160

كانت عدة المدد الذي أقبل ثمانية آلاف، عليهم الزبير بن العوام ومعه عبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد، وقد اغتبط عمرو بمقدمهم أيما اغتباط، فلو أنهم أبطئوا عليه أكثر مما أبطئوا لبلغ موقفه من الدقة ما يتعذر معه على أكثر القواد مهارة أن يغالبه ويغلبه، والحق أن المغامرة التي أقدم عمرو عليها، منذ قدم مصر إلى أن جاءه المدد، جديرة أن تعقد تاج الفخر على هامة أشد القواد مخاطرة وأعظمهم براعة، فقد ظل يواجه الأخطار ويقتحمها، ويدفع إلى النفوس اليقين بأن الروم لا حيلة لهم في قوم هزموا كسرى وقهروا قيصر، ألم يواجه جموع الروم في الفرما وفي بلبيس وفي أم دنين وفي الفيوم، فلم يظفروا به مرة واحدة على حين ظفر هو بهم مرات! وفي هذه الأثناء كانت كتبه إلى عمر باستعجال المدد لا تنقطع، وكان المدد الأول إليه قليلا فلم يضعضع ذلك من عزمه، ولم يبعث اليأس إلى نفسه، بل كان يلتمس وجوه الحيلة للإبقاء على القوة المعنوية سامية بروح جيشه، واثقا من مضاعفة أمير المؤمنين المدد له، ومن إنفاذ خطته كاملة متى حانت الفرصة لإنفاذها.

وقد يتولانا العجب لإبطاء المدد عن عمرو كل هذا الزمن؛ فقد كان انتصاره في الفرما وفي بلبيس قمينا أن يعجل أمير المؤمنين بإمداده، حتى لا يتعرض لمواجهة الروم في حصونهم المنيعة على النيل بجنده القليل، أتراه ظن أن قائده يقيم بالعريش أو بالفرما حتى يأتيه المدد، وأنه لن يغامر بقتال عدوه وهو فيمن هو فيهم من الجند، فلما جاءته الأنباء بانتصاره في الفرما وبمسيرته إلى بلبيس، وبأنه يوشك أن يواجه الروم في عاصمة الفراعنة، ندب الناس مددا له، ثم ضاعف هذا المدد من بعد وجعل على رأسه الزبير بن العوام حين جاءته أنباء أم دنين وانتصار عمرو فيها؟

2

أيا ما يكن الأمر فقد كان الزبير يومئذ قد هم بالغزو وأراد أن يأتي أنطاكية، والزبير ابن عمة النبي وصاحبه، وكان من أبطال العرب المعدودين، فلما عرف عمر ما هم به دعاه وقال له: «يا أبا عبد الله! هل لك في ولاية مصر؟» فأجابه الزبير: «لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهدا وللمسلمين معاونا، فإن وجدت عمرا قد فتحها لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطت به، وإن وجدته في جهاد كنت معه.» ودعا له عمر وودعه، فسار على رأس الجيش حتى دخل مصر وجعل وجهته عين شمس.

وكان اختيار عمر للزبير توفيقا من الله أعظم التوفيق؛ فقد عرف هذا البطل بشدة المراس وقوة الشكيمة منذ نشأته، وكان إلى ذلك كريما في الناس عزيزا عليهم، أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا، فلما سار إلى المدينة لم يتخلف عن غزاة غزاها رسول الله، وقد بايع رسول الله على الموت في أحد، وندب النبي الناس يوم الخندق من يأتيه بخبر الأحزاب وبني قريظة، فانتدب الزبير، وندبهم الثانية فانتدب الزبير، وندبهم الثالثة فانتدب الزبير، فقال رسول الله: «إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير بن العوام.» وكانت مع الزبير إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم فتح مكة، لهذا كله أدناه النبي ومحضه الحب، فلما خط الدور بالمدينة جعل له بقيعا واسعا وأقطعه نخلا كانت من أموال بني النضير، ورخص له في لبس الحرير، وقد أحبه أبو بكر وعمر كما أحبه رسول الله، فأقطعه الصديق الجرف وأقطعه عمر العقيق أجمع؛ بل لقد أحبه كل من عرفه، وكان الجنود الذين يسيرون في إمرته أشد الناس حبا له.

تخطى عمرو بن العاص النيل وسار إلى عين شمس، واتصل بالزبير وبالمدد العظيم الذي جاء معه، وكان الزمن قد جر على عين شمس يومئذ ذيل العفاء، فلم تبق «أون» مدينة الشمس الفرعونية العظيمة التي كانت كعبة العلوم والدراسات، والتي عرفها أفلاطون وعرفها غيره من فلاسفة اليونان، وتلقوا فيها المعرفة والحكمة، ودرسوا بها الفلسفة والفلك ورأوا من سعة عمرانها وعظمة عمارتها وجلال معابدها ومسلاتها وتماثيلها ما ذكره «هيرودوتس» كما ذكر تبحر رجال الدين بها في التاريخ المصري كله، فقد جرت الإسكندرية وفلسفتها على عين شمس ما هوى بها وبمنف من ذروتهما الرفيعة، فلما حكم الرومان مصر ثم دان أهلها بالمسيحية، هجر العلم وهجر الفقه عين شمس إلى غير عودة ، ونقلت منها المسلات والتماثيل إلى طائفة من مدن الدلتا، بل نقل بعضها عابرا البحر الأبيض إلى رومية، وكذلك تدهور كل ما في مدينة الشمس بعد أن أضاءها العلم وأضاءتها الحكمة بنورهما قرونا طويلة، فلم يبق بها حين نزلها العرب من مجدها القديم إلا اسمها اليوناني «هليوبوليس» وإلا أسوار مهدمة وتماثيل مطمورة تحت الثرى، ومسلة لا تزال قائمة ببلدة المطرية إلى يومنا الحاضر، تدل شاهدها على موقع مدينة الشمس القديمة، ويروي صمتها حديث ذلك العهد المجيد العظيم.

وقد اختار عمرو بن العاص أطلال عين شمس، فعسكر بها وعسكر معه المدد الذي جاء مع الزبير بن العوام؛ لأن هذا المكان كان نهدا من الأرض يسهل الدفاع عنه، ولأنه كان فيه ماء كثير، ومن حوله ميرة وفيرة تصلح لإمداد الجيش بالمئونة، فلما اطمأن إلى منازله فيها ورأى من حوله خمسة عشر ألفا وخمسمائة جندي أيقن أن ساعة الفصل بينه وبين الروم اقتربت، فجمع أصحابه من أولي الرأي في الحرب وتداول معهم في خطة القتال، وكان أكبر همه أن يستخرج الروم من حصن بابليون ليقاتلهم في السهل، وسرعان ما جاءته عيونه بأن الله محقق عما قليل رجاءه، فقد تداول تيودور أمير جند الروم مع أصحابه، فرأوا أن مقامهم بالحصن يظهرهم أمام المصريين مظهر الجبن والضعف، ويغري الناس بالانضمام إلى المسلمين ومعاونتهم، وقد كانت أعدادهم تفوق أعداد المسلمين، وكانوا خيرا منهم عدة؛ لذلك عزموا على الخروج إلى العرب لمناجزتهم، وأزمعوا السير إلى عين شمس لإجلائهم عنها، فلما عرف عمرو خطتهم دبر للقائهم والقضاء عليهم، فأخرج خمسمائة رجل ساروا تحت الليل من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل عند قلعة الجبل، وأخرج خمسمائة آخرين جعل عليهم خارجة بن حذافة فساروا قبيل الصبح إلى أم دنين - في حي الأزبكية الحالي - وزود هؤلاء وهؤلاء بأوامره، فلما تنفس الصبح سار من عين شمس على رأس قواته كلها حتى بلغ موضع العباسية في وقتنا الحاضر، وهناك أقام ينتظر جموع الروم القادمة من حصن بابليون عند مصر القديمة.

وخرج الروم من حصنهم في الصباح الباكر، وساروا بين الأديار والبساتين المحيطة بالحصن من شماله الشرقي، وإنهم ليتقدمون إلى عين شمس إذا بلغهم أن عمرا انحدر منها في صحبه يريد لقاءهم، وقد استخفهم الطرب لذلك، وأيقنوا الظفر به وتعاهدوا فيما بينهم على القتال حتى الموت، فلم يكن عندهم من شبهة في أنهم إن يفتهم النصر ذلك اليوم فقد اندك صرحهم ودالت دولتهم في هذه البلاد الغنية المعطاء، والتقى الفريقان فأنشبوا القتال وعضوا على النواجذ والتحموا وعلاهم غبار المعركة، ولا يريد أيهم أن ينفصلوا حتى تفصل الحرب بينهم، وإنهم لكذلك إذ انحدرت الكتيبة المختبئة في مغار بني وائل تهوي من الجبل فتعصف بمؤخرة الروم عصفا، ولم يكن الروم على علم بهذه المكيدة؛ لذا تولاهم الفزع لما أصابهم، فاضطربت صفوفهم وتقهقروا متياسرين نحو أم دنين، عند ذلك خرج الكمين الآخر إليهم فأمعن فيهم قتلا، فخيل إليهم أن ثلاثة جيوش من العرب تقاتلهم من ثلاث نواح مختلفة، وأنهم لا أمل لهم في المقاومة، فانحل نظامهم ولاذ أكثرهم بالهرب يطلبون النجاة من سيوف العرب، وبلغت طائفة من الفارين الحصن فلاذت به، وساق الفزع طائفة إلى النهر فنزلت السفن تلتمس النجاة في حمى الماء حتى تبلغ الحصن على ظهره، وكان عدد الذين هلكوا في الموقعة وفي الطلب أجل من أن يحصى، ورأى العرب ما أصاب عدوهم من الفزع، فمالوا إلى حصن أم دنين فاستولوا عليه كرة أخرى، وكذلك انتصر المسلمون في هذه الموقعة التي يسميها المؤرخون موقعة عين شمس نصرا حاسما وطد أقدامهم على ضفاف النيل، وأراهم مصر كلها في قبضة أيديهم.

وكيف لا يرونها في قبضة أيديهم وقد علموا أن الذين هربوا إلى حصن بابليون لائذين به لم يلبثوا حين سمعوا بهلاك من هلك من جيش الروم أن فروا من ملجئهم وركبو السفن، وساروا في الفرع الغربي للنيل - فرع رشيد - حتى بلغوا حصن نقيوس إلى الشمال من منوف، ولئن بقيت مع ذلك مسلحة قوية وكل إليها الدفاع عنه، لقد أشاع انتصار المسلمين من الفزع في الناس جميعا ما دفع إلى نفوسهم اليقين بأن النصر كتب لهؤلاء الغزاة لا محالة، وكان تصرف عمرو بعد الموقعة مما زاد الناس بهذا الأمر إيمانا، فقد سار إلى مدينة مصر فاستولى عليها بغير قتال، ولم يستطع الجيش الذي بالحصن أن يمد لها يد المعونة كما كان يفعل من قبل، ثم نقل عسكره من عين شمس فأنزله في شمال الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، في المكان الذي أقام فيه الفسطاط من بعد.

وجاءته الأنباء بأن حامية الروم بالفيوم فرت إلى «نقيوس» حين علمت بنصر المسلمين فجهز كتيبة عبرت النهر وسارت في طريق الصحراء، فاستولت على إقليم الفيوم كله، ولم يكتف بهذا، بل أرسل قوة أخرى إلى جنوب الدلتا، فاستولت في إقليم المنوفية على أثريب ومنوف، لهذا كله آمن الناس بأن النصر قد حالف الغزاة، فخشعت نفوسهم وخضعوا طوعا أو كرها لما فرضه عليهم عمرو من الأموال والميرة، وبخاصة بعد أن رأوا الحكام من الروم يؤتى بهم بأمره مجموعة أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، واستولى الروع على كثيرين وأفزعتهم رهبة الغزاة الفاتحين، ففروا إلى الإسكندرية زرافات يخطئها العد، يرجون أن يجدوا في حصونها وأسوارها ملجأ، ويطمعون في أن يمدها قيصر من البحر بقوات تمكنها من دفع الغزاة القاهرين.

Unknown page