وإنما أوصى عمر سعدا بهذه الوصية لما كان لسعد من مكانة بين المسلمين وقربى من رسول الله؛ فقد كان من بني زهرة أخوال النبي، وكان من أسبق قريش إلى الإسلام ، أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان لذلك يقول: «أسلمت يوم أسلمت وما فرض الله الصلاة.» ويقول: «ما أسلم رجل قبلي إلا رجل أسلم في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد أتى علي يوم وإني لثلث الإسلام.» وكانت عائشة ابنته تصفه بقولها: «كان أبي رجلا قصيرا دحداحا غليظا ذا هامة شثن الأصابع أشعر، وكان يخضب بالسواد.» وكان سعد ذا مال ونعمة، فكان يرتدي الخز ويلبس في يده خاتما من ذهب، وهو لذلك صاحب حديث الوصية، فقد مرض وهو بمكة في عنفوان شبابه مرضا أشفى منه على الموت، فعاده رسول الله يوما فقال له: «يا رسول الله! إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بثلثي مالي؟» قال رسول الله: لا، قال سعد: فبنصفه، وأجاب رسول الله: لا، قال سعد: فالثلث؟ عند ذلك قال رسول الله: «الثلث، والثلث كثير، أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.»
وكان سعد إلى صفاته هذه فارسا شجاعا وبطلا مقداما، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله، شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وغزوات الرسول كلها، وكان في فتح مكة يحمل إحدى رايات المهاجرين الثلاث، وقد ثبت يوم أحد مع رسول الله حين ولى الناس، ودافع عن رسول الله دفاعا مجيدا حتى كان
صلى الله عليه وسلم
يقول له: «ارم سعد فداك أبي وأمي!» هذا إلى أنه أول من رمى سهما في الإسلام حين ذهب في سرية عبيدة بن الحارث إلى ماء بالحجاز بوادي رابغ، فلقيهم جمع من قريش على رأسهم أبو سفيان فانسحبوا من غير قتال إلا هذا السهم الذي رمى به سعد، ولذلك كان يقول: «إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله.» فارس هذه صفاته لا عجب أن يكون الأسد في براثنه، وأن يتفق للناس رأيا واحدا على تأميره في الجيش الذاهب للعراق ليواجه موقفا من أدق المواقف التي واجهت المسلمين فيه.
خرج سعد من المدينة قاصدا العراق على رأس أربعة آلاف من الجند معهم نساؤهم وأبناؤهم، وكانت القوات تقبل بعد خروجه تترى إلى المدينة تلبية لنداء عمر، فكان يبعثها في إثر سعد لتنضم إليه، بذلك ازداد جنده عددا وقوة، وزاد في قوته أن بعثت شبه الجزيرة بخيرة رجالها من الأبطال والفرسان والشعراء والخطباء والرؤساء وكل ذي رياسة ومكانة، وكان بين هؤلاء عمرو بن معدي كرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي والأشعث بن قيس الكندي وغيرهم من الزعماء، كل على رأس قبيلته، وبلغت القوات عشرين ألفا حين اقترب سعد من زرود، أما قوات المثنى التي انسحبت إلى ذي قار بعد معركة البويب، وبعد أن تولى يزدجرد أمر فارس، فكانت ثلاثة آلاف انضم إليهم من القبائل المجاورة خمسة آلاف غيرهم، وكانت القوات التي فصلت من الشام بإمرة هاشم بن عتبة ثمانية آلاف، بذلك بلغ الجيش الذي سار من مختلف الأنحاء ليشهد القادسية ستة وثلاثين ألفا أو نحوها، وذلك أضخم جيس عبأه المسلمون لغزو العراق منذ سار المثنى إلى دلتا النهرين في عهد أبي بكر.
وقد اكتمل جمع هذه القوات كلها، خلا القوة المقبلة من الشام، حين بلغ سعد شراف، لكن المثنى لم يكن في جنوده، فقد نغر عليه جرح الجسر فمات بعد أن استخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولم يكن المعنى بن حارثة أخو المثنى في هذه الجنود أيضا، فقد علم أن قابوس بن قابوس بن المنذر ذهب إلى القادسية بأمر الفرس يدعو العرب إلى الاشتراك مع جنود كسرى في قتال المسلمين، وأنه كاتب بني بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان بن المنذر يكاتبهم به لينضموا إلى دعوته، وقد أسرع المعنى من ذي قار إلى بني بكر بن وائل فأفسد على قابوس خطته، واستبقى قومه بني بكر على ولائهم للمسلمين، ثم رجع إلى ذي قار فاصطحب سلمى زوج أخيه المثنى، وسار بها حتى أدرك سعدا بشراف حين أزمع الرحيل إلى القادسية.
ودخلت سلمى ودخل المعنى على سعد، فقص عليه نبأ قابوس وبني بكر بن وائل، ثم ذكر له وصية المثنى إليه ألا يقاتل عدوه من أهل فارس، إذ اجتمع أمرهم وملؤهم، وألا يقتحم عليهم عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم، على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم وإن تكن الأخرى كانوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم، فلما سمع سعد رأي المثنى ووصيته ازداد حزنه لموته وترحم عليه، وأمر المعنى على عمله وأوصى بأهل بيته خيرا، ثم خطب سلمى إلى نفسها فتزوجها وبنى بها، وكان مثل هذا الزواج بعض عادات العرب تكريما لذكرى العظيم المتوفى وإكراما لأرملته حتى تظل في مثل عزها وكرامتها في حياة زوجها الأول.
كان عمر بن الخطاب بالمدينة على علم بحركات جيش العراق وتنقلاته، فقد كانت أوامره إلى سعد أن يكتب له في كل موقف وأن يتلقى أوامره، وكان سعد قد كتب إليه أول ما نزل شراف وقبل أن يجيئه الخبر بموت المثنى يذكر له أنباءه ويسترشده، فلما قرأ عمر هذا الكتاب بعث إلى سعد، فكان رأيه كرأي المثنى في وصيته، أمر سعدا بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرق والمسالك على فارس، ثم قال له: «ولا يهولنك كثرة عددهم وعددهم فإنهم قوم خدعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لم يجتمع شملهم أبدا، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم. وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر فإنكم عليه أجرأ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل، حتى يأتي الله بالفتح عليهم ويرد لكم الكرة.» وكان مما ختم به كتابه قوله: «اكتب إلي بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية.»
وكان عمر فيما يصدره من أوامره لا تفوته كبيرة ولا صغيرة، فلم يكن يكفيه أن يشجع القواد والجند وأن يهز قلوبهم، وأن يذكر لهم مفاخرهم ومفاخر قومهم، ثم لم يكن يكفيه أن يحذرهم بأس العدو وخداعه، بل كان يرسم لهم الخطط، ويذكر لهم موعد الانتقال من مكان إلى مكان، وكأنما كان على علم بهذه الأرض وتقويمها، كان مما جاء في بعض كتبه إلى سعد قوله: «إذا بلغت القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لمادتهم، وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر.» وكتب له باليوم الذي يرتحل فيه من شراف وقال له: «فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.» وجاء في كتاب آخر بعث به إلى سعد قوله: «اكتب إلي أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتابة به قلة علمي بما هجمتم عليه والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها.» وكتب إليه سعد يصف البلدان ويصور له موقع القادسية بين العتيق، أحد فروع الفرات، وخندق سابور، ويذكر له سهل القادسية الأخضر الممتد إلى الحيرة بين طريقين يطلع أحدهما بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ويسير الآخر إلى الولجة في فيض من المياه، ثم يذكر له أن أهل السواد الذين كانوا قد صالحوا المسلمين قد انتقضوا عليهم وانضموا عونا لأهل فارس. ورد عمر على هذا الكتاب يقول: «قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينفض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله، وإنه قد ألقي في روعي أنكم ستهزمونهم فلا تشكن في ذلك.» وجعل يدعو لسعد خاصة وله وللمسلمين عامة.
هذه الكتب المتبادلة بين سعد وعمر تشهد باهتمام أمير المؤمنين بأمر العراق، وتتبعه أنباء الجند فيه بدقة دونها كل دقة، وحرصه بذلك على أن يكون وكأنه القائد الذي يسير على رأس الجيش ويجهز للمعركة، فهو يوجهه ويشرف على كل حركة من حركاته، وقد كان ذلك شأنه مع جند المسلمين بالشام، فكان يكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح بمثل ما كان يكتب به إلى سعد بن أبي وقاص، وكان يتابع بنظره، بل بقلبه وكل جوارحه، مسير هؤلاء القواد ومن يلونهم من الجنود، وكأنه حاضر معهم وسائر في خطاهم؛ مشفق عليهم من عدوهم، شريك لهم في سرائهم وضرائهم، حريص أشد الحرص على نصرهم، وليبلغ هذا النصر جعل يذيع النداء تلو النداء في أرجاء شبه الجزيرة يدعو إليه كل قادر على القتال فيوجهه إلى العراق أو إلى الشام، ذلك بأنه لم يبق لديه ريب في أنه إن لم يفتح المدائن ويضم إليه العراق كله، وإن لم يفتح حمص وأنطاكية ويضم إليه الشام كله، بقيت بلاد العرب يهددها الأسدان فارس والروم، وتهديد بلاد العرب يهدد الدين الناشئ فيها، وحماية هذا الدين وحرية الدعوة فرض عين على كل مسلم، وعلى أمير المؤمنين قبل كل مسلم، ولا بد لحمايته من تقليم أظافر الأسدين، ومن القضاء على كل قوة تهدد شبه الجزيرة.
Unknown page