بفتح الري وصلح قومس ودنباوند لم يبق بين المسلمين وشواطئ قزوين
5
من أرض فارس غير جرجان وطبرستان وأذربيجان، فلو أنهم فتحوها وصالحوا أهلها لبلغوا أقصى الشمال في هذه المنطقة من ملك كسرى، وقد عسكر سويد بن مقرن بعد صلح قومس ببسطام، وكاتب ملك جرجان يدعوه إلى الصلح أو يسير إليه بجنوده، وبادر الملك الفارسي فصالحه عن دهستان وجرجان على الجزية يؤديها أهلها ولهم الذمة والمنعة والأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، وأدمج في هذا الصلح نص لم يؤلف من قبل مثيل له: «ومن استعنا به منكم فله جزاؤه على معونته عوضا عن جزيته.» ولا أدل من هذا النص على أن الجزية إنما كانت تفرض مقابل منع المسلمين من تغلبوا عليهم، فإذا دفع هؤلاء عن أنفسهم أو أعانوا المسلمين كان لهم جزاؤهم.
تقع جرجان إلى الجنوب الشرقي من شاطئ قزوين، وتقع طبرستان إلى الجنوب من هذا الشاطئ مجاورة جرجان، وتقع أذربيجان إلى جنوبه الغربي مجاورة طبرستان، وإذ رأى ملك طبرستان أن المسلمين أحاطوا به من الجنوب باستيلائهم على الري ومصالحتهم أهل قومس، ومن الشرق بصلحهم مع أهل جرجان؛ وأنه لم يبق له منفذ إلى أرض فارس إلا من طريق أذربيجان المهددة بالغزو هي كذلك، فقد آثر الصلح وراسل سويدا فيه، فتوادعا وتصالحا على طبرستان وجبل جيلان بأن يدفع أهلها جزية كل عام، وهم من بعد ذلك آمنون لا يغار عليهم ولا يتطرق أحد إلى أرضهم إلا بإذنهم.
تجاور أذربيجان طبرستان من الغرب، ويتاخم شمالها بلاد الديلم، كما يتاخم جنوبها بلاد العراق الغربي وبلاد الجزيرة، وكانت أردبيل الواقعة على مقربة من مكان تبريز اليوم أجل مدنها، وهي بلاد جبلية ترتفع أرضها فوق سطح البحر نحو خمسمائة وألف متر، وبها قمم يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف من الأمتار، وكلمة أذربيجان بالفارسية معناها أرض النار أو معابد النار، وإنما أطلق على هذا الإقليم هذا الاسم لكثرة معابد النار التي كانت قائمة في ذلك الحين به، فلما خمدت في الفرس عبادة النار ودان أهلها بالإسلام أبدل اسم أذربيجان باسم مازندجران.
بينما كان سويد بن مقرن يسير في جرجان وفي طبرستان ويعقد الصلح مع أهلهما كان أخوه نعيم ينظم شئونها مستعينا بالزينبي الذي أقامه واليا عليها، فلما اطمأن إلى أمرها أمد عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله اللذين سارا بأمر عمر لإخضاع أذربيجان بسماك بن خرشة الأنصاري في قوة من غزاة الري، وإن بكيرا ليتقدم في قواته إذ لقيه إسفنديار بن الفرخزاد عائدا في جنوده من هزيمة واج روذ، فالتحم الفريقان في قتال عنيف انتهى بإسفنديار إلى الهزيمة والأسر، ولم يقتله بكير بل أمسكه عنده، ذلك أن إسفنديار قال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ وأجاب بكير: بل الصلح، فاستطرد القائد الفارسي قائلا: فأمسكني عندك، فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجئ إليهم لم يقيموا لك وجلوا إلى الجبال فتحصنوا إلى يوم ما. وتحطمت مقاومة أذربيجان حين تقدم عتبة بن فرقد إلى حيث عسكر بهرام أخو إسفنديار فهزمه وألجأه إلى الفرار، عند ذلك صالح عتبة إسفنديار عليها وأعطاه كتابا بالأمان لأهل أذربيجان، سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم.
كان طبيعيا أن يتابع المسلمون مسيرتهم في شمال فارس حتى لا يبقى به لمقاومة أثر، وكان على بحر قزوين إلى جانب أذربيجان فرضة يقال لها الباب أو باب الأبواب، وكانت محصنة، قد وضعت على أفواهها سلاسل فلا مخرج لسفينة منها ولا مدخل لسفينة إليها إلا بإذن، وكان أمير الباب يدعى شهربراز، فلما عرف مقدم المسلمين كتب إلى أميرهم عبد الرحمن بن ربيعة واستأمنه، ثم لقيه وقال: «إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة، ولست أنا من القبج ولا من الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا منكم، ويدي مع أيديكم، وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون، فلا تذلونا بالجزية فتوهنونا بعدوكم.» فبعث به عبد الرحمن إلى سراقة بن عمرو، وكان الأمير على الجيش، فأعاد عليه شهربراز حديثه، وقبل منه عبد الرحمن فأعفى من يقوم مع المسلمين في حرب العدو، أما من أقام ولم ينهض فعليه الجزاء، وصار ذلك سنة فيمن يحارب العدو من المشركين، وقد كتب به سراقة إلى عمر بن الخطاب فأجازه وحسنه.
فرغ سراقة من الباب فوجه قواده إلى الجبال المحيطة بها، فرضي أهلها الجزية دون قتال؛ إلا موقان، فإنها تحصنت من بكير ففضها على أهلها، ثم تراجعوا على الجزية، وفي هذه الأثناء مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج عبد الرحمن يريد غزو الترك، فقال له شهربراز: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب، وأجابه عبد الرحمن : لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم! وسأله الأمير الفارسي عن هؤلاء الأقوام من هم؟ فأجابه: أقوام صحبوا رسول الله ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية؛ فازداد حياؤهم وتكرمهم، فلا يزال هذا الأمر لهم دائما، ولا يزال النصر معهم، حتى يغيرهم من يليهم، وحتى يلفتوا عن حالهم، على أنه لم يمض في فتح الترك إذ جاءته الأنباء بوفاة عمر، وكان أهل هذه المنطقة قد اعتصموا من المسلمين بالجبال، فعاد عنهم زمنا ثم عاد إلى غزوهم في عهد عثمان.
ها قد رأيت كيف تحطمت مقاومة الشمال الفارسي كله بعد همذان والري، وكيف كان ملوكه ومرازبته يسارعون فيطلبون الصلح فتقبل طائفة منهم الجزية، وتؤثر طائفة أن يقف القادرون من أبنائها محاربين في صف المسلمين لتعفى من ذل هذه الجزية؛ ثم رأيت سائر الولايات الفارسية، فيما وراء العراق العجمي إلى الشرق وإلى الجنوب، لا تمد إلى هذا الشمال يد معونة، أفكان ذلك غدرا بالشمال وتخليا عنه؟ أم شغلت هذه الولايات بنفسها فلم تفكر فيه؟ من حقك أن تلتمس لهذه الولايات عن قعودها عذرا؛ فقد روعها المسلمون بانتصارهم في شتى الأرجاء من مملكتهم، فشل الروع تفكيرهم في إمداد غيرهم لمقاومة قوة حالفتها الأقدار فلا تقف قوة في وجهها، ثم إن الولايات جميعها كانت تتوقع أن يغير المسلمون عليها، وتفزع إذ تتخيلهم يجتاحون أرضها، فكانت منهم في موقف الخائف الوجل يريد أن يدفع عن نفسه خطرا ما أضعف رجاءه في القدرة على دفعه، ولن يطلب أحد إلى مذعور أن يمد لغيره يد معونة وهو عاجز عن عون نفسه.
بل لم يكن توقعهم غزو المسلمين مجرد وهم يجسمه خيالهم؛ فقد كانت الأحوال كلها تؤيده وتجعله حقيقة تراها أعينهم ولا ينقصها إلا الزمن لتدهمهم بكل آثارها، وكيف كان لهم أن يتناسوها وقد أصبح المسلمون في خوزستان وفي العراق العجمي يجاورون ولاية فارس من شمالها، ويجاورون خراسان من غربها، فإذا تخطوا إلى فارس وإلى خراسان انفسحت أمامهم كرمان ومكران في الجنوب، وأصبح ما وراء خراسان إلى أقصى الحدود من أرض الفرس ميدانا لانسياحهم، وقد اعتاد الفرس أن يروا غزاتهم ينحدرون إليهم ويجتاحون أرضهم كأنهم القدر النازل لا محيص منه ولا سبيل لاتقائه، بل لقد ذكر أهل ولاية فارس ما أصابهم منذ سنين حين تخطى العلاء بن الحضرمي خليج فارس على السفن إليهم، وما كان بينه وبينهم من قتال أعانتهم الأقدار يومئذ فيه، ترى أتعينهم الأقدار اليوم كما أعانتهم بالأمس؟ أم ينحدر المسلمون إليهم من البصرة ويتخطون إليهم الخليج الفارسي من البحرين، ثم يجتاحون أرضهم كما اجتاحوا العراق وخوزستان وأصفهان والري وغيرها من أراضي الملك الأعظم؟
Unknown page