بعض التَّابِعين عَن التَّاجِر الصدوق أهوَ أحب إِلَيْك أم المتفرغ لِلْعِبَادَةِ؟ فَقَالَ: التَّاجِر الصدوق أحب إليّ لِأَنَّهُ فِي جِهَاد يَأْتِيهِ الشَّيْطَان من طَرِيق الْمِكْيَال وَالْمِيزَان وَمن قبل الْأَخْذ وَالعطَاء فيجاهده: أَي وَلَا يطاوعه فِيمَا يَأْمُرهُ بِهِ من الْمُحرمَات. وَقيل للْإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل ﵁ مَا تَقول فِيمَن جلس فِي بَيته أَو مَسْجده وَقَالَ: لَا أعمل شَيْئا حَتَّى يأتيني رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمد: هَذَا رجل لم يسمع الْعلم أما سمع قَول النَّبِي ﷺ: (إِن الله جعل رِزْقِي تَحت ظلّ رُمْحِي) . وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ يتجرون فِي الْبر وَالْبَحْر ويعملون فِي نخيلهم والقدوة بهم. وَالْقسم الثَّانِي هم الَّذين لَا يجتنبون فِي بيعهم وشرائهم ومعاملاتهم الْمُحرمَات كالربا والغش وَالْحلف الْبَاطِل وَغير ذَلِك من القبائح الَّتِي انطوى عَلَيْهَا أَكثر التُّجَّار، وَهَؤُلَاء فجار فِي الدُّنْيَا والآخره وهم مِمَّن قَالَ الله تَعَالَى فِي حَقهم فِي كِتَابه الْعَزِيز: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمرَان: ٧٧] . وَفِي حَدِيث مُسلم: (ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة: رجل حلف على سلْعَته لقد أعْطى بهَا أَكثر مِمَّا أعْطى وَهُوَ كَاذِب) وروى أَبُو يعلى أَنه ﷺ قَالَ: (لَا يزَال قَول لَا إِلَه إِلَّا الله يدْفع عَن الْخلق سخط الله مَا لم يؤثروا صَفْقَة دنياهم على آخرتهم) وَأهل هَذَا الْقسم هم المرادون بقوله ﷺ: (إِن التُّجَّار هم الْفجار) الحَدِيث. وَإِذا تقرر أَن التُّجَّار على قسمَيْنِ فَلَا يسوغ لهَذَا الْخَطِيب أَن يَأْتِي بِمَا يَقْتَضِي الذَّم لجَمِيع التُّجَّار بل عَلَيْهِ أَن يبين للنَّاس الْإِجْمَال الْوَاقِع فِيمَا يرويهِ أَو يخْطب بِهِ هَذَا إِن كَانَ من أهل ذَلِك، وَإِلَّا فَليُرَاجع الْعلمَاء ويسألهم عَن الْأَحَادِيث وأحكامها ثمَّ يخْطب بهَا، وَأما مَعَ عدم ذَلِك فَلَا يَنْبَغِي وَلَا يسوغ، فَإِن كثيرا من الْعَوام إِذا سمعُوا لفظا مُجملا كالرواية الَّتِي ذكرهَا هَذَا الْخَطِيب يَقُولُونَ إِن جَمِيع التُّجَّار فجار إِلَّا من فرق مَاله، وَهَذَا لَا يَقُول بِهِ أحد من الْمُسلمين، وَإِنَّمَا الَّذِي ورد فِي ذَلِك بل صَحَّ أَحَادِيث. مِنْهَا: (يَا معشر التُّجَّار إِن الشَّيْطَان وَالْإِثْم يحْضرَانِ البيع فشوبوا بيعكم بِالصَّدَقَةِ) / وَبعد أَن علم مَا قَرّرته فَالَّذِي يَنْبَغِي لهَذَا الْخَطِيب أَن يُرَاعِي مَا ذَكرْنَاهُ، وَأَن يعْمل بقضيته وَإِلَّا رتب عَلَيْهِ مُقْتَضى أَفعاله، وَأما مَا ذكر من أَخذه المكس بتفصيله الْمَذْكُور فِي السُّؤَال فَإِن ثَبت عَلَيْهِ ذَلِك فُسقِّ وردتْ شَهَادَته، وَلم يقبل الله مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا، وَكَانَت أَفعاله هَذِه القبيحة أصدق شَاهد على كذبه وافترائه فِي أَن لَهُ رفْعَة فِي الْعلم وسموّا فِي الدّين بل هُوَ من أَجْهَل الْجَاهِلين وأفسق الْفَاسِقين، وَلَا تصح إِمَامَته عِنْد كثيرين من الْعلمَاء، فعلى النَّاس هجره وَاجْتنَاب الصَّلَاة وَرَاءه، فَإِن من يَقُول بِصِحَّتِهَا يَقُول لَا ثَوَاب فِي جماعتها، وَمَتى اسْتحلَّ شَيْئا من أَخذ المُكْس فقد كفر فَتضْرب عُنُقه إِن لم يتب، وَالله ﷾ أعلم بِالصَّوَابِ. ٢٩ وَسُئِلَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سؤالًا صورته: نقل الشَّيْخ شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ الْمَالِكِي فِي قَوَاعِده مَا هُوَ محرم من الدُّعَاء وَلَيْسَ بِكفْر أَن يسْأَل الله تَعَالَى الاستعفاء فِي ذَاته عَن الْأَمْرَاض، ليسلم طول عمره من الآلام والأسقام والأنكاد والمخاوف وَغير ذَلِك من البلايا، وَقد دلّت الْعُقُول على اسْتِحَالَة جَمِيع ذَلِك؟ قَالَ: فَإِذا كَانَت هَذِه الْأُمُور مستحيلة فِي حَقه تَعَالَى عقلا كَانَ طلبَهَا من الله تَعَالَى سوء أدب عَلَيْهِ لِأَن طلبَهَا يعدّ فِي الْعَادة تلاعبًا وضحكًا من الْمَطْلُوب مِنْهُ وَالله تَعَالَى يجب لَهُ من الإجلال فَوق مَا يجب لخلقه إِلَى آخر مَا ذكره رَحمَه الله تَعَالَى، فَإِذا قَالَ الدَّاعِي: اللَّهُمَّ سهل لي أَو قَالَ أَعْطِنِي مَا أحب وأصرف عني مَا أكره هَل يكون من هَذَا الْقَبِيل بِدَلِيل أَن الدَّاعِي يلْحقهُ من الْأَمْرَاض والشواغل نَحْو ذَلِك، فَإِذا قُلْتُمْ نعم فَذَاك وَإِلَّا فَمَا الْفرق؟ فَأجَاب بقوله: مَا ذكره الْقَرَافِيّ صَحِيح وَقد أقره عَلَيْهِ جمَاعَة من أَئِمَّتنَا، وحينئذٍ فَإِذا قَالَ الدَّاعِي: اللَّهُمَّ سهل لي وَأَعْطِنِي مَا أحب واصرف عني مَا أكره، فَإِن أَرَادَ الْعُمُوم الَّذِي ذكره الْقَرَافِيّ حرم عَلَيْهِ ذَلِك، وَإِن أَرَادَ إِعْطَاء مَا يجب من أَنْوَاع مَخْصُوصَة جَائِزَة، وَصرف مَا يكره من أَنْوَاع كَذَلِك أَو أطلق فَلم يرد شَيْئا لم يحرم عَلَيْهِ ذَلِك، أما مَسْأَلَة الْإِرَادَة فَظَاهر، وَأما فِي مَسْأَلَة الْإِطْلَاق فَلِأَن الْمُتَبَادر من اسْتِعْمَال هَذَا اللَّفْظ فِي الْعَادة إِنَّمَا هُوَ سُؤال الله حُصُول أَشْيَاء مهمة من المحبوبات وَدفع أَشْيَاء كَذَلِك من المكروهات فَلم يتَحَقَّق وَجه الْحُرْمَة الَّتِي علل بهَا الْقَرَافِيّ فَإِنَّهُ علل الْحُرْمَة بِأَن طلب مَا ذكره يعد فِي الْعَادة تلاعبًا وضحكًا من الْمَطْلُوب مِنْهُ، وَنحن نعلم بِالْعَادَةِ أَن من طلب من الله حُصُول مَا يجب وَدفع مَا يكره لَا يكون متلاعبًا ومستهزئًا إِلَّا إِذا أَرَادَ الْعُمُوم بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكره الْقَرَافِيّ، وَالله ﷾
1 / 33