مَا ذكره من الْأَحَادِيث فِي خطبه من غير أَن يبين رواتها أَو من ذكرهَا فَجَائِز بِشَرْط أَن يكون من أهل الْمعرفَة فِي الحَدِيث، أَو ينقلها من كتاب مؤلفة كَذَلِك، وَأما الِاعْتِمَاد فِي رِوَايَة الْأَحَادِيث على مُجَرّد رؤيتها فِي كتاب لَيْسَ مُؤَلفه من أهل الحَدِيث، أَو فِي خطب لَيْسَ مؤلفها كَذَلِك فَلَا يحل ذَلِك، وَمن فعله عُزِّر عَلَيْهِ التعزيز الشَّديد، وَهَذَا حَال أَكثر الخطباء فَإِنَّهُم بِمُجَرَّد رُؤْيَتهمْ خطْبَة فِيهَا أَحَادِيث حفظوها وخطبوا بهَا من غير أَن يعرفوا أَن لتِلْك الْأَحَادِيث أصلا أم لَا، فَيجب على حكام كل بلد أَن يزجروا خطباءها عَن ذَلِك، وَيجب على حكام بلد هَذَا الْخَطِيب مَنعه من ذَلِك إِن ارْتَكَبهُ، وَأما ذكره الحَدِيث الْمَذْكُور فصدره وَارِد بل صَحِيح كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ وَهُوَ: (أَن رَسُول الله ﷺ خرج إِلَى الْمصلى فَرَأى النَّاس يتبايعون فَقَالَ: يَا معشر التُّجَّار، فاستجابوا لرَسُول الله ﷺ وَرفعُوا أَعْنَاقهم وأبصارهم إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِن التجَّار يُبْعثون يَوْم الْقِيَامَة فجَّارًا إِلَّا من اتَّقى الله وبرّ وَصدق) وَفِي رِوَايَة صَحِيحَة: (إِن التجَّار هم الفجَّار، قيل: يَا رَسُول الله أَلَيْسَ قد أحل الله البيع؟ قَالَ: بلَى، وَلَكنهُمْ يحدّثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون) وَأما آخِره وَهُوَ: (إِلَّا من قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا) فَلم يرد فِيهِ شَيْء من كتب الحَدِيث بعد الْبَحْث عَنهُ، فعلى هَذَا الْخَطِيب أَن يبين مُسْتَنده فِي رِوَايَته فَإِن كَانَ مُسْتَندا صَحِيحا فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ وَإِلَّا سَاغَ الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ بل وَجَاز لوليّ الْأَمر أيد الله بِهِ الدّين، وقمع بعدله المعاندين أَن يعزله من وَظِيفَة الخطابة زجرا لَهُ عَن أَن يتجرأ على هَذِه الْمرتبَة السّنيَّة بِغَيْر حق، وَلَو كَانَ عِنْد هَذَا الْخَطِيب علم لعدل عَن هَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا إِلَى الرِّوَايَة الأولى الَّتِي ذَكرنَاهَا وَهِي: (أَن التُّجَّار يبعثون يَوْم الْقِيَامَة فجارًا إِلَّا من اتَّقى الله وبرّ وَصدق) فَإِن هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَمَعْنَاهُ ظَاهر فَإِن التُّجَّار على قسمَيْنِ قسم مِنْهُم يجْتَنب فِي بَيْعه وشرائه وَسَائِر معاملاته جَمِيع الْمُحرمَات كالربا والغش والخديعة وَالْكذب وَالْحلف بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِك يخرج حق الله تَعَالَى وَحقّ الْعباد من نَفسه وَمَاله، فَأهل هَذَا الْقسم لَا يبعثون يَوْم الْقِيَامَة فجارًا بِنَصّ الْكتاب الْعَزِيز وَسنة رَسُول الله ﷺ وبإجماع أَئِمَّة الْمُسلمين، بل هَؤُلَاءِ يبعثون يَوْم الْقِيَامَة سعداء فِي الْآخِرَة كَمَا كَانُوا سعداء فِي الدُّنْيَا، بل هم أفضل من الْفُقَرَاء الصابرين كَمَا قَالَ جمَاعَة وَيدل لَهُ: (أَن فُقَرَاء الصَّحَابَة قَالُوا يَا رَسُول الله ذهب أهل الدُّثُور أَي الْأَمْوَال بِالْأُجُورِ فيصلون كَمَا نصلي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُوم وَيزِيدُونَ بِالصَّدَقَةِ بِفضل أَمْوَالهم فَقَالَ لَهُم رَسُول الله ﷺ: إِن لكم بِكُل تَكْبِيرَة صَدَقَة وَبِكُل تَسْبِيحَة صَدَقَة وَبِكُل تَحْمِيدَة صَدَقَة، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت لَو فعلوا ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم) . فَدلَّ ذَلِك على أَن الْأَغْنِيَاء الشَّاكِرِينَ وهم من سبق أفضل من الْفُقَرَاء الصابرين لأَنهم يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَهُ من الْعِبَادَات وَيزِيدُونَ على الْفُقَرَاء بالزكوات وَالصَّدقَات، وَفِي هذَيْن من نفع الْمُسلمين مَا يَرْبُو ثَوَابه على كثير من الْأَعْمَال القاصرة هَذَا هُوَ الْقسم الأول وهم المرادون بقوله ﷺ فِي الحَدِيث السَّابِق: (إِلَّا من اتَّقى الله وبرّ وَصدق) وهم المرادون أَيْضا بالْخبر الصَّحِيح: (التَّاجِر الصدوق الْأمين يحْشر مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ يَوْم الْقِيَامَة) وَورد: (التَّاجِر الصدوق لَا يحجب من أَبْوَاب الْجنَّة) . وَورد أَيْضا: (التَّاجِر الصدوق تَحت ظلّ الْعَرْش يَوْم الْقِيَامَة) . وبهذه الْأَحَادِيث يسْتَدلّ على مَا قَالَه جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من أَن التِّجَارَة أفضل من الزِّرَاعَة وَأفضل من الصَّنْعَة، وَيدل لَهُ أَيْضا أَنه ﷺ اتّجر مَرَّات وَلم يثبت عَنهُ أَنه زرع وَلَا أَنه كَانَت لَهُ صَنْعَة وَالله ﷾ لَا يخْتَار لنَبيه ﷺ إِلَّا الْأَفْضَل، وَقد اخْتَار لَهُ من أصُول المكاسب الَّتِي هِيَ التِّجَارَة والزراعة والصناعة التِّجَارَة دون الزِّرَاعَة والصنعة. فَدلَّ على فَضلهَا. وَقد اسْتدلَّ ابْن عبد السَّلَام على تَفْضِيل الْغَنِيّ الشاكر على الْفَقِير الصابر بِأَن الله تَعَالَى لَا يخْتَار لنَبيه إِلَّا الْأَفْضَل، وَأفضل أَحْوَاله ﷺ الْحَالة الَّتِي توفاه الله عَلَيْهَا وَكَانَت تِلْكَ الْحَالة على غَايَة من غناهُ ﷺ فَدلَّ على فضل الْغَنِيّ بِشَرْطِهِ على الْفقر. وروى أَبُو الشَّيْخ وَأَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ حَدِيث: (من طلب الدُّنْيَا حَلَالا تقنعا عَن الْمَسْأَلَة وسعيا على عِيَاله وتعطفا على جَاره لَقِي الله تَعَالَى وَوَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر) . وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ: استغن بِالْكَسْبِ الْحَلَال عَن الْفقر فَإِنَّهُ مَا افْتقر أحد قطّ إِلَّا أَصَابَهُ ثَلَاث خِصَال: رقة فِي دينه وَضعف فِي عقله وَذَهَاب مروءته، وَأعظم من هَذِه الثَّلَاثَة: استخفاف النَّاس بِهِ وَسُئِلَ
1 / 32