وأذن رسول الله في الناس بالحج لست سنوات من هجرته إلى المدينة، فلما قرب من مكة خرجت فرسان قريش تلقاه لتصده عن دخولها؛ فقد أقسمت لا يدخلها محمد عليهم عنوة، وكان رسول الله إنما جاء حاجا ولم يجئ غازيا؛ لذلك نزل الحديبية في أصحابه وعزم أن يفاوض قريشا لتفسح لهم طريق الطواف بالبيت وأداء فريضة الحج، ودعا إليه عمر بن الخطاب ليدخل مكة فيتحدث إلى قريش فيما جاء له، قال عمر: «يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان.» ودخل عثمان مكة، وطال حديثه مع قريش واحتباسه عن المسلمين حتى ظنوا أنه قتل، وبايع رسول الله أصحابه بيعة الرضوان لقتال قريش أن قتلوا عثمان، على أن عثمان عاد يذكر أن قريشا تأبى على المسلمين أن يدخلوا مكة هذا العام حفظا لهيبتها بين العرب ، لكنها لا تأبى المفاوضة للخروج من موقف الخصومة بعد أن أيقنت أن محمدا جاء حاجا ولم يجئ غازيا، واتصل الحديث بين الفريقين ابتغاء التعاهد والصلح، ولقد ضاق عمر صدرا بما كان النبي يقبله في هذه المحادثات، حتى لقد وثب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: أولسنا بالمسلمين؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: أوليسوا بالمشركين؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه،
4
فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
لم يقنع عمر بهذا الحديث بينه وبين أبي بكر، فذهب إلى رسول الله، والغضب لا يزال آخذا منه، فقال: يا رسول الله! ألست برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال رسول الله: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني، وسكت عمر لهذا الجواب، وكان يقول من بعد: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيرا.
أرأيت إلى هذا الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالرأي! وما لعمر لا يعتز برأيه، وقد أيده الوحي في موقفه من أسرى بدر! ولقد ظل على رأيه حين أشار بقتل عبد الله بن أبي حتى أيقن أن أمر رسول الله أعظم بركة من أمره، كما ظل على رأيه في عهد الحديبية حتى نزل الوحي يؤيد رسول الله ويذكر أن هذا العهد فتح مبين، وكذلك كان يجادل رسول الله في الرأي مجادلة رجل لرجل حتى يتبين له الحق، إما بنزول الوحي، أو بتأييد الواقع رأيه، أو نقض الواقع له.
رأيت أن عمر لم يتجه بتفكيره إلى النظريات المجردة يقلبها ويمتحنها ليرتب عليها آثارها المنطقية، وإنما كان اتجاهه في الإسلام، كما كان قبله، إلى ما له أثر عملي في واقع الحياة الحاضرة أمامه، وهذا الأثر العملي هو الذي استثار رأيه في أسرى بدر، وفي أمر ابن أبي، وفي عهد الحديبية، كما أنه هو الذي استثار رأيه من بعد فيما لم ينزل به الوحي من شئون المسلمين العامة، ومن شئون رسول الله الخاصة.
كان لأهل مكة غرام بالنبيذ، وكان عمر صاحب خمر في الجاهلية، وقد ظل المسلمون يشربون الخمر طيلة مقامهم بمكة وعدة سنوات بعد الهجرة إلى المدينة، ورأى عمر ما يهيجه الشراب من سورة الغضب في النفوس، وما يدعو إليه من تنابز الشاربين ولمز بعضهم بعضا، وكثيرا ما انتهز اليهود والمنافقون أوقات الشراب ليثيروا بين الأوس والخزرج منازعاتهم القديمة، عند ذلك سأل عمر رسول الله عن الخمر، ولم يكن قد نزل فيها قرآن وقال: اللهم بين لنا فيها، فنزلت الآية:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ، ولما لم يكن في هذه الآية نهي عن الخمر فقد ظل بعض المسلمين يقضون ليلهم متوفرين على شرابهم، فإذا ذهبوا إلى الصلاة لم يعلموا ما يقولون فيها، وعاد عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فإنها تذهب العقل والمال! فنزلت الآية:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ومن يومئذ كان منادي الرسول للصلاة يقول: لا يقربن الصلاة سكران، وأقل المسلمون من الشراب وإن لم ينتهوا عنه، فبقي من أثره في بعضهم ما يسوء، شج أحد الأنصار مهاجرا بعظمة من عظام الجزور التي كانوا يأكلونها حين شرابهم لخلاف قام بينهما، وثمل حيان فتشاجرا فشج بعضهم بعضا فاضطغنا، ورأى عمر ذلك فعاد يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال، فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ، ولم يرق أناسا من المسلمين هذا النهي فقالوا: أتكون الخمر رجسا وهي في بطن فلان وفلان قتل يوم أحد، وفي بطن فلان وفلان قتل يوم بدر؟ فنزل قوله تعالى:
Unknown page