أعلم بِالصَّوَابِ. ٣٠ وَسُئِلَ فسح الله فِي مدَّته، عَن مَسْأَلَة وَقع فِيهَا جوابان مُخْتَلِفَانِ صورتهَا: هَل يجوز الدُّعَاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات بمغفرة جَمِيع الذُّنُوب، وبعدم دُخُولهمْ النَّار أم لَا؟ فَأجَاب الأول فَقَالَ: لَا يجوز فقد ذكر الإِمَام ابْن عبد السَّلَام وَالْإِمَام الْقَرَافِيّ من الْأَئِمَّة الْمَالِكِيَّة أَنه لَا يجوز، لأَنا نقطع بِخَبَر الله وبخبر رَسُوله ﷺ أَن مِنْهُم من يدْخل النَّار، وَأما الدُّعَاء بالمغفرة فِي قَوْله ﵎ حِكَايَة عَن نوح: ﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: ٢٨] وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ ورد بِصِيغَة الْفِعْل فِي سِيَاق الدُّعَاء وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُوم لِأَن الْأَفْعَال نكرات وَيجوز قصد مَعْهُود خَاص، وَهُوَ أهل زَمَانه مثلا انْتهى. وَأجَاب الثَّانِي فَقَالَ: يجوز لأمور. أَحدهَا: أَن الْأَئِمَّة ﵃ ذكرُوا أَنه يسن للخطيب أَن يَدْعُو للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات. الْأَمر الثَّانِي: أَن الإِمَام المستغفري روى فِي دعواته عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ مَرْفُوعا: (مَا من دُعَاء أحب إِلَى الله من قَول العَبْد اللَّهُمَّ اغْفِر لأمة مُحَمَّد رَحْمَة عَامَّة) كَذَا فِي العجالة وَغير ذَلِك من الْأَدْعِيَة الَّتِي يُحِيط علمكُم بهَا. الْأَمر الثَّالِث: أَن الشَّيْخ شرف الدّين الْبرمَاوِيّ سُئِلَ هَل يجوز الدُّعَاء بمغفرة جَمِيع الذُّنُوب وبعدم الْوُقُوف لِلْحسابِ؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ يجوز أَن يسْأَل الله ﷿ مغْفرَة جَمِيع ذنُوبه كلهَا، فَإِن الله تَعَالَى لَهُ أَن يُرضيَّ من لَهُ حق من النَّاس، فيتخلص الدَّاعِي من جَمِيع حُقُوق الله وَحُقُوق النَّاس. وَأما الدُّعَاء بِعَدَمِ الْوُقُوف بَين يَدي الله لِلْحسابِ فَطلب محَال لَا يجوز أَن يَدْعُو بِهِ بل يسْأَل الله تَعَالَى أَن يلطف بِهِ فِي ذَلِك الْموقف فَمَا الرَّاجِح عنْدكُمْ من ذَيْنك الجوابين؟ فَأجَاب بقوله رَحمَه الله تَعَالَى: إِن الدُّعَاء بِعَدَمِ دُخُول أحد من الْمُؤمنِينَ النَّار حرَام بل كفر لما فِيهِ من تَكْذِيب النُّصُوص الدَّالَّة على أَن بعض العصاة من الْمُؤمنِينَ لَا بُد من دُخُوله النَّار. وَأما الدُّعَاء بالمغفرة لجميعهم فَإِن أَرَادَ بِهِ مغْفرَة مستلزمة لعدم دُخُول أحد مِنْهُم النَّار فَحكمه مَا مر، وَإِن أَرَادَ مغْفرَة تخفف عَن بَعضهم وزره، وتمحو عَن بعض آخَرين مِنْهُم أَو أطلق ذَلِك فَلَا منع مِنْهُ. أما فِي مَسْأَلَة الْإِرَادَة فَوَاضِح، وَأما فِي مَسْأَلَة الْإِطْلَاق فَلِأَن الْمَغْفِرَة لَا يسْتَلْزم المحو عَن الْجَمِيع بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا تسْتَعْمل فِي هَذَا الْمَعْنى وَفِي التَّخْفِيف بل لَو قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لجَمِيع الْمُؤمنِينَ جَمِيع ذنوبهم، وَأَرَادَ بذلك التَّخْفِيف عَنْهُم لم يحرم، بِخِلَاف مَا لَو أطلق فِي هَذِه الصُّورَة فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ بِأَن اللَّفْظ ظَاهر فِي الْعُمُوم بل صَرِيح فِيهِ، فَالْحَاصِل أَنه مَتى قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر للْمُسلمين ذنوبهم وَأطلق أَو أَرَادَ المحو للْبَعْض وَالتَّخْفِيف للْبَعْض جَازَ، وَإِن أَرَادَ عدم دُخُول أحد مِنْهُم النَّار لم يجز وَإِن قَالَ اغْفِر لجَمِيع الْمُسلمين جَمِيع ذنوبهم وَأطلق أَو أَرَادَ عدم دُخُول أحد مِنْهُم حرم، وَإِن أَرَادَ مَا يَشْمَل التَّخْفِيف جَازَ، وَالْفرق بَين الصُّورَتَيْنِ وَاضح مِمَّا قَرّرته، وَقد أَمر الله نبيه مُحَمَّدًا ﷺ باستغفار للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات بقوله تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [غَافِر: ٥٥]﴾ [التَّوْبَة: ٧٢] فَيتَعَيَّن حينئذٍ حمل كَلَام عبد السَّلَام وتلميذه الْقَرَافِيّ على مَا قَرّرته من التَّفْصِيل، وَبِذَلِك علم أَن إِطْلَاق الْمُجيب الأول الْحُرْمَة وَالثَّانِي عدمهَا غير صَحِيح، واستدلاله بِخَبَر المستغفري غير صَحِيح أَيْضا لِأَن الرَّحْمَة الْعَامَّة لَا تَسْتَلْزِم مغْفرَة جَمِيع الذُّنُوب بِالْمَعْنَى السَّابِق فقد ورد عَن ابْن مَسْعُود ﵄: (إِن لله رَحْمَة على أهل النَّار فِيهَا) لِأَنَّهُ يقدر أَن يعذبهم بأشد مِمَّا هم فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] فَفِي إرْسَاله ﷺ رَحْمَة حَتَّى على أعدائه من حَيْثُ عدم معاجلتهم بالعقوبة، وَالله ﷾ أعلم. ٣١ وَسُئِلَ فسح الله فِي مدَّته، سؤلًا: وَقع فِي عِبَارَات الْفُقَهَاء مَا يُصَرح بِتَحْرِيم علم التنجيم هَل المُرَاد بِهِ حسابياته أَو أَحْكَامه؟ فَإِن خصصتم الحكم بأحكامه معللين بِأَنَّهُ إنباء عَن الْغَيْب فَمَا عِلّة تحريمهم للطبيعيات مَعَ أَن الظَّاهِر من ظَاهر كَلَامهم اشْتِرَاك الْحكمَيْنِ فِي عِلّة وَاحِدَة؟ فَأجَاب بقوله: الْعُلُوم الْمُتَعَلّقَة بالنجوم مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِب كالاستدلال بهَا على الْقبْلَة والأوقات وَاخْتِلَاف الْمطَالع واتحادها وَنَحْو ذَلِك. وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِز كالاستدلال بهَا على منَازِل الْقَمَر وعروض الْبِلَاد وَنَحْوهمَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ حرَام كالاستدلال بهَا على وُقُوع الْأَشْيَاء المغيبة بِأَن يقْضِي بِوُقُوع بَعْضهَا مستدلًا بهَا عَلَيْهِ، بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ: إِن الله ﷾ اطردت عَادَته بِأَن هَذَا النَّجْم إِذا حصل لَهُ كَذَا كَانَ ذَلِك عَلامَة على وُقُوع كَذَا فَهَذَا لَا منع مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا مَحْذُور فِيهِ. وَأما الْبَحْث فِي الطبيعيات فَإِن أُرِيد بِهِ معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ على طَرِيق أهل الشَّرْع فَلَا منع وَلَيْسَ مشابهًا للتنجيم الْمحرم، وَإِن أُرِيد بِهِ معرفَة مَا هِيَ عَلَيْهِ
1 / 34