ولم تكن الأساطيل البحرية وحدها أداة هذه الصلات القديمة المتصلة على القرون بين مصر وبلاد العرب، بل كان برزخ السويس أداة اتصال بينهما لم تنقطع في عصر من العصور، وكان في شبه جزيرة سيناء طريق عبده المصريون القدماء إلى مناجم النحاس الواقعة بها، وكان هذا الطريق يجري في شمال الحجاز حتى يتصل عند تيماء بالطريق المؤدي إلى بابل على شاطئ الفرات، وكانت بابل وكان العراق كله تابعا لمصر في عصور مختلفة؛ فكان هذا الطريق وسيلة الصلة بين البلدين في التجارة كما كان سببا لنشوب الحرب بينهما في بعض العصور.
وكان هذا الطريق الممتد من سيناء في شمال الحجاز يتصل كذلك بطريق القوافل المنحدر إلى مكة وإلى اليمن، وفي هذا الطريق كان جانب كبير من تجارة مصر وبلاد البحر الأحمر ينقل إلى اليمن وفارس، وإلى الهند وبلاد الشرق الأقصى، كما كان جانب عظيم من تجارة اليمن وفارس والهند والشرق الأقصى ينقل إلى مصر وبلاد البحر الأبيض في الطريق عينه، فكان المصريون الذين يصحبون تجارتهم يجتازون بلاد العرب أثناء سير القوافل بها، وكان العرب الذين ينقلون متاجر الشرق إلى مصر يدخلونها بقوافلهم ويقيمون بها ريثما يعودون منها بتجارة جديدة، وكان ذلك يحدث من أقدم العصور، ثم ظل متصلا مع إلف الناس البحر ونقلهم التجارة في السفن على متنه.
ومؤرخو العصور القديمة يذكرون أن هذا الاتصال أدى إلى استقرار عدد غير قليل من العرب ببوادي مصر منذ عهد الفراعنة، وإلى استقرار جالية من المصريين عند واحة على طريق القوافل، وأن هذه الجالية كانت النواة التي نشأت حولها مدينة يثرب، مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
لم تكن صلة التجارة وحماية القوافل هي وحدها التي ربطت بين العرب والمصريين في العصور القديمة، بل ربطت بينهما كذلك صلة رحم إن نسيها أهل اليمن لم ينسها أهل الحجاز، وما كان لأهل مكة بخاصة أن ينسوها، فإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أبو العرب، و«هاجر» أم إسماعيل مصرية صميمة، فقد ارتحل إبراهيم مع زوجه «سارة» من العراق إلى فلسطين ثم إلى مصر، فأهدى إليه ملكها هاجر، فولدت له إسماعيل، وغضبت سارة حين رأت إبراهيم يسوي بينها وبين هاجر، فأقسمت لا تساكنها، فذهب إبراهيم بهاجر وابنها إلى بلاد العرب وأنزلهما بالوادي الذي تقوم مكة اليوم به، وتزوج إسماعيل فتاة ولودا من جرهم أعقبت له اثني عشر ولدا هم آباء العرب المستعربة، فهؤلاء العرب ينتمون من ناحية خئولتهم في جرهم إلى العرب أبناء يعرب بن قحطان، وينتمي أبوهم إسماعيل من ناحية خئولته إلى مصر.
نزل إبراهيم مصر وانتقل بهاجر إلى بلاد العرب، فربط بين الجنسين برابطة النسب لمائة وألفي سنة قبل مولد المسيح، وأضاف بذلك صلة جديدة إلى صلة التجارة القائمة بين الشعبين من أقدم الحقب، وبعد قرنين اثنين من هذا النسب نشأت بين الشعبين صلة سياسية تركت أثرا باقيا على التاريخ؛ فملوك مصر الرعاة «الهكسوس» عرب نزحوا إلى فلسطين واستقروا بها، ثم ساروا منها إلى مصر فغزوها وأقاموا بها ملكا دام خمسة قرون متعاقبة، من أوائل القرن المتمم العشرين إلى أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وقد ظل ملكهم ممتدا في وادي النيل كل هذه القرون، ثم أجلاهم المصريون عنه، فخرجوا من مصر وقد بلغ عددهم قرابة ربع المليون، ويذكر بعض المؤرخين أن هؤلاء الهكسوس هم بنو إسرائيل، وأن قصة يوسف الصديق حدثت في عهدهم.
ظلت هذه الصلات في التجارة والسياسة والنسب متصلة بين مصر وبلاد العرب، تضعف حينا وتقوى حينا آخر، وقد أضعفها استيلاء الروم على مصر زمنا، ثم عادت إلى مثل ما كانت عليه، ذلك أن العرب ظلوا يقومون برحلة الصيف إلى الشام، ثم كان منهم من ينحدر من طريق القوافل عند أيلة - العقبة - إلى مصر، وكان أكثرهم يسيرون إلى الشام، فإذا بلغوها وقضوا وطرا من تجارتهم فيها توجهوا إلى مصر، وذلك ما كان عمرو بن العاص يصنعه في الجاهلية وفي الإسلام.
ولم يكن طريق البحر أقل إدامة للصلة بين مصر وبلاد العرب من طريق القوافل، فقد كانت السفن عليها الملاحون المصريون ترسو بجدة وغيرها من فرضات بلاد العرب، تبادلها التجارة ويأخذ الملاحون منها ما يحتاجون إليه من أقوات، وأدت هذه الصلات إلى نزول بعض المصريين بلاد العرب وإقامتهم بها، كما كان بعض العرب الذين يذهبون في رحلة الصيف ينزلون مصر ويقيمون بواديها، وكتب السيرة تذكر أن السيل طغى على بناء الكعبة فتهدم لسنوات قبل مبعث النبي العربي، وأن البحر رمى إذ ذاك بسفينة قادمة من مصر مملوكة لتاجر رومي اسمه «باقوم» فحطمها فابتاع أهل مكة أخشابها لإدخالها في بناء الكعبة، واستعانوا بقبطي يقيم بمكة ويعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم وأن يعاونه «باقوم» ولم يكن هذا القبطي المصري الوحيد المقيم بالبلد الحرام.
كان العرب بحكم هذه الصلات يعرفون الشيء الكثير عن مصر، وقد تحدث القرآن عنها في مواضع كثيرة منه، فزاد المسلمون بها علما، لقد كانوا يعرفون عن نهرها العظيم، وأرضها المعطاء وزروعها الناضرة، وخيراتها الوفيرة ما يذكره لهم أهلوهم الذين يتجرون بها، فلما أورد القرآن قصص يوسف وموسى زادهم بحديث أهلهم علما وتثبيتا، يقول تعالى في سورة الدخان تعقيبا على ما كان من غرق فرعون وقومه:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين ، ويقول في سورة الدخان:
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون
Unknown page