قضت في التفكير ساعة أو ساعتين حتى ملت التردد، وأغلق عليها الأمر فوقفت تجاه المرآة فرأت ما أصاب سحنتها من التغيير لفرط التفكير فقالت: «إني أرى لمياء في هذه المرآة غير لمياء في مرآة أبيها بسجلماسة. ويلاه ما كان أغناني عن هذه القلاقل بل ما أغنى أهل القيروان عن هذه السحنة العائدة عليهم بالشؤم والخراب ... هل العيب في المرآة وهي التي غيرت لمياء؟ لا ذنب لها إنها تريني وجهي كما هو. وإنما العيب في ... بل العيب في من شوش أفكاري وأدخل القلق على قلبي، كان الأولى بي أن أبقى على رفض هذا النصيب وليتسابق هؤلاء إلى القتل على غير يدي. هل أقدر على ذلك الآن؟ بأي لسان أقوله! وبأي وجه أقابل أم الأمراء؟ هل أبوح لها بسري وأستشيرها في أمري؟ لا أقدر ... ويلاه يا ربي ماذا أفعل؟ وتحولت عن المرآة إلى السرير واستلقت عليه وقد أظلمت الدنيا في عينيها فلم تجد لها فرجا بغير البكاء فأطلقت لنفسها العنان فيه وأغرقت في البكاء حتى كاد يغمى عليها وصارت تشهق وتندب نفسها.
ثم عادت إلى المناجاة فقالت: «إلهي قد لذ لي الموت خذني إليك ... هل أقتل نفسي وأخلص من هذه الحياة؟ إن موتي أحسن حل لهذه المشكلة فينجو المحسنون إلي من القتل وأتخلص من التردد القبيح. ولكن هل أقتل نفسي بيدي! ... لا ... لا ... بل الأفضل أن أفر من هذا المكان إلى حيث لا يراني أحد حتى تأتي ساعتي ... لمياء! لمياء أنت راعية الحصان. تلاقين الأعداء في حومة الوغى وترزخين تحت هذه الأوهام؟ بل أعود فأرفض الحسين وأعتذر له أني لا أريد الزواج ... كيف أفعل ذلك! مسكين الحسين إنه ذو فضل ويظهر أنه أحبني، آه يا سالم يا حبيبي كيف أموت أو أفر وأتركك! بارزت الفرسان واستقبلت النبال في ساحة القتال فلم أجد أصعب مراسا من الحب إنه يملك ناصية القلب ... ويلاه هل في الدنيا فتاة أشقى حالا مني!»
ثم سكتت وكأن البكاء خفف مصابها وقشع السويداء عن عينيها وتذكرت أن لديها شهرا كاملا لإعمال الفكرة فقالت: «فلنصبر إن الله مع الصابرين.» وذهبت إلى فراشها وقد أخذ التعب منها مأخذا عظيما.
الفصل السابع والعشرون
المراوغة
أما حمدون فإنه خرج من قصر المعز بعد العشاء وقد أدهشه ما رآه هناك من الأبهة والعظمة وأكبر الإقدام على تنفيذ تلك المكيدة ولا سيما بعد الذي لقيه من الإكرام والمؤانسة من الخليفة وقائده وسائر أمرائه، وأحس بخطارة الأمر الذي هو مقدم عليه. فقضى مسافة الطريق إلى معسكره وهو يفكر في ذلك - وتحريض أبي حامد لا يزال غالبا على عقله - فوصل خيمته وهو يحب الخلو بنفسه ليعمل فكرته ويرجح أحد الوجهين ولم يكد يستقر به الجلوس حتى جاء أبو حامد، وحالما وقع نظره على حمدون استطلع ضميره وكشف عما يجول في خاطره، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «كيف لقيت أمير المؤمنين؟»
فأجابه وهو يحاول إخفاء ما يجول في خاطره: «لقيته كما أعهده وكما تعهده أنت.»
فلما رآه لم يستغرب منه تلقيب المعز بأمير المؤمنين توسم صدق فراسته فيه فقال: «أعني هل لقيت منه أنسا.»
قال: «لقد جاملنا وآنسنا وأكرم وفادتنا ووددت لو أنك كنت معنا.»
قال: «أنا أعلم اقتدار هذا الرجل وسعة صدره، ولولا ذلك ما تمكن من التغلب على سائر الأمراء حتى سمى نفسه أمير المؤمنين.»
Unknown page