لم يكد نعيم بن مقرن يفتح الري حتى أذن عمر للأمراء الذين عقد لهم الألوية أن ينساحوا في أرض الفرس كلها، فاندفعت القوات المعسكرة بأصفهان إلى خراسان وتدفقت قوات من البصرة ومن البحرين إلى فارس وكرمان، وسارت الأمداد من بلاد العرب تعزز الجيوش المنتشرة في مختلف الأرجاء من أرض كسرى، ولا يشك عمر في أن الله سيفتح عليه هذه الأرض جميعا ويورثها المسلمين، فهو لا يريد أن يدع للفرس متنفسا تجتمع في أثنائه كلمتهم أو تفكر في أثنائه ولاية في أمر غيرها، وكذلك أصبحت بلاد كسرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مسرحا لحرب عوان كانت جيوش المسلمين في كل غزواتها قلة أبدا، ثم كانت مع ذلك منتصرة فيها جميعا، وكان الملك الشريد كسرى يزدجرد يتتبع أخبار هذا القتال حيثما كان من منازل فراره فلا يرى لنفسه ملجأ يأوي إليه ليستقر فيه، بل يضطر إلى النقلة من ملجأ إلى ملجأ، والاعتصام بمدينة بعد مدينة، فتنفضه الملاجئ كلها فلا يجد في مدينة عاصما، فيستأنف الفرار والنقلة حتى يخرج من بلاده كشر ما يخرج مليك طريد يلتمس النصرة من قوم غير قومه، وناس غير أهله.
اندفع المسلمون من البحرين ومن البصرة لغزو ولاية فارس، فركب عثمان بن أبي العاص الثقفي السفن عابرا الخليج الفارسي إلى جزيرة أيزكاوان فاستولى عليها، ثم تخطاها إلى أرض فارس، فسار بجنوده إلى مدينة توج الحصينة يحاصرها، هناك ألفى مجاشع بن مسعود وقد انحدر من البصرة فاستوقفه الفرس عند توج، وقاومت المدينة الحصينة هذه القوات المتدفقة إليها من الشمال ومن الغرب ما استطاعت فلما طال بها الحصار وهنت مقاومتها، ففتحها المسلمون وقتلوا من المدافعين عنها مقتلة عظيمة، واحتووا ما فيها وفرضوا عليها الجزية، وكذلك أذعنت توج منكسة الرأس، ولقد طالما فاخرت من قبل بأنها ردت العلاء بن الحضرمي على أعقابه.
وسار مجاشع إلى سابور وأردشير ففتحهما بعد قتال، أما عثمان بن أبي العاص فسار يريد إصطخر عاصمة هذا الإقليم ومدينته الكبرى، وجمع الهربز كل قواته للدفاع عن العاصمة العتيدة وقد عزم أن يرد غزاتها أو يموت دونها، ذلك أن إصطخر كان لها في نفوس الفرس مكانة سامية بلغت حد القدسية؛ فقد كانت أول عاصمة للفرس حين نزلوا هذا الإقليم من أرض إيران، كما كانت موطن الساسانيين أكاسرة الفرس في الزمن الذي نتحدث عنه، فساسان جد الملك أردشير الأول كان قيما على بيت نار في إصطخر يقال له: بيت نار الإلهة أناهيذ، وكانت المدينة بعد قيام الساسانيين تعد مركزا دينيا للدولة؟ ثم ظلت عاصمتها زمنا غير قصير، وبها لذلك مقابر الكثيرين من ملوكها، لا عجب وذلك شأنها أن يجمع الفرس جموعهم لصد غزاتها، وأن يعقدوا العزم على الاستماتة في الدفاع عنها.
وتجاور إصطخر موقع برسوبوليس القديمة عاصمة هذا الإقليم في عهد الأكمينيين الذين سبقوا بني ساسان، فالصخور التي دفن بها بعض الملوك الساسانيين بإصطخر تجاور مقابر من قبلهم من ملوك الأكمينيين ببرسوبوليس، والراجح أن إصطخر أنشئت عقب اضمحلال برسوبوليس في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر؛ ولذلك استخدمت أطلالها في بناء كثير من عمائر المدينة الجديدة، وأسرعت إصطخر بعد بنائها إلى النماء والازدهار إذ أصبحت العاصمة الرسمية لدولة بني ساسان، ثم أدى مركزها الديني إلى أن تقام بها أفخم العمائر، وصف المقدسي مسجدها الكبير وذكر عمده الكثيرة الهائلة ورءوسها الضخمة المنقوشة على صورة رأس الثور، وروى أن هذا المسجد كان بيت نار في العهد الغابر، استعملت في بنائه مواد أخذت من برسوبوليس، وقد أشاد المقدسي بعظمة الجسر المقام على النهر في إصطخر كما اشاد بجمال حدائقها الغناء، وكانت الجبال التي تجاورها غنية بالمعادن المختلفة، فكان ذلك سببا في زيادة نمائها وازدهارها.
جمع الهربز كل قواته للدفاع عن المدينة العتيدة، وخرج إلى ظاهرها بضاحية جور، وهناك لقيه عثمان بن أبي العاص فانتصر عليه ورده إلى أسوار إصطخر، وتحصنت القوات بالمدينة وقاومت المسلمين مقاومة عنيفة، لكن الأمداد كانت تصل تباعا إلى المسلمين فتزيد الحصار على الفرس ضيقا، وطال بالهربز وجنوده ما يلاقون من شدة هذا الحصار فوهنت عزائمهم، وفتحت المدينة أبوابها، ودخلها المسلمون فقتلوا حماتها وأصابوا منها ما شاءوا وفر من أهلها من فر، ثم دعا ابن أبي العاص الناس إلى الجزاء والذمة فعادوا وعاد الهربز، ونزلوا جميعا على حكم الغزاة.
وبلغ عثمان أن بعض المسلمين أخذ من المغنم لنفسه قبل قسمة الفيء، فقام في الناس فقال: «إن الله إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم، فاحفظوها؛ فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، فإذا فقدتموها جدد لكم كل يوم فقدان شيء من أموركم.» وجمع عثمان الفيء وكان عظيما، فخمسه وبعث إلى الخليفة بخمسه، وأكبر عمر فعال عثمان فأقامه واليا على البحرين.
ترى أأذعنت إصطخر لما أصابها عن رضا ونزلت على حكم القدر؟ كلا! بل بقي ماضيها المجيد يصور لها هول ما أصابها ويحرك دخيلتها فلا تفتأ الحين بعد الحين تضطرب بنذر الثورة والانتقاض، وقد انتقضت بعد قليل من صلح الهربز مع ابن أبي العاص ثم انتقضت كرة أخرى في عهد عثمان بن عفان، فكان نصيبها في المرتين أن ردت إلى الطاعة وأكرهت على احترام العهد،
ومما ساعد انتقاضها في المرة الأولى أن شهرك ملك فارس كان قريبا من كسرى في مقره بكرمان، فلما عرف ما أصاب إصطخر بعث يحرض أهلها ويبذر بذور الثورة في الإقليم كله، ويذكر الناس بمواقفهم المجيدة قبل سنين قليلة حين جاء العلاء بن الحضرمي من البحرين يحاول غزوهم، وانتقضت إصطخر، وانتقض في فارس كل مكان استطاع الانتقاض، وتابعوا شهرك وانضموا إلى لوائه، وسار الحكم بن أبي العاص أخو عثمان للقاء شهرك، فنزل في توج وحصنها واتخذها مقر قيادته، وجعل يغير منها على ما حوله من المدن ثم يعود إليها يسوق أمامه مغانمه، ولم تسلم أقاليم سابور وأردشير وأرجان وإصطخر من هذه الغارات، وأثارت فعال المسلمين شهرك فسار بقواته يلقى الحكم بتوج، واستبقى في مؤخرته كتيبة أمر رجالها بقتل كل فارسي يرتد عن الميدان، والتقى هو والحكم في موقعة حامية ظلت متأججة الوطيس زمنا غير قليل، ولا يعرف أحد لمن يكون النصر فيها، على أن غبارها ما لبث أن تكشف عن انتصار المسلمين وفرار الفرس ومقتل شهرك وابنه، وكان لهذه المعركة من الأثر أن حطمت ما بقي من قوة معنوية في نفوس الناس، حتى لقد انتقل عثمان بن أبي العاص من البحرين لنجدة أخيه فكان يسير من هذا الإقليم الفسيح حيث شاء فلا يلقى مقاومة تذكر.
ويذكر البلاذري أن أبا موسى الأشعري سار بأمر عمر من البصرة، وأنه انضم إلى عثمان بن أبي العاص في هذه المرحلة من قتال فارس، ففتح معه أرجان صلحا على الجزية والخراج، ثم فتحا شيراز على أن يكون أهلها أهل ذمة يؤدون الخراج إلا من أحب منهم الجلاء، وألا يقتلوا ولا يستعبدوا، كما فتحا سينير من إقليم أردشير وتركا أهلها عمارا للأرض، وأتى عثمان بن أبي العاص درابجرد، وكانت منزل علم ودين لأهل فارس، فصالحه الهربز عنها على مال أعطاه إياه، وعلى مساواة أهلها بغيرهم ممن فتحت بلادهم بفارس، ثم صالحه مثل هذا الصلح على مدينة فسا القريبة من درابجرد.
يخالف الطبري ومن أخذ عنه، رواية البلاذري في فتح فسا ودرابجرد، ويذكرون أن سارية بن زنيم هو الذي قصد إلى هذين البلدين، فلما انتهى إلى عسكر الفرس بهما نزل عليهم وحاصرهم وأطال حصارهم، فاستمدوا فاجتمع إليهم أكراد فارس وأتاهم الفرس من كل جانب، فلما صاروا في قوة لا قبل للمسلمين بها عزموا مهاجمتهم في غدهم، ورأى عمر بن الخطاب تلك الليلة فيما يرى النائم انبلاج الصبح وابتداء المعركة وموقف الفريقين وعددهم، وأن المسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن لجئوا منها إلى جبل هناك جعلوه خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد فكان ذلك أكفل لنصرهم، فلما أصبح وكان في الساعة التي رأى فيها ما رأى أمر مناديه فنادى، الصلاة جامعة، ثم قام في الناس فقال: أيها الناس: إني رأيت هذين الجمعين وأخبرهم بما رأى، ثم صاح وهو يخطب: يا سارية بن زنيم! الجبل، الجبل، ثم أقبل على الناس وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضها أن يبلغهم!
Unknown page