبَعْضهمْ من مشايخي، لَكِن لم يظْهر لَهُم علم لِأَن بَعضهم لم يَتَيَسَّر لَهُ التصنيف وَبَعْضهمْ صنف فِي فن الْفِقْه تصانيف تضاهي تصانيف السعد التَّفْتَازَانِيّ وَغَيره من بلاغتها، وَحسن سبكها وجودة تراكيبها، لَكِن لم يعبأ أحد بهَا وَلم يلْتَفت إِلَيْهَا بل النَّاس عَنْهَا فِي غَايَة الْإِعْرَاض، وَلَقَد وَقع لي مَعَ هَذَا الرجل أَنِّي كنت أَقرَأ عَلَيْهِ فاعتراه ضيق نفس، وَكنت لَا أعلم إِنْكَاره على هَذِه الطَّائِفَة فَوَقع فِي بعض الْمجَالِس ذكر الشَّيْخ عمر بن الفارض قدس الله سره فَقيل لَهُ: مَا تَقول فِيهِ؟ قَالَ: شَاعِر مُفْلِق، فَقيل لَهُ: فَمَاذَا بعد ذَلِك؟ قَالَ: كَافِر، فأخذني من ذَلِك الْمُقِيم المقعد ثمَّ عدت إِلَيْهِ
1 / 39