قال من ذلك شيئا.» وأي صح من هذه الروايات فقد كان عمر فاروقا لا ريب، وذلك ما خلد اسم الفاروق على الزمن؛ بقي لعمر إلى يومنا هذا، وسيبقى له أبد الدهر.
أما شدته وغلظته فهي التي جعلت رسول الله يؤثر أبا بكر عليه، ثم لا يؤثر عليه غير أبي بكر أحدا، لإخلاصه وصراحته وعزمه وحزمه، وبلغ من شهرة عمر بالشدة والغلظة أن لم يخفف منهما ما كان له في مواقف كثيرة من لين جانب ورقة عاطفة ذكرنا شيئا منهما في حديث إسلامه، روي أن عمر استأذن على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، ودخل عمر، ورسول الله يضحك ويقول: «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.» قال عمر: فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قلن: نعم! أنت أفظ وأغلظ منه.
ولعل شدة عمر هي التي جعلت رسول الله يأمر في مرضه أن يصلي أبو بكر بالناس، وغاب أبو بكر مرة فصلى عمر بالناس وكبر بصوته الجهير، فقال رسول الله: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون.»
وقد تعجب لهذه الشدة وهذه الغلظة أين كانتا ساعة وفاة رسول الله؛ إذ أذهل النبأ عمر عن الواقع فكذب من حاول إقناعه بالحقيقة الأليمة، ووقف في المسلمين يقول: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد توفي، وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهن زعموا أنه مات.» فلما جاء أبو بكر ورأى رسول الله أيقن أنه مات، فوقف في الناس يقول: «إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.»
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ، فلما تلا أبو بكر هذه الآية خر عمر إلى الأرض ما تحمله رجلاه، وكأنه لم يسمعها من قبل، فأين كانت شدته وغلظته هذه الساعة! بل أين هو في جزعه وهلعه من ثبات أبي بكر رقيق القلب سريع الدمع خليل رسول الله وصفيه، وأين هو من تجلده؟!
Unknown page