Fatawa Hadithiyya
الفتاوى الحديثية
Publisher
دار الفكر
سَاغَ لَهُ أَيْضا أَن يجْزم بِكَرَاهَة الْخُصُومَة من غير قيد، مَعَ اشْتِرَاط النَّوَوِيّ لعدم تَحْرِيمهَا أَن ينصر حجَّته بطرِيق الشَّرْع مَعَ عدم اللدد والإسراف، وَعدم اللجاج على الْحَاجة وَعدم قصد عناد، وَلَا إِيذَاء بِفِعْلِهِ. فأفهم هَذَا، أَنه مَتى وجد شَيْء مِمَّا نَفَاهُ حُرُمتْ الْخُصُومَة، أما حرمتهَا فِيمَا إِذا نصر حجَّته بِغَيْر طَرِيق الشَّرْع فظاهرة وَاضِحَة، وَأما حرمتهَا فِيمَا إِذا نصرها بِالشَّرْعِ لَكِن مَعَ لدد أَو إِسْرَاف، أَو زِيَادَة لجاج على قدر الْحَاجة، أَو قصد عناد أَو إِيذَاء بِفِعْلِهِ فظاهرة أَيْضا فِي الْحَالة الْأَخِيرَة أَعنِي قصد الْإِيذَاء بِفِعْلِهِ أَي لغير حَاجَة مجوّزة لذَلِك، وَأما فِيمَا قبلهَا من بَقِيَّة تِلْكَ الْحَالَات فَتحمل الْحُرْمَة فِيهَا على مَا إِذا أدّى فِيهَا ذَلِك اللدد أَو مَا بعده إِلَى مَحْظُور شَرْعِي يَقِينا، ككذب أَو تمويه بَاطِل ضمهما أَو أَحدهمَا إِلَى حجَّته الشَّرْعِيَّة. وَأما التَّاسِعَة وَالْعشْرُونَ: أَعنِي قَوْله: وَكَثْرَة الْكَلَام إِلَى قَوْله مُسْتَثْنى، فَمَا ذكره فِيهِ هُوَ حَاصِل كَلَام (الْأَذْكَار) وَهُوَ يكره التقعر، وَفِي نُسْخَة: التَّغَيُّر فِي الْكَلَام بالتشدِّق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالمقدمات الَّتِي يعتادها المتفاصحون، وزخارف الْأَقْوَال، وكلّ ذَلِك من التَّكَلُّف المذموم، وَكَذَا تكلّف السجع والتحري فِي دقائق الْإِعْرَاب، وَوَحْشِي اللُّغَة فِي حَال مُخَاطبَة الْعَوام، بل يَنْبَغِي أَن يقْصد فِي مخاطبته لفظا يفهمهُ صَاحبه فَهْمًا جليًا وَلَا يَسْتَثقِله. وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه أَنه ﷺ قَالَ: (إِن الله يبغضُ البليغ من الرِّجَال الَّذِي يَتَخللَّ بِلِسَانِهِ كَمَا يَتَخَلَّل الْبَقر) . وروى مُسلم خبر: (هلك المُتَنَطعِّون. قَالَهَا ثَلَاثًا) وفسرهم الْعلمَاء: بالمبالغين فِي الْأُمُور. وَفِي خبر التِّرْمِذِيّ الَّذِي حسنه أَيْضا: (وَإِن من أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة: الثرثارون) (أَي المكثرون للْكَلَام) والمتشدقون: (أَي المتطاولون على النَّاس فِي الْكَلَام) والمتفيهقون، وفسرهم ﷺ بِأَنَّهُم المتكبرون) وَلَا يدْخل فِي الذَّم تَحْسِين أَلْفَاظ الْخطب والمواعظ، إِذا لم يكن فِيهَا إفراط وإغراب، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا تهييج الْقُلُوب إِلَى طَاعَة الله ولحسن اللَّفْظ فِي هَذَا أثر ظَاهر انْتهى. وَأما الثَّلَاثُونَ: فدليلها خبر أَصْحَاب (السّنَن) الْأَرْبَعَة أَنه ﷺ: قَالَ: (لَا يسئل الرجل فيمَ ضرب زَوجته) مَعَ الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته. (من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه) وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي السُّكُوت عَمَّا لَا تظهر فِيهِ مصلحَة كَثِيرَة جدا.
وَأما الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ: فعبارة (الْأَذْكَار) فِيهَا. وَأما الشِعْر فَفِي الحَدِيث الْحسن أَنه ﷺ سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: (هُوَ كَلَام حسنه حسن وقبيحه قَبِيح) أَي إِن الشّعْر كالنثر فِي أنَّ حُسْنه كحسنه وقبيحُه كقبيحه، إِلَّا أَن التجرد لَهُ والاقتصار عَلَيْهِ مَذْمُوم. وَقد صَحَّ فِي الْأَحَادِيث أَنه ﷺ سمع الشّعْر وَأمر بِهِ حسان وَقَالَ: (إِن من الشّعْر لحكمة) . وَقَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحًا يَرِيه خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) وكل ذَلِك على حسب مَا ذَكرْنَاهُ انْتهى. وَذكر الْجلَال زِيَادَة على ذَلِك وَهِي: ذكر فِي (شرح الْمُهَذّب) أَن الِاشْتِغَال بأشعار الْعَرَب مَطْلُوب، وَقد ورد الْأَمر بِهِ لِأَن بِهِ تُعرف مَعَاني الْقُرْآن والْحَدِيث، ويحفظ الشَّرْع وَفِي (الرَّوْضَة) تكره أشعار المولدين، الْمُشْتَملَة على التغزل والبطالة، وَيُبَاح مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ سخف وَلَا شَيْء مِمَّا يكره وَلَا يُؤَدِّي إِلَى الشَّرّ، ولي فِيهِ بحث من جِهَة أَن أشعارهم يستشهد بهَا فِي الْمعَانِي وَالْبَيَان والبديع كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَهُوَ من الْعُلُوم الْوَاجِبَة الَّتِي يطلع بهَا على غرائب الْقُرْآن، ويُدْرِك إعجازه فَيَنْبَغِي أَن تكون فِي رُتْبَة أشعار الْعَرَب من هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَأما إنشاؤه فمباح مَا لم يكن فِي هَجْو غير كَافِر، أَو فَاسق، فَحَرَام وإنْ صَدَق فِيهِ، فَهُوَ كالغيبة تَحْرِيمًا وَإِبَاحَة، وَيُبَاح التشبيب فِي غير معِين، وَهُوَ فِي مُعْيَّن غُلام أَو امْرَأَة فسق، وَفِي حليلته خارم للمروءة إِن كَانَ بِمَا يَنْبَغِي خفاؤه، وَلَا يلْحق بِالْكَذِبِ الْمُبَالغَة فِي الْمَدْح والاطراء على الصَّحِيح لِأَن الْكَاذِب يُوهم أَن الْكَذِب صدق بِخِلَاف الشَّاعِر وَبِالْجُمْلَةِ إنشاد الشّعْر وإنشاؤه مُبَاح لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يستنشده ويسمعه انْتهى.
وَأما الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ: فَفِيهَا قيد فِي (الْأَذْكَار) لَا بُد مِنْهُ، وَحَاصِل عِبَارَته: وَمِمَّا يُنهى عَنهُ الفُحْشُ وبذاءة اللِّسَان وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِيهِ كَثِيرَة مَعْرُوفَة، وَمَعْنَاهُ التَّعْبِير عَن الْأُمُور المستقبحة بِعِبَارَة صَرِيحَة وَإِن صحت وَصدق الْمُتَكَلّم بهَا وَيَقَع ذَلِك كثيرا فِي نَحْو أَلْفَاظ الوقاع، وَيَنْبَغِي أَن يكنى عَنْهَا بالرفث والإفضاء والمس كَمَا فِي الْقُرْآن وَالسّنة، وَلَا يُصَرح بِنَحْوِ النيك وَالْجِمَاع، وَكَذَا يكنى عَن نَحْو الْبَوْل والتغوط، بِنَحْوِ قَضَاء الْحَاجة والخلاء، وَكَذَا عَن نَحْو الْبضْع، بِعِبَارَة جميلَة يفهم مِنْهَا الْغَرَض، هَذَا كُله إنْ لم تدع الْحَاجة إِلَى التَّصْرِيح لغباوه
1 / 105