فأعادت جلسة الوقار وقالت: حدثنا أبو زهير بن حمدان، عن الناشئ الأصغر، عن أبي فراس أنه قال:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبدا
كأن كل سرور حاضر فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا
حتى الصباح تسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها
أهدت سلافتها خمرا إلى فيها
ثم قالت وهي تبتسم: أحقيقة كانت هذه الليلة أم خيالا؟ - كانت خيال شاعر يا سيدتي، والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تري أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ - هذه حيلة يا سيدي يلجأ إليها كل شاعر. - إنني يا سيدتي لم أجد في ماضي أيامي من تصلح لأن تكون شريكة حياتي، وما زلت عصفورا حائرا يسبح في الجو باحثا عن إلف.
وفي هذه اللحظة صاحت سلمى الماكرة صيحة ارتجت لها أرجاء الحجرة، وأخذت تشكو آلام ساقها في تصنع متقن، وأنات تتقطع لها نياط القلوب. ففزعت نجلاء، وأخذ أبو فراس يهدئ من نفس العجوز في حنان ورفق، ويدعوها إلى الصبر والجلد، وهي تتململ وتكتم أنفاسها بواسدتها، ولم تسكن إلا بعد أن كادت تنفد الحيل في إعادتها إلى الهدوء، وعند ذلك هم أبو فراس بالانصراف بعد أن ودع نجلاء وحيا العجوز.
وتوالت زيارات أبي فراس، وتوالت المقابلات، وزال شيء من الكلفة بين الصديقين. وبينما كان في ذات يوم يزور سلمى إذ قابلته نجلاء مستبشرة وهي تقول: لقد أوشكت سلمى أن تشفى، فأطرق في خجل وقال: ليتني أشفى كما شفيت! فذعرت نجلاء وقالت في صوت رقيق: أأنت مريض حقا يا سيدي؟ - نعم مريض يا فتاتي، ولكن مرضي لا يعرفه الأطباء، إنه المرض الذي أصيب به قبلي قيس بن الملوح وجميل بن معمر.
Unknown page