108

Fatawa Hadithiyya

الفتاوى الحديثية

Publisher

دار الفكر

(وَاعْلَمُوا أَنكُمْ لن تروا ربكُم حَتَّى تَمُوتُوا) وحينئذٍ فَيَنْبَغِي كفر زاعم الرُّؤْيَة بِالْعينِ فِي الدُّنْيَا مُطلقًا بِخِلَاف المجسمة. قلت: بعد أَن قرّر الْأَئِمَّة وعلماء الْأمة وحفاظ الْملَّة تِلْكَ الْآيَات وَالْأَحَادِيث وصرفوها عَن ظواهرها كَمَا تقرّر لم يبْق لأحد عذر فِي اعْتِقَاد ظواهرها، فَمن فعل ذَلِك فَقيل يكفر مُطلقًا، وَقيل إنْ قَالَ جسم كالأجسام كفر وَإِلَّا فَلَا، وَعَلِيهِ جرى النَّوَوِيّ ﵀ فِي مَوضِع، وَقيل لَا يكفر مُطلقًا وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَبنَا مَا لم يَضُمَّ لذَلِك اعْتِقَاد بعض تِلْكَ اللوازم كَمَا مَرَّ، وحينئذٍ فَيَنْبَغِي أَن يجرى نَظِير هَذَا الْخلاف كُله فِي مدعى الرُّؤْيَة بِالْعينِ، فَيكون الْأَصَح عدم كفره، إِلَّا إِن ضمَّ لذَلِك اعْتِقَاد حُدُوث أَو مَا يُؤَدِّي مؤاده، لِأَن ملحظ التَّكْفِير وَعَدَمه فِي المجسمة وَنَحْوهم لَيْسَ الْعذر وَعَدَمه، لِأَن الْكَلَام فِي الْعَالم وَإِنَّمَا الملحظ اعْتِقَاد النَّقْص وملزومه، وَلَا شكّ أَن هذَيْن يجريان فِي زاعم الرُّؤْيَة بِالْعينِ فِي دَار الدُّنْيَا فَكَمَا جرى ذَلِك الْخلاف كَذَلِك يجْرِي هُنَا، إذْ لَا فَارق يعْتد هُنَا بِهِ كَيفَ وَالْإِمَام الرباني المترجم بشيخ الْكل فِي الْكل أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي رَحمَه الله تَعَالَى يجْزم بِأَنَّهُ لَا يجوز وُقُوعهَا فِي الدُّنْيَا لأحد غير نَبينَا ﷺ وَلَا على وَجه الْكَرَامَة وَادّعى أَن الْأمة اجتمعتْ على ذَلِك، فَإِذا أَجمعُوا على امْتنَاع وُقُوعهَا كَانَ زاعمه لنَفسِهِ مُخَالفا للْإِجْمَاع مُدعيًا مَا قد يَتَرَتَّب عَلَيْهِ نقص، فَمن ثمَّ قَالُوا بِكُفْرِهِ وقيدته بِمَا مر. فَإِن قلت: حكى عَن الْأَشْعَرِيّ قَول بوقوعها فَكيف الْإِجْمَاع حينئذٍ؟ قلت: إِن صَحَّ الْإِجْمَاع فَوَاضِح أَنه لَا ينظر إِلَيْهِ وأنَّ قَائِله إِنَّمَا قَالَه لظَنّه أَن لَا إِجْمَاع، وَإِن لم يَصح كَانَ هَذَا القَوْل فِي غَايَة الشذوذ وَلَا ينظر إِلَيْهِ أَيْضا، وَلَا يمْنَع وجوده التَّكْفِير لزاعم مَا قَدمته بِشَرْطِهِ. ٩٠ - وَسُئِلَ نفع الله بِهِ: عَن حكم الموالد والأذكار الَّتِي يَفْعَلهَا كثير من النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان هَل هِيَ سنة أم فَضِيلَة أم بِدعَة؟ فَإِن قُلْتُمْ إِنَّهَا فَضِيلَة فَهَل ورد فِي فَضلهَا أثر عَن السّلف أَو شَيْء من الْأَخْبَار، وَهل الِاجْتِمَاع للبدعة الْمُبَاح جَائِز أم لَا؟ وَهل إِذا كَانَ يحصل بِسَبَبِهَا أَو سَبَب صَلَاة التَّرَاوِيح اخْتِلَاط واجتماع بَين النِّسَاء وَالرِّجَال وَيحصل مَعَ ذَلِك مؤانسة ومحادثة ومعاطاة غير مرضية شرعا، وَقَاعِدَة الشَّرْع مهما رُجحتْ الْمفْسدَة حَرُمتْ الْمصلحَة، وَصَلَاة التَّرَاوِيح سنة، وَيحصل بِسَبَبِهَا هَذِه الْأَسْبَاب الْمَذْكُورَة فَهَل يمْنَع النَّاس من فعلهَا أم لَا يضر ذَلِك؟ فَأجَاب بقوله: الموالد والأذكار الَّتِي تفعل عندنَا أَكْثَرهَا مُشْتَمل على خير، كصدقة، وَذكر، وَصَلَاة وَسَلام على رَسُول الله ﷺ ومدحه، وعَلى شرّ بل شرور لَو لم يكن مِنْهَا إِلَّا رُؤْيَة النِّسَاء للرِّجَال الْأَجَانِب، وَبَعضهَا لَيْسَ فِيهَا شرّ لكنه قَلِيل نَادِر، وَلَا شكّ أَن الْقسم الأول مَمْنُوع للقاعدة الْمَشْهُورَة المقررة أنَّ دَرْء الْمَفَاسِد مقدَّم على جلب الْمصَالح، فَمن عَلِم وُقُوع شَيْء من الشرّ فِيمَا يَفْعَله من ذَلِك فَهُوَ عَاص آثم، وبفرض أَنه عمل فِي ذَلِك خيرا، فَرُبمَا خَيْرُهُ لَا يُسَاوِي شَرَّه أَلا ترى أَن الشَّارِع ﷺ اكْتفى من الْخَيْر بِمَا تيَسّر وفَطَم عَن جَمِيع أَنْوَاع الشَّرّ حَيْثُ قَالَ: (إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإِذا نَهيتكم عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ) فَتَأَمّله تعلم مَا قَرّرته من أَن الشرَّ وَإِن قلّ لَا يُرَّخصُ فِي شَيْء مِنْهُ، وَالْخَيْر يكْتَفى مِنْهُ بِمَا تيَسّر. وَالْقسم الثَّانِي سنَّة تشمله الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْأَذْكَار الْمَخْصُوصَة والعامة. كَقَوْلِه ﷺ: (لَا يقْعد قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى إِلَّا حفَّتهم الملائكةُ، وغَشِيَتْهُم الرَّحْمَة، وَنزلت عَلَيْهِم السكينَة، وَذكرهمْ الله تَعَالَى فِيمَن عِنْده) رَوَاهُ مُسلم. وروى أَيْضا أَنه ﷺ قَالَ لقوم جَلَسُوا يذكرُونَ الله تَعَالَى ويحمدونه على أَن هدَاهُم لِلْإِسْلَامِ (أَتَانِي جِبْرِيل ﵊ فَأَخْبرنِي أَن الله تَعَالَى يُباهي بكم الْمَلَائِكَة) وَفِي الْحَدِيثين أوضح دَلِيل على فضل الِاجْتِمَاع على الْخَيْر وَالْجُلُوس لَهُ، وَأَن الجالسين على خَيْر كَذَلِك، يُباهي الله بهم الْمَلَائِكَة، وتنزل عَلَيْهِم السكينَة وتغشاهم الرَّحْمَة، وَيذكرهُمْ الله تَعَالَى بالثناء عَلَيْهِم بَين الْمَلَائِكَة فأيّ فَضَائِل أجل من هَذِه؟ وَقَول السَّائِل نفع الله بِهِ: وَهل الِاجْتِمَاع للبدع الْمُبَاحَة جَائِز؟ جَوَابه: نعم جَائِز. قَالَ الْعِزّ بن عبد السَّلَام رَحمَه الله تَعَالَى: الْبِدْعَة فعل مَا لم يعْهَد فِي عهد النبيّ ﷺ، وتنقسم إِلَى خَمْسَة أَحْكَام يَعْنِي الْوُجُوب وَالنَّدْب الخ، وَطَرِيق معرفَة ذَلِك أَن تعرض البِدعة على قَوَاعِد الشَّرْع فَأَي حكم دخلت فِيهِ فَهِيَ مِنْهُ، فَمن الْبدع الْوَاجِبَة تعلم النَّحْو الَّذِي يفهم بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة، وَمن الْبدع الْمُحرمَة مَذْهَب نَحْو الْقَدَرِيَّة، وَمن الْبدع المندوبة إِحْدَاث نَحْو الْمدَارِس والاجتماع لصَلَاة التَّرَاوِيح، وَمن الْبدع الْمُبَاحَة المصافحة بعد الصَّلَاة وَمن الْبدع الْمَكْرُوهَة زَخْرفة الْمَسَاجِد والمصاحف أَي بِغَيْر الذَّهَب

1 / 109