إِن كَانَ عِنْدِي موضعٌ لسواكم أعددُّته يَوْمًا فَلَا أَلْقَاهُ وَهُوَ يَقُول: جِئْنَا لنسلم على إِبْرَاهِيم، ورؤي تِلْكَ اللَّيْلَة أَيْضا وَهُوَ يَقُول قد قلعنا الغوري بعروقه من هَذِه المملكة وَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يمْكث بعد ذَلِك إِلَّا مُدَّة قَليلَة وَخرج على وَجهه فِي عساكره وأجناده إِلَى حلب ثمَّ إِلَى مَحل يُسمى مرج دابغ، فَبَيْنَمَا هُوَ سَائِر التقى بالسلطان سليم بن عُثْمَان فأخذل الله الغوري وَجُنُوده وانهزموا وتبدَّدوا وَلم يقدروا على الْحَرْب سَاعَة وَاحِدَة، وفُقِد الغوري وَلم يدر مَا فعل الله بِهِ، فيكفيك مَا قَالَه هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة العارفون بِاللَّه الْعَالمُونَ الْعَامِلُونَ الْفُقَهَاء الْأَوْلِيَاء، وَمَا صَرَّحُوا بِهِ من أنَّ كلا الْإِمَامَيْنِ الْمَذْكُورين وطائفتهما: أَي التَّابِعين لَهما بِحَق كَمَا قَدمته أَوْلِيَاء أخيار أتقياء أبرار. فَكيف يمتري عَاقل أَو متدين بعد مَا صرح بِهِ أَئِمَّة الدّين الَّذين أماطوا عَن وَجهه شُبْهَة المبطلين، وأبطلوا حجج المتمردين، مِمَّا ذكر فِي ولَايَة هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين، وَيَا عجبا كَيفَ نَأْخُذ بقَوْلهمْ فِي الْأَحْكَام ونعمل بهَا فِيمَا بَيْننَا وَبَين الله ونعتمد عَلَيْهَا فِي التَّحْرِيم والتحليل وَقتل الْأَنْفس وَقطع الْأَيْدِي وَغير ذَلِك من العظائم، وَلَا نَأْخُذ بقَوْلهمْ فِي أَئِمَّة مُسلمين تَضلَّعوا من الْكتاب وَالسّنة وضموا إِلَى ذَلِك الْفُرُوع الاجتهادية وَمَا يلائم ذَلِك من الْعُلُوم الأدبية والعربية، ثمَّ بعد إتقان ذَلِك كُله اشتغلوا بصفاء قُلُوبهم حَتَّى أشرقت وتنورت وَصَارَت شفافة تحكي مَا قابلته، فكوشفوا بإبراز الْعُلُوم وأحكامها الْبَاطِنَة بل وبحكم الموجودات كالعبادات وَغَيرهَا، فدوّنوها قصدا لِأَن ينْتَفع بهَا من سلك طريقتهم، وليعلموا بهَا المحق من غَيره، وَأَن المحق ينْطق عَن وجوده بِمَا يضاهيها فَلَا يتَقَيَّد بهَا، وَأما الْمُبْطل فَلَيْسَ لَهُ مِنْهَا إِلَّا مُجَرّد الْحِفْظ بِاللِّسَانِ، وَلَو طلب مِنْهُ تحقيقها فضلا عَن إبداء مَا ماثلها لعجز عَن ذَلِك. وَمِمَّا يدل على إتقانهم لتِلْك الْعُلُوم الْمَذْكُورَة مَا حَكَاهُ الذَّهَبِيّ وَكَانَ من المنكرين على الشَّيْخ محيي الدّين بن عَرَبِيّ: أَن سُلْطَان الغرب أَمر أَن لَا يُقيم ببلاده إِلَّا رجل يبلغ دَرَجَة الِاجْتِهَاد بِحَيْثُ لَا يتَقَيَّد بِمذهب أحد فأجمع رَأْي عُلَمَاء بِلَاده على سِتَّة مِنْهُم، وَكَانَ من السِّتَّة الشَّيْخ محيي الدّين. وَمَا قَالَه البقاعي، وَكَانَ من المنكرين أَو أكبرهم فِي كتاب للشَّيْخ محيي الدّين صنفه فِي أسرار الْمُعَامَلَات، هَذَا أجلّ من تصنيف الْغَزالِيّ، فَتَأمل كَيفَ هَذَا الرجل بِهَذِهِ الْمرتبَة الْعَظِيمَة العديمة النظير، ويُظن بِهِ سفاسف الرذائل الَّتِي لَا يرضى بهَا أقل متدين لَيْسَ ذَلِك إِلَّا مَحْض تعصب وسعيًا فِي تبوّء مفاوز المقت أعاذنا الله من ذَلِك. وَلَقَد أَخْبرنِي شَيخنَا الْعَارِف الْعَلامَة أَبُو الْحسن الْبكْرِيّ عَن الشَّيْخ الْعَلامَة جمال الدّين الصابي من صَرِيح لَفظه وَكَانَ من أجلّ تلامذة شَيخنَا زَكَرِيَّا السَّابِق أَنه كَانَ يُنكر على الشّرف بن الفارض فَرَأى الْقِيَامَة قد قَامَت وعَلى كتفه خرج وَهُوَ بِهِ فِي غَايَة التَّعَب، ثمَّ سمع قَائِلا يَقُول: أَيْن جمَاعَة ابْن الفارض؟ قَالَ: فتقدمتُ لأدخل مَعَهم فَقيل لي لستَ مِنْهُم فَارْجِع، فانتبهت وَأَنا فِي غَايَة الْخَوْف والأسف والحزن فتبتُ إِلَى الله من الْإِنْكَار على ابْن الفارض، وخلصت عقدي مَعَ الله واعتقدتُ فِيهِ أَنه من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى، فنمتُ فِي مثل تِلْكَ اللَّيْلَة من السّنة الثَّانِيَة فرأيتُ ذَلِك الْمَنَام بِعَيْنِه، ثمَّ سَمِعت الْقَائِل يَقُول: أَيْن جمَاعَة ابْن الفارض يدْخلُونَ الْجنَّة؟ فتقدمت مَعَهم، فَقيل لي: ادخل الْآن أَنْت مِنْهُم، فَانْظُر هَذِه الْقَضِيَّة من رجل فَقِيه، وَالظَّاهِر وَالله أعلم أَنه إِنَّمَا أرى ذَلِك حَتَّى رَجَعَ ببركة شَيْخه زَكَرِيَّا وَإِلَّا فكم من مُنكر عَلَيْهِم تَرَكُوهُ وعماه حَتَّى بَاء بالخسارة والبوار. فَإِن قلت: قد أنكر عَلَيْهِم أَئِمَّة أجلاء أَيْضا كالبلقيني وَغَيره وَآخرهمْ البقاعي وتلامذته وَبَعْضهمْ مِمَّن أخذت عَنهُ، فَلم رجحت تِلْكَ الطَّرِيقَة دون هَذِه الطَّرِيقَة؟ قلت: إِنَّمَا رجحتها لأمور. مِنْهَا: مَا ذكره شَيخنَا فِي (شرح الرَّوْض) نقلا عَن السعد التَّفْتَازَانِيّ مُحَقّق الْإِسْلَام وَفَارِس ميدانه ومميط حجَّة الظلام وكشَّاف شُبَهه عَن علياء ضيائه، وَالَّذِي ذكره فِيهِ ظَاهر فاطلبه مِنْهُ، وَحَاصِله ردًّا على ابْن الْمقري حَيْثُ قَالَ: من شكّ فِي كفر طَائِفَة ابْن عَرَبِيّ فَهُوَ كَافِر، أَن الْحق أَنهم أخيار أَئِمَّة، وَأَن اليافعي وَابْن عَطاء الله وَغَيرهمَا صرّحوا بِولَايَة ابْن عَرَبِيّ وَأَن اللَّفْظ المصطلح عَلَيْهِ حَقِيقَة عِنْد أَهله فِيمَا اصْطَلحُوا عَلَيْهِ، وَأَن الْعَارِف إِذا استغرق فِي بحار التَّوْحِيد رُبمَا صدرت عَنهُ عِبَارَات توهم الْحُلُول والاتحاد وَلَا حُلُول وَلَا اتِّحَاد. وَمِنْهَا: مَا صرح بِهِ أَئِمَّتنَا كالرافعي فِي الْعَزِيز وَالنَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) و(الْمَجْمُوع) وَغَيرهمَا من أَن الْمُفْتِي إِذا سُئِلَ عَن لفظ يحْتَمل الْكفْر وَغَيره لَا يَقُول هُوَ مهدر الدَّم أَو مباحه أَو يقتل أَو نَحْو ذَلِك، بل يَقُول
1 / 38