بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرقيب المولي الإنعام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الكرام.
وبعد، فهذا تعليق سميته " فص الخواتم فيما قيل في الولائم " وقد نظمها قاضي القضاة صدر الدين بن العز الحنفي فقال:
أسامي الطَّعامِ اثنانِ منْ بعدِ عَشْرةٍ ... سَأسْرِدُها مقرُونةً ببيانِ
وليمةُ عُرْسٍ ثمَّ خُرسُ وِلادَةٍ ... عقيقةُ مَوْلُودٍ، وَكيرةُ بانِ
وَضيمةُ ذيْ مَوْتٍ نَقيعةُ قادِمٍ ... عَذيرٌ أو أعذارٌ ليومِ خِتانِ
ومأدُبةُ الخِلاّنِ لا سببٌ لها ... حِذَاقُ صَبيًّ يومَ ختمِ قُرانِ
وعَاشِرُها في النَّظمِ تُحفةُ زائرٍ ... قِرى الضَّيفِ مَعْ نُزْلٍ لَهُ بأمانِ
معنى الوليمة
اعلم إن الولائم جمع وليمة، وهي: قال صاحب العين في اللغة: الطعام المتخذ للعرس. قاله ثعلب. وقال أبن عبد البر: قال أهل اللغة: الوليمة هي طعام العرس والإمْلاَك. قال الأزدري: واشتقاقها من الوَلْم، وهو الجمع، وأصلها من اجتماع البنية. يقال: ولم الغلام، إذا اجتمع عقله وخلقه. وسُمي القيد في الرجل ولما، لأنه يجمع الرجلين. وقال القاضي أبو الطيب: والأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقييد في غيره. وقال السّراج البلقيني: سميت بذلك لاجتماع الزوجين، ثم أطلقت على غيرها بقرينة تشبيهًا بها. وإذا لمح مطلق الجمع فأسم الوليمة يتناول الكل على السواء. وقال الجوهري وغيره: الوليمة طعام العرس، وفيه تجوز لما سبق، ويقال طعام الوليمة. وفسره بعضهم بإصلاح الطعام واستدعاء الناس إليه. وهو بعيد. وفي الشرع، الاجتماع على طعام مدعو إليه، لحادث سرور، بشروط معتبرة، على وجه مخصوص. انتهى كلام البلقيني. وهي كما في النظم أثنتا عشرة: الأولى:
وليمة العرس
وهو الدخول وهي سُنة لثبوتها عن النبي ﷺ قولًا وفعلًا؛ ففي السنن الأربع، عن أنس أن النبي ﷺ أولم على صفية بسويق وتمر، وفي الصحيحين عنه، أنه ﵊ جعل وليمتها التمر والسمن والأقط. وفي قول عند الشافعية: هي واجبة. حكاه الماوردي، وصححه الجرجاني في الشافي. وقال الشيخ أبو إسحاق إنه المنصوص لظاهر الأمر في قوله ﷺ لعبد الرحمن بن عوف وقد تزوج: " أَوْلِمْ ولوْ بشَاةٍ " متفق عليه. ولأنه ﵇ ما تركها سفرًا ولا حضرًا لكن الأظهر عندهم الأول ويصرف ذلك عن الوجوب، قوله ﷺ لمن قال: هل على غيرها يعني أركان الإسلام الخمسة؟ قال: " لا، إلاّ أن تطوع ". متفق عليه. وأما قوله ﷺ: " ليس في المال حق سوى الزكاة " رواه أبن الحل قال النووي: ضعيف جدًا، لا يعرف. انتهى. ولأنها طعام لا يختص بالمحتاجين فأشبهت الأضحية عند من قال بسنيتها وهو الشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبو يوسف. ولأنها طعام لحادث سرور، فلا تجب كسائر الولائم، ولأنه أمره بالشاه، ولو كان الأمر للوجوب لوجبت الشاة، وقد أجمعوا على عدم وجوبها، لأنه ﵊ أولم على صفية بنت حُيَي سيدة قريظة والنضير مع جمالها ونسبها، إلى ما روي بحيس وهو تمر وأقط وسمن، وفي رواية بحيس من تمر وسويق، وأولم على بعض نسائه بُمدَّيْن من شعير، رواه البخاري. ومواظبته ﵊ على فعلها سفرًا وحضرًا محمول على تأكد السُّنية، ولأجل ذلك أئمتنا الحنفية: وينبغي للرجل أن يجيب في وليمة العرس، وإن لم يفعل أثم، إن لم يكن عليها لهو. وقيل: وليمة العرس فرض كفاية، إذا أظهرها الواحد في عشيرته ظهورًا منتشرًا سقط فرضها عمن سواه، وإلا جرحوا بتركها أجمعين.
1 / 1
وقال شيخنا المحيوي النعيمي الشافعي: وأما سائر الولائم غير وليمة العرس، فالمذهب الذي قطع به الجمهور أنها مستحبة ولا يتأكد تأكد وليمة العرس، وطرد المتولي فيها الوجوب. وقال أحمد بن حمبل: لا، تستحب ودليلنا قوله ﷺ: " لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدى إليّ ذراع لقبلت " ولأن فيه إظهار نعم الله تعالى والشكر عليها، واكتساب الأجر والمحبة، فكان مستحبًا. واحتج بما روي أن عثمان بن أبي العاص دعي إلى ختان فلم يجب إليه، فقيل له في ذلك، فقال: إنا كنا في عهد رسول الله ﷺ لا ندعى إلى ختان، ولا نجيب إليه، قلنا: هذا لا حجة فيه، حتى ينقل عن النبي ﷺ قولًا. والله أعلم. ولا يجب ذلك، لأن الإيجاب بالشرع، ولم يرد الشرع بإيجابه، لأنه لم ينقل أنه أولم على غير عرس، ولا أنه أمر به. قاله أبن درباس في الاستقصاء. انتهى.
أقلها شاة واحدة
ثم اقل المستحب في الوليمة للقادر شاة، لأنه ﵊ أولم على زينب بنت جحش ﵂ بشاة. كما في البخاري وفي شرح مسلم للنووي في قوله ﷺ: " أولم ولو بشاة " دليل عليه أنه يستحب، إذ لا ينقص عن الشاة. انتهى. وقال في الاستقصاء: وكل من أولم فالمستحب له أن لا ينقص عن شاة، لقوله ﵊ لعبد الرحمن بن عوف: " أولم ولو بشاة ". فأن أقصر على أقل منها جاز، لما روي عن أنس أن النبي ﷺ أولم على صفية بسويق وتمر. وقال أبن الصباغ والمتولي: أقل الوليمة للمتمكن شاة لقوله ﷺ لعبد الرحمن بن عوف: " أولم ولو بشاة ". فإن لم يتمكن من ذلك، أقتصر على ما يقدر عليه، لفعل النبي ﷺ الذي فعله على صفية، لأنه فعله وكان على سفر في حرب حنين. والأول أظهر. انتهى. وقال البلقيني: وأقلها للمتمكن شاة، ولغيره الاقتصار على ما يقدر عليه. انتهى.
فروع:
وليمة التسري
الأول - قال الأذرعي قد يخرج بالعرس التسري، ولم يتعد منواله، والظاهر استحبابه. ففي الصحيح: " أولم على صفية، وتردد الصحابة مع ذلك في إنها زوجته أم لا، حيث قالوا لما اصطفاها واختلى بها وهم يأكلون: هل هي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي منهن ". قدر على الوليمة كانت لكل منهما. لكن لم ينقل أنه أولم على مارية القبطية أم إبراهيم ﵂.
وقت الوليمة
الثاني - لم يتعرضوا لوقت الوليمة، هل هو قبل الدخول أو بعده؟ قال النووي في شرح مسلم: وأختلف العلماء في وقت فعلها. فحكى القاضي. يعني عياضًا: أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول. وعن جماعة من المالكية استحبابها عند العقد. وعن أبن حبيب المالكي استجابها عند العقد، وعند الدخول. هكذا قال في الكلام على الوليمة. ثم قال بعد ذلك في قضية صفية: وأنها أهديت له بالليل، فأصبح عروسًا وأنه قال: " من كان عنده شيء فليجئ به ". وفيه دليل لوليمة العرس على أنها بعد الدخول وقد سبق أنها تجوز قبله، وبعده. انتهى. وقال السراج في الملقن: وفي سنن ما تقضي أن وقتها بعد الإملاك، وهو ما روي من طريق إسماعيل بن عمرو، أن النجاشي لما زوج أم حبيبة رسول الله ﷺ: ثم أرادوا أن يقوموا قال: " فإن من سُنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج " فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. انتهى. وقال السبكي: لم يتعرضوا لوقتها، والمنقول عن فعل النبي ﷺ أنها بعد الدخول، يعني ما في صحيح البخاري والترمذي والنسائي قال أنس: بنى النبي ﷺ بامرأة فأرسلني فدعوت رجالًا إلى الطعام ".
1 / 2
وفي هذا الزمان يفعلها الناس قبله. وأخذت أنا مما نقلته عن البغوي في الدُّف، حيث قال: إنه يجوز الضرب به في العقد قبل، وللزفاف بعد، أنها تجوز قبله وبعده، ويكون وقتها موسعًا من حين العقد. وفي الإقناع للماوردي أن وليمة العرس عند الدخول. وقال الأذرعي: ويتجه أن يقال لا تؤخر عن ثلاث للثيب، وعن مدة الزفاف للبكر، والأقرب الرجوع إلى العرف. وما رواه البيهقي في سُننه ظاهرة أنها تكون بعد الدخول، حيث قال: باب وقت الوليمة، ثم أسند عن أنس أنه قال: " بني النبي ﷺ بامرأة، فأرسلني، فدعوت ناسًا إلى الطعام " لأن البناء عبارة عنه، وعليه يحمل كلام الإقناع. وقال الزركشي: والصواب أنها بعد الدخول، كما دل عليه الحديث؛ ففي الصحيحين: " أصبح النبي ﷺ عروسًا فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار ". وفي ثلاثيات مسند أحمد عن أنس قال: " لما دخل النبي ﷺ بزينب أولم فأطعمنا خبزًا ولحمًا ". وفي قصة عبد الرحمن بن عوف لما رأى عليه بشاشة العرس قال له: " أولم ولو بشاة ". وفي بعض طرق البخاري: " أقام بنا النبي ﷺ ثلاثًا يبني على صفية وأن أنسا دعا الناس إلى وليمته ﷺ ".
فائدة:
معنى البناء
إنما سمي الدخول على المرأة بناء، لأن العرب كان عادتهم أنهم إذا أرادوا الدخول على المرأة بنوا لها بيتًا جديدًا يدخلون عليها فيه. فقولهم بني بها، أي بسببها. قاله بعض الحفاظ. وقال الجوهري في البناء المذكور هنا: وكان الأصل فيه أن الداخل بأهله، كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل بأهله بان، انتهى. وقال الصلاح الصفدي في كتابه " تصحيح التصحيف " عن أبن الجوزي والحريري: ويقولون بني بأهله، ووجه الكلام أن يقول: بني على أهله، والأصل فيه أن الرجل إذا أراد أن يدخل على عرسه بني عليه قبة، فقيل لكل من أعرس بان. وعليه فسر أكثرهم قول الشاعر:
ألا يا مَنْ يَرى البَرقَ اليَماني ... يَلوحُ كأنهُ مِصباحَ بانِ
انتهى.
عروس وليس عروسة
ثم قال عن أبن الجوزي: والعامة تقول: أهديت العروس إلى زوجها، والصواب هديت، انتهى.
ثم قال عن الجواليقي والزبيدي وأبن الجوزي والصقلي: ويقولون عروسة، والصواب عروس وكذلك يقال للرجل أيضًا قال الشاعر:
أترضى بأنهُ لم تَجِفَ دِماؤنا ... وهذا عَروسًا باليَمامةِ خالدُ
انتهى.
ما يصنع في الوليمة
الثالث - لم يتعرضوا لما يصنع فيها، وسبق أنه لا تتعين الشاة. وفي البحر للجرجاني: أن شاة وليمة كشاة العقيقة في الأوصاف حين ينزع لحمها من العظم ولا يكسر، وتغدق على الفقراء، ويطبخ منه، ويطعم. وهو غريب. وقال البلقيني: ولم يعتبروا هنا اعتبار صفة الأضحية في المذبوح، وأعتبر في العقيقة على الأشهر، واعتباره هنا على الوجوب أولى. انتهى.
ولا يتعين في الضيافة وغيرها من الولائم طعام، بل الخيرة إلى المضيف أو المولم، وينبغي أن يعمل ما يليق بمضيفه وحاله.
لو نكح أربعًا معًا
الرابع - لو نكح أربعًا في عقد أو عقود، فهل يجب أو يستحب على رأي أن يعمل لكل واحدة وليمة، أو يكفيه وليمة واحدة للكل؟ وقع فيه بحث، ويفترق الحال بين العقود المتحدة، أو العقد الواحد، أنه إن قصد بما أتخذه من الطعام الوليمة عن الكل كفى، وإن كان ما صنع لو قسم لحل به الوليمة عن واحدة. وكذا إن كان لا يكفي لو قسم، فالأشبه أنه يكفي أيضًا نظرًا إلى أنها وليمة واحدة. وعلى ما أشرنا إليه ينبني فيما لو أفرد واحد بالوليمة من وجوب الإجابة ثانيًا وثالثًا، قاله الأذرعي. وقال البلقيني: فيما لو أعرس على أربع نسوة، وكفى لهن وليمة واحدة. هذا هو الظاهر تفريعًا على الوجوب. انتهى.
الوليمة ليلًا أم نهارًا
1 / 3
الخامس - قول أبن الصلاح عن فقيه الحرم النداوي: أن وليمة العرس ليلًا أصوب؛ لأنها مقابلة نعمة ليلية قال الله تعالى: (فَإذا طَعِمْتُمْ فأنْتَشِرُوْا) وكان ذلك ليلًا. قاله الزركشي وغيره. ولكن قال بعض الحفاظ المعتبرين: إن الآية إنما نزلت نهارًا، وأحتج بما في الصحيحين وغيرهما انتهى. أما البخاري فقال كتاب النكاح: باب البناء بالنهار، ثم ساق بسنده عن عائشة قالت: " تزوجني رسول الله ﷺ ضحى " الحديث. وقال في كتاب الأطعمة: باب قول الله ﷿: (فإذا طَعِمْتُم فاِنَتشِروْا) ثم ساق بسنده عن أنس قال: " أنا أعلم الناس بالحجاب، أصبح رسول الله ﷺ عروسًا بزينب بنة جحش، وكان تزوجها بالمدينة، فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار " الحديث. ولم يذكر في تفسير سورة الأعراف أنه كان نهارًا، وقال النووي في شرح مسلم، عقب قول عائشة: فلم يرعني إلى آخره: جواز الدخول والزفاف للعروس نهارًا وهو جائز ليلًا ونهارًا، وأحتج به البخاري في الدخول نهارًا، وترجم عليه بابًا. انتهى. وقيل: كانوا يختارون النكاح آخر النهار، قال أبن الشريشي: قال بعض العلماء: ذهبوا في ذلك إلى أتباع السُنة في الفأل، فآثر الناس استقبال الليل بعقد النكاح تيمنًا، لما فيه من الهدوء والاجتماع، على صدر النهار لما فيه من التفرق والانتشار، وذهبوا إلى تأويل القرآن، لأن الله تعالى سمى الليل في كتابه سكنًا، وجعل النهار نشورًا. كما كانوا يستحبون النكاح يوم الجمعة للاجتماع. قال الشاعر:
ويوم الجُمْعة التنعيم فيه ... وتزويج الرجال من النساء
انتهى.
ولهذا نقل عن أبن رشد المالكي أنه قال: واستحب جماعة النكاح في يوم الجمعة، وفيه حديث من رواية أبي سعيد مرفوعًا: " يوم الجمعة خطبة ونكاح " لكنه ضعيف.
فائدة النقوط المعتاد من الناس في الأفراح هل يجب رده أم لا؟ أجاب النجم البالسي: أنه كالدين، لدافعه أن يطالب به القابض، ولا أثر للعرف في ذلك لأنه مضطرب فكم من امرئ يدفع النقوط ثم يستحي أن يطالب به انتهى. وعابه إيجاب وقبول، كان أولى، وقوله العرف مضطرب: لم أعرف معناه، فإن عرف بلادنا متفق على القابض لا يطالب، بل صاحب الوليمة إذا وقع لمن نقط عنده لهم كافأه، وهو إلى الهدية أقرب من كل شيء انتهى. وقال الزركشي: وقياس ما قاله الرافعي في اختلافهما في أداء المهر، أن القول قول الدافع بيمينه أنه نوى الرجوع وقيل بلا يمين، ومثله ما لو خطب امرأة وأهدى إليها شيئًا، ثم بدا له فلم يتزوجها أنه يرجع، وعجب من حكايته ذلك عن فتاوى أبن زريق مع أن الرافعي قد صرح به فقال: وسواء كان المدفوع من جنس الصداق أم من غيره، طعام أم غيره انتهى. وفي فتاوي البغوي: رجل أراد أن يتزوج أبنه امرأة فخطبها لأبنه، وتوافقا على العقد، فقبل أن يعقد، أهدى لها أبو الزوج شيئًا، ثم مات المهدي قبل العقد، ثم نكحها أبنه، ثم طلقها قبل الزفاف وأسترجع الهدايا. قال: يكون ميراثًا بين الجميع: لأن الأب إنما أهدى لأجل العقد ولم يعقد في حياته، فيكون ميراثًا لورثة الأب. وفي استرجاع الهدايا نظر كما قاله الدميري. وفي فتاوى أهل سمرقند الحنفية: رجل تزوج امرأة وبعث إليها بهدايا، وعوضته المرأة عن ذلك عوضًا، ثم زفت إليه، ثم فارقها وقال: إنما بعثت إليك عارية، وأراد أن يسترد ذلك، وأرادت المرأة أن تسترد العوض، فالقول له لأنه أنكر القليل، فإذا أسترد ذلك منها كان لها أن تسترد ما عوضته انتهى. وقال العيني: ومن بعث إلى امرأته شيئًا فقالت: هو هدية، وقال: هو من المهر، فالقول له في غير المهيأ للأكل، وأما نحو الشواء فالقول قولها فيه استحسان انتهى ملخصًا.
الثانية:
وليمة الخُرس
بضم الخاء المعجمة والسين المهملة ويقال أيضًا بالصاد المهملة ويقال الخرسة: وهي الطعام الذي يصنع لسلامة المرأة من الطلق في النفاس، وهو الولادة.
يقال: نفست المرأة بضم النون إذا ولدت، وفي الحيض بفتحها. وقال الهروي: يقال في الولادة بضم النون، وفي الحيض بالفتح لا غير. والفاء مكسورة فيهما ذكره النووي في شرح مسلم. وقال الصفدي في تثقيف اللسان: يقولون امرأة نافسة، والصواب نُفَساء بضم النون وفتح الفاء وبعد السين الممدودة المهملة ألف ممدودة انتهى.
فائدة
كيف يهنأ بالمولود
1 / 4
وقال في الاستقصاء ويستحب أن يُهَنَّأ الوالد بولده؛ روي أن رجلًا جاء إلى الحسن وعنده رجل قد رزق مولودًا فقال: يُهْنِك الفارس. فقال له الحسن: وما يدريك أفارس هو أم حمار فقال: كيف نقول؟ فقال: قل بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده ورزقت بعده انتهى.
الثالثة:
العَقِيْقَة
والعقيقة في اللغة قال الأصمعي أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، قال: وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح، وأنكر الإمام أحمد ذلك وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه. وجعلها الجوهري للأمرين. وفي الاصطلاح: أسم للشاة المذبوحة عن المولود يوم السابع من ولادته.
حكم العقيقة
وأنكرها أبو حنيفة وأصحابه وقالوا ليست بسُنة، لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رسول الله ﷺ سئل عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق " قالوا: ولأنها فعل أهل الكتاب، كما قال النبي ﷺ " إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية " ذكره البيهقي، فأبطلها الإسلام كالعتيرة. وذهبت طائفة إلى وجوبها، منهم دادو الظاهري وقالوا: لأن النبي ﷺ أمر بها، وأمره الفرض. وذهب مالك إلى أنها سُنة واجب يجب العمل بها، وهو قول الشافعي وأحمد. والسنة الواجبة هي ما تأكد استحبابه، وكره تركه، فيسمونه واجبًا وجوب السنن. واحتجوا بما رأوه أصحاب السنن، عن سمرة قال رسول الله ﷺ: " كل غلام رهينة بعقيقه، يذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه "، قال الترمذي: حديث حسين صحيح، وبقول عائشة: " عق رسول الله ﷺ عن الحسن والحسين يوم السابع، وسماهما، وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى " رواه الحاكم وأبن حبان في صحيحهما. وأستنبط الإمام أحمد من هذين الحديثين أنها إن لم تذبح يوم السابع ففي رابع عشرة وواحد وعشرين، وذهب جمهور العلماء إلى أنها سنّة عن الجارية، كما هي سنة عن الغلام. وحكى أبن المنذر عن الحسن وقتادة أنهما كانا يريان عن الجارية عقيقة، ولعلهما تمسكا بقوله ﷺ " كل غلام رهينة بعقيقته "، وهذا الحديث من روايتهما من حديث سمرة، والغلام أسم للذكر دون الأنثى، ويرده الحديث أم كُرْز أنها سألت رسول الله ﷺ عن العقيقة، فقال: " عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، لا يضركم أذكرانًا كن أم إناثًا "، صححه الترمذي وغيره.
كيفية أكلها وتوزيعها
وكره الإمام أحمد كسر عظامها، ولكن يقطع كل عضو من مفصله، لما روى أبو داود في كتاب المراسيل عن جعفر بن محمد عن أبيه، أن النبي ﷺ قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين " أن يبعثوا إلى القابلة منها برجل، ويأكلوا ويطعموا، ولا يكسروا منها عظمًا ". وقال أبو عمرو: قول مالك مثل قول الشافعي، إلا أنه قال تكسر عظامها ولا يدعى الرجال كما يفعل بالوليمة، لأنه لم يصلح في المنع ولا في كراهته سنة، وقال مالك: الضأن في العقيقة أحب إلي من البقر والماعز. وقال الرافعي في مجموع الصيدلاني: أنه إذا طبخ فلا يتخذ له دعوة، يل الأفضل أن يبعث به مطبوخًا إلى القراء، نص عليه الشافعي، فلو دعاهم إليه فلا بأس.
وإذا بلغ سقطت عن غيره، وهو مخير في العق عن نفسه في الكبر؛ لأنه ﵊ عقّ عن نفسه بعد النبوة انتهى. وهذا رواه جماعة بسند منكر منهم عبد الرزاق في مسنده قال: أخبرنا عبد الله بن محرز، عن قتادة، عن أنس " أن النبي ﷺ عق عن نفسه بعد النبوة " قال عبد الرزاق إنما تركوا أبن محرز لهذا الحديث.
هل يجوز بيعها
وقال أبن حمدان في الرعاية: ويجوز بيع جلودها وسواقطها ورأسها، والصدقة بثمن ذلك، نص عليه أحمد. وقيل: يحرم البيع ولا يصح، وقيل ينقل حكم الأضحية إلى العقيقة وعكسه، فيكون فيهما روايتان بالنقل والتخريج، والتفرقة أظهر انتهى.
اذبحوها على أسمه
وروى بن المنذر من حديث عائشة قالت: " قال النبي ﷺ: اذبحوا على أسمه، فقولوا بسم الله اللهم لك وإليك، هذه عقيقة فلان " قال أبن المنذر: وهذا حسن. وإن نوى العقيقة ولم يتكلم به أجزأه انتهى.
الرابعة:
وليمة الوَكِيرة
1 / 5
بفتح الواو وكسر الكاف وبعدها ياء مثناة من تحت، وهي لإحداث بناء السكن، مأخوذة من الوكر وهو المأوى والمستقر.
الخامسة:
وليمة الوَضِيمة
بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة، وهي لحدوث مصيبة.
من يصنعها
قال النووي: ولجيران أهله وأقاربهم الذين لم يشتغلوا بالمصيبة، سواء كان الميت بذلك البلد أو بغيره، تهيئة كعام يشبعهم يومهم وليلتهم، لقوله ﷺ لما جاء قتل جعفر: " اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد جاءهم ما يشغلهم " حسنة الترمذي وصححه الحاكم.
ويلح عليهم في الأكل إن احتيج إليه، فربما يكرهونه استحياء، أو لفرط الجزع، ولا بأس بالقَسَمِ إذا علم الحالف أنهم يبرون قسمه.
النياح على الميت
ويحرم تهيئة النائحات، لأنه إعانة على معصية. وقال الكمال الدميري في باب التعزية من شرحه: ويكره الأكل من طعام المآتم انتهى. وقال في حياة الحيوان في باب الطاووس، في كلامه على ترجمة الإمام طاوس بن كيسان فقيه اليمن ما صورته: وروى أحمد عنه في كتاب الزهد أنه قال: إن الموتى يفتنون في قبورهم سبعة أيام، وكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام انتهى. وأما إصلاح أهل البيت طعامًا وجمع الناس عليه، فلم ينقل فيه شيء، بل هو بدعة مستقبحة، وغيره مستحب قاله أبن الصباغ، وقد روى الإمام أحمد وأبن ماجه بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله ﵁ قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة. قال الأذرعي: ولا خفاء في تحريم ذلك إذا كان على الميت دين أو في الورثة محجوز أو غائب وصنع ذلك من التركة انتهى.
مدعو التصوف
وهذه القضية يقع فيها كثير من فقراء الزوايا، ومجاوري الترب والمدارس ونحوهم، فإن كثيرًا من الناس يأتي إليهم فيتبرك بهم ويدعوهم إلى منزله ليقرأوا للميت ختمًا، ويكون الميت قد ترك في الورثة محجوزًا كطفل ومجنون، أو غائبًا كما تقدم. وفي البيت آلة الأكل كطحين ودبس وأرز ونحو ذلك، فيصنعون لهم من ذلك ما يأكلون، فيأتون يسعون أفواجًا، ويجلسون على أشياء محرمة كجلود النمور عند الشافعية وغيرها، فيبتدئ بهم المشار إليه معهم، فيزعمون أنهم يقرأون ختمًا ويهدونه وما يكونون قرأوا نحو ثُمُن. وبلغني أن بعضهم يقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات ويقول أو يحلف أنه قرأ للميت فلان ختمًا تامًا، ثم يدعوا، فمنهم من يذكر في دعائه ما يهيج أهل الميت على البكاء، ومنهم من يحسن صوته ويرفعه بلا خشوع ولا خضوع، ومنهم من يظهر الصلاح في هيئته ونطقه، ثم يقول في دعائه وإهدائه: وأجعل اللهم ثواب هذه الختمة المعظمة المبجلة المشرفة الميمونة إلى صحائف سيدنا رسول الله ﷺ،وإلى أو زيادة في شرفه. فيتجرأ على الجناب الرفيع، وذلك أدبه معه، وقد أفتى بترك ذلك على سبيل الأحترام غير واحد من العلماء المتأخرين، فإنه لم يأذن في ذلك ولم يشرعه وجميع المشروعات الصادرة منه أجرها وأجر من عمل بها إلى الأبد. ثم بعد فراغهم من دعائهم يؤتى بالسماط، فينظرون إلى مكان يخرج منه ذلك الطعام السُّحت، وإلى النوع الفاخر منه، ثم يأكلون كأكل الأطفال الجائعين، وبعضهم يحمل معه في وعاء إن قدر، وإلا في كمه بعد أكله وشبعه. حتى إن بعضهم يكون صائمًا فيفطر على ذلك عند إفطاره.
وقد قال حجة الإسلام الغزالي: زلة الصوفي حرام. هذا مع اتصافه بذلك، فإن كان ذلك، ليس بصوفي، ولا يشتغل في المدرسة. كما شرط الواقف، فهو أبلغ ولهذا قال العالم الرباني تقي الدين الحسني: وكثيرًا ما يسكن المدارس من لا يتأتى منه التحصيل، بل هو يعطل نفسه، فهذا لا يعطي بلا خلاف، ولو كان مقبلًا على العبادة، لأن نفعه قاصر على نفسه، بخلاف المشتغل بالعلم الشرعي، فإنه متعد إلى غيره، وكُلًاّ لا تحل له الزكاة، انتهى ملخصًا.
1 / 6
والحاصل أن الأكل من هذه الوضيمة والحالة ما ذكر حرام بلا خلاف. وفي مسند الفردوسي للديلمي من حديث أبن مسعود: أن رسول الله ﷺ قال: " من أكل لقمة من حرام - أي وهو عارف - لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ". وفيه من حديث أبن عمر: " من لم يسأل من أين أكتسب المال، لم يسأل الله تعالى من أين أدخله النار ". وقال أبن عباس: لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام. وقد أكل أبو بكر الصديق طعامًا، ثم ظهر فيه شبهة فقذفه وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لحم بنت من حرام النار أولى به ". وكذا ورد عن عمر. فما بالك بهذا الحرام المحقق قال تعالى: (الّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ أمْوَالَ اليَتَامى ظُلْما إنّما يَأْكُلُونَ في بُطُوْنِهِم نَاْرًا وسَيَصْلوْنَ سَعِيْرًا) السادسة:
وليمة النقيعة
بفتح النون، وهي الدعوة لقدوم المسافر.
مأخوذة من النَّقْع، وهو الغبار. قال الله تعالى: (فَأثَرْنَ بِهِ نَقْعًَا) .
وفي الاستقصاء لأبن درباس: ويقال لكل جزور نحرت للضيافة: نقيعة. انتهى.
من يصنعها؟
وقال النووي: وقول الأصحاب النقيعة لقدوم المسافر مستحبة، ليس فيه بيان من يتخذها، أهو القادم أو المقدوم عليه. وفيه خلاف لأهل اللغة؛ فنقل الأزهري عن الفراء أنه القادم، وقال صاحب المحكم: هو طعام يصنع للقادم. وهو الأظهر، انتهى.
هدية المسافر
وأما ما رواه البيهقي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: " إذا قدم أحدكم على أهله من سفر، فليهد لهم، وليطرفهم، ولو كان حجارة "؛ فهو حديث ضعيف، لكنه أصل لما يفعله بعض الحجاج، أن يستصحب معه من مكان يعرف بفرش الرز حجارة بيضًا. وأما ما يفعله بعضهم من استصحاب أكف من تراب الحرم أو أحجاره ونحو ذلك فهو حرام، وكما يحرم أخذ شيء من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره والله أعلم. قال الأذرعي: والصواب الأول. قال الحليمي في منهاجه: ويستحب للمسافر إذا رجع وأستقر في منزله أن يطعمه الناس، وعليه الصالحون من سلف هذه الأمة. ثم ذكره عن أبن عمر وجماعة من التابعين، ويشهد له ما في البخاري عن جابر " أنه ﷺ لما قدم المدينة نحر جزورًا أو بقرة ". ثم قال البخاري: وكان أبن عمر يذبح لمن يغشاه.
السابعة:
وليمة العَذِير
بالعين المهملة والذال المعجمة. ويقال العذيرة كذا في الاستقصاء، والإعذار بكسرة الهمزة مصدر أعذره، وهي الدعوة للختان.
قال أبن الأثير: وفي الحديث: " الوليمة في الإعذار حق " ز الإعذار الختان، يقال: عذرته وأعذرته فهو معذور، ثم قيل للطعام الذي يطعم في الختان إعذار. ففي حديث سعد: " كنا أعذار عام واحد " أي ختنا في عام واحد. وكانوا يختنون لِسِنّ معلومة، فيما بين عشر سنين وخمس عشرة سنة انتهى.
حكمها
قال شيخنا المحيوي النعيمي الشافعي: وهي مستحبة لما روينا في جزء أخبار الصبيان، وما يستدل به على رشد الغلام عن أبن عمر أنه كا يطعم على ختان الصبيان، وعن أبي حَسين بفتح الحاء أن وصيًا أنفق على ختان صبي مائة دينار، فلما كبر خاصمه إلى شريح قال: فقضى شريح فقال: جزور وما يصلحها ويضمن سائر المال. وعن بشر بن الحارث قال أتى سفيان فقيل له: يا أبا عبد الله غلام يتيم نريد نختنه قال: أنحر عنه جزورًا. وعن أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد قال: شهدت جدي زبيدًا في ختاني ضحى بنعاج كثيرة فأنتهبه الغلمان فقال: لا تنتهبوا. وأعطاهم هو بيده وقال هذا خير. وعن هشام بن عروة قال: ما صنعت أمي يوم ختنت إلا عصيدة.
أهي للذكر فقط؟
وعن الحسن أن عفان بن أبي العاصي دعي إلى وليمة فأجاب، فلما أتي بالطعام قيل: هذا في ختان جارية فأخذ ثوبه ونهض وقال: هذا طعام ما أكلته على عهد رسول الله ﷺ. وأخرجه أحمد في مسنده. وفعل ذلك لكونه صنع لختن جارية، ولهذا قال أبن الحاج المالكي في المدخل: إن السُنة في الختان للذكور إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه.
وجوب الختان
1 / 7
وقال بعضهم: وأحسن ما يستدل به على وجوبه قوله تعالى: (ثُمَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ ظان أتّبِعْ مِلّةَ إبْرَاهيْمَ حَنيْفًا) وكان من ملته الختان، لأنه أختتن وهو أبن ثمانين سَنة، كما رواه البخاري ومسلم، أو مائة وعشرين كما رواه أبن حبان، أو سبعين كما قاله الماوردي. وفي رواية لأبي داود أن النبي ﷺ قال لرجل أسلم: " ألق عنك شعر الكفر واختتن ". ولأنه قطع عضو عَذِيْر والعورة تكشف له فدل ذلك على وجوبه. قال أبن شريح وغيره وقيل هو سُنة في حق الرجل والمرأة: لقول الحسن: قد اسلم الناس ولم يختتنوا. وروى أحمد والبيهقي أن النبي ﷺ قال: " الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء ". ولكنه ضعيف. وقيل: واجب للذكور، سُنة للإناث. قال المحب الطبري: وهو قول أكثر أهل العلم. وإلى قول الحسن أنه سنةٌ ذهب أبو حنيفة.
وقت الختان
أما قبل البلوغ فلا خلاف في عدم وجوبه. وللوجوب بعد البلوغ شرطان أحدهما: عدم الخوف عليه؛ فإن خيف من اختتانه امتنع الثاني: العقل فلو بلغ مجنونًا لم يجب ختانه، وقيل يلزم الولي ختانه في الصغر، ويعفى الأب بتركه حين يبلغ، ويندب تعجله في سابعه لما في الحاكم عن عائشة " أن النبي ﷺ ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما " وروى الدوري عن علي بن يوسف قال: سمعت مكحولًا يقول: ختن إبراهيم إسحاق صلى الله عليهما وسلم لسبعة أيام. وعن وهب بن منبه قال: إذا ولد المولود كان جسده خدرًا سبعة أيام فلو قطع منه بضعه لم يجد له ألمًا. وفي شرح التلخيص عن الشيخ أبي علي، أنه يجوز في السابع لأن الصبي لا يطيقه، ولأن اليهود يفعلونه، والأولى مخالفتهم. وتبعه الغزالي في الأحياء. وجزم النووي في التحقيق وغيره فقال: فإذا أخره عن السابع أستحب في الأربعين، فإن أخره استحب في السنة الثالثة عشرة، لما روى الدوري عن مكحول قال: ختن إبراهيم إسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما لثلاث عشرة سَنة. والمشهور أنه على الفور، ولا يؤخر إلا لعذر أو حر أو برد. وقد روى الدوري أيضًا عن شرحبيل قال: لما ختنت دخل علي خالد بن عبد الله، قال: أبشر يا أبن أخي فقد طهرك الله ﷿، فقد بلغني أن الحجر ينجسه بول الأقلف إذا أصابه، أربعين صباحًا.
الضرب بالدف في الختان
وقال البلقيني: ويجوز ضرب الدف في الختان بل يستحب قياسًا على العرس لأن عمر ﵁ كان إذا سمع صوتًا أو دفًا أنكره، فإن كان عرسًا أو ختانًا أقره، انتهى.
الثامنة:
وليمة المأدُبَة
بضم الدال وفتحها، وهي الضيافة التي تعمل بلا سبب.
قال أبن العماد: سميت مأدبة لاجتماع الناس لها، لأنها تقع على كل طعام يصنع، ويدعى عليه الناس، وخصوصًا الأصدقاء. وروينا عن جابر قال: " جاءت ملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، مثله كمثل رجل بني دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد ﷺ فرق بين الناس ".
أنواع من المآدب
وقال البلقيني وما يتخذ بلا سبب مأدبة ثم إن كانت عامة فهي الجفلى يعني بفتح الجيم والفاء واللام مقصورًا، أو خاصة فهي النقرى يعني بثلاث فتحات مقصورًا انتهى. قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعوا الجفلى ... لا ترى الأدب فينا ينتقر
وصف قبيلته بغاية الكرم، إذا زمن الشتاء وقت ضيق، ومع ذلك فهم يدعون الناس دعوة الجفلى. وقوله لا ترى الأدب أي متخذ المأدبة، وقوله ينتقر: أي لا يدعوا دعوة النقرى.
فائدة
الدعوة لغة
دعوة الطعام بفتح الدال، ودعوة النسب بكسرها، هذا قول الجمهور، وعكسه تيم الرباب بكسر الراء فقال: الطعام بالكسر، والنسب بالفتح. وأما قول قُطْرُب في المثلث: إن دُعوة دعوة الطعام بالضم فغلطوه فيه، كذا في شرح مسلم للنووي. وقال البلقيني: والدعوة إلى الطعام بفتح الدال، وفيه لغة بكسرها انتهى.
نكتة
استحباب الإطعام للأصحاب
1 / 8
قال جعفر بن محمد الباقر: إذا قعدتم مع الأخوان على المائدة فأطيلوا الجلوس، فإنها ساعة لا تحسب عليكم من أعماركم. وكان الحسن البصري يقول: كل نفقة ينفقها على نفسه وأبويه ممن دونهم يحاسب عليها، إلا نفقة الرجل على إخوانه في الطعام، فإن الله ليستحيي أن يسأله عن ذلك. وروى أنه ﷺ قال: " لا يحاسب العبد على ما يأكله مع إخوانه " رواه الديلمي. وقال علي كرم الله وجهة: " لأن أجمع أخواني على صاع من طعام، أحب إلي من أن أعتق رقبة ".
التاسعة:
وليمة الحِذَاقة
بكسر الحاء المهملة، وهي الإطعام عند ختم القرآن، وكذا إذا ختم الثمُنَ أو الرُبُعَ أو النصف.
وهي التي يسمونها في زمننا " التحلية ". تقول أولاد الكتاب: " حلانا فلان بن فلان ". وكذا إذا تعلم الآداب، وكذا إذا نبتت أسنان الصغير، ونحو ذلك.
فوائد لغوية
قال أبن الجوزي في تقويم اللسان: والصواب المكتب والمكاتب والعامة تقول الكتاب والكتاتيب، وهو غلط لأن الكتاب: الذين يكتبون، كذا نقله الصلاح في تحريره، وهو عجب، فقد وقع في كلام الشافعي، ومشى عليه الجوهري، واقصر صاحب القاموس على الثاني فقال: ويقال الكتاب كالرمان انتهى. وقال في الصحاح: وحذق الصبي القرآن والعمل " يعني الزيادة في أمر محبوب يَحْذِقُ حَذْقًَا وحِذْقًا وحَذَاقَةً وحذَاقًا إذا مهر فيه، وحَذِقَ بالكسر لغة فيه، ويقال لليوم الذي يختم فيه القرآن هذا يوم حِذَاقِةِ، وفلان في صنعته حاذِقٌ باذِقٌ وهو إتباع له انتهى. وقال الصلاح: قال أبن الجوزي: العامة تقول حذق الصبي بفتح الذال والصواب كسرها انتهى.
الاحتفال بحذاق الصبيان
وروى الدوري في جزئه عن أبي بكر الهذلي قال: سألت الحسن يعني البصري وعكرمة عن الصبي نبتت أسنانه فينثر عليه الجوز، فقالا: حلال. وعن يونس بن عبيد قال: طرق أبن لعبد الله بن الحسن فقال عبد الله: إن فلانًا قد حذق والمعلم يطلب، قال: فماذا يريد؟ أعطه درهمًا. قال سبحان الله! قال: فأعطه درهمين. قال: إنه لا يرضى! فقال الحسن ﵁: كانوا إذا حذق الغلام قبل اليوم نحروا جزورًا، واتخذوا طعامًا. وعن بن سلمة عن حميد قال: كانوا يستحبون إذا جمع الصبي القرآن أن يذبح الرجل الشاة ويدعو أصحابه.
العاشرة:
وليمة التحفة
وهي الإطعام لمن يزورك.
الحادية عشرة:
وليمة القِرى
وهي الإطعام للضيف
ما يقال عند الطعام
روينا في عمل اليوم والليلة لأبن السني، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي ﷺ أنه كان يقول في الطعام إذا قرب إليه: " اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، بسم الله ".
الإذن بالطعام
ويستحب أن يقول صاحب الطعام لضيفه عند تقديم الطعام: بسم الله، أو كلوا، ونحو ذلك من العبارات المصرحة بالإذن في الشروع في الأكل، ولا يجب هذا القول، بل يكفي تقديم الطعام إليهم، ولهم الأكل بمجرد ذلك من غير اشتراط لفظ، وقيل لا بد من اللفظ والصواب الأول قال شيخنا المحيوي النعيمي: وله أن يأكل كل ما قدم له بلا إذن من صاحب الطعام لفظًا للعرف والقرينة ولقوله ﷺ: " إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول، ذالك أذن فيه " رواه أبو داود. وللقرينة أثر ظاهر في مثل هذا الباب كالتقديم بين يديه، كما يجوز الشرب من الجباب الموضوعة في الطرق. وقال المتولي تقديم الطعام إنما يكفي إذا دعاه إلى بيته، فإن لم يسبق دعوة فلا بد من الإذن لفضًا، إلا إذا جعلنا المعطاة بيعًا، وقرينة التقديم لا تختلف بسبق الدعوة وعدمه. وقال النووي: الصحيح بتقديم الطعام يجوز الأكل بلا لفظ سواء دعاه أم لا. بشرط أن لا يكون ينتظر غيره انتهى. قال أبن العماد: وبشرط أن يكمل وضع السماط وقد نبه عليه صاحب الإشراق. وليس للأرذال أن يأكلوا ما في أيدي الأماثل من الأطعمة النفيسة المخصوصة بهم، لأنه لم يقدم لهم، وبه صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إذ لا دلالة على ذلك بلفظ ولا عرف بل العرف زاجر عنه.
كم يأكل الضيف؟
ولا يجوز له أكل الجميع، وبه صرح أبن الصباغ ولا بد من النظر في ذلك إلى العرف وحال الضيف.
1 / 9
وصرح الماوردي بتحري الزيادة على الشبع، وأنه لو زاد لم يضمن. وقال أبن عبد السلام: إذا أكل الضيف فوق شبعه لا يحرم عليه إلا من جهة أنه مؤذ لمنهاجه، مضيع لما أفسده من الطعام. نعم إن كان ما يأكله قدر عشرة، وصاحب الطعام لا يشعر بذلك، فلا يجوز له أن يأكل فوق ما يقتضيه العرف، في مقدار الأكل لانتفاء الأدب اللفظي والعرفي، ولأن العادة الفاشية عن الترفه والشره إذا جرى عليها الآدمي استهوته واستعبدته وتملكته، فالحزم قطعها وتركها ومخالفتها. فأما العادة التي إعتادها المسلمون ورأوها حسنة فهي عند الله حسنة، كما قال عبد الله بن مسعود في الحديث الموقوف عليه: " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " كما قال تعالى: (ليَسْتَأْذِنْكُم الَّذِيْنَ مَلَكَتْ) إلى قوله: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب ما يبنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه، واعتبر نومهم الذي يألفونه، وكذلك جرى تقديم الطعام إلى الضيفان على ما جرت بع العادة في إباحة الأكل منه للضيفان، تنزيلًا للدلالة العقلية منزلة الدلالة القولية.
هل يتصرف الضيف بالطعام؟
ولا يتصرف الضيف في الطعام بما سوى الأكل المأذون فيه عرفًا، فلا يطعم السائل والهرة ولا يبيعه ولا يهبه ولا يحمل شيئًا معه. وقيل إن قلنا بملكه بالتناول جاز، حكاه في البيان. ويستثنى تلقيم الأضياف بعضهم بعضًا، إلا إذا فاوت بينهم في الإطعام، فليس لمن خص بنوع أن يطعموا منه غيرهم، ويكره للضيف أن يفعل ذلك.
كيفية الجلوس على الطعام
ويجلس الضيف على ركبتيه، لما في الحديث: " أن النبي ﷺ جثا على ركبتيه للأكل وجلس على رجليه ". وله أن يقعد مستوفزًا لما روي " أنه ﵊ كان إذا قعد على طعام استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى ثم قال: إنما أنا عبد آكل ما يأكل العبد، وأفعل ما يفعل العبد ". رواهما أبو الحسن المقدسي في السابل.
من أدب الضيف
ومن أدب الضيف أن لا يخرج إلا برضى صاحب المنزل وإذنه، ومن أدب المضيف أن يشيعه عند خروجه إلى باب الدار، فهو سنّة. وينبغي للضيف أن لا يجلس مقابلة حجرة النساء وسترهن، ولا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام. وإذا حضر المدعوون وتأخر واحد أو اثنان عن الوقت الموعود، فحق الحاضرين في التعجيل أولى من حقهما في التأخير، إلا أن يكون المؤخر فقيرًا ينكسر قلبه بذلك فلا بأس به.
الجنب والمحدث
ويستحب الجنب والمحدث التطهير عند الأكل فإن فقد الماء تيمم.
ترتيب أصناف الطعام وإرشادات
وينبغي أن تقدم الفاكهة إن كانت، لسرعة انهضامها، ويكره أكل ما لم يطب أكله من الفاكهة، ثم اللحم ثم، الحلاوة، ويستحب أن يكون على المائدة البقل وقد ورد في حديث مرفوع من طريق أبي أمامة: " خضروا موائدكم بالبقل فإنه مطردة للشيطان ". وإذا دخل ضيف البيت فليعرفه رب الدار عند دخوله القبلة وبيت الخلاء وموضع الوضوء، ويستحب أن ينوي بأكله وشربه التقوي على الطاعة، وأن يكون باليمين إلا لعذر. قال الغزالي ويبدأ بالملح ونحوه، قال علي بن أبي طالب رضي الله: " من ابتدأ غداؤه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعًا من البلاء " ويستحب الختم بالملح أيضًا.
المائدة والخوان
ولا يكره الأكل على المائدة وإن كانت بدعة فلم يكن ﵊ يأكل إلا على سفرة. قال الحريري وأبن الجوزي: والعامة تقول المائدة للخوان، ولا يكون مائدة إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان. انتهى.
وضعية الآكل والشارب
1 / 10
ويكره الأكل والشرب مضطجعًا، قال الغزالي: إلا ما ينتقل به من الحبوب لأنه قد روي عن علي كرم الله وجهه أنه أكل كعكًا على ترس وهو مضطجع ويقال: منبطحًا على ظهره. والشرب منبطحًا مكروه للمعدة. قال الرافعي: ولا يكره الشرب قائمًا، وحملوا النهي الوارد على حالة السير قال النووي وقد تأوله آخرون على خلاف. هذا والمختار أن الشرب قائمًا بلا عذر خلاف الأولى للأحاديث الصحيحة بالنهي عنه في صحيح مسلم، وكذا في البخاري. وأما الحديثان عن علي وأبن عباس فمحمولان على بيان الجواز جمعًا بين الأحاديث، انتهى. قال الأذرعي: وهذا ما يتعين المصير إليه. وقال أبن العماد في الصحيح: النهي عن الشرب قائمًا، وأمر من نسي فشرب قائمًا بالاستقاء. واختلفوا في النهي فقيل: هو عام في كل أكل. وقال أبن قتيبة وغيره: هو مخصوص بحالة السير لأجل العجلة، وعدم التأني فيه. أما إذا شرب يدل على أن فيه ضرب من جهة الطب وحينئذ فالكراهة إرشادية والنهي نهي إرشاد، أي راجعًا إلى مصلحة دنيوية لا دينية. انتهى. وقال العيني في شرح الكنز: يكره الشرب قائمًا إلا في موضعين أحدهما عقيب الوضوء، وثانيهما عند الشرب من بئر زمزم. انتهى. وأما الأكل قائمًا فقال أنس ﵁: هو أبشع من الشرب قائمًا وكرهه. قال النووي وكذا الغزالي: والمختار الإباحة لقول أبن عمر ﵄: " كنا على عهد النبي ﷺ نأكل ونمشي ونشرب ونحن قيام ". قال الغزالي: والجمع بينهما أن الأكل في السوق تواضع وترك تكلف من بعض الناس فهو حسن، وخرق مروءة من بعضهم فهو مكروه، وبهذا فهموا أن الكراهة إرشادية لا دينية في الأكل والشرب انتهى. قال النووي في فتاويه: وأما الأكل قائمًا فإن كان لحاجة فجائز وإن كان لغير حاجة فهو خلاف الأفضل ولا يقال إنه مكروه. وثبت في صحيح البخاري من رواية أبن عمر أنهم كانوا يفعلونه، وهذا يقدم على ما في صحيح مسلم عن أنس أنه كرهه. انتهى. ثم قال فيها: وهل يكره الكرع في الماء وهو الشرب بالفم من غير عذر في اليد؟ الجواب لا يكره ويجوز. وفي صحيح البخاري فيه حديث حسن.
كما يجوز أكل اللحم نيئًا.
آداب عامة على الطعام
وقال الغزالي: ويأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكسره ولا يقطعه بالسكين، ولا يقطع اللحم. ولا يوضع على الخبز إلا ما يؤكل منه، ولا يمسح يده بالخبز، ويستحب أن يصغر اللقمة ويطيل مضغها، ولا يمد يده إلى أخرى ما لم يبلعها، ولا ينفخ في الطعام الحار، ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق، وقد روى أبو بكر الشيرازي في كتاب الألقاب من طريق جعفر وهو الصادق عن أبيه عن علي: " أن النبي ﷺ نهى أن تلقى النواة على الطبق الذي يؤكل منه الرطب أو التمر ". وقال أبن العماد ينبغي أن لا يخلط نوى ما أكل بما لم يؤكل، وكذا الرمان وسائر ما له قشر كالقصب ونحوه. انتهى. وقال أبن الملقن: ولا يترك ما أسترذله من الطعام في القصعة، بل يجعله مع التفل لئلا يلتبس على غيره فيأكله. ولا يغمس اللقمة الدسمة في الخل، ولا الخل في الدسمة.
وإن قلل رفيقه الأكل نشطه، ولا يزيد في قوله كل على ثلاث مرات. قال الغزالي: وأما الحلف عليه بالأكل فممنوع. انتهى كلام أبن الملقن. وقال أبن العماد: قال الحسن ين علي بن أبي طالب: " الطعام أهون من أن يحلف عليه ". فينبغي لداعي الضيف أن لا يقسم عليه بالله، بل يتلطف بقوله: " ائته "، " تخير "، ونحو ذلك. وإذا رآه مقصرًا في الأكل كرر عليه العزيمة ثلاثًا وهذا الذي روي عن الحسن قد روي عن أبن عباس ما يخالفه فإنه قال: " لكل قادم دهشة فابدؤوه بالسلام، ولكل آكل حشمة فابدؤوه باليمين " ذكره أبن السيد في شرح أدب الكاتب انتهى. ولا يقوم حتى ترفع المائدة، ولا يبتدئ بالطعام ومعه من يستحق التقديم إلا أن يكون هو المتبوع.
الشرب على الطعام
1 / 11
ولا يشرب في أثناء الطعام إلا لضرورة بأن يغص بلقمة فليشربه للحاجة. قال في الإحياء: وإذا صدق عطشه فإنه يستحب الشرب حينئذ من جهة الطب، يقال: أنه دباغ المعدة، وورد النهي عن الشرب في من ثلمة القدح، ويكره الشرب من فم القربة؛ لنهيه ﷺ عن الشرب من فمها لأنه قد يخرج من داخلها ما ينغص الشرب من قشر ونحوه، ولأنه يغير رائحة فمها، ولآنه يملأ البطن ريحًا، كما قاله أبن الجوزي في طبه. وينبغي ألا يشرب الإنسان الماء حتى يتحادر الطعام من البطن الأعلى. ثم أنظر ما يرويك فأشرب ألطفه، فذلك أصلح لبدنك وأقوى لمعدتك وأهضم لطعامك، فإن الأكثارمن الماء البارد يبرد ويرطب ويعف الحرارة الغريزية، والعطش ينحف الجسم ويظلم البصر. وإياك وشرب الماء على الريق عند الانتباه من النوم من الليل وقبل الطعام فإن ذلك يطفئ نار المعدة، ويطفوا على الطعام. ومن شرب الماء بعد البقول فهو على خطر من الحبوب والتواليل. وليحذر الماء البارد عقب الفواكه والحلوى والطعام الحار والحمام والرياضة، وشرب الماء الحار عقيب الأشياء المالحة. ولا ينبغي للعطشان أن يشرب الماء الكثير فأنه يهلكه، ولا الماء الشديد البرودة فإنه يميت الحرارة الطبيعية التي أضعفها العطش، وإنما ينبغي أن يمص القليل منه ويصبر، ثم يمص القليل. ويستحب إدارة المشروب عن يمين المبتدأ بالشراب. قال الدميري ويكون الساقي آخرهم شربًا. انتهى.
وينبغي أن يستعمل الششني أولًا. وقال في المختار للحنفية: ويحرم الأكل فوق الشبع إلا إذا قصد التقوى على صوم الغد أو لئلا يستحيي الضيف. انتهى. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ويحرم عليه لو كان الطعام قليلًا أن يأكل لقمًا كبارًا مسرعًا في مضغها وابتلاعها حتى يومنا يحرم أصحابه. انتهى.
غسل اليدين
ولا يكره غسل اليد بالأشنان وإن كان محدثًا. قال الدميري: ولا بالنخالة ونحوها؛ ففي سنن أبي داود أن النبي ﷺ أمر امرأة أن تجعل في الماء ملحًا ثم يغسل به الدم. انتهى. قال الغزالي: وكيفية أن يغسل الأصابع الثلاث من اليمين أولًا ويضرب بأصابعه على الأشنان اليابس فيمسح به شفتيه. ولا يكره الغسل في الطست، وله أن يتنخم فيه إن كان وحده، وأن يقدم المتبوع، وأن يكون الخادم قادمًا. ويصب صاحب المنزل الماء على يدي ضيفه كما فعل الإمام مالك ذلك مع الشافعي في أول نزوله عليه، وقال له: " لا يرعك ما رأيت مني " حتى قيل: إن خدمة المضيف فرض، ولا يبعد أن يكون هذا من كلام مالك.
حمد الله بعد الطعام
ومن أدب الأكل في آخره وكذا الشرب أن يقول: " الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ". ثبت ذلك في صحيح البخاري عن رسول الله ﷺ أنه كان يقوله، وقد جاءت في هذا أذكار كثيرة فلتطلب في كتاب الأذكار للنووي وتهذيبه لأبن أرسلان ونحوهما. وقوله ربنا يجوز بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وبالنصب على الاختصاص والنداء، وبالجر على البدلية من قوله الحمد لله. وروينا هذا الحديث في الغيلانيات من حديث أبي هريرة بغير هذا اللفظ وهو: " دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي ﷺ، قال: فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يده - أو قال يديه - قال: الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن ابلانا، الحمد لله غير مودع ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلال، وبصر من العمى، وفضلني على كثير من خلقه تفضيلا ".
البسملة أولًا
1 / 12
وقال النووي: ومن الآداب أن يبسمل أولًا جهرًا، فإن نسي قال إذا تذكر: باسم الله أوله وآخره، وهي مستحبة لكل آكل من صغير وكبير حتى الحائض والنفساء، وينبغي أن يجهر بها جهرًا يسمعه رفيقه سماعًا محققًا، ليقتدي به فيها أو لينتبه غيره لها. ويستحب لكل واحد من الجماعة أن يسمي فإن سمى واحد من الجمع أجزأ عن الباقين، نص عليه الشافعي، لأنها سنةٌ على الكفاية. ومن ترك التسمية عامدًا أو مكرهًا لعارض آخر ثم تمكن في أثناء أكله سمّى كما لو أنه نسيها. والتسمية في المشروب كالمأكول انتهى. وقال الأذرعي في كتاب وسائل الحاجات للغزالي، وقيل أنه قاله في الإحياء: وإذا بدأت بالأكل فقل في اللقمة الأولى: " بسم الله "، وفي الثانية: " بسم الله الرحمن "، وفي الثالثة: " بسم الله الرحمن الرحيم ". ويجهر به ليذكر من بعد. قلت: أما الجهر بالتسمية فحسن، ذكره غيره، وأما بقية كلامه فلا أحسب له أصلًا يرجع إليه أصلًا، وإن الصواب أن يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " في الأولى والله أعلم انتهى. وأستحب العبادي أن يقول: بسم الله الذي لا يضر مع أسمه شيء. فإن الشيطان يأكل ويشرب من طعام الناس ومائهم.
عودة إلى غسل الأيدي
ثم قال النووي: ومن الآداب أن يغسل يديه قبل الأكل وبعده، لما روى أنس ﵁ أن النبي ﷺ قال: " بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ". ومعناه غسل اليدين انتهى. وقال أبن العماد: غسل اليدين قبل الطعام ورد في الحديث أنه ينفي الفقر، وبعد الطعام ينفي اللمم، واللمم الجنون.
ويستحب ترك تنشيفها قبل الطعام، لأنه ربما كان في المنديل وسخ فيعلق باليد. ويستحب تقديم الصبيان على الشيوخ في الغسل قبل الأكل، لأنه ربما فقد الماء، لو قدمنا الشيوخ وأيدي الصبيان أقرب إلى الوسخ بخلاف ما بعد الطعام فإن الشيوخ تقدم كرامة لهم، ذكره النووي في فتاويه انتهى.
الدعاء للمضيف
وقال أبن الملقن وغيره: ويستحب أن يدعوا لصاحب الطعام إن كان ضيفًا فيقول: أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة انتهى. زاد البلقيني في الدعاء: وذكركم الله فيمن عنده، وأعترضه بعض الحفاظ. ويستحب لمن حضر وهو صائم أن يدعوا لأهل الطعام ثم ينصرف.
ما يقال بعد الطعام
وقال الغزالي: وإن أكل طعامًا حلالًا قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، اللهم أطعمنا طيبًا واستعملنا صالحًا. وإن كان فيه شبهة قال: الحمد لله على كل حال، اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك. وإن كان المأكول لينًا قال: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرًا منه.
من آداب الطعام أيضًا
ويكره أن يأكل متكئًا وقد فسر بالتمكين في الجلوس من التربع وشبهه. قال الخطابي: وكل من استوى قاعدًا على وطاء فهو متكئ. وأن يأكل مما يلي أكيله ومن وسط القصعة وأعلى الثريد كراهة تنزيه، وقيل تحريم؛ لأمره ﷺ بذلك، وخصه بعضهم ما إذا أكل معه غيره، ونص الشافعي في الرسالة وغيرها على تحريم أكله من غير ما يليه، ومن رأس الطعام إذا كان عالمًا بالنهي، ولا بأس بذلك في الفواكه.
1 / 13
ويكره أن يعيب الطعام ولا بأس بقوله لا أشتهيه أو ما اعتدته للحديث الصحيح في الضب. ويكرهه أن يقرن بين تمرتين ونحوهما، ولا بأس بذلك في الفواكه. قال الأذرعي: قال في شرح مسلم: وإن كان المأكول أجناسًا، فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهى حين يثبت دليل خاص. وأشار في موضع إلى نقل الإجماع على الجواز، وأنه لم يرد فيه حديث. قلت: بل فيه حديث ضعيف في جامع الترمذي. وقوله: ويكره أن يعيب الطعام أطلق، والمراد ما قدم للأكل ونحو ذلك، والكراهة إن كان لغيره للأذى والتخجيل. أما لو كان له فلا، ولا سيما ما ورد خبثه كالثوم والبصل والكراث وفي الحديث: " أن لحم البقر داء "، نعم الأولى تركه لأنه ﵇ ما عاب طعامًا قط، إن أعجبه أكله وإلا تركه. وأطلق كراهة القِران في التمر وغيره، ونقل في شرح مسلم عن الظاهرية أن النهي للتحريم، وغيرهم أنه للأدب، والصواب: التفصيل؛ فإن كان الطعام مشتركًا بينهم فالقرآن حرام إلا برضاهم، ويحصل الرضى بتصريحهم به، أو ما يقوم مقام التصريح من قرينة حال أو إدلال عليهم، بحيث يعلم يقينًا أو ظنًا منهم أنهم يرضون به، ومثى شك في رضاهم فحرام. قلت: وأكنه يريد بالشك التردد المستوي الطرفين، وفيه نظر، والظاهر أنه متى شك حرم، وإن غلب على ظنه الرضى وإن كان الطعام لغيرهم أو لأحدهم اشترط رضاه وحده، فإن قرن بغير رضاه فهو حرام. ويستحب أن يستأذن الاكلين معه ولا يجب، وإن كان لنفسه وقد ضيفهم به فلا يحرم عليه. ثم إن كان فيه قلة فحسن أن لا يقرن ليساويهم، وإن كان كثيرًا بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه، لكن الأدب مطلقًا التأدب في الأكل وترك الشره، إلا أن يكون مستعجلًا يريد الإسراع لشغل آخر. وقال الخطابي: إنما كان هذا في زمنهم وحين كان الطعام ضيقًا، فأما اليوم مع أتساع الحال قلا حاجة إلى الإذن وليس كما قال، بل الصواب ما ذكرنا من التفصيل انتهى. وقال أبن العماد: يستحب الأكل مما يلي الآكل إلا في النهار، فإنه يأكل من حيث شاء ونهى رسول الله ﷺ عن القِران في التمر، أخرجه البخاري ومسلم، وهو أن يأكل في لقمة اثنتين أو أكثر. والحق الطرطوسي الزبيب بالتمر والقياس إلحاق العنب بالتمر. قال الطرطوسي: وقال بعضهم: النهي مخصوص بالشركاء إذا اشتركوا في شراء الثمار والطعام، ويحرم معه لأحدهم أن يأكل أكثر من الآخر، وفي غير الشركاء لا حرج. وهذا حسن ويستثنى من المنع ثلاث صور، الأولى: إذا قرن الآكلون.
الثانية: إذا سامحوه بذلك.
الثالثة: إذا كان القارن هو مالك التمر فله أن يفعل ما يشاء، وله منعهم من الأكل. انتهى.
ثم قال النووي وإذا أكل جماعة فمن الأدب أن يتحدثوا على طعامهم بلا إثم فيه. ويكره أن يتمخط أو يبزق في حالة الأكل إلا لضرورة. ويكره أن يقرب فمه من القصعة بحيث يرجع من فمه إليها شيء، ويستحب أن يلعق من القصعة لما روى الترمذي وأبن ماجه أن النبي ﷺ قال: " من أكل من قصعة فلحسها استغفرت له القصعة ". وروى البزار أنها تقول: " اللهم أجره من النار كما أجارني من الشيطان ". وكذا يستحب أن يلعق أصابعه قبل أن يمسح يده بالمنديل. وذكر القفال في محاسن الشريعة: أن المراد بالمنديل هنا المعد لإزالة الزهومة يعني الفوطة، لا المنديل المعد للمسح بعد الغسل، كذا قاله أبن حجر. ويكره أن ينفض أصابعه في القصعة، وأن يذكر شيئًا من المستقذرات. وينبغي أن يأكل اللقمة الساقطة ما لم تتنجس ويتعذر تطيرها، للأحاديث الصحيحة في ذلك. والأولى أن لا يأكل الشخص وحده، وأن لا يترفع عن مؤاكلة الغلام والصبيان والزوجة، وأن لا يتميز عن جلسائه بنوع إلا لحاجة كدواء ونحوه. وأن يمد الأكل مع رفقته ما دام يظن لهم حاجة إلى الأكل. وأن يؤثرهم بفاخر الطعام، كقطعة لحم وخبز لين أو طيب. ويستحب الترحيب بالضيف وحمد الله تعالى على حصوله ضيفًا عنده، وسروره وثنائه عليه لجعله أهلًا لتضييفه؛ ففي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " ويسن أكل القثاء بالرطب لأن النبي ﷺ فَعَلَهُ، ومن ثم أستدل على جواز الجمع بين طعامين. وينبغي للآكل حالة أن لا يديم النظر إلى جليسه، لأن ذلك يخجله فيترك الطعام قبل الشبع.
1 / 14
وحكى القرطبي في تفسيره أن أعرابيًا قال لسليمان بن عبد الملك وقد قال له أزل الشعرة من لقمتك وهو يأكل من طعام عبد الملك شعر:
وللموت خير من يسارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
آداب الشرب
ويكره التنفس في الإناء، ونفخ الطعام ليبرد، وإن كان الطعام حارًا فليصبر حتى يبرد. وإذا أتى بكوز ليشرب منه فلينظر إلى طرفه قبل الشرب، فقد يكون فيه شيء يؤذيه. ويستحب تنحية رأسه عن الكوز عند إرادة التنفس، ولا ينفخ في الماء، ولا يتنفس داخل الكوز، وإذا شرب شرب قليلًا مصًا مصًا لقوله ﷺ: " مصّوا الماء مصًّا ولا تغبوه غبًا فإن الكُبَاد من الغبّ " والكُباد بضم الكاف وفتح الباء الموحدة قيل وجع الكبد. على أن بعضهم قال أتفق سبعون حكيمًا على أن كثرة النوم من شرب الماء. وقال الدميري والشرب بثلاثة أنفاس يتحصل له فيها عشر حسنات: تسمية الله تعالى في الابتداء، وحمده في الآخر ثلاثًا، وإبانة القدح عن فيه مرتين، فتنفسه مرتين امتثالًا للأمر، وإذا شرب يناوله الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شربًا انتهى.
تصغير اللقمة
وقال النووي في فتاويه: هل صح أن النبي ﷺ أمر بتصغير اللقمة في الأكل وتدقيق المضغ، أو يستحب ذلك؟ فأجاب: لم يصح في ذلك شيء، وهو مستحب إذا كان فيه رفق بجلسائه، أو قصد بذلك تعليمهم الأدب، أو كان في الطعام قلة، وكان ضيفًا، أو كان شبعان وعرف أنه رفع يده يرفع غيره يده ممن له حاجة في الأكل أو نحو ذلك من المقاصد الصالحة انتهى.
الأكل بالأصابع
وقال العبادي إذا كان الطعام سمحًا أستحب الأكل بجميع الأصابع، وإن كان جامدًا أستحب بثلاثة. قال الشافعي ﵁: والأكل بإصبع واحدة من المقت، وبإصبعين من الكبر، وبثلاث أصابع من السنة، وبأربع وخمس من الشره. وفي الأوسط للطبراني عن كعب بن عجرة قال: " رأيت رسول الله ﷺ يأكل بأصابعه الثلاث قبل أن يمسحها: الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام ".قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في شرح الترمذي: كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلوثًا لأنها أطول، فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام انتهى. وفي مسلم من حديث كعب بن عجرة قال: " رأيت النبي ﷺ يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها ". قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: فيحتمل هذا الحديث أن يكون أطلق على الأصابع اليد، ويحتمل وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكف كلها، فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها، أو بأصابعه فقط، أو ببعضها. ويؤخذ منه أن الأكل بثلاث أصابع هو السنة. قال عياض والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب كتكبير اللقمة، ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمع الطعام اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن أضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلقفه بالثلاث عمد الرابعة أو الخامسة. وقد أخرج سعيد بن منصور من مراسيل أبن شهاب: " أن النبي ﷺ كان إذا أكل أكل بخمس " فيجمع بينه وبين حديث كعب، باختلاف الحال انتهى.
من آداب الطعام أيضًا
وينبغي للآكل أن يتوسط في أكله، فلا يقصر فيه حتى ينسب إلى التحشم، ولا يتابع فيه حتى ينسب إلى الشره والجوع والبخل، وأن لا يقضم الخبز بفمه ثم يضعه في الطعام، فإنه يورث قنافة، من حيث إنه قد يكون فمه أبخر، ولأن البصاق ينفصل على اللقمة من الفم إلى الطعام. ويسمى هذا النوع في كتاب " معايب الآكل " بالمهندس، من حيث إنه يصلح اللقمة ويهندسها ثم يضعها في الطعام وهو مذموم. وأن يضم شفتيه عند الأكل لمعنيين، أحدهما: أنه يأمن ما يتطاير من البصاق حال المضغ، وقد يقع ذلك في الطعام فيورث القنافة. الثاني: أنه إذا ضم شفتيه لفمه تَرَقّق. وينبغي له عند السعال أن يحول وجهه عن الطعام أو يبعده عنه أو يجعل شيئًا على فيه، لئلا يخرج منه بصاق فيقع في الطعام، وأن لا يطأطئ برأسه على الإناء حالة الأكل، وإذا كان المأكول بطيخًا قد وضح على طبق أو غيره فينبغي له ألا يخلط ما أكله من القشر، بما لم يؤكل، لأنه يورث القنافة وتنفيرًا عن أكل الباقي، ولا يرمي القشر، لأن في رميه كلفة في جمعه ليطرح في المزبلة، وربما نالت القشور رأس الجليس فصدمته، أو تقابل منها شيء حالة الرمي، بل يجعله على حدة.
1 / 15
وإن كان الضيف يستحيي من الأكل وحده أستحب لصاحب المنزل أن يأكل معه. وإن كان صائمًا وشق عليه الفطر فليدع له من يأكل معه. ويكره الأكل بحضرة من ينظر إلى الطعام وهو يشتهيه، ولو كان قطًا أو كلبًا، لأنه يقال إنه ينفصل من العين سموم تركب الطعام لا دواء لها إلا بشيء يطعمه من ذلك الطعام للناظر إليه.
الأكل في السوق
ويكره الأكل في السوق لقوله ﵇: " الأكل في السوق دناءة ". وقيل هو حرام مطلقًا، وقيل أن تحرم شهادة حرم، وإلا فلا؛ لأنه إذا تحمل ثم أكل في السوق أنحط مع السفل ولم تقبل شهادته. ولا بأس بالشرب في السوق لقصر زمنه.
أدعية لدفع الضرر
وفي الحلية عن كعب الأحبار قال: من خشي أن يتخم من طعام أو شراب فليقرأ: (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ) الآية، فإنه لم يتخم إن شاء الله تعالى. وفي كتاب الدعاء لأبن أبي الدنيا عن أبن مسعود ﵁: من قال حين يوضع طعامه: بسم الله خير الأسماء في الأرض وفي السماء، لا يضر مع أسمه داء، أجعل لي فيه بركة وعافية وشفاء، فيضره ذلك الطعام ما كان. وذكر الغزالي في الإحياء فيما يستحب بعد الطعام ويأمن من ضرره، أن يقرأ بعده سورتي قل هو الله أحد، ولإيلاف قريش، وكذا ذكره السهروردي في عوارف المعارف. وقال: ويقول: الحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، اللهم أجعله عونًا على طاعتك، ولا تجعله عونًا على معصيتك. فإنه إذا قال ذلك على الطعام أو في أوله أذهب الله عنده الداء المغير لمنهاج القلب، لا سيما إذا قال: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، وما رزقتنا بما نحب فأجعله عونًا لنا على ما تحب، وما زويت عنا مما نحب فأجعله مرغبًا لنا فيما تحب انتهى.
يؤكل الطعام لثلاث
وقال أبن مفلح في طبقات الحنابلة في ترجمة علي بن محمد المصري قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يؤكل الطعام لثلاث: مع الإخوان بالصدور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة. انتهى.
هل يملك الضيف الطعام
وهل يملك الضيف ما يأكله؟ وجهان: قال القفال من الشافعية: لا يملكه؛ وهو مذهب أبي حنيفة، بل هو إتلاف بإذن المالك، وللمالك أن يرجع ما لم يؤكل. وقال إمام الحرمين: إنه الصحيح. وقال الجمهور: أنه يملك. وصححه الرافعي في كتاب الهبة. قال أبن العماد: وتظهر فائدة الخلاف، فيما لو أكل الضيف تمرًا وطرح نواه فنبت، فلمن يكون ثمره؟ وفيما لو رجع فيه صاحب الطعام قبل أن يلتقم. انتهى. قال أبن قاضي شهبة: وحيث قلنا بأنه يملك، فالمراد به أنه ملك أن ينتفع بنفسه كالعارية، لا أنه ملك العين كما توهمه بعضهم انتهى. وقد قال الرافعي وتبعه النووي في الأيمان: لو حلف لا يهب أو لا يتصدق، لا يحنث بالضيافة لأنه لا تمليك فيها انتهى. وقال في المعلمات: قيل يملكه بالوضع بين يديه، وقيل بالأخذ باليد، وقيل بالوضع في الفم، وقيل بالازدراد. يتعين حصول الملك قبله، رجح منها الأول وفيه نظر؛ فإن الأذرعي قال: أنه أضعف الأوجه، بل هو غلط. ولم لأره في طريقة العراق، ولا يجوز حمله على إطلاقه في كل ما يوضع قل أو جل انتهى. وقال في المهمات: والراجح من الوجوه المقدمة على الملك أن يحصل بالوضع في الفم انتهى. وقال صاحب الذخائر: وفائدة الخلاف في ذلك إن قلنا يملك بالوضع بين يديه أو بالأخذ كان للمقدم إليهم التصرف فيه فإن كان المقدم إليه واحدًا كان له أن يطعم من شاء على ما جرت بع عادة الصوفية في تناولهم اللقم لمن يقف على رؤوسهم ويخدمهم وأختاره أبو حامد الاسفرائيني والقاضي أبو الطيب، وعلى هذا لهم بيعه لأنه ملكهم. وحكى الشيخ أبو حامد عن جمهور الأصحاب، أنه ليس له أن يعطيه لغيره، كما لا يعير المستعير، وإن كانوا جماعة. وقلنا يملكون بالتقديم، كانوا في حكم المسافرين يخلطون الأزواد ثم يأكلون، لا يجوز لواحد منهم أن يتناول أحدًا شيئًا إلا برضى الباقين، وإن قلنا يملك بالوضع في الفم أو بالازدراد فليس له أن يعطيه لغيره قبل ذلك انتهى. ووجد عند البرماوي من الشافعية لنا: ضيافة لا يملك فيها الطعام على الأصح، وذلك في لحم الأضحية إذا قدم للأضياف، وضيافة تملك بالتقديم قطعًا، وهي ضيافة أهل الذمة المشروطة عليهم، فليملكها المقدمة إليه بالتصرف كما ذكره الرافعي انتهى.
1 / 16
ونقل النووي في شرح مسلم الإجماع على امتناع أخذ الدراهم عند العلم بالرضا، ثم قال: وفيه نظر، وينبغي جواز الأخذ عند العلم كما يجوز أكل الطعام انتهى. وقال أبن العماد: ولا شك أن غباحة مال الغير على خلاف الأصل، والآية إنما وردت في الأكل خاصة، فلا قياس عليها غيرها، لن شرط القياس أن يكون المقيس شاذًا عن الأصول.
وينبغي التنبيه هاهنا لأمر وهو أن أخذ الدراهم له صورتان، الأولى: أن لا يرضى صاحبها بأخذها مجانًا، ويرضى بأخذها وبرد بدلها على نية القرض مقاوضة، وشرطها أن تكون بعقد، والعقد لا يكون من شخص واحد والمعاوضة الفاسدة يكون المأخوذ بها حرامًا، فتحريم الأخذ لعدم المعاوضة لا لعدم الرضا، كما تقول: البيع الفاسد يجوز التصرف في المأخوذ به وإن كان الرضا موجودًا. والصورة الثانية: أن يقوم عنده دليل على الرضا بالأخذ من غير بدل، فهذا موضع نظر، فقد يقال بجوازه كالطعام، وقد يقال بامتناعه؛ لأن الغالب عدم الرضا بأخذ الأموال، ولهذا تصان ويختم عليها، بخلاف الطعام، ولا نظر إلى شذوذ بعض الأحوال؛ لأن أحكام الشرع إنما تبنى على الغالب، فظهر أن القياس الذي قاله النووي قياس خفي، لا يصح الإلحاق به لقيام الفارق الجلي انتهى. وإنما للضيف أخذ ما يعلم رضاه به لحصول الرضا، لأن مدار الضيافة على طيب النفس، فإذا تحقق ولو بالقرينة رتب عليه مقتضاه، ويختلف ذلك بقدر المأخوذ وجنسه وبحال المضيف وبالدعوة.
فرع
التطفل والطفيليون
يحرم التطفّلُ، وهو إتيان الإنسان إلى طعام لم يدع إليه. قال في الاستقصاء: ومن لم يدع إلى طعام فلا يجوز له أن يدخل، فإن دخل وأكل من غير إذن كان ما أكله حرامًا عليه، لما روي في حديث أبن عمر أن النبي ﷺ قال: " من دخل من غير دعوة، فقد دخل سارقًا وخرج مغيرًا ويل أمه أن يستحل صاحبه " انتهى رواه أبو داود. وروى البيهقي نحوه، وقال أبن العماد: الضيفن الرجل الذي لا يعزم عليه، ولكن إذا رأى الضيوف تتبعهم، وأستحيي صاحب المنزل أن يمنعه من الدخول. وجميع ما يأكله الضيفن حرام، والضيفن هو الطفيلي انتهى.
طيفن بن دلال
وقال أبن حجر في شرح البخاري: وقد جمع الخطيب البغدادي في أخبار الطفيليين جزءًا فيه عدة فوائد منها: أن الطفيلي منسوب إلى رجل من أهل الكوفة يقال له " طُفَيْل بن دلال " من بني عبد الله بن غطفان، كثر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة، فسمي طفيل الأعراس. وكان أول رجل لابس هذا العمل، فسمي من أتصف بعده بصفته طفيليًا. وكانت العرب تسميه الوارش بشين معجمة، وتقول لمن يتبع الدعوة بغير دعوة ضيفن بنون زائدة. قال الفريابي: في هذه التسمية مناسبة اللفظ للمعنى في التبعية من حيث إنه تابع للضيف، والنون تابعة للكلمة قال الشاعر:
أوْغَلُ في التَّطفيلِ من ذُبابِ ... على طَعَامٍ وعلى شرابِ
لو أبصرَ الرغْفَانَ في السَّحابِ ... لطارَ في الجَوًّ بلا حِجَابِ
شهادة الطفيلي مردودة
وقال أبن الصباغ: قال في الأم: ومن ثبت أنه يحضر الدعوة من غير دعاء، من غير ضرورة، لا يستأذن صاحب الطعام، وتكرر ذلك منه، ردت شهادته؛ لأنه يأكل محرمًا إذا كانت الدعوة دعوة رجل من الرعية، فإن كانت دعوة سلطان أو من ينيبه السلطان فهذا طعام لا بأس به انتهى. قال أبن الصباغ: إنما أشترط تكرر ذلك، لأنه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب الطعام، فإذا تكرر ذلك منه صار دناءة وقلة مروءة انتهى. وإذا تبع المدعو غيره لم يمنعه ولم يأذن له، بل يعلم به الداعي. ويستحب له أن يدعوه إذا لم يكن فيه ضرر.
الصديق ليس طفيليًا
وقال المتولي وغيره إذا كان في الدار جاز لمن بينه وبين صاحب الطعام انبساط أن يدخل ويأكل إذا علم أنه لا يشق عليه انتهى. وروينا في خبر الهرثمية عن أنس أن النبي ﷺ قال: " إن لكل شيء زكاة، وزكاة الدار بيت الضيافة " وهو حديث منكر.
الثانية عشرة:
وليمة النُّزُل
وهي الإطعام لمن ينزل عليك لضرورة وهذه آخر الوليمات المذكورة في النظم.
تنبيهات
الأول: ولائم أخرى قد أهمل الناظم عدة ولائم وهي أربع: الأولى:
وليمة الأخوة
1 / 17
وقد بوب لها الحافظ أبن حبان والحافظ الطبري في الأحكام بباب الوليمة للأخوة، وذكرا فيه الحديث الذي رواه البخاري عن أنس قال: آخى النبي ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وقال له: " أولم ولو بشاة " والله أعلم. وفي الاستدلال بذلك نظر، فإنه ﷺ ما قال لعبد الرحمن ذلك إلا بعد أن عرض عليه سعد أن يناصفه أهله وماله وكان له امرأتان فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق فأتاها فربح شيئًا من أقط وسمن فرآه النبي ﷺ بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال: مهيم؟ قال: تزوجت امرأة من الأنصار قال: ما سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب. فقال: " أولم ولو بشاة ".
الثانية:
وليمة الفَرَع
بفتح الفاء والراء قال في الاستقصاء: والفَرَعَةُ بفتح الفاء والراء والعين بلا نقطة، أول نتاج الناقة كانوا يذبحونها لطواغيتهم، فنهى رسول الله ﷺ لأجل ذلك بقوله: " لا فرعة ". فإن ذبح المسلم أول نتاج الناقة لله تعالى، وتصدق بلحمه ولو مطبوخًا لم يمنع منه انتهى. وقال الشافعي: الفرع هو شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته فلا يغذوه رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي ﷺ عنه فقال: " أفرعوا إن شئتم " أي اذبحوا إن شئتم. وكانوا يسألونه عما كانوا يصنعون في الجاهلية خوفًا أن يكره في الإسلام، فأعلمهم ﷺ أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحبابًا أن يغذوه، ثم يحمل عليه في سبيل الله. قال النووي في شرح مسلم: وقوله ﷺ: " لا فرع " أجاب الشافعي عنه: أي لا فرع واجب، نفى الوجوب، ثم قال: والصحيح عند أصحابنا وهو نص الشافعي استحباب الفرع انتهى. وقال أبن سراقة: آكَدُ الدماء المسنونة الهدايا ثم الضحايا ثم العقيقة ثم العتيرة ثم الفرع انتهى.
الثالثة:
وليمة العَتِيرة
قال النووي في شرح مسلم: والعتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية أيضًا. وأتفق العلماء على تفسير العتيرة بهذا، ثم قال بعد أسطر: والصحيح عند أصحابنا وهو نص الشافعي استحباب العتيرة، وأن قوله ﷺ: " لا عتيرة " أي واجبة، بل نص على أنها إن تيسرت كل شهر كان حسنًا. انتهى. وذهب بعضهم إلى إنها مكروهة.
أسماء شهر رجب
ويسمى رجب بالأصم أيضًا لأنهم كانوا يتركون القتال فيه، فلا يسمع صوت سلاح ولا استغاثة. وهو استعارة، وتقديره يصم الناس فيه، كما قالوا ليل نائم أي ينام فيه. وبالأصب بالباء لأن كفار مكة كانت تقول: إن الرحمة تصب فيه صبًا. وقد نهينا عن موافقتهم فيما يعتقدونه، ولهذا نسبه الشارع ﷺ في الصحيحين إليهم فقال: " رجب مضر ". وبرجم بالميم، لأنه ترجم فيه الشياطين أي تطرد. وبالهرم، لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وبالمقيم، لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وبالمقيم، لأن حرمته ثابتة لم تنسخ، لأنه أحد الأشهر الأربعة الحرم. وبالمعلى، لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور. ومُنصِل الأسنة بكسر الصاد مخففة ويقال مشدّدة. قال الهروي وغيره: انصلت الرمح، نزعت نصله، ونصلته جعلت له نصلًا. وبمنصل الألّ: والألًّ هنا: جمع ألّه، وهي الحربة. وبالمبرئ، لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه برئ من الظلم والنفاق. وبالمقشقش، لأنه به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه، من المقاتل فيه المستحل له. وبالعتيرة، لأنه كان في الجاهلية يسمى بذلك. وقد وصلت أسماؤه إلى ثمانية عشر في خبر أسورة الذهب.
الرابعة:
وليمة عقد النكاح
ويقال لها: " وليمة المِلاك "
1 / 18
بكسر الميم وهو لغة في الإملاك بكسر الهمزة. قال أبن الجوزي في تقويم اللسان: العامة تقول: كنا في ملاك فلان، الصواب إملاك، نقله الصلاح الصفدي، ويعبر عنه أيضًا بشُنْدُخي، مأخوذ من شندخ الفرس إذا تقدم. قال المحيوي النعيمي الشافعي: وهي مستحبة لقوله ﵊: " أعلنوا النكاح في المساجد وأضربوا عليه بالدف ". رواه الترمذي. والنكاح هو حقيقة في العقد على الصحيح. وأراد ﷺ مخالفة الزنا، ولهذا قال: " واجعلوه في المساجد " زيادة للشهرة، وأكد ذلك بقوله: " وأضربوا عليه بالدف ". وروى محمد بن حاطب بالحاء المهملة قال: قال رسول ﷺ: " فصل بين الحلال والحرام الدف ". صححه ابن حمان وجماعه، وحسّنه الترمذي، وألزم الدارقطني مسلمًا إخراجه.
حكم ضرب الدفوف على النكاح
وفي هذين الحديثين دليل على إباحة ضرب الدف في العقد. قال البغوي في شرح السُنة: إن الملاك النكاح، وضرب الدف فيه مستحب. وتبعه الأذرعي وغيره. ثم قال: وينبغي أن يكون محل ندبه إذا ضرب النساء والجواري بالدفوف الخالية عن الصنوج ونحوها، من غير تأنق ولا تصنع، بل يكون ضربًا بالكف، كما يضرب الطبل ونحوه انتهى.
وهل يجوز في غيره من حادث سرور؟ كقدوم حجيج وغزاة وشفاء مريض وولادة ونحوها. فيه وجهان: أحدهما أنه حرام، قاله النووي في التقريب وغيره. والثاني أنه حلال. قال الإمام وتلميذه الغزالي: وسواء كان فيه جلاجل أو لم يكن فيه جلاجل على الأصح. هذا إذا تفرد الدف بغير شبابة. فإن اجتمعا حرم بالإجماع، كما قاله أبن الصلاح. فإن ضرب معه بالقضيب على الوسادة فهل يجوز؟ فيه وجهان: فإن حصل مع الدف غناء امرأة أجنبية كره، والاستماع أشد كراهة. وقيل يحرم. وأختاره الأذرعي. وقال النووي: إذا خيف الفتنة من السماع من امرأة أجنبية أو من صبي، حرم بلا خلاف.
وأما الرقص فليس بحرام، إلا أن يكون فيه تكسر وتثن كأفعال المخنثين، فيحرم على الرجال والنساء.
وقد جزم بعض العلماء بتحريم التصفيق على الرجال، لقوله ﷺ: " إنما التصفيق للنساء ". وكلام الحليمي يقتضي تحريمه على الرجال، حيث قال: يكره للرجال، فإنه مما يختص به النساء، وقد منعوا من التشبه بهن، كما منعوا من لبس المزعفر لذلك. انتهى.
فائدة:
الدف والمعلوق والمزهر في اللغة
الدُّفَ بضم الدال وفتحها لغتان، وعلى الضم أقتصر النووي. قال أبن رستويه: هو مضموم في لغة الحجاز، ومفتوح في سائر اللغات. وفي شرح السُنة للبغوي: عن أبي عبيد أنه زعم بعض الناس أن الدُّف لغة يعني بالضم، فإما الحديث فالدَّف بالفتح لا اختلاف فيه. ثم المراد بالدف الدائر المفتوح شبه الغربال، وسمي في الحديث به. أما المعلوق فيسمى مِزْهَرًا عند الفقهاء والمعروف في اللغة المزهر هو العود.
تنبيه:
حكم نثر المكسرات
يحل في هذه الوليمة نثر لوز وجوز وسكرلج ونحوها. قال الماوردي من الشافعية: أجمع عليه الأصحاب في العرس والختان، لما في سنن البيهقي: عن عائشة أن النبي ﷺ كان إذا تزوج نثر تمرًا. والنثر بالثاء المثلثة مصدر نثر: ألقاه. انتهى ولم يكره أبو حنيفة وأبن المنذر. وعن أحمد روايتان. وقال أبن سيرين: أدركت قومًا صالحين، إذا أتوا بالسكر وضعوه، وكرهوا النثار. وممن كرهه الإمام مالك. ويحل التقاطه، إلا إذا عرف أن النثار يؤثر بعضهم على بعض. ولا يقدح الالتقاط في تروية لأنه ﷺ لما نحر البدنات قال: " من شاء أقتطع " رواه أبو داود. قال أبن المنذر: فأباح لهم الأخذ من لحومهن، فكذا إذا أباح لهم اللوز ونحوه، فلهم أخذه. وقال البيهقي: وليس في إباحته حديث صحيح، والذي في البخاري " أن النبي ﷺ نهى النُّهْبَى ". وجميع ما ورد فيه الرخصة ضعيف، نحو قول معاذ: " أن النبي ﷺ حضر إملاك رجل من أصحابه، فجئ بأطباق عليها فاكهة وسكر " وفي رواية: " جوز ولوز وتمر، فقال رسول الله ﷺ: انتبهوا. فقال يا رسول الله إنك نهيت عن النهبى. فقال: إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، أما العرسان فلا، خذوا على اسم الله. فجاذبنا وجاذبناه ".
1 / 19
وعلى كل حال فمن ألتقطه ملكه بالأخذ على الصحيح اعتبارًا بالعادة، وقيل: لا، لأنه لا يوجد لفظ تمليك، فعلى هذا للناثر الاسترجاع. قال أبن كج: ما لم يخرج من المنزل، وعليه العذر إن أتلفه، ومن وقع في حجره فإن بسطه لذلك لم يبطل حقه في الأصح، فيمتنع على غيره أخذه، وإن سقط في حجره قبل أن يقصده أخذه، أو قام فسقط، بطل اختصاصه به، ولم يأخذه عادة.
وشمل هذا الإطلاق نثر الدراهم والدنانير، ومنعه أولى لا سيما بين السفلة والرعاع، لما فيه من التكالب والقتال وإيراث الوحشة والعداوة، وربما أخذه من غيره أحب إلى صاحب النثار، والله أعلم.
التنبيه الثاني:
إجابة الدعوة
في الإجابة على جميع هذه الولائم؛ فإن كانت وليمة العرس المتقدمة، فإن أوجبنا الوليمة وجبت الإجابة وجهًا واحدًا. وإن لم نوجبها وهو الراجح كما تقدم وجبت الإجابة أيضًا على الراجح. ورجحه العراقيون للأحاديث الصحيحة: " إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب ". وفي لفظ: " من دعي إلى وليمة فليأتها ". وفي رواية: " من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله " رواه مسلم. وحكى أبن عبد البر الإجماع فيه ولكن قال في الاستقصاء وحكي عن مالك وأحمد أنهما قالا: الإجابة إلى وليمة العرس مستحبة غير واجبة انتهى. وأما وليمة غير العرس من الولائم المتقدمة عبد من قال باستحبابها، فالإجابة إليها مستحبة وقال البلقيني ولا تجب الإجابة في غير وليمة العرس على ما صححوه. والأحاديث تقتضي الوجوب مطلقًا انتهى. وقال الزركشي: قولهم إن الإجابة إلى غيرها من الولائم لا يجب، وهو ما صححوه، لأن عثمان بن العاصي دعي إلى ختان فلم يجب وقال: لم يكن يدعى له على عهد رسول الله ﷺ. رواه أحمد في مسنده. لكن الأحاديث تقتضي الوجوب مطلقًا. وفي الصحيحين: " إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ". وفي أبي داود: " فليجب عرسًا كان أو غير عرس ". وبالوجوب أجاب الشيخ أبو حامد وأتباعه كالمحاملي. وقال صاحب البيان: إنه الأظهر انتهى. وأختار هذا الشيخ تقي الدين السبكي. ثم حيث أوجبت الإجابة فهي فرض عين على الراجح عند الجمهور من الشافعية، وقيل فرض كفاية لأن المقصود ظهور تميز النكاح عن السفاح، وذلك يحصل بحضور البعض، وصار كالابتداء بالسلام ورده.
شروط تلبية الدعوة
ثم حيث أوجبناها إلى وليمة العرس واستحببناها لبقية الأنواع إنما تجب أو تستحب بشروط: أحدها: أن لا يخص الأغنياء.
بل يعم الداعي بدعوته جميع عشيرته أو جيرانه أو أهل حرفته أغنياءهم وفقرائهم، فإن وقع التخصيص فلا تجب الإجابة، لقوله ﷺ: " شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء " رواه مسلم. وفي رواية " يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها ". قال البلقيني: كذا قالوه، والحديث السابق يقتضي خلافه انتهى. وقال بعض الشراح: وقوله " يدعى إليها " جملة حالية مقيدة بسببها، ويخرج عن التخصيص بأن يدعو جميع عشيرته كلهم أغنياء. أو كان فقيهًا فدعا الفقهاء وكلهم أغنياء، لم يكن ذلك من التخصيص المكروه انتهى.
الشرطة الثاني: أن يخصه بالدعوة بنفسه أو يبعث إليه شخصًا.
وصريحه أن يقول أسألك الحضور، وأجاب أن تحضر، وأن رأيت أن تجملني بالحضور. أما لو فتح باب داره وقال: ليحضر من أراد، وأن يبعث شخصًا ليحضر من أراد لم يجب، قاله الماوردي. فلو قال الشخص: أحضر وأحضر معك من شئت، فقال ذلك الشخص لغيره: أحضر، فلا يجب ولا يستحب، لأن الامتناع والحالة هذه لا يورث التأذي والوحشة، ولو قال: إن شئت فأحضر لم يلزمه، قال الشافعي: وما أحب أن يجيب والله أعلم.
الشرط الثالث: أن لا يكون إحضاره لخوف منه.
1 / 20