105

Fatawa Hadithiyya

الفتاوى الحديثية

Publisher

دار الفكر

السَّامع وَعدم فهمه المُرَاد لَو كني لَهُ، فحينئذٍ لَا كَرَاهَة فِي التَّصْرِيح للْحَاجة إِلَيْهِ، وعَلى هَذَا يحمل مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث من التَّصْرِيح بِمثل ذَلِك، إذْ تَحْصِيل الإفهام فِي ذَلِك أولى من مُرَاعَاة مُجَرّد الْأَدَب فِي اللَّفْظ انْتهى. وَبِه يعلم أَنه كَانَ يتَعَيَّن على الْجلَال أَن يَقُول لغير حَاجَة. وَفِي الحَدِيث الْحسن: (لَيْسَ الْمُؤمن بالطعَّان أَي فِي الْأَنْسَاب وَلَا اللعَّان وَلَا الْفَاحِش وَلَا البذي) . وَفِي الحَدِيث الْحسن أَيْضا: (مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْء إِلَّا شَانُه، وَمَا كَانَ الحياءُ فِي شَيْء إِلَّا زانه) ثمَّ رَأَيْت عبارَة الْجلَال وَهِي مصرحة بذلك الْقَيْد وَهِي: وَيكرهُ الْفُحْش وَالْبذَاء وَهُوَ التَّعْبِير عَن الْأُمُور المستقبحة بِصَرِيح الْعبارَة، بل يُكنِّي، فَعَن الْجِمَاع بالإفضاء والمباشرة وَنَحْو ذَلِك مَا لم تدع إِلَيْهِ ضَرُورَة كخوف فهم الْمُخَاطب الْمجَاز انْتهى. وَأما الثَّالِثَة وَالثَّلَاثُونَ: فالكراهة فِيهَا مفهومة من كَلَام (الْأَذْكَار)، وَحَاصِله: بَاب الْحَث على التثبت فِيمَا يحكيه الْإِنْسَان، وَالنَّهْي عَن التحدث بِكُل مَا يسمع إِذا لم يظنّ صِحَّته، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الْإِسْرَاء: ٣٦] والآيات فِي ذَلِك كَثِيرَة وَكَذَا الْأَحَادِيث. كَخَبَر مُسلم (كفى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحدِّث بِكُل مَا سمع) . وَصَحَّ أَنه ﷺ قَالَ: (بئس مطيَّة الرجل زَعَمُوا) . قَالَ الْخطابِيّ: أصل هَذَا أَن الرجل إِذا أَرَادَ سفرا لبلد ركب مَطِيَّة إِلَيْهِ حَتَّى يبلغ حَاجته، فَشبه ﷺ مَا تقدم من أَمر الرجل إِذا أَرَادَ أَن يتَوَصَّل بِكَلَامِهِ إِلَى مَطْلُوبه فَشبه زَعَمُوا فِي الْكَلَام للتوصل بِهِ إِلَى حَاجته بالمطية، وَإِنَّمَا يُقَال زَعَمُوا فِي حَدِيث لَا يثبت إِنَّمَا هُوَ شَيْء يحْكى على سَبِيل الْبَلَاغ فقد ذمّ ﷺ من الحَدِيث مَا هُوَ سَبيله، وَأمر بالتثبت فِيمَا يحكيه لِئَلَّا يصير إِلَى شَيْء لَا يَحْكِي انْتهى كَلَام الْخطابِيّ. وَأما الرَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ: فإطلاق الْكَرَاهَة فِيهَا عَجِيب مَعَ أَن فِيهَا تَفْصِيلًا فِي (الْأَذْكَار) . وَحَاصِل عِبَارَته: بَاب التَّعْرِيض والتورية. إعلم أَن هَذَا الْبَاب من أهم مَا يُعتنى بِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى، فَيَنْبَغِي لكل أحد أَن يعتني بتحقيقه وتأمله وَالْعَمَل بِهِ، فَإِنَّهُ طَرِيق إِلَى السَّلامَة من عظم إِثْم الْكَذِب وخطره، والتعريض والتورية إِطْلَاق لفظ ظَاهر فِي معنى، وخفي فِي آخر مَعَ إِرَادَة خُفْيَة، وَهُوَ ضرب من الغَرَر وَالْخداع. قَالَ الْعلمَاء: فَإِن دعتنا إِلَيْهِ مصلحَة شَرْعِيَّة راجحة على خداع الْمُخَاطب، أَو حَاجَة لَا مندوحة عَنْهَا إِلَّا بِالْكَذِبِ فَلَا بَأْس بالتعريض، وَإِن لم تدع إِلَيْهِ مصلحَة كَذَلِك كره، إِلَّا أَن يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَخذ بَاطِل أَو رفع حق فَيحرم، وَقد جَاءَ من الْآثَار مَا يُبِيح ذَلِك، وَمَا لَا يبيحه، وَهِي مَحْمُولَة على هَذَا التَّفْصِيل، فمما جَاءَ فِي الْمَنْع خبر أبي دَاوُد بِسَنَد فِيهِ ضعف لكنه لم يُضعفهُ هُوَ فَيكون عِنْده حسنا على الْقَاعِدَة فِيمَا سكت عَنهُ أَنه ﷺ قَالَ: (كَبُرت خِيَانَة أَن تحدِّث أَخَاك حَدِيثا هُوَ لَك بِهِ مُصدِّق وَأَنت بِهِ كَاذِب) . وَقَالَ ابْن سِيرِين ﵁: الْكَلَام أوسع من أَن يكذب ظريف فِيهِ. مِثَال التَّعْرِيض الْمُبَاح مَا قَالَه النَّخعِيّ ﵁: إِذا بلغ الرجل عَنْك شَيْء قلته فَقل اللَّهُمَّ تعلم مَا قلت من شَيْء، فَتوهم بِمَا أَنَّهَا نَافِيَة وتقصد الموصولة، وَقَالَ: لَا تقل لابنك أَشْتَرِي لَك سكرا، بل قل لَهُ: أَرَأَيْت لَو اشْتريت لَك سكرا، وَكَانَ إِذا طلبه أحد قَالَ لأمته: قولي لَهُ اطلبه فِي الْمَسْجِد أَو خرج: أَي فِي وَقت غير هَذَا. وَكَانَ الشّعبِيّ يخط دَائِرَة وَيَقُول لأمته: ضعي أصبعك فِيهَا وَقَوْلِي مَا هُوَ هُنَا، وَمثل هَذَا قَول بَعضهم إِذا دعى لطعام أَنه على نِيَّة أَي نِيَّة عدم الْأكل موهمًا أَنه صَائِم، وتمنع التورية أَيْضا الْحِنْث وإثم الْيَمين الْغمُوس مَا لم يكن المحلِّف القَاضِي بعد دَعْوَى صَحِيحَة وَبِغير نَحْو طَلَاق. قَالَ الْغَزالِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: وَلَيْسَ من الْكَذِب الْمُوجب للفسقِ مَا اُعْتِيدَ، من نَحْو قلتُ لَك أَو جئتُك مائَة مرّة، فَإِنَّهُ لَا يُرَاد بِهِ تفهيم المرات بل تفهيم الْمُبَالغَة، فَإِن لم يكن طَلَبَه إِلَّا مرّة وَاحِدَة كَانَ كَاذِبًا، وَإِن طلبه مَرَّات لَا يعْتَاد مثلهَا فِي الْكَثْرَة لم يَأْثَم، وَإِن لم يبلغ مائَة مرّة وَبَينهمَا دَرَجَات يتَعَرَّض المبالغ للكذب فِيهَا. قلت: وَدَلِيل جَوَاز الْمُبَالغَة وَأَنه لَا يعد كَاذِبًا. خبر (الصَّحِيحَيْنِ): (أما أَبُو جَهْم فَلَا يضع الْعَصَا عَن عَاتِقه وَأما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ) وَمَعْلُوم أَنه كَانَ لَهُ ثوب يلْبسهُ وَأَنه كَانَ يضع الْعَصَا فِي وَقت النّوم وَغَيره اه حَاصِل كَلَام (الْأَذْكَار) . وكأنّ الْجلَال اعْتمد فِي إِطْلَاقه الْكَرَاهَة على قَول النَّوَوِيّ ﵀. قلت: وَدَلِيل جَوَاز الْمُبَالغَة إِلَخ وَظَاهر عِنْد أدنى تَأمل للعبارة أنّ هَذَا لَا يُنَافِي تَفْصِيل الْغَزالِيّ الَّذِي ذكره بل هُوَ دَلِيل لَهُ لِأَنَّهُ ﷺ لم يُبَالغ إِلَّا بِأَمْر غلب على صَاحبه فعله، أَي أَن أَبَا جَهْم غلب عَلَيْهِ الضَّرْب المكنى عَنهُ بِعَدَمِ وضع الْعَصَا عَن عَاتِقه، وَمُعَاوِيَة غلب عَلَيْهِ الْفقر، فَأطلق على الأول أَنه لَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه، وعَلى الثَّانِي أَنه صعلوك مُبَالغَة،

1 / 106