تِلْكَ الْحَيْثِيَّة وَإِن كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى أفضل من حيثية أُخْرَى وَالله ﷾ أعلم بِالصَّوَابِ. ٣٩ وَسُئِلَ: فِي التصوّف مَا ملخص مَا يَقُولُونَهُ فِي ابْن عَرَبِيّ وَابْن الفارض وطائفتهما هَل هم محقون أم مبطلون وَمَا الدَّلِيل على ذَلِك أوضحُوا لنا الْجَواب وابسطوه بسطًا شافيًا؟ فَأجَاب: ملخص مَا نعتقده فِي ابْن عَرَبِيّ وَابْن الفارض وتابعيهما بِحَق الجارين على طريقتهما من غَايَة إتقان عُلُوم الْمُعَامَلَات والمكاشفات، وَمن غَايَة الزّهْد والورع والتجرد، والانقطاع إِلَى الله فِي الخلوات والدأب على الْعِبَادَات ونسيان الْخلق جملَة وَاحِدَة، ومعاملة الْحق، ومراقبته فِي كل نفس كَمَا تَوَاتر كل ذَلِك عَن هذَيْن الرجلَيْن العظيمين أَنهم طَائِفَة أخيار أَوْلِيَاء أبرار بل مقربون، وَمن رق السوىَّ أَحْرَار لَا مرية فِي ذَلِك وَلَا شكّ إِلَّا عِنْد من لَا بَصِيرَة لَهُ، وَكَفاك حجَّة على ولايتهما تَصْرِيح كثيرين من الأكابر بهَا، وبأنهما من الأخيار المقربين كالشيخ الْعَارِف الإِمَام الْفَقِيه الْمُحدث المتقن عبد الله اليافعي نزيل مَكَّة المشرفة وعالمها، وَمن ثمَّ قَالَ الأسنوي فِي (تَرْجَمته): فَاضل الأباطح وعالمها، وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي ابْتَدَأَ كتبنَا بالشافعي وختمها باليافعي، وكالشيخ الإِمَام الْمجمع على جلالته وَعلمه بِمذهب مَالك وَغَيره، وعَلى مَعْرفَته التَّاج بن عَطاء الله وناهيك بِحكمِهِ وَتَنْويرِهِ دَلِيل على ذَلِك، حَتَّى قَالُوا: كَادَت الحكم أَن تكون قُرْآنًا يُتْلَى، وكالشيخ الإِمَام الْعَلامَة الْمُحَقق الشَّافِعِي الأصولي التَّاج السُّبْكِيّ وكشيخنا خَاتِمَة الْمُتَأَخِّرين وواسطة جمع الْمُحَقِّقين زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ وكالشيخ الْعَلامَة الْبُرْهَان بن أبي شرِيف وناهيك أَيْضا بِهَذَيْنِ الْعَالمين. وَقد حكى بعض الثِّقَات الْأَثْبَات من الْفُقَهَاء أَنه قَالَ: جَاوَرت بِمَكَّة وَكَانَ لي فِيهَا صديق من أَوْلِيَاء الله فَسَأَلته أَن يريني القطب، فَمَكثَ مُدَّة ثمَّ قَالَ لي: إِذا رَأَيْته لَا تكَلمه، فَمَكثت مُدَّة ثمَّ رَأَيْته فَقبلت يَده وَجَلَست سَاكِنا، ثمَّ الْتفت القطب وَقَالَ: صاحبُ مصرَ رجل مِنْكُم معشر الْفُقَهَاء، فخطر لي أَن أسأله عَنهُ فَلم يمكني ذَلِك، ثمَّ بعد مُدَّة اجْتمعت بِهِ وَكَانَ عِنْدِي أَنِّي إِذا اجْتمعت بِهِ أسأله عَن تعْيين ذَلِك الرجل، فَالْتَفت إليّ وَقَالَ: صَاحب مصر الْآن الشَّيْخ برهَان الدّين بن أبي شرِيف، ثمَّ يكون بعده الشَّيْخ زَكَرِيَّا، فَتَأمل هَذِه الشَّهَادَة من القطب لهذين الْإِمَامَيْنِ وَلَقَد كَانَا زِينَة مصر بل زِينَة الدُّنْيَا كلهَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا لَا يخافان فِي الله لومة لائم حَتَّى كَانَ الشَّيْخ زَكَرِيَّا يسب السُّلْطَان قايتباي صَرِيحًا على الْمِنْبَر وَهُوَ جَالس يسمع خطبَته وَهُوَ يومئذٍ قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية وَكَانَ لَا يهابه وَلَا يعبأ بِهِ، وَكَيف لَا وَقد مدّ عَلَيْهِ نظر السَّادة الصُّوفِيَّة ورضع من لبان معارفهم وَدخل تَحت لِوَاء إشاراتهم، وتزيا مَعَهم حَتَّى اجتلى وتوقد وَتفرد وانكشفت لَهُ حقائق ومعارف، وَكَانَ يَحْكِي عَن شَيْخه البُلْقِينِيّ أَنه كَانَ يجْتَمع بالخضر كثيرا وَبَلغنِي عَنهُ أَنه فِي أَيَّام خلواته بسطح الْجَامِع الْأَزْهَر، جَاءَ مِمَّن يعرفهُ رجل وَقد أصَاب عَيْنَيْهِ رمد حَتَّى أيس مِنْهُمَا الكحَّالون فَشَكا إِلَيْهِ ذَلِك فَتوجه إِلَى الله فِي أَمرهمَا فَلم يَجِيء الْيَوْم الثَّانِي إِلَّا وَقد زَالَ عَنهُ جَمِيع مَا يجده وَصَارَ بَصَره الَّذِي كَانَ أيس مِنْهُ أحسن مَا كَانَ، وَلَقَد آذاه بعض تلامذته، وَكَانَ أعْطى مناصب عَظِيمَة فِي الدولة الرومية بِحَيْثُ كَانَت فِي الدولة التركية لَا يُعْطي كل وَاحِد مِنْهَا إِلَّا لمن هُوَ دون السُّلْطَان بِدَرَجَة أَو دَرَجَتَيْنِ فَدَعَا الشَّيْخ عَلَيْهِ فَلم يمض عَلَيْهِ إِلَّا زمن قَلِيل، وَقد سلب الله عَنهُ جَمِيع مَا كَانَ فِيهِ وَخرج من مصر هَارِبا إِلَى اسلامبول، فَصَارَ فِيهَا بأرث هَيْئَة وأسفلها كل ذَلِك ببركة الشَّيْخ، وواقعة البرهاني بن أبي شرِيف مَعَ السُّلْطَان الغوري مَشْهُورَة حَيْثُ عانده وَأفْتى بِخِلَاف مَا لَا غَرَض لَهُ فِيهِ، وَهُوَ قبُول رُجُوع رجل أقرّ بِالزِّنَا وَكَانَ للسُّلْطَان غَرَض فِي قَتله، فَأرْسل يستفتي من الشَّيْخ لنَفسِهِ بذلك مُوَافقَة لما أدخلهُ بعض الممقوتين من الْفُقَهَاء فِي ذهنه من أَن الشَّرْع عدم قبُول إِقْرَاره فأفتاه بِخِلَافِهِ، فعقد لعلماء مصر مَجْلِسا فِي قلعته فَكَلَّمَهُمْ فَلم يعلنوا بِالْحَقِّ كَمَا أعلن بِهِ الشَّيْخ برهَان الدّين بن أبي شرِيف، وَشد عضُدَه شَيخنَا زَكَرِيَّا ونَصَرَ مَا قَالَه، وأعلن بِهِ وَبِأَنَّهُ على الْحق، فَغَضب السُّلْطَان من ذَلِك وَمن إفتائه بموافقة ذَلِك، وَقَالَ فِي فتواه: لَا يجوز قَتله وَمن قَتله قتل بِهِ، فَغَضب الغوري غَضبا شَدِيدا حَتَّى أرسل للرجل الْمقر وَالْمَرْأَة الْمُزنِيّ بهَا فصلبا على بَاب بَيت الشَّيْخ، فسد الشَّيْخ ذَلِك الْبَاب وَصَارَ يخرج من بَاب آخر كَانَ لَهُ وَلم يعبأ بذلك وَلَا تأثر بِهِ مَعَ أَنه إِنَّمَا ظن أَولا أَنه هُوَ الْمَأْمُور بصلبه، فاستعد لذَلِك بِالطَّهَارَةِ وَغَيرهَا وَسلم الله وَلم يظْهر عَلَيْهِ مَا يُخَالف التَّسْلِيم، وَمن ثمَّ رُؤِيَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ يُكَرر قَوْله:
1 / 37