إذا استُعملتْ في حالة الجَحْد أثْبتَتْ ... وإن أُثبِتَتْ قامتْ مقام جُحودِ
ومما يؤيد ما ذكره ما حُكي أن ذا الرُّمة (١) -وهو غيلان صاحب ميَّة- لما أنشد قوله (٢): [من الطويل]
إذا غيَّر الهَجْرُ المحبينَ لم يكد ... رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبرحُ
اعترضه السامعون بأن كاد إثباتها نفي ونفيها إثبات، وأنَّ الواقع في بيته منفي فيكون مثبَتًا، ويصير المعنى: أنَّ رسيس الهوى قد زال من حب ميّة، مع أنَّ مراده دعوى عدم ذهابه. وأنَّ ذا الرُّمَّة لما سمع اعتراضهم سَلَّم فغيَّر قوله: لم يكد بلم تجد.
وقال المحققون: إن كاد كغيرها من الأفعال نفيًا وإثباتًا وأنَّ المعترض مخطئ وأنَّ تسليم ذي الرمة له خطأ والصواب بقاء البيت على ما هو عليه. ويكون معناه: لم يقرب رسيس الهوى من الزوال إذا زال
حب المحبِّين من البعاد بل قوله أبلغ من قولكم: لم يبرح رسيس الهوى، وذلك لأن مقاربة الزوال إذا انتفت، فالزوال من باب أولى. ومثله قوله تعالى: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠]، وهو في الآية أبلغ من لم يرها لما عرفتَ، ولأن من لم يرَ قد يقاربُ الرؤية.
وقالوا: إن عسى لا تكون من الله تعالى إلاَّ واجبة، ومثلها لعلَّ
_________
(١) هو غيلان بن عقبة العدوي، من مُضَر، معروف بذي الرُّمَّة، شاعر من فحول الطبقة الثانية، عشق ميَّة المنقرية واشتهر بها، توفي بأصبهان ١١٧ هـ. الأعلام ٥/ ١٢٤.
(٢) ديوان شعر ذي الرُّمة ص ٧٨، وفيه: إذا غير النأي، بدل: الهجر. ومعنى رسيس الهوى: مسُّه وأوَّله.
1 / 52