135

عاد المغيرة بن شعبة إلى المسلمين بعد ما أخفقت سفارته، فلقي النعمان في فسطاط عظيم كان قد ضرب له لم ير فسطاطا بالعراق مثله جلالا وعظمة، فلما عرف النعمان إخفاق سفارته أنشب القتال وحصر المدينة، فكانت الحرب سجالا بين العرب والفرس يومين كاملين، وكان الفرس لا يخرجون من حصونهم إلا إذا أرادوا ورأوا في الخروج مغنما لهم، ذلك أنهم أحاطوا أسوارهم بحسك الحديد، ولم يتركوا إلا فرجا يخرجون منها كلما عزموا الخروج، فلم تكن خيول المسلمين لتقوى على اجتياز هذا الحسك، وقد اشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول وأن تسوء عاقبته، فاجتمع أهل الرأي منهم فذهبوا إلى النعمان فأفضوا إليه بمخاوفهم، وكان النعمان يروي في الذي رووا فيه، فلما سمع منهم قال لهم: على رسلكم لا تبرحوا، وبعث إلى أهل الرأي والنجدات في الحروب، فلما توافوا إليه قال لهم: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق من هذا الموقف، فما الرأي الذي نستخرجهم به إلى المنابذة وترك التطويل؟ وتكلم القوم، فأشار بعض بتضييق الحصار، فالتحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، وقال عمرو بن معدي كرب: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم، فرد الحاضرون جميعا رأيه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا، وتكلم طليحة بن خويلد فقال: «... وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية

1

فيحدقوا بهم ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم،

2

فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج، أرزوا

3

إلينا استطرادا،

4

فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قابلناهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم حتى يقضي الله فينا وفيهم ما أحب.»

استراح الحاضرون جميعا إلى هذا الرأي واستجادوه، فأمر النعمان القعقاع بن عمرو أن يذهب صبح الغد فيهاجم المدينة بالقوة التي في إمرته، فإذا برز الفرس له أظهر الفرار بين أيديهم، وتقدم القعقاع في الجند فرمى المدينة بالنبل، وأظهر العزم على اقتحام الأسوار، وأبدى من ضروب البأس ما جعل الفرس ينهدون إليه في حذر يصدون هجومه، وأعجل المسلمون كل من برز إليهم فأثاروا حماسة عدوهم، فخرجوا إليهم فرأوهم قلة يمكن التغلب عليها، فاجتازوا الأسوار والحسك إليهم يقاتلونهم وثبت لهم القعقاع زمنا حتى لا تنكشف حيلته، ثم ولى بجنده مدبرا أمامهم، فلما رأوا فراره خرجوا في أثره يريدون القضاء عليه، وكان النعمان قد أمر جنده بالتقهقر إلى ما وراء مرمى النبل من حصون المدينة وأسوارها، فتراجعت القوات في بكرة الصبح إلى حيث استطاع أكثرها الاختفاء عن أعين العدو بمرتفع توارت وراءه، وتابع القعقاع فراره، وتابع الفرس مطاردته، ملتزمين أول الأمر من الحذر ما جعلهم ينقلون أمامهم حسك الحديد يحتمون به من كرة العدو إذا حاول الرجعة لمهاجمتهم، وكان القعقاع قد أيقن ابتعاد جند المسلمين في تراجعهم فأمعن في الفرار، وأمعن الفرس في تعقبه وقد ثبت عندهم أن هزيمة المسلمين تمت فلا حاجة للحذر منهم والاحتياط لهم، وتركوا حسك الحديد وراءهم وأسرعوا يطلبون هؤلاء الفارين ليستأصلوا شأفتهم، واندفع الجيش كله والفيرزان على رأسه يريد أن يطهر أرض فارس من هؤلاء الغزاة الأجلاف، فخلت نهاوند من حماتها ولم يبق بها إلا حراس أبوابها، فلما بعدوا عن المدينة ولم يبق لهم مطمع في حماية حصونها وأسوارها ريعوا، فقد رأوا المسلمين يقفون، ورأوا القعقاع ومن معه كأنما يريدون أن يثبتوا لهم، لكن روعهم لم يلبث أن سكن، وحسبوها مكيدة أراد القعقاع بها أن يحمي ظهر الجيش المتقهقر في هزيمته، حتى لا يفنيه الفرس ويقضوا بذلك على سلطان المسلمين القضاء الأخير.

Unknown page