تمت المعجزة بقيام الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر، فقد كان المسلمون، إلى يوم استخلف، يخشون الفرس والروم، ولذلك اثاقلوا حين ندبهم عمر للذهاب إلى العراق يواجهون الفرس فيه، وكان لهم من العذر عن تثاقلهم أن كان اسم فارس لا يزال يزلزل القلوب والأسماع، وكان جند المسلمين قد جلوا عن العراق بعد ذهاب خالد بن الوليد إلى الشام بأمر أبي بكر، وأقام الناس على تثاقلهم أياما، ثم لبى أبو عبيد الثقفي دعوة عمر وذهب في بضعة آلاف يلقى جنود كسرى، فنكب في غزوة الجسر إذ مات وانهزم جيشه.
ولم تزعزع هزيمته من عزمة عمر، بل زادته إقداما ودفعته لينهض بنفسه على رأس المسلمين يريد مواجهة الفرس ليمحو عار تلك الهزيمة، وقد كان فاعلا لولا أن صرفه أولو الرأي عما أراد، عند ذلك أرسل سعد بن أبي وقاص مكانه، وظفر سعد بالفرس في غزوة القادسية ظفرا حاسما؛ فتح له أبواب عاصمة الفرس، وفتح للمسلمين أبواب فارس جميعا، وفي هذه الأثناء كان أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد يسيران مظفرين في الشام، يردان هرقل عاهل الروم على أعقابه، ويدفعانه دفعا ليفر إلى عاصمة ملكه.
تم ذلك ولما تنقض من خلافة عمر سنتان، ومن يومئذ حالف النصر أعلام المسلمين حيثما ساروا، ففتحوا المدائن وفتحوا بيت المقدس، ثم تخطوا العراق إلى فارس، وتخطوا الشام إلى مصر فاستقر لهم الأمر فيهما، وكذلك شاد عمر الإمبراطورية الإسلامية في عشر سنوات لتستقر في العالم، وتوجه حضارته الأجيال والقرون.
أليس من حق عمر، وذلك شأنه، أن تردد الألسن اسمه، وأن تذكر من جليل صفاته وعظم مواهبه ما يثير في النفس غاية الإعجاب والإكبار!
وهذا الإكبار يدعونا لتمحيص التاريخ وتحقيق وقائعه، حتى نستكشف العوامل التي أتاحت لعمر تشييد الإمبراطورية، فلولا أن تضافرت عوامل عدة لما كفت عبقريته وحدها لتشييدها.
وقيام الإسلام أول هذه العوامل وأقواها، فالإسلام هو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل من قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم لإذاعة تعاليمه وإعلاء كلمته ودفع من يريدون فتنة الناس عنه.
فقد كان العرب قبل إسلامهم ضعافا أمام الفرس والروم، وكانت مناطق كثيرة من بلادهم خاضعة لنفوذ كسرى ونفوذ قيصر، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الزوال عن شبه الجزيرة كلها، مع ذلك ظلت هيبة الفرس والروم آخذة بنفوسهم، حتى لقد حسبوا، حينما دعوا لغزو العراق ولغزو الشام، أن حصونهما لا تؤخذ، وأن جنودهما لا تقهر، لكنهم لم يلبثوا، حين تخطوا التخوم وواجهوا هذه الجيوش وحاصروا هذه الحصون، أن تبينوا أن السوس نخرها، فهي كالجدار المتداعي، تنقض أعاليه لأول صدمة، وتندك أسسه ما وجدت المعول القوي الذي يأتي عليها من القواعد.
وإنما قدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام أنشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحا أحالتهم خلقا جديدا، ذلك بأنه اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدها وعباداتها، واتصل بوجدانهم في صميمه، فألقى فيه بذرة التوحيد صافية الجوهر، نقية من كل شائبة، بسيطة لذلك كل البساطة، ثم إنه فرض عليهم من العبادات ما زادهم بالتوحيد إيمانا وما ربط بين قلوبهم بأوثق رباط، فرض عليهم الصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فأما ما وراء ذلك من سالف شعائرهم فقضى عليه إلى غير رجعة، بذلك تحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثنية، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحا وأجاب داعي الله.
ولم يفرض الإسلام هذه العبادات على أنها شعائر رسمية من شأن الدولة، بل هي فروض الله على المؤمنين به يثيبهم عنها، ويؤاخذهم بتركها، فمن آمن بالله ثم لم يؤد لله فرضه فعلى الله حسابه، ومن أدى فرض ربه وعمل صالحا فله عند الله مثوبة الصالحين، وأعظم بها من مثوبة!
أخذ هذا الإيمان بمجامع القلوب فجمع بينها، فانتقل أثره من الفرد إلى الجماعة، وما كان أعظم هذا الأثر! كان المسلمون يجتمعون للصلاة، فيربط اجتماعهم بينهم، ويمحو توجههم إلى الله ما في نفوسهم من غل، فإذا هم إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤدون فريضة الصوم فإذا غنيهم وفقيرهم سواسية أمام الله والناس، وإذا غنيهم طهر الصوم نفسه يعطف على فقيرهم فينال رضا الله عنه ومثوبته له، ويؤتون الزكاة فتزيل ما بين طوائفهم من نضال؛ لأنها تجعل للفقير حقا معلوما في مال الغني، ويجمعهم الحج كل عام من مختلف بقاع الأرض، ليتواصوا بالصبر والصلاة، وليتعاونوا على البر والتقوى.
Unknown page