الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
فارس بني حمدان
فارس بني حمدان
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
- بالله عليك لا تطيلي يا ليلى فإن مما يثير شجون النفس، ويزيد في ألم الحزين، أن يدفع إلى العزاء والصبر بكلمات خاوية متخاذلة حفظها الناس لينثروها في كل مأتم. إن كل كلمة من هذه يا ليلى شعلة تؤجج وجدي، وتضطرم في فؤادي، إن الحزن حرم قدسي يجب أن تخشع أمامه الرءوس بالصمت والإطراق. - ولكنك يا سيدتي «سخينة» تكادين تقتلين نفسك حرضا،
1
وتعصفين بهما هما، فقد مرت أيام سبعة منذ دهمنا الخبر المشئوم لم يرقأ لك فيها دمع، ولم تهدأ نفس، ولم يطمئن بك فراش. إن لنا في الله ثقة يا سيدتي. وماذا نصنع وقد مزج الله بالحياة معنى الموت، وبالموت معنى الحياة؟ نحن يا سيدتي في زمن مضطرب لا يركد عجاجه،
2
ولا تسكن سيوفه في أغمادها، بعد أن انحلت أواصر بني العباس، وأصبحت دولتهم أشلاء
3
ممزقة، يفترسها كل مفترس، ويغير عليها كل واثب. ففي كل أرض حرب مشتعلة الأوار،
4
وفي كل دار أنين وبكاء، ولن نملك - نحن النساء - إلا أن نردد قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي
على قتلاهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
5 - وهذا أعجب ما قيل في العزاء، إن الحزين الذي يتسلى عن مصائبه بمصائب غيره لمأفون
6
الرأي سقيم العاطفة. والنفس التي تهدأ للكوارث تحل بسواها، وتستريح في نكبتها لأصوات النادبات وعويل الباكيات ثم تنسى النار التي تلتهم دارها؛ لأن لهيبها اندلع في كل دار، لنفس شريرة حقود ... - ليس الأمر كما تظنين يا سيدتي، وإنما هي طبيعة بني الإنسان تعبر عنها الشاعرة، فالحزين يتأسى بالحزين، والغريب يسعده الغريب، وقد طبعت النفس على أن تستهين بمصابها عند نزول المصائب العظام والفوادح الجسام، وقد يقيس المرء مصيبته بمصيبة غيرها فيحمد الله على السراء والضراء. - هذا كلام بعيد عن الإقناع يا ليلى؛ لأنني أبكي زوجا كان قليل الأنداد
7
في الأحياء، فأصبح قليل الأنداد في الأموات، فليس إلى التعزي فيه من سبيل. فعلى أبي العلاء فليجزع الصبر، وعلى سعيد فلتبك البواكي. ثم أطرقت إطراقة طويلة، وأخذت تهز رأسها في وجوم.
كانت سخينة في نحو الخامسة والثلاثين، صبيحة الوجه، جميلة الطلعة، فارعة الطول، ممتلئة الجسم. امتزج في تكوينها الدم العربي بالسلالة الرومية، فجاءت صورة بارعة للملاحة العربية، والجمال الإغريقي معا. وكانت تجلس في ذلك اليوم، وهو الحادي والعشرون من رجب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، في إحدى حجرات قصرها الذي امتاز بين قصور منبج (إحدى مدن الشام) بضخامة بنيانه، وارتفاع شرفاته، وروعة زخارفه. وكان يقوم فوق أكمة بالشمال الغربي من المدينة، بالقرب من «عين المرج» بين الخمائل الزهر،
8
والحدائق الفيح،
9
يحيط بكل ذلك سور ضخم سامق بني بالحجر الصلد، وربض في كل ركن من أركانه حصن منيع الذرا، يكاد يجبه
10
الدهر، ويتحدى نوازل الأيام. أما القصر فكان آية من آيات الفن الإغريقي في اتساع حجراته وأبهائه، وعظم أعمدته التي نحتت من الرخام الأبيض الناصع اللماع، وفخامة أثاثه، وجمال سقوفه وما زينت به من النقوش والصور، التي تعاون المال والفن الرفيع على أن تكون شركا للعيون، وفتنة للعقول، وكان القصر يموج بمن به من الجواري، يذهبن في أنحائه هنا وهناك، وقد غشت وجوههن سحابة من الحزن الصامت المكبوت.
11
كان هذا القصر لأبي العلاء سعيد الحمداني عظيم أسرة بني حمدان وشاعرها وفارسها المعلم، الذي هابته القبائل النازلة بالشام والموصل، واستجدت عونه الدولة العباسية وهي تترنح
12
للسقوط، واتخذت من شجاعته درعا تقيها صولات الطامحين.
رفعت سخينة رأسها بعد طول الإطراق، ونظرت في وجه وصيفتها ليلى نظرة الذاهل المأخوذ وقالت: إن ابني حسينا يصل من الموصل اليوم، فلعلنا نقف منه على جلية الأمر في مقتل أبيه. - إنه لن يعوق يا سيدتي ؛ لأنه أرق قلبا من أن يتركنا طويلا بين حرقة الحزن ومرارة الانتظار.
ثم أخذتا في الحديث في مآثر سعيد وجوده وشجاعته، وذكرت ليلى مواقعه اللامعة ونصره المؤزر
13
الحاسم على بني كلاب وبني النضير، وما كانت إلا ساعة حتى سمعت جلبة وضوضاء، ثم فتحت أبواب القصر، ودخل الحسين بن سعيد، يمتطي جوادا أشهب،
14
كاد يضنيه طول السفر وبعد الشقة
15
لولا كرم عربي فيه أنف أن ينال منه التعب أو يمسه اللغوب.
16
وكان الحسين شابا فارها
17
طويل نجاد السيف، وسيم الوجه، قوي البناء، لم يجاوز العشرين، فوثب من فرسه ناشطا إلى القصر، وأسرع إلى أمه يقبل يديها ورأسها في حنان امتزج فيه البر بالحب، والشغف بالإشفاق، وكان حزين النفس مثقل الكاهل بالهموم، ولكنه حينما رأى وجه أمه، ولمح ما ارتسم فيه من سطور الحزن الأليم، والهلع القاتل، أسرع فبسط قليلا من أسارير وجهه، ومحا من عينيه دمعتين تحيرتا فيهما بين الانهمال والجمود، ثم جلس إلى جانبها، أخذ يدللها - كما يدلل الطفل الجازع - بعبارات أرق من الدموع. وانطلق يقول في صوت صادق النبرات لم يذهب الحزن برنينه، ولم تهزه عواصف الشجون: لقد كان السفر شاقا يا أماه، وكانت الطرق وعرة طويلة على الرغم من أننا كنا نطوي المراحل كما يطوي البرق معصرات الغمام.
18
وقد وثب علينا في الطريق جماعة من بني تميم أطمعتهم فينا قلة العدد وكثرة الغنيمة، فما كان إلا أن جردت سيفي ودعوت أصحابي إلى الوثوب، حتى فروا كما يفر الأمن من قلوب الجبناء. - أنت يا ولدي ابن أبيك حقا، ولكن هذه الشجاعة يا حسين هي التي أيتمت أبناء بني حمدان، وأيمت
19
نساءهم، انظر اليوم ماذا سيكون من شأن أخيك الحارث أبي فراس، وقد تركه أبوه في غضارة
20
الطفولة، يتعثر في سنواته السبع. - إن اليتم في سبيل الشرف عزة وكرامة. إن أبطال بني حمدان يموتون ليحيا أبناؤهم، وإن ذلك المجد الباذخ، وتلك الصولة العاتية التي ملأت العراق والشام رعبا، لم تكن إلا صدى لقبور الشهداء من بني حمدان، الذين سقطوا في الميدان بعد أن تحطمت سيوفهم في سبيل الشرف والبطولة. إنني يا أماه سأحيا بأبي، وسيحيا في أبي، ولن يقول الناس إن ابن سعيد مات أبوه فبخعه
21
الحزن، وجلس في إحدى زوايا قصره يبكي كما تبكي الإماء،
22
لا، لا، إن مجد بني حمدان باق على الدهر، وهو سر قدسي يحفظه الأجداد للآباء ويصونه الآباء للأبناء. أما أبو فراس ... ثم أطراق قليلا ورفع رأسه، قال: فلن أعلم ولن تعلمي ما سيكون من أمر هذا الطفل اليتيم. ولكني لا أستطيع أن أشك في صدق ظنوني فيه. وإذا دل الفرند
23
على كرم السيف، ونم الغصن على طيب منبته، فإن مخايل أبي فراس تنبئني بأنه سيكون بطلا، وأنه سيترك في الدنيا دويا. إن هذا الطفل أعجوبة الأعاجيب! إنه وهو في السابعة يبهرك برأي أصيل، وعزم صليب، وقلب لم يعرف الرعب، ولم ينل منه الفزع، إنك ترين في عينيه نبل محتده،
24
وقوة نفسه، وكرم خيمه.
25
وإن في ابتسامته الهادئة المشرقة أشعة من الآمال الجسام، التي تسخر من الدهر، وتطمح إلى عظائم الأمور. هذا الطفل الصغير يا أمي عصارة المجد الحمداني، وملتقى عناصر قوته.
فسالت الدموع من عيني سخينة وقالت: صدقت يا حسين، لقد رأيته أمس من نافذة حجرتي، وهو يقود جيشا من أترابه
26
أبناء حراس الحصون، وقد حمل بيمينه غصنا كان يسميه الصارم البتار، وثب به في خفة النمر على من زعمهم أعداءه، فبدد شملهم جميعا، ثم صعد إلي في صلف الشجاع المنتصر يحدثني بأخبار الموقعة، وما ظفر به من أسرى وغنائم، ولكنه أجج نار أشجاني حينما سألني عن أبيه، فلما قلت له: إنه ذهب إلى بغداد ليحارب أعداء الخليفة، أمال رأسه في شمم واعتداد وقال: لم لم يأخذني معه؟ إنني أحب الحرب وأهوى النضال، وإن هذه الحرب الصورية بين هؤلاء الصبية لا تشفي من نفسي غليلا، وحينما أبصر دمعتين تطفران من عيني قال: أنت لا تحبين الحرب؛ لأنك لم تتذوقي نشوة الانتصار! فأسرعت وقلت: إن الناس سيموتون في الحرب يا بني، فأخذه الضحك طويلا ثم قال: الموت خير من حياة كحياة جاريتي هيلانة التي دخلت حجرتها نحلة بالأمس فطارت نفسها هلعا، وملأت جوانب القصر صياحا وضجيجا. - إنه كما قلت لك أعجوبة الأعاجيب، وصورة صادقة من أبيه، وإن أما تسعد بمثله، وتترقب ما ينتظره من مراتب العظمة وبعد المنزلة، جديرة بألا يجد الحزن إلى قلبها سبيلا، إن أبي لم يمت يا أمي، وإنما تجدد شبابه في وفي أخي أبي فراس. ثم طفق ينشد من قصيدة بشامة النهشلي:
إنا - بني نهشل - لا ندعي لأب
عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا
27
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة
تلق السوابق منا والمصلينا
28
وليس يهلك منا سيد أبدا
إلا افتلينا غلاما ناشئا فينا
إنا لمن معشر أفنى أوائلهم
قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟
29
إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم
حد الظبات، وصلناها بأيدينا
30
لقد مات أبي ميتة الكريم الشجاع، كان يجود بنفسه وسيفه في يمينه يضرب به ذات اليمين وذات الشمال. - قل لي كيف مات بحقك؟
فزفر زفرة طويلة، وأطرق إطراقة المفكر الحائر كأنه يريد أن يجمع شوارد نفسه، أو أن يتخلص من الظنون التي كانت تغاديه وتراوحه منذ شهد المعركة، وقال: تعرفين يا أماه ما كان بين أبي والخليفة الراضي العباسي من أواصر المودة، وتعلمين خبر تلك الرسالة التي أرسلها إليه الخليفة منذ ستة أشهر، يستدعيه إليه، ويتعجل رحيله، ويشير فيها في خفاء وإبهام إلى أنه في حاجة إلى عونه، والاستظهار به
31
على أعدائه من الترك والعرب، وقد كان أبي إلى إجابة الخليفة أسرع من رجع الصدى كما تعلمين، فرحلنا إلى بغداد في قلة من عبيدنا ورجالنا، فلما وصلنا إلى دار الخلافة لقي أبي من الخليفة من صنوف الإكرام، وحسن الوفادة، وتقريب المنزلة، ما ملأ قلوب الحاشية حقدا وضغنا، وفي ذات ليلة همس أبي في أذني بأن الخليفة ولاه إمارة الموصل وطلب منه السفر إليها بعد يومين. - يوليه إمارة الموصل وهي في يد ابن أخيه ناصر الدولة! هذه مكيدة خسيسة من هذا الخليفة الضعيف الماكر، يريد بها أن يوقع العداوة والبغضاء بين رجال هذه الأسرة الباسلة، التي أقضت مضجعه، وأخذت تبتر أوصال مملكته في العراق والشام، فلم يجد هذا الخبيث من وسيلة إلا أن يغري أبناء العمومة بعضهم ببعض، وأن يحاربهم بسلاحهم، ويطعنهم برماحهم، فإذا انتصر أحدهم على أخيه هلل له وكبر، ونثر فوقه أزهار المديح والثناء، وهو يرى في دخيلة نفسه أنه قد استراح من فريق عظيم منهم، وأن الفرصة ستواتيه للقضاء على الفريق الآخر. هكذا أصبح دأب هؤلاء الخلفاء منذ دالت دولتهم،
32
وأصبحت نهبا مقسما بين الأمم، فإنهم حين فقدوا سلاح القوة، برعوا في الكيد والحيلة. والضعيف دائما يستعير لنفسه قوة من نصب الأشراك، ودس الحبائل. - هذا ما استطعت أن أبوح ببعضه لأبي؛ لأنك تعرفين ما كان له من الهيبة وعنف الشكيمة
33
التي تعقل اللسان دون مخالفته، فما كان منه إلا أن قال في استنكار وغضب: ماذا تريد يا فتى؟ أتريد أن تقول إن الخليفة لا يملك عزل أمير وتولية أمير؟ أتريد أن تقول إنه أصبح من الضعف والخور بحيث لا تتجاوز أوامره جدران قصره؟ نحن يا بني خدام الخليفة، وعدته في الشدائد، وقد بقيت الخلافة في أبنائها إلى اليوم بأسنة بني حمدان وسيوفهم. إن ابن أخي ناصر الدولة لا يملك إلا أن يطأطئ رأسه لحكم الخليفة. - فهل طأطأ رأسه حقا؟ - لا أدري. وقد ساورتني في هذا الشأن شكوك مبرحة اضطرب لها ميزان عقلي، وكادت تقضي علي.
فتنهدت سخينة ولمع في عينيها لهيب الغضب وقالت: امض في حديثك يا بني. - أتظنين أن لابن عمي يدا في مقتل أبي؟ - امض في حديثك يا حسين، قاتل الله المناصب، وقاتل الله الجشع، وقاتل الله الحرص الذي أذل أعناق الرجال؛ إن إدراك المسألة سهل هين، ما كان ينبغي أن يخفى على أبيك. ذلك أن الراضي جشع ماكر، وقد حرمه ناصر الدولة خيرات الموصل وذخائره واستأثر بها دونه، ولم يبعث إليه منها شيئا. وكانت جبايتها أيام المأمون آلاف الآلاف من الذهب والفضة، فأراد الخليفة أن يجعل من أبيك شبكة لاصطياد هذه الأموال على أن يلهيه بقليل منها، وأحس ناصر الدولة بأن الغنيمة ستطير من يديه، فثارت نفسه، وصمم على الاحتفاظ بها ولو قتل في سبيل ذلك أعز الناس لديه. وأكبر ظني أن عيونه وجواسيسه بدار الخلافة طيروا إليه الخبر فأخذ له الأهبة، وأعد له العدة. امض في حديثك يا حسين. - غادرنا بغداد في خمسين رجلا ... - في خمسين رجلا؟ يا له من جيش لهام!
34 - نحن لم نذهب لحرب، ولم نتحفز لقتال، ولكنا ما كدنا نصل إلى مشارف الموصل حتى خرج علينا كمين في غبش الظلام عدته نحو خمسمائة فارس، فأحاط برجالنا من كل جانب، وجال أبي بفرسه ليخترق ثغرة في صفوفهم، ولكنهم تواثبوا عليه وخزا بالرماح، وضربا بالسيوف، وهو ينثر رءوسهم بسيفه كما ينثر الزراع الحب، ويكر هنا وهاهنا كما يكر النمر اليائس حتى تمزقت درعه، وصبغتها الدماء. وقد عمدت إلى قائد عصابتهم فرميته بسهم فسقط تحت سنابك الخيل، وأسرعت إلى أبي وقد أثقلته جراحه فحملته إلى المؤخرة، ولم تمض لحظات حتى لحق بآبائه الشهداء.
فبكت سخينة طويلا ثم رفعت رأسها وقالت: وبعد موته رحل هذا الجيش المغير، ولم يستأصل بقيتكم؟ - نعم. - وهل بعد هذا تبقى عندك خلجة
35
شك في أن المكيدة أعدت لأبيك، وأن الذي أعدها هو الذي يخشى من مزاحمة أبيك؟ - إن لأبي أعداء كثيرين يا أمي، وإن شجاعته لم تترك قبيلة إلا ولها عنده ثئور. - ظن كما تشاء يا حسين، أين دفنتموه؟ - دفناه فوق هضبة شرقي مدينة الموصل تحت شجرة زيتون.
وبينما هما في الحديث إذا صياح وجلبة في بهو الدار، وخادمة أبي فراس «هيلانة» تهرول وهي تلهث وتتمتم بكلمات ارتطمت فيها العربية بالرومية، وأبو فراس يعدو أمامها راكبا رمحا انتزعه من حائط كان معلقا به، واتخذ منه جوادا كريما حتى دخل الحجرة التي بها أمه وأخوه، وهو يصيح: هذه الجارية البلهاء تستنكر على مثلي أن يمتطي جوادا، لقد كان أبي يحب هذه اللعبة ويعدني بحصان حينما أبلغ التاسعة، أين أبي يا حسين؟ - أبوك في مكان عال تتلاقى فيه الرياح، وتجوده أخلاف
36
الغمام . - ولم لم يعد معك؟ - إنه لو استطاع أن يعود لعاد، ولكن الحرب أبت إلا أن تقتضيه دين الشرف والبطولة. - وما دين الشرف والبطولة؟ - الموت! فهز الطفل رأسه وهو يغمغم: الموت، الموت! الموت دين الشرف والبطولة! ثم حملق في وجه أخيه وقال: والثأر أيضا يا حسين دين الشرف والبطولة؛ إنه ماحي العار، ومخمد النار؛ ثم انطلق يعدو بجواده في أنحاء القصر ولم تدمع له عين، ولم يبح صدره بزفرة أنين.
الفصل الثاني
تابع الفلك دورته، وتعاقبت سنواته، والأمير الصغير في كل يوم تتفتح مواهبه، وتتجلى مخايله، كالزهرة تحس بأنفاس الربيع فتتخايل فوق غصنها، وكالنجم يمتد به الليل فيزيد تألقا وسطوعا. وليس من شك في أن الطفل صورة من الوراثة والبيئة، فإذا اجتمع في ناشئ كرم المنبت، وسلامة الطبع، وصحة الجسم، وحسن الإشراف، كان مثلا عاليا للإنسانية الكاملة. وأميرنا أبو فراس قد فاز بكل هؤلاء؛ فكان جديرا أن تعقد به الآمال، وأن تترقبه الرياسة، وتتهيأ له صدور المحافل.
نشأ في كنف أخيه الحسين، وفي رعاية أم رءوم
1
تظله بجناحها، وتغذوه بحنانها. وكان الحسين يثير في نفسه الاعتزاز بقومه وبتاريخه المجيد، ويحفزه إلى العظمة والسيطرة والبطولة. ولم تقصر حاضنته عائشة النزارية في الرمي نحو هذه الغاية، فإنها رأت جذوة في نفسه فطفقت تنفخ فيها حتى تركتها شعلة متأججة، تقذف بالشرر. وكثيرا ما كانت تجلس إلى جانب سريره عندما يأوي إلى فراشه، وتقص عليه سير أجداده، ومآثر آبائه، بأسلوب يهز العاطفة، ويثير الوجدان. فهي إذا تحدثت عن حمدان جد هذه الأسرة، أخذت تجلو من أخبار شجاعته ومروءته صورا امتزجت فيها الحقيقة بالخيال، وتذكر كيف أنه أبى أن يخضع للمعتضد العباسي، وأن يلقي إليه بالقياد، فاقتطع من أملاك الدولة العباسية إمارة «ماردين» ونادى بنفسه عليها ملكا مستبدا، ولم يبال ما كان للمعتضد في ذلك الحين من دولة وصولة. ثم تصف ما كان بعد ذلك من غضب المعتضد وحنقه على هذا العربي الثائر، وكيف أنه بعث إليه بجيش جرار، ولكن هذا الجيش ما كاد يلتقي برجال حمدان حتى مني بالهزيمة والخذلان، وعاد الخليفة بفلوله
2
مدحورا، ونار الغضب تأكل صدره، فلم تهدأ له ثائرة حتى رماه بجيش آخر لا يعرف أوله أين آخره، لكن حمدان كان إلى شجاعته وتحديه الموت ذكيا واسع الحيلة، يقدم - كما يقول عنترة - إذا كان الإقدام عزما، ويحجم إذا كان الإحجام حزما، فلما رأى أنه في قلة من رجاله، وأن من المناجزة
3
إلقاء بيده إلى التهلكة، اتخذ الليل مركبا، وسرى في ستار من ظلماته كما يسري طيف الخيال، لا تناله الأكف، ولا تبصره العيون، وتراجع تراجع الليث ليثب، وطلبه الخليفة في كل مكان، وبث وراءه العيون، وأخذ عليه الطرق والمناهل،
4
ولكنه كان شعاعا لا تمسكه يد قابض، وسرا لا تدركه العقول. وكان أهون على الخليفة أن يصيد العنقاء، أو يقتنص نجوم السماء، من أن يحاول أن يمسه بضرر، أو يقف له على أثر. اختفى حمدان، ولكن ذكاءه ونفاذ بصيرته لم يختفيا، فأوعز إلى ابنه الحسين أن يصانع الخليفة حتى ينال بالحيلة ما رأت القوة أن تتركه إلى حين، وقد كان رأيه صوابا، فنال الحسين الحظوة عند المعتضد فأغضى عن ثورة حمدان، وأعاد إلى قومه ما كان لهم من نفوذ وسلطان.
تقص هذا القصص وأمثاله، والطفل ذاهل مأخوذ حينا، وواثب من سريره أحيانا، وكلما حاولت الانتهاء طلب إليها المزيد. وكأنه كان يستمد من أرواح أسلافه قوة، ويستلهم من سيرتهم عزيمة، ويتخذ من تاريخهم غذاء لكبريائه.
وفي ليلة ألح عليها أن تحدثه عن أبيه، فنظرت إليه وأطالت النظر، وقالت: أما أبوك فكان سيد بني حمدان وأصدقهم رأيا، وأثبتهم قلبا، وأطهرهم نفسا. ولقد كان إذا ركب بين الفرسان فرعهم طولا، وبزهم جرأة وإقداما، وكان إذا عد الأجواد أبسطهم كفا، وأرحبهم فناء، وأسبقهم نازعة إلى المعروف. أذكر ليلة حينما قدم من حلب من قتال بني تميم ... - ومن بنو تميم هؤلاء؟ - قبيلة قوية الشكيمة، صعبة منال الزمام، لا تلين أعناقها لحاكم، تحدت جيوش الخليفة المقتدر بالله العباسي، فعاثت في أعمال حلب، فاستنجد الخليفة بأبيك وأخيه الحسين، فبرزا إليها في جيش خضم،
5
ونشب بين الفريقين قتال مر المذاق. وحين قدم أبوك من هذه الحرب، ذهب على الفور إلى حجرة أمك حزينا مهموما، فظننا أول الأمر أن الهزيمة لحقت بجيشه. وأخذت أمك بما وهب الله لها من لباقة ومعرفة بفنون الكلام، ترفه عنه، وتلوح من بعيد بأن هزيمة الشجعان خير من انتصار الجبناء، وأن النصر كالمرأة الفروك
6
تجفو الرجل أحيانا ليتشبث بها، ويزيد بها حبا وجنونا. فالتفت إليها أبوك وغبرة الحزن لم تفارق وجهه وقال: ماذا تقولين يا سخينة؟! لقد انتصرنا على بني تميم وطاردناهم إلى مضاربهم. وهنا قفز الطفل من سريره صائحا: حياك الله يا أبي، وسقيا لجدثك الطاهر، لقد خفت يا عائشة أن يكون قد هزم أو أن يكون ...
ففهمت عائشة ما تلجلج في صدره، وقالت في غضب: إن أباك لا يعرف الفرار، ولو عرفه لكان بيننا الآن يملأ جوانب القصر حياة وقوة، ويشيع فيه البهجة والسرور. إنه لم يفر في آخرة مواقعة أمام خمسمائة فارس من العتاة الأشداء، فقاتلهم حتى ضاق مجال فرسه، وحتى تحطم حسامه، فمات كريما شهيدا. ثم عادت إلى حديثها الأول فقالت: وحينما علمت أمك بانتصاره قهقهت في سخرية مصنوعة، وقالت: وماذا إذا يحزن فارسنا المغوار، ويشوه من وجهه الوسيم، بعد أن شتت الجموع، وعاد بالأسلاب والغنائم؟ فاتجه إليها الأمير سعيد وقال: الذي يحزنني أنني بعد أن ركد غبار المعركة، سألت عن تمام القضاعي وقد كنت شهدته يجول في ميدان القتال ويصول، ويقذف بنفسه بين الكتائب كأنه أخذ على الموت عهدا، فعلمت أنه قتل، فحزنت أشد الحزن وأمضه. ولم أحزن لأن رجلا قتل، فإن في موت الشجاع في الحومة
7
شرفا لا يدرك معناه الجبان، ولكني أعلم أن له زوجا وأما عجوزا وبنيات أضعف من الثمام،
8
وأوهن من أضغاث الأحلام، كبراهن في نحو الخامسة عشرة. لذلك أسرعت عند بلوغي «منبج» إلى داره. وحينما قابلت أمه أخذت في مواساتها فلم تزد على أن تقول: إن ابني اشترى الجنة بحياته ففاز بالثمن الربيح. ولما حاولت أن أقذف بين يديها كيسا به مائتا دينار، شخصت عيناها واربد وجهها في غضب، وصاحت في وجهي قائلة: رحماك بنا أيها الأمير! إننا لا نبيع رجالنا بالمال، وخير لنا أن نموت جوعا من أن نجمع بين موت تمام ومعرة الأبد! خذ مالك أيها الأمير، فإن فتات الخبز في ظل العزة والكرامة خير من موائد الملوك، فبهرت وأطرقت حزينا، وخرجت من الدار حائرا مبهوتا. ثم اتجه إلى أمك وقال: ألا نستطيع أن نعمل شيئا لهذه الأسرة يا سخينة؟ إن لك طرائق في التفكير ورثتها عن أجدادك الروم لم تدع أمامك بابا من الرأي مغلقا. فأسرعت أمك وقالت: هون عليك أبا العلاء، فإن الأمر جد يسير، إننا نستطيع أن نزوج كبرى بناته بأحد حراس القصر، وأن نمهرها بمائتي دينار، ولن تجد العجوز غضاضة في الأمر ولا حرجا، بل تسر؛ لأن الأمير شرفها بالإصهار إلى أحد حراسه، حينئذ تلألأ وجه أبيك بشرا وصاح: مرحى بابنة أفلاطون مرحى! لقد علمت أنك لا يعوزك الرأي الأصيل، والحيلة البارعة. - وهل تم هذا الزواج؟ - تم بعد شهر من قدوم أبيك، وتزوج عمار الحارس بصبيحة القضاعية، وأصغر أبنائها اليوم هو أسامة خادمك، الذي تلعب معه في حدائق القصر.
هكذا كان يغذى الطفل بأحاديث البطولة، وهكذا كانت تثار حميته إلى ترسم خطوات آبائه العظام. وقد وجدت هذه الأحاديث من نفس الطفل أرضا خصبة ومنبتا طيبا فزادها خياله ضخامة وعظما، وكانت شغل نهاره ومسرح أحلامه، فطالما استبطأ الزمن الذي حال دونه أن يجرد سيفا أو يشهد في قتام
9
الخيل واشتباك الرماح مشهدا.
ولما بلغ الرابعة عشرة وأجاد القراءة والكتابة، قسمت أمه وقته بين مجلسين: مجلس بين الأدباء والشعراء وعلماء الدين واللغة والتاريخ، ومجلس فوق صهوات الخيل وبين خيرة المدربين على الفروسية وأساليب الضرب والطعان. وكان من أبرز الشعراء المنقطعين لتعليمه أبو الحسن المعروف بالناشئ الأصغر، فقد أملى عليه شعره، وقرأ معه دواوين القدماء والمحدثين، وأخذ يوجهه إلى طرائق النقد، ويبصره مواطن السحر والجمال في جيد المنثور والمنظوم، وكان أبو فراس يؤثر شعر عنترة في الجاهليين، وشعر الفرزدق والكميت في الأمويين، ويروح عن نفسه بشعر كبار الشعراء العباسيين كبشار وأبي نواس والحسين بن الضحاك.
والحق أن نفسه كانت مختلفة النزعة، فبينما هي جد وصرامة وتوثب إلى معالي الأمور، إذا هي حنانة إلى اللهو العنيف، تواقة إلى التمتع بنعيم الحياة واجتلاء أسرار الجمال. والجمال مظهر من مظاهر هذا الكون تدركه النفس الشفافة وتهفو إليه، وترى فيه متعة وغذاء، والنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد ولا يجلوها إلا فترات من السرور الذي لا يخدش الفضيلة ولا يمس الكرامة.
كان الناشئ الأصغر يقرأ معه يوما بائية الكميت في مدح بني هاشم، فلما قضيا في درسها طويلا التفت إليه وقال: أقلت شيئا من الشعر جديدا؟ - لقد جال بالأمس في نفسي شعر أحسست به كأنه همسة الوحي فأسرعت إلى القلم لكتابته. فنشط الناشئ وقال: هات أبا الفراس. فأنشد:
تطالبني البيض الصوارم والقنا
بما وعدت جدي في المخايل
10
فمثلي من نال المعالي بسيفه
وربتما غالته عنها الغوائل
وما كل طلاب من الناس بالغ
ولا كل سيار إلى المجد واصل
فصاح الشيخ وقال: إيه يا بن حمدان! هذا هو الشعر الذي عجزت عنه شياطين الشعراء! زدني بالله يا بن سعيد زدني فقال:
خيلي وإن قلت كثير نقعها
بين الصوارم والقنا الرعاف
11
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي
مأوى الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف دهري عدة
حتى كأن خطوبها أحلافي
شيم عرفت بها غلاما يافعا
ولقد عرفت بمثلها أسلافي
فطرب الناشئ وقال: حقا إن منبج لم تنجب بعد أبي عبادة البحتري مثلك. اصدح يا بني كما تشاء وغرد، وعلم طيور الشام تلك الألحان القوية المملوءة بذكريات المجد والبطولة، فإن الناس حيث شعراؤهم، فلقد سئمنا تلك الأشعار الرخوة الخائرة، التي قتلت في نفوس العرب النخوة والشهامة، وصدفتهم عن التطلع إلى المجد والغلب، فعاشوا في بلهنية
12
النعيم، واستناموا إلى الراحة بين ظل الأشجار، وخرير الأنهار، وبين قينة
13
وكأس، وعبث ومجون. وهذا العبث إلى ما مني به العرب مع الاعتماد على الغرباء، وإلقاء شئون الدولة إليهم ، هو الذي قضى على الدولة العباسية، وأتى على بنيانها من القواعد، بعد أن ملكت أطراف الأرض، وتحدت الدنيا بالعلم وقوة السلطان أيام الرشيد والمأمون. لقد رمحتنا
14
الدنيا بعد أن كنا نقتعد منها صهوة العز والصولة. هذا خليفتنا العباسي الذي بايعه الديلم بعد أن خلعوا أخاه وسملوا
15
عينيه، يجلس اليوم على عرشه كما يجلس القرد الخائف المذعور تذهب عيناه يمينا وشمالا حيث اتجهت عصا صاحبه، وقد علمت أن هذا البائس المنكود أمر أن تنقش على النقود أسماء ثلاثة من أمراء الديلم بعد أن أصبح بينهم لعبة تشدها ثلاثة خيوط!
وإذا اتجهنا إلى ناحية الروم، رأينا أنهم لم ينسوا ثأرهم عند العرب الذين ثلوا عروشهم، وبددوا ملكهم، فأخذوا في مدى هذه القرون يعدون العدة، وينفثون في رجالهم روح الحقد على المسلمين، ويلوحون لهم بأمل براق، ويمنونهم الأماني، ويصورون لهم ذلك اليوم الموعود الذي تعود فيه مملكة الروم التي اغتصبها المسلمون إلى حوزتهم. وهاهم أولاء اليوم رابضون بالقرب من طرسوس يتحينون الفرصة للوثوب، ويغتبطون بما أصاب دولة الإسلام من تمزق، وبما شجر بين أمرائها من حقد وعداء وانقسام.
وهنا قال أبو فراس في صوت تكاد تخنقه العبرة: إن الأمم تموت حينما تنسى أخلاقها، وتغفل عن تاريخها. ولن تعود دولة العرب إلا إذا عاد أهلها إلى أخلاق العرب!
بهذا وأمثاله كان ينشأ أبو فراس في دراسة الأدب والتاريخ. وقد دفعته هذه الدروس إلى الاستزادة والتوسع والانصباب على العلم حيثما وجده؛ فكان يخلو بنفسه ساعات في خزانة الكتب بالقصر ينتقل بين كتبها كما تنتقل النحلة من زهرة إلى زهرة لتجني العسل طيبا شهيا.
أما تدريبه على الفروسية وأساليب القتال، فكان يقوم به واصل بن عبد الله أعظم المدربين مهارة، وأبرعهم ضربا بسيف أو طعنا برمح أو إصابة بسهم، ولم يكن يجد في تدريب الفتى الناشئ عنتا أو مشقة، وكأنما كان يعلم السمك أن يسبح في الماء، والطير أن يحلق في السماء، فإن أثر الوراثة في أبي فراس كان عميقا بعيد الغور، فلم يمض شهر حتى حذق فنون الحرب، وركوب الخيل، وأخذ يفاخر أنداده ويصاولهم، ولم يعقد رهان إلا كان فيه المجلي السباق، وكم أغراه التمكن من فنون الفروسية بكثير من التهور والمجازفة، فكان يركض فرسه ويلهبه بالسوط ليثب به فوق مسيل ماء يبلغ عرضه عشر أذرع، دون أن يبتل حافر فرسه، وكان يقيم سدا مرتفعا من جذوع الأشجار، ثم يهمز جواده فيثب فوقه كأنما يطير في الهواء. وقد أفزعت هذه الأفانين واصلا، وخاف عليه مغبتها، فأفضى إلى أمه بمخاوفه، ولكن أمه لم تلبث حين سمعت حديثه أن هزت كتفيها في قلة اكتراث، ونظرت في وجه واصل بعد أن أطبقت عينها اليسرى في غرور وكبرياء، وقالت: ما عليك من هذا يا بن عبد الله. إن بني حمدان يجب أن يعملوا ما لا يستطيع عمله الناس. وإلا فلمن أعدت خطيرات الأمور؟
الفصل الثالث
شغلت الشام وبخاصة في مدينة حلب في هذه الأيام بالحديث عن نجلاء الخالدية، وسرت شهرتها بالجمال البارع من فم إلى فم، وتناقل الناس في إعجاب وإكبار ما ازدانت به من خلق ودين ولطف وأدب وخفة روح وعلو نسب. وكانت نجلاء حقا كما يصفون وفوق الذي يصفون، فقد وهب الله لها وجها واضح الجبين، رائع القسمات،
1
به عينان يتألق فيهما الطهر ويشع منهما النبل وكرم المحتد، ومنحها نفسا أصفى من قطرات الغمام، وأقرب إلى نفوس الملائكة الأطهار. نشأت في بيت علم وأدب ينتمي إلى أسرة رفيعة المجد باذخة الشرف، وقد بلغ في هذا الحين أخوها محمد وسعيد الخالديان منزلة أثيرة عند سيف الدولة بن حمدان أمير حلب، وكانا يشرفان على خزائن الكتب في قصره. فنمت نجلاء في هذا البيت الكريم، وتعهدها أخواها بالتعليم والتهذيب حتى برعت في فنون الأدب، وقالت الشعر الجيد الرصين. وكانت دارها مثابة الأدباء والشعراء والعلماء يغشونها لينعموا بطرائف الأحاديث والأخبار، وروائع الشعر والأدب، ولينالوا من كرم نجلاء وحسن ضيافتها ما يعز على موائد الملوك.
وكثيرا ما أشاد بمديحها الشعراء، وكثيرا ما غنى المغنون بحسنها فرددت آفاق حلب هذا الغناء عذبا مشجيا ، وكثيرا ما كانت نجلاء تسمع هذا الغناء فتبتسم وتهز كتفيها في أنفة وشيء غير قليل من الخجل.
شغل الناس بنجلاء، وتسابق فتيان الأسر الكريمة إليها يستجدون نظرة رضا، ويتمنى كل شاب منهم لو أسعده الحظ بأن يكون لها بعلا، باذلا في سبيل ذلك كل ما في يديه من مجد وشهرة ومال، ولكن هذه الزهرة الناضرة النقية لم تقابل هذه النحل المزدحمة حول رحيقها
2
المختوم إلا بابتسامة الزهر لأشعة الصباح. فقد علمها أدبها ونبل أخلاقها أن تعطف على الناس جميعا في وداعة وصيانة، وأن تسطع عليهم جميعا كما تسطع الشمس، لا يختص بشعاعها قصر أمير، ولا يحرم ضياءها كوخ بائس فقير. فما يكاد يظن شاب أنه فاز منها بلمحة رضا حتى يدعمه اليقين بأن ما كان يظنه قبولا لخطبته لم يكن إلا لطفا في الرد وأدبا في الإباء.
وكان أشد الفتيان حرصا على خطبتها، وتشبثا بالرغبة في تزوجها، قرعويه غلام سيف الدولة وقائد إحدى كتائبه.
كان شابا جميل الطلعة، مديد الطول، تياها شديد الغرور بنفسه والزهو بها، يجمع إلى ذكائه طبيعة النمر في الفتك، وغريزة الثعلب في الدهاء والحيلة. عرض هذا القائد على نجلاء كل شيء ليكون لها زوجا فلم يظفر بشيء، وكثيرا ما مناها الأماني، وهمس في أذنها بما ينتظرها من جاه وثروة وبعد مكانة، ولكن فتاتنا كانت تقابل كل هذا بابتسامة مهذبة لطيفة تمتزج فيها الدهشة بالحياء، وتقول: ما أجمل هذا! حقا إنه بديع، ثم تنطلق إلى حديث آخر في لباقة وأدب حتى إذا طال الكلام انفلتت منه كما ينفلت الطائر قبل أن تعلق به حبالة الصائد.
وهكذا مضت الأيام وقرعويه يزيد إلحاحا، وهي تزيد عنه بعدا وانصرافا.
وكانت فاطمة أخت نجلاء تسكن بمنبج، حيث يقيم زوجها الحسين الجوهري أكبر تجار الجواهر بالمدينة. فقدمت نجلاء من حلب لزيارة أختها مع خادمتها سلمى العراقية، وهي امرأة في الستين من عمرها لئيمة الطبع، لها دهاء وفضلة من ذكاء، صرفتهما في الحيل والخبث واقتناص المنافع. ولم تقصد نجلاء من هذه الزيارة إلا أن تروح عن نفسها قليلا من صخب حلب وازدحامها، وقد راقها ما رأت في منبج من حسن منظر، وطيب هواء، فأطالت مدة إقامتها.
وفي ذلك الحين كانت شجاعة أبي فراس وصباحة وجهه، وكرم خلاله قد سارت مسير المثل في المدينة، ووصلت أخبارها إلى كل بيت، وتطلع كل عظيم إلى أن ينال شرف مصاهرته. أما الأمهات فقد رفعن رءوسهن، ومددن عيونهن، وأرهفن آذانهن لكل ما يصل إليهن من أخبار بطل منبج وفارسها الباسل. وأعدت كل أم ابنتها لهذا الشرف، وأخذت تمهد لها إليه السبيل. والأم حينما تلد بنتا لا تفكر في شيء إلا في زواجها، وحينما تهز مهدها - وهي تتفرس في وجهها، وتدعي أن كل هفوة للجمال فيه إنما هي حسن من نوع غريب لا عهد للناس به - لا يخطر ببالها إلا إحصاء أبناء المدينة ممن هم في طبقتها واحدا واحدا، وتخير أكرمهم محتدا، وأعظمهم ثروة وأملحهم وجها، حتى إذا استقر بها الاختيار أخذت في العمل، والاستنجاد بخير الوسائل، فتوددت إلى أمه، ودفعت زوجها من حيث لا يدري إلى مجاملة أبيه ومصادقته، فإذا مات الغلام انصرفت إلى غلام آخر يليه في المرتبة، وأعادت القصة بذاتها، لا تخرم
3
منها حرفا.
هكذا كانت حال الآباء والأمهات بمدينة منبج حين شب أبو فراس عن الطوق، وحين أصبح شابا جميلا في نحو الثامنة عشرة، تتيه به العروبة، وتشتاق إليه ميادين القتال. فلم يكن عجبا بعد هذا أن تكثر زيارة الأمهات لقصر سخينة، وأن يرسلن عليها سيلا جارفا من الملق كاد يجترفها. فما فعلت شيئا إلا كان حسنا جميلا، ولا قالت قولا إلا وهو حكمة سليمان، وفصاحة سحبان، وكلما مر ذكر ابنها في غضون الحديث عرضا نثرن عليه الثناء، وغمرنه بصنوف المديح والإطراء. وسخينة تسمع وتفهم؛ لأنها أم تعرف ما تتمناه الأمهات لبناتهن من الخير والسعادة.
زارها في أحد الأيام بعض كرائم السيدات، وكان بينهن نائلة زوج والي المدينة من قبل سيف الدولة، ومعها ابنتها عزة، فلما استقر بهن المقام أخذت نائلة تملأ البهو حديثا في جمال القصر، وحسن تشريفه، ثم تتبع ذلك بالإشادة بمجد بني حمدان، ثم تنتقل إلى ما تتحلى به سخينة من صفات الشرف والكرامة وأصالة الرأي، ثم تثب بعد كل هذا إلى أن الولد صورة من الأم، وأن كل عرق ينتمي إلى أصله، وأن سيرة أبي فراس أصبحت مثلا عاليا للفتيان. ثم تتابع الحديث وتقول: إن ابني لا يمل الكلام في بطولة أبي فراس حتى لقد قلت له بالأمس: خير لك يا بني أن تؤلف كتابا في أخبار صديقك. فصاح ضاحكا وقال: وبم أسمي الكتاب يا أمي؟ قلت: «سمه روض الآس في أخبار أبي فراس.» فابتسمت سخينة وقالت: خير له أن يسميه: «ظبية الكناس
4
في بطولة أبي فراس.» فضحك السيدات جميعهن، وما كدن يخضن في حديث آخر حتى دخلت هيلانة تعلن قدوم السيدة فاطمة الخالدية وأختها نجلاء، فقمن لتحيتها، وقالت فاطمة في دعابة: لقد هززتن أركان البهو قهقهة ففيم كان ضحككن؟
فحاولت نائلة بعد أن بهرها جمال نجلاء أن تغضي عن السؤال، وأن تصرف الحديث إلى غير وجهه، ولكن سخينة أسرعت فقالت: كنا نختار اسم كتاب يؤلف في سيرة ابني فماذا تقترحين؟ - أقترح أن يسمى «تعطير الأنفاس بسيرة أبي فراس»؛ فظهر الغيظ على وجه نائلة وقالت: كيف حال ابنك الصغير يا فاطمة؟ لقد سمعت أنه كان مريضا. - إنه الآن بخير، مسح الله عنا وعنك السوء.
ثم تجاذبن أطراف القول في فنون شتى، وسخينة لا ترفع عينيها من وجه نجلاء، فقد أعجبها جمالها وأدبها وحسن حديثها. حتى إذا مر وقت غير قليل، ودع الزائرات سخينة وانصرفن.
وحينما انفردت نجلاء بأختها في الطريق قالت: لقد سمعت كثيرا عن أبي فراس، وسمعت كثيرا من شعره الذي يتناقله الناس، وهو يعد في الطبقة الأولى قوة وروعة وبعد خيال. - إنه شاب لم تر له منبج مثلا في أدبه وسجاحة خلقه وبطولته. - لقد أكثر الناس من المبالغة في وصف شجاعته حتى أحببت أن أراه. - لا تعقد في منبج يا نجلاء مجالس للشعر والأدب كما هو الحال في حلب ، ولكنك تستطيعين أن تريه كل أصيل ممتطيا جواده مع فريق من خلانه في بعض مروج المدينة. - يكفي أن أراه في شعره كما أرى كل شاعر، فإن الشعر صورة صادقة لصاحبه، ومرآة صافية لخوالج نفسه. - ليس دائما يا نجلاء، فإن لأبي نواس شعرا في الزهد، وللحطيئة شعرا في الحث على مكارم الأخلاق.
كان أبو فراس حقيقا بكل هذه الضجة، فقد زادته الرجولة وسامة وقسامة، فكان مشرق الوجه، نافذ نظرات العيون، متين الجسم، قوي العضل، تتأجج فيه نيران الشباب، وتفور في نفسه نزعات عاتية من الطموح إلى المجد والوثوب إلى مراتب العظمة. وكان صورة صادقة للبطولة في القرن الرابع الهجري، شديد الثقة بنفسه، قليل الاكتراث بالنوازل والخطوب، يعيش عيشة الأمراء المترفين في ثروة وجاه ورفاغة
5
من العيش، ويتسلى بقرض الشعر وركوب الخيل والمصارعة والصيد. والتف حوله كثير من أبناء القواد وكبار الأسر، فكانوا يقضون أكثر وقتهم في ترف ولهو وتناشد للأشعار، بين مروج منبج الخضر، وأرباضها
6
الضاحكة، وبساتينها الناضرة، وكان يحلو لهم عند الأصيل أن يجلسوا إلى جسر أحد النهيرات التي يفيض ماؤها في الشتاء ويجف عند الصيف، والتي يقول فيها أبو فراس:
قف بالمنازل والملا
عب، لا أراها الله محلا
7
أوطنتها زمن الصبا
وجعلت منبج لي محلا
حيث التفت رأيت ما
ء سائحا، ورأيت ظلا
والماء يفصل بين زه
ر الروض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت
أيدي القيون عليه نصلا
8
وفي ذات مساء اقترح أبو فراس على أصحابه أن يخرجوا للصيد «بعين باصر»، وهي على مسافة فرسخين من حلب، فخرجوا قبل تبلج الصباح، ومعهم الصقور والبزاة وكلاب الصيد والخدم والعبيد، وقضوا سبع ليال بين صيد وقصف، وقام الطهاة بشي الظباء وطبخها بين ضحك الضاحكين، وعبث العابثين، وتناشد الأشعار، وتبادل النوادر، وأخذوا يتخطفون اللحم، ويعدو بعضهم وراء بعض في هزل يشبه الجد. وفي الحق إنهم كانوا صورة لمرح الشباب وريعانه ولهوه ونشوته، وكانوا يمثلون الفراغ والجدة
9
وراحة البال والبراءة من كل ما يكدر الحياة. وبعد أن نالوا من الصيد واللهو ما يشتهون، عادوا إلى المدينة، فبلغوها وقد مال ميزان النهار. وكان أبو فراس يتقدم الجمع فوق جواد عربي كريم. وبينما كان يمر ببعض الدروب إذ جمح به الفرس فجأة لسبب غاب عنه، فحاول أن يكبح جماحه، ولكنه كان قد لعق لجامه، وخرج عن إرادة فارسه. وفي ذلك الحين كانت امرأة عجوز تمشي إلى جانب جدار فزحمها الفرس بكفله فسقطت على الأرض، وتواثب الناس من كل مكان على الفرس، وتعلق كثير منهم برقبته ومعرفته حتى استطاعوا صده، واتجه أبو فراس نحو العجوز، وتقدم خدمه وعبيده فحملوها في محفة
10
بعد أن سألوها عن دارها، فعلموا أنها تسكن في دار الحسين الجوهري، وسار خلفهم أبو فراس حتى وصل إلى دار فخمة البناء، رحبة الفناء، فحط العبيد المحفة، وتقدم الحسين الجوهري فحيا الأمير، وسأله مذعورا عن الخبر، فأخبره بالحادثة. وقد تبين الأسف في وجه أبي فراس، وحتم أن يستدعي لها طبيبا، وأن يمنحها من المال ما يخفف آلامها، فأبى الحسين في أدب واستعطاف وقال: إنها ضيفتي يا مولاي، وخادم نجلاء أخت زوجي، ولا أحب أن يقول الناس: إن الجوهري تخلى عن واجبه. ولكن أبا فراس صمم فلم يكن من طاعته بد. فاستدعى الطبيب، ودخل معه الحسين وأبو فراس إلى حجرة المريضة، فجس أطرافها، وأطال البحث، وبعد لأي رفع رأسه في صلف وقال: لا بأس. ثم التفت إلى أبي فراس وقال: ليس بها شيء إلا شدخا في عظم ساقها اليمنى، وهو غير ذي خطر، ولا يحتاج إلا إلى رباط متين يحول بين الساق والحركة، ثم إلى الراحة الكاملة، فأحضرت الأربطة، وربط الطبيب الساق إلى ما فوق الركبة ربطا وثيقا، وأمر ألا تتناول من الطعام إلا ما كان خفيفا سهل الهضم. ثم اتجه إلى سلمى وكان خشنا لا يحسن تصريف الكلام وقال: وأنت أيتها العجوز المتشبثة بالحياة، والتي لها قدم في كل مكان، ماذا تعملين في وقت الظهيرة التي تذيب دماغ الضب؟ لعلك كنت تبحثين عن زوج مثلي؟!
فأخفت سلمى غضبها، وأرادت أن تثأر لنفسها فقالت في صوت خافت: لولا أني لا أحب الأطباء لتزوجت واحدا منهم. - ولم لا تحبين الأطباء؟! - لأني أبغض طبهم، وإلا فقل لي بحق أبيك متى حال الطب دون الموت؟ ومتى أطال الطب أمد الحياة؟ إن الحيوان يمرض فيشفى بغير طبيب، وإن كثيرا من صنوفه تعمر فوق عمر الإنسان أضعافا دون حاجة إلى طبيب. إن الله يا سيدي الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، خلق في طبيعة الإنسان وطبيعة كل حي طبيبا من غرائزه، فهو إذا أحس المرض انصرف إلى الراحة، وابتعد عن الطعام، وحمى نفسه من البرد. وقد توحي له الفطرة بتناول غذاء هو دواؤه وفيه شفاؤه. إن هرتي هذه تعرف متى تمرض، وتعرف كيف تشفى، ولو كنت دعوت لها بطبيب في إحدى مرضاتها لكانت اليوم في الدار الآخرة تصلى نار الجحيم لكثرة ما قتلت من الفيران، وما اختطفت من طعام الجيران. إن الأمراض أيها الطبيب البارع قسمان: أمراض طارئة سهلة الزوال، وأمراض معضلة قاتلة، وهما لا يحتاجان إلى طبيب؛ لأن القسم الأول يزول بقليل من الحماية والعناية، والثاني لا تنفع فيه رقية الراقي. وأنكى من كل هذا أن إنسانا لو مرض ودعا في كل يوم طبيبا - وهبه دعا عشرة منهم - لاختلف تقدير كل واحد للداء، واختلف وصفهم للدواء، وإذا كان الحق لا يتعدد فأحدهم بالبديهة هو الصادق أو هم جميعا كاذبون. ولن تسأل طبيبا عن شيء ويقول لك: إني لا أعرفه، ولن تعرض نفسك على طبيب حتى يهول لك في الأمر، وينذرك بأكبر المصائب، ويكدر عليك صفوة الحياة، ويخيل إليك أنك تسير إلى القبر عدوا. وقد اعتاد بعض الأطباء حينما يموت المريض أن يلقوا التبعة كلها على أهله، ولهم في ذلك أساليب بارعة، كأن يسألوهم مثلا: هل سقيتموه؟ فإن قالوا: نعم، قالوا: يا للداهية! لقد قضيتم عليه، إن الماء هو الذي قتله! وإن قالوا: لا، قالوا: يا للجهل ويا للغباء، إن أقل الناس معرفة يدرك أن الظمأ يقتل المريض لا محالة!
فأسرع أبو فراس وقال: أنت مخطئة يا خالتي، إن للطب شأنا في استئصال الأمراض أو تخفيف شدتها، أما أن المرء يعالج نفسه بفطرته فصحيح، ولكن هذا العلاج قد يطول فتطول به آلام المريض. إن الطب لا يمنع الموت، ولكنه قد ينقذ من الموت. - لك رأيك يا بني، ولكني إن أنكرت الطب فلن أنكر فضل الجراحين، فإن نتائج أعمالهم ظاهرة بينة. وهنا قال الطبيب: وما رأيك أيتها الفيلسوفة العجوز في جابري العظام؟ - يجب على جابر العظام ألا يشدخ النفوس، ويكسر الخواطر.
فضحك الحسين الجوهري وقال: إن سلمى أيها الطبيب لا تحب أن يدعوها إنسان بالعجوز.
وانصرف الطبيب، وتبعه أبو فراس بعد أن وضع تحت وسادة سلمى كيسا به عشرون دينارا، وعند انصرافه لمح ستارا ينفرج عن وجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، ولم تتفتح أزهار البساتين عن أنضر منه، ولم تفاخر لآلئ البحار بأكثر منه صفاء وتألقا. وجه خلقه الله من أشعة الجنة: فيه الجمال، وفيه النبل، وفيه الشرف. رأى أبو فراس هذا الوجه فاضطرب قلبه، ولم يحاول أن يطيل النظر هيبة وإجلالا، فقد ذهل عن نفسه، وأحس على الرغم من ذهوله أن هذا الوجه كان يرسل ابتسامة مشرقة طاهرة كزهرة الربيع، بعثت في نفسه الأمل، كأنها اللوح السابح يراه الغريق من بعيد، وقد اصطلحت عليه الأمواج، وجاءه الموج من كل مكان، فيهرع إليه، ويتشبث به، ويرى فيه بارقا من النجاة.
خرج أبو فراس من الدار، وأخذ سمته إلى قصره كالمأخوذ، وقد سمع نفسه وهو يردد:
تبسم إذ تبسم عن أقاحي
وأسفر حين أسفر عن صباح
الفصل الرابع
قضى أبو فراس ليلته مضطربا أرقا، وكان دقيق الحس، بعيد مرمى الخيال، فأخذ يصور له الوهم صورا لهذا الوجه الباسم الوضاح، ويذهب به في طرق كثيرة الشعب، بعيدة المسالك: فمرة يرى نفسه وهو أمام هذه الفتاة يمد يده لخطبتها وهي عنه معرضة عزوف،
1
لا تجيب بكلمة، حتى إذا برمت به تمشت نافرة في خفر وحياء، كأن أمرا منه لا يعنيها، وكأن حديثه الطويل لم يوجه إليها. ومرة يلقاها لا تزال باسمة ، فما يكاد ينبس بكلمة حتى تبادله الحديث في وداعة ورفق وأدب. ثم يعود إليه عقله فيجلس جلسة المفكر الرزين، ويسائل نفسه هامسا: من هي؟ ومن تكون؟ إن كانت زوج الحسين الجوهري، فلا برحت دوني عليها ستور! ومتى استساغ كرم محتدي أن ينال بالنظر زوجا كيفما بلغ بها الجمال؟ إن كانت إياها فيا لكمدي، ويا لحسرتي!
حقا لقد قضيت، وماتت آمالي، وذهب شبابي الذي كنت أعده لعظائم الأمور بددا. ويح لك يا أبا فراس، وقاتل الله تلك الساعة المشئومة! وقاتل الله تلك العجوز الورهاء
2
التي جرتك إلى حتفك، وقضت بالفناء على صباك، وأماني صباك! ألم أعزم منذ شهر على الذهاب إلى حلب والإقامة في كنف سيف الدولة ابن عمي وزوج أختي، لأحمل عنه نصيبا من أعبائه، ولأجرد سيفي لنصرته في غزواته لعصاة العرب والروم؟ إنني لو فعلت لعشت حياتي خاليا هانئا سعيدا. ولكن أهي حقا زوج الحسين الجوهري؟ لقد سمعته يقول: إن سلمى خادم أخت زوجه، فلعل ذلك الوجه يكون وجه تلك الأخت، فإن الله أرحم بي من أن يصرعني هذا المصرع، ويقضي على أملي هذا القضاء، وهو يعلم أن تلك النظرة العابرة الغافلة لم ترسلها عيني ولها رغبة في الإثم، أو قصد إلى المنكر، وإنما هي رمية لم أشد لها وترا، ولم أصوب فيها إلى هدف.
سبحانك اللهم يا رب؛ آمنت بقضائك؛ وآمنت بقدرك؛ ولكن لنا نفوسا ضعيفة لا تحتمل هذا القضاء، ولا تستطيع الفرار من ذلك القدر. ثم رفع رأسه كما يرتفع رأس الغريق وقد غمره الماء، وهو يقول: ولكنها ليست زوج الحسين، وإنما هي أختها. إنها ابتسمت لي ابتسامة كلها نقاء وطهر. ثم وثب من الفرح صائحا: حقا إنها ليست زوج الحسين، وحقا إنها أختها، فما أعظم سروري! وما أعظم هنائي وسعادتي! الآن أستطيع أن أرغب، وأستطيع أن أرجو، وأستطيع أن أكون رجلا له في الحياة آمال. ولكن ما اسمها؟ لقد سمعت الحسين يذكره، إنه اسم حلو كصاحبته، لعله: هيفاء؟ لا، غيداء؟ إنه ينتهي بألف ممدودة، ها، لقد وجدته: نجلاء، نجلاء. إن اسمها نجلاء. ما أجمل الاسم! وما أجمل المسمى! حقا إنها نجلاء.
هكذا كان يقضي أبو الفراس ليله في خيال وتفكير، فلما طرقه النعاس دنفا
3
مكدودا في الهزيع الأخير من الليل، لم ترحمه الأحلام. فقد رأى فيما يرى النائم أنه في غابة شجراء
4
كثيرة الشوك والقتاد، أدمى المشي فيها قدميه وأجهده، رأى عن بعد شجرة سامقة، حاول الوصول إليها، فلما قرب منها رأى بها كثيرا من الأزهار، فمالت نفسه إلى اقتطاف أجمل زهراتها، فتسلق الشجرة وكانت صعبة المرتقى، ونظر في الأزهار فإذا هي وجوه رائعة الحسن، يجري فيها ماء النضارة والشباب، ولكنه لم يجد فيها وجها يشبه وجه نجلاء، فاستمر في الصعود والتسلق، فإذا وجه يشرق عليه من عذبة
5
غصن بعيد المنال، فتأمل وحدق فإذا هو وجه نجلاء فطارت نفسه إليه شوقا، ووثب إلى الغصن؛ ولكن الغصن هوى بجسمه؛ وجعل يذهب ويجيء به في الهواء، وهو قابض عليه لا يفلته، والزهرة تنظر إليه وتبتسم، حتى إذا استنجد بقوته، مد إلى الزهرة يدا فاقتطفها، وهي تقهقه بصوت عال أيقظه من رقاده، فنظر، فإذا سيف الفجر يلمع في الأفق، وإذا الديكة تصيح مستبشرة ببزوغ الصباح، فنهض من فراشه، وقد أعادت الرؤيا إلى نفسه شيئا من الأمل، ورأى أن حسن الطالع قد هيأ له من حادثة العجوز وسيلة لزيارتها والاطمئنان على حالها، وأن هذه الزيارات قد تمهد له السبيل إلى رؤية نجلاء، والتعرف إلى أهلها ثم خطبتها منهم. وذهب أبو فراس إلى دار الحسين الجوهري فقابله أحد الخدم لدى الباب، وأخبره أن سلمى بالطبقة الأولى من الدار، ثم سار أمامه ليصل به إليها.
فلما دخل الحجرة حياها وجلس إلى جانب سريرها، وأخذ يسأل عن حالها، ويسري عنها ويتألم لما أصابها، وكانت قد استردت صحتها فأخذت تهون عليه الأمر وتحدثه بكثير من أخبار حلب، وبينما هما يتجاذبان القول إذا نجلاء تدخل فجأة، ولم يكن يخطر ببالها أن إنسانا غريبا يزور سلمى في هذا الصباح الباكر. دخلت وهي تصيح: كيف حالك اليوم يا سلمى؟ فلما لمحت أبا فراس ذهلت، ووقفت مكانها لا تريم، كأن المفاجأة عقدت رجليها إلى الأرض، حتى إذا أفاقت من هجمة الدهشة دارت نحو الباب في ذعر تتلمس الفرار، ولكن سلمى صاحت بها: على رسلك يا سيدتي، إنه الأمير أبو فراس ابن عم أميرنا سيف الدولة، وهو شاعر عبقري الخيال، وطالما حدثك عنه الناشئ الأصغر أستاذه ومعلمه، وطالما ألححت عليه أن يكتب لك أشعاره، وأنت يا سيدتي أديبة شاعرة تجالسين كبار الشعراء والأدباء، وقد كانت فضليات النساء في الصدر الأول لا يرين من حرج في حضور مجالس العلم والأدب، وكان منهن المحدثات والفقيهات والأديبات والشاعرات. فالتفتت نجلاء في تردد وقالت في صوت خافت يتعثر بالحياء: الأمير أبو فراس الشاعر؟ وكان أبو فراس واقفا فتقدم نحوها في تردد وخشية وقال: نعم يا سيدتي أنا أبو فراس الشاعر، وقد آن لي الآن أن أزهى بشعري وأعتز به؛ لأنه نال استحسان خير الأديبات الشاعرات. فخطت نحوه نجلاء في خجل وأدب وقالت: سألتك بالله يا سيدي أن تجلس فإني كنت في شوق إلى سماع شعرك وقد يطول بنا الحديث. أترى بأسا من أن أكون راويتك؟ - إن شعري يشرف يا سيدتي بأن تكوني له راوية.
فقالت: لقد كنت راويتك قبل أن نلتقي. ثم تمكنت في جلستها وقالت في وقار: حدثنا أبو الحصين الرقي، عن جعفر بن ورقاء، عن أبي فراس بن سعيد أنه قال:
إنا إذا اشتد الزما
ن، وجار خطب وادلهم
ألفيت حول بيوتنا
عدد الشجاعة والكرم
للقا العدا بيض السيو
ف، وللندى حمر النعم
6
هذا وهذا دأبنا
يودى دم ويراق دم
7
وقال:
لقد علمت سراة الحي أنا
لنا الجبل الممنع جانباه
يفيء الراغبون إلى ذراه
ويأوي الخائفون إلى حماه
وحدثت عنه أنه يقول:
إذا خلق الأنام لحث كأس
ومزمار وطنبور وعود
فلم يخلق بنو حمدان إلا
لمجد أو لبأس أو لجود
ويقول:
علونا جيشنا بأشد منه
وأثبت عند مشتجر الرماح
بجيش جاش بالفرسان حتى
ظننت البر بحرا من سلاح
وألسنة من العذبات حمر
تخاطبنا بأفواه الرياح
8
وأروع جيشه ليل بهيم
وغرته عمود للصباح
صفوح عند قدرته كريم
قليل الصفح ما بين الصفاح
9
وكان ثباته للقلب قلبا
وهيبته جناحا للجناح
ثم ابتسمت وقالت: أهذه الرواية صحيحة؟
فقال أبو فراس: الرواية صحيحة، غير أن حسن إلقائك يا سيدتي زاد في شعري كثيرا لم يكن فيه، هل تروين أبياتا أخرى؟
فأعادت جلسة الوقار وقالت: حدثنا أبو زهير بن حمدان، عن الناشئ الأصغر، عن أبي فراس أنه قال:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبدا
كأن كل سرور حاضر فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا
حتى الصباح تسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها
أهدت سلافتها خمرا إلى فيها
ثم قالت وهي تبتسم: أحقيقة كانت هذه الليلة أم خيالا؟ - كانت خيال شاعر يا سيدتي، والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تري أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ - هذه حيلة يا سيدي يلجأ إليها كل شاعر. - إنني يا سيدتي لم أجد في ماضي أيامي من تصلح لأن تكون شريكة حياتي، وما زلت عصفورا حائرا يسبح في الجو باحثا عن إلف.
وفي هذه اللحظة صاحت سلمى الماكرة صيحة ارتجت لها أرجاء الحجرة، وأخذت تشكو آلام ساقها في تصنع متقن، وأنات تتقطع لها نياط القلوب. ففزعت نجلاء، وأخذ أبو فراس يهدئ من نفس العجوز في حنان ورفق، ويدعوها إلى الصبر والجلد، وهي تتململ وتكتم أنفاسها بواسدتها، ولم تسكن إلا بعد أن كادت تنفد الحيل في إعادتها إلى الهدوء، وعند ذلك هم أبو فراس بالانصراف بعد أن ودع نجلاء وحيا العجوز.
وتوالت زيارات أبي فراس، وتوالت المقابلات، وزال شيء من الكلفة بين الصديقين. وبينما كان في ذات يوم يزور سلمى إذ قابلته نجلاء مستبشرة وهي تقول: لقد أوشكت سلمى أن تشفى، فأطرق في خجل وقال: ليتني أشفى كما شفيت! فذعرت نجلاء وقالت في صوت رقيق: أأنت مريض حقا يا سيدي؟ - نعم مريض يا فتاتي، ولكن مرضي لا يعرفه الأطباء، إنه المرض الذي أصيب به قبلي قيس بن الملوح وجميل بن معمر.
فابتسمت نجلاء وقالت: أظنك تمزح يا سيدي. - لست أمزح يا نجلاء، إنه الحب الطاهر الشريف. - أرجو أن توفق إلى لقاء من تحب. - إنه أمامي وفي يدي لو كتبت لي السعادة وباركتني ملائكة السماء، فاحمر وجه نجلاء من الخجل، وأطرقت في صمت وحيرة، وأسرع أبو فراس يقول: سيدتي! إن رجائي أن تومئي إيماءة تدل على القبول، كل ما أطلبه يا سيدتي أن أنال الرضا بأن أكون لك بعلا. فابتسمت نجلاء ابتسامة واهنة فهم منها أبو فراس رضاها فصاح: أنت يا سيدتي حياتي، وريحانة روحي، ومطمح آمالي، إنني سأكون أسعد زوج طلعت عليه الشمس.
وبعد أن تنقلا في ضروب شتى من الأحاديث، ودعها وانصرف، وهو يظن أنه ملك الخافقين، وسما فوق مناط الفرقدين.
وذهبت نجلاء إلى أختها فحدثتها بخطبة أبي فراس، وأخذت تطريه وتشيد بصفاته ورفيع أدبه، وكلما بلغت الغاية في المديح عادت أدراجها لتبتدئ من جديد، وفاطمة منصتة جذلة لسرور أختها. وبعد أن استمعت طويلا رفعت رأسها وقالت: وهل تقدم لخطبتك أحد في حلب يا نجلاء؟ - كثير يا أختي، ولكني استطعت أن أدفعهم عني جميعا، إلا فتى يسمونه قرعويه، وهو فارسي المنبت، له بحلب أعظم نفوذ وأكبر صولة؛ لأنه غلام سيف الدولة الأثير عنده، وهو من كبار قواده، ولا يعوزه شيء مما يزدان به الرجال من بسطة في الجسم ووسامة في الوجه وشجاعة في الميدان، ولكنه يطوي بين جوانحه نفسا تتوق إلى الشر، ويخفي وراء بسماته كل معاني الختل والخديعة. هذا الفتى لا يمل من الإلحاح في خطبتي ولا يسأم من طول المطل والتسويف، فهو غريم مثابر مصمم، يظن أن الحب ميدان قتال يجب أن يكسب فيه المعركة، وألا يتحدث الناس بفراره منه كيفما بلغ به اليأس. وقد كنت أستطيع أن أغلق بابي دونه، أو أزيد في التنكر له، لولا شدة اتصاله بسيف الدولة وخوفي من مكره ومحاله.
10
والحق أن أكبر ما دفعني إلى زيارة منبج إنما هو لأراك ولأن أفر منه.
وقطع الحديث عليهما دخول حسين الجوهري، الذي لم يلبث بعد الغداء وبعد أن استمع إلى زوجته طويلا، أن خرج مسرعا لدعوة أبي فراس إلى الطعام في الغد، تقديرا لتفضله بزيارة داره.
وهكذا صح تدبير فاطمة، وهكذا توالت الأيام، وتوالت معها زيارات أبي فراس لنجلاء، وهما في كل زيارة يتحدثان عما ينتظرهما من هناءة في ظل زواج سعيد.
وفي ذات يوم دعا حسين الجوهري أبا فراس للصيد في ضيعة له بأحد أرباض المدينة، وكانت سبقتهما إليها نجلاء وفاطمة وطائفة من العبيد والخدم فقضى أبو فراس أياما هنيئة في اللهو والصيد والتمتع بنشوة الحب إلى جانب نجلاء دون رقيب أو حسيب. وبينما هما في صبيحة يوم يركضان بجواديهما خلف غزال؛ إذ لمحت نجلاء شبح فارس عن بعد يظهر ثم يختفي خلف الآكام في هيئة المريب المتجسس، فتركت مطاردة الغزال، وأرخت العنان لفرسها فانطلق كأنه لمحة البرق، ودارت بجوادها حتى لا يظن الفارس أنها تقصده، حتى إذا صارت على كثب منه، وأبصرت صفحة وجهه، انقبض صدرها، ولمع الغيظ في عينيها، وتمتمت بكلمات كلها سخط على النذالة والأنذال. ثم عادت أدراجها فلحقت بأبي فراس والغضب لا يزال يضطرم في وجهها. فدهش وأخذ يسأل عن سبب انصرافها عنه وعما يبدو في وجهها من غيظ وألم، فسكتت برهة، ثم رفعت وجهها إليه قائلة: إن الله خلق فريقا من الناس يوم خلق الأفاعي. وإن بعض الناس لا يستطاع الفرار من كيدهم وخبثهم ولو سكنا فوق متن الهواء، وعشنا في قرارة الماء. وهم كالموت يدركوننا أينما كنا ولو كنا في بروج مشيدة. - ما هذا التهويل يا سيدتي؟ - قد يكون تهويلا، ولكني لا أحب الدناءة، ولا أتحمل الأدنياء. - لقد أفزعتني يا نجلاء، فبالله عليك إلا ما صرحت! - رأيت فارسا عن بعد يظهر ويختفي، فعدوت بجوادي من ورائه حتى أقرب منه بحيث لا يراني، فلما دنوت منه عرفت أنه فهد غلام قرعويه. - قرعويه غلام سيف الدولة وقائد جيوشه؟ وما شأن هذا في أن تنالكم هذه الثورة من الغضب التي كادت تكدر صفاء هذا الوجه اللؤلؤي؟ - لن أكتمك شيئا يا سيدي. إن قرعويه هذا يطاردني في حلب، ويلح في خطبتي، وكأنه لم يرد أن يتركني أياما أتمتع فيها بلذة نسيانه، فأرسل غلامه ليتجسس علي، ويكدر صفو حياتي بذكره. - وهل قرعويه هذا من النفوذ والصولة بحيث ترهبينه وتلجئين إلى مصانعته؟ - له من المكانة عند سيف الدولة فوق ما يتخيل المتخيلون، ثم هو ماكر ختال، يلبس لمصارعة الأسود إهاب الثعلب. - هوني عليك يا سيدتي، فإن في سيف حبيبك مصرع الأسود والثعالب، ثم أخذ يفاكهها ويهون عليها الأمر حتى ضحكت، وحملت الريح رنين ضحكها عذبا حلو النغم فامتزج بتغريد الطيور.
ولما قرب أبو فراس من الخيام لمح أسامة خادمه وهو ينزل عن فرسه، فأسرع إليه وسأله عن سبب قدومه، فأخبره بأن رسالة عاجلة جاءت من سيف الدولة لدعوته إلى حلب دون أن يعوق. وهنا التفت أبو فراس إلى نجلاء حزينا كاسفا، والدمع يكاد يثب من عينيه وقال: هكذا الدنيا لا يتم بها سرور، فأجابته: لا، لا، إن الدنيا كلها سرور، سر إلى ابن عمك غدا وستراني قريبا في حلب. إن الفرقدين لا يفترقان.
الفصل الخامس
عندما تبلج صباح اليوم الخامس من شهر رجب سنة ستة وثلاثين وثلاثمائة، كان أبو فراس قد أعد عدته للسفر، فشدت الحمول على الإبل، وكان يحمل متاعه أربعون بعيرا، سار خلفها الرجال بين فارس وراجل، وقبل أن يمتطي جواده وقف ليودع أمه فأخذت تقبله في جبينه مرات، وتشد ذراعيه القويتين إليها كالمباهية المفاخرة، وتقول: سر أبا فراس وأتمم صحيفة المجد التي وقف الموت بأبيك دون إتمامها، سر يا بني فإنما ولدت لصهوات
1
الجياد، ومصارعة الأهوال. سر ودعني هنا أهنأ بأخبار انتصارك وفوزك، وبعد أن نثرت عليه دعواتها سار أبو فراس ووراءه العبيد والخدم، وقد تجنب الطريق إلى حلب ليمر بمنزل له في قلبه أكبر منزلة، حتى إذا حاذى دار نجلاء نظر فإذا نافذة تفتح، وإذا وجه مشرق وضاح يحييه بابتسامة كابتسامة الربيع، كانت زاده في سفره الطويل.
وكانت الطريق إلى حلب ملتوية بين ارتفاع وانحدار، تزينها المروج الخضر وأشجار الزيتون والفاكهة المنتثرة بين السهول والهضاب، وكان الوقت ربيعا، والنسيم رقيقا، فأطلق لفرسه العنان، وهو ينشد الشعر، ويتغنى بزوجه الجميلة، ويبني الآمال الكبار على اتصاله بسيف الدولة، وحين أدركه الليل أوى إلى فندق فنال من طعامه وشرابه، ثم استراح به إلى الفجر، وواصل السير في طليعة النهار، حتى بلغ حلب في وقت العشاء الآخرة، فحط رحاله في دار ابن عمه أبي زهير الحمداني، وكانت بالقرب من «ساحة الناعورة» ليستقبل سيف الدولة في الصباح، وكانت مدينة حلب من أعظم مدن الشام في ذلك الحين، وكانت تلي دمشق في المنزلة، تقع على نهر قويق، ويحيط بها سور عظيم سامق بني بالحجر الأبيض الضخم، به ستة أبواب، وإلى جانب السور قلعتها الحصينة التي تطل على المدينة شامخة متحدية، تربض أمامها كما يربض الأسد أمام العرين، وإلى الغرب منها جبل الجوشن، والمدينة فسيحة الطرق، فخمة القصور ذات الطابع البيزنطي، كثيرة المساجد والفنادق والمتاجر والحدائق والبساتين، وفي وسطها دار علوة التي يقول فيها البحتري:
تناءت دار علوة بعد قرب
فهل ركب يبلغها السلاما؟
وجدد طيفها عتبا علينا
فما يعتادنا إلا لماما
2
وربت ليلة قد بت أسقى
بعينيها وكفيها المداما
واشتهر أهل حلب بالثراء والظرف والأدب، وازدحم بها السكان من عرب وترك وأرمن وروم، وكثير بها الجنود المرابطون للقتال.
وزاد ازدهارها في عهد سيف الدولة، فقد دخلها فاتحا في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد أن انتزعها من أيدي الإخشيد، وكان سيف الدولة بطلا شجاعا بعيد مدى الغايات، أديبا شاعرا جوادا، جعل حاضرة ملكة مثابة
3
للعلماء والشعراء والأدباء الذين هرعوا إليه من أقطار الأرض، بعد تفكك الدولة العباسية، فأغدق عليهم، وقيدهم بإحسانه «ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا» فعاشوا من نعمه في ظل ظليل. وكان من أشهر من اتصل به المتنبي والصنوبري والنامي وكشاجم وابن نباتة السعدي وابن خالويه وابن جني والفارابي.
استيقظ أبو فراس في الصباح واستعد للقاء سيف الدولة، فركب جواده قاصدا أرض الحلبة، وهي في سفح جبل الجوشن. فوصل بعد قليل إلى القصر وكان رفيع البناء، بلغ الغاية في الفخامة والاتساع، يقع على ضفة نهر قويق. وقد بذل فيه المهندسون والبناءون والمصورون كل ما في مكنة البشر من إبداع، وزينت أبوابه وحيطانه وسقوفه بالنقوش البارعة، والتهاويل الرائعة واتسعت به الغرف والأبهاء، وكان بقاعته الكبرى وهي قاعة السفراء خمس قباب يحملها اثنتان وأربعون ومائة سارية من الرخام الأبيض الناصع المحلى بالذهب، وبها مئات من النوافذ الزجاجية البديعة الألوان؛ أما الأثاث والرياش ففوق ما يصف الشعر ويرسم الخيال. وقد أحاطت بالقصر الحدائق والبحيرات التي كان يجري إليها الماء من تماثيل سمك ضخم صنع من الذهب، وركبت له عيون من ثمين الجوهر.
وصل أبو فراس إلى مدخل القصر فبهره ما رأى من مظاهر العز والسلطان، وأقبل عليه كبير القصر يحييه عن سيده، ويهنئه بسلامة الوصول، فدهش لكثرة العبيد والمماليك الروم الذين انتثروا في أنحاء القصر يروحون ويجيئون في حركة دائبة، وهاله ما رأى من كثرة القواد والجنود والزوار وأصحاب الحاجات. ثم استؤذن له فدخل على سيف الدولة فوقف له واعتنقه، وأقبل عليه يرحب به ويسأله عن منبج وأهلها. وكان سيف الدولة جسيما قسيما عربي الملامح واسع العينين، له نظرات يلمح فيها الذكاء، ويتجلى الطموح، وبوجنته اليسرى أثر لضربة سيف لم يذهب بوسامته. وقد أعجب بما رأى في أبي فراس من البطولة وعلو النفس. وبينما هما يتبادلان الحديث إذ دخل قرعويه، فقال سيف الدولة: هذا قرعويه يا بن عمى قائد جيوشي الذي أعددته للعظائم. فتقدم نحوه أبو فراس بالتحية، وقد علم من قبل بأمره من نجلاء، فرأى رجلا بساما وضيء الوجه، يدل مظهره على صفاء النية وطهارة النفس، ولكن فراسة أبي فراس كانت جديرة بأن تخترق الحجب، وأن تنفذ من طبقات الرياء إلى ما وراءها من خبث وخديعة، غير أنه رأى من الكياسة وحسن الرأي أن يجزي على ابتسام بابتسام، وأن يخدع الرجل الذي يحاول خداعه، فمد إليه يده في حفاوة كريمة، وأخذ يطريه وذكر ما وصل إليه بمنبج من أخبار شجاعته ونبله وإخلاصه في خدمة الأمير، ثم ابتسم في وجهه وقال: وطالما تمنيت يا سيدي أن أسعد بلقائك، فلما شملني ابن عمي بفضله كان تحقيق هذه الأمنية من أعظم مننه. ثم شد على يديه قائلا: أريد يا قرعويه أن نكون صديقين مخلصين، فهل تحب أن تكون لفارس من فرسان بني حمدان صديقا مخلصا؟ - أحب؟! هذا شرف أتيه به على الدنيا، وسنجتمع يا سيدي في حرب وفي سلم، وستجد مني فيهما الأخ الوفي والصاحب الأمين.
وبعد انصرافه اتجه سيف الدولة إلى ابن عمه مفكرا، وقد طافت غمامة من الحزن فوق وجهه الوسيم وقال: لقد دعوتك يا بن عمي في وقت أحس فيه أن قوائم عرشي تهتز من تحتي لما يعصف بها من خطوب، وما يحيط بها من كوارث، فقد أخذت قبائل العرب المعادية تتنمر حول حدود الدولة، وتتحين فرصة للوثوب، فإن لها عند بني حمدان ترات قديمة لا يمحوها كر السنين. والعربي ينسى كل شيء إلا دين الشرف، ويجف عنده كل شيء إلا الدماء. فلا بد لنا من يقظة الذئب ووثبة النمر، وفتكة الأسد، حتى نستأصل هذا الصلف من رءوسهم. ثم هناك دولة الروم، وهي ألد أعداء الإسلام من ناحيتين: ناحية الدين، وناحية السياسة والملك، فإنها لا تنسى ذلك الملك الضخم الذي دك الإسلام حصونه، وثل عروشه، ومزقه إربا إربا، بعد أن كانت أقوى ممالك الأرض وأعظمها عدة وعديدا، وأبعدها ملكا وأطرافا. لن تنسى مملكة الروم ما نكبها به الإسلام، وما أصابها من سيوف المسلمين ورماحهم، حتى أصبحت دويلة لا شأن لها ولا خطر، ولا تحكم إلا على القسطنطينية وبعض البلدان حولها. وقد أيقظتها هذه النكبة فأخذت تعد العدة بالليل والنهار، لتسترد ما فاتها من مجد، وتمحو ما نزل بها من هزيمة. وقد اتفق لما يريده الله لي من خير أو شر، أن تتم استعدادها في هذه الأيام، وأن يختارني القدر للدفاع عن ممالك الإسلام والذود عن حياضه. وزاد في جسامة الأمر وهوله أن ملكهم «نيقفور فوكاس» رجل من أكبر الدهاة، وقائد من أعظم القواد، وسيكون الصراع بيننا عنيفا، وستكون الحرب بيننا محتدمة الأوار، وسيرى الناس وسيشهد التاريخ أن الفتى العربي استطاع بسيفه ورمحه وقلة عديده أن يهزم دبابات الروم، وأن يبدد جيشهم اللهام، وأن يطفي نارهم اليونانية، التي يرسلونها على الجيوش كأنها قطع من الجحيم، لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، لهذا يا بن عمي دعوتك لتكون عضدي وساعدي، ولينال سيفك من النصر ما هو جدير بآل حمدان. - لقد دعوت يا بن العم مجيبا، واخترت أمضى سيوفك حدا، وأصلبها مكسرا، ولم يخلق الله بني حمدان إلا لبذل الرغائب ودفع النوازل، وإن هذا الملك الذي بنيناه بسيوفنا سنصونه بسيوفنا وأرواحنا، لقد كنت أتحرق شوقا إلى خوض المعامع، وآسف لسيفي وهو يكاد يصدأ في غمده، فإذا دعوتني اليوم إلى نصرتك ونصرة البيت الحمداني الكريم، فإنما تدعو إلى الماء هيمان، وإلى الطعام سغبان، إن السيف الذي يسعد بالحرب إلى جانب سيف الدولة لسيد السيوف! - رعاك الله يا أبا فراس، وجعل مقدمك علينا يمنا وبركة، لقد منحتك ولاية منبج، وأعددت لك كل ما تحتاج إليه من سلاح وعدة، وجعلتك قائدا كبيرا بين قواد جيوشي، فاستعد فقد تتمتع بلقاء الروم قريبا. ثم إني وهبت لك قصرا بالقرب من «برج أبي الحارث»، وأمرت أن يبذل كل جهد في فرشه وتأثيثه، وأن يكون به من الجواري والخدم ما يليق بمثلك. اصعد الآن إلى أختك أسماء فإنها في شوق إليك.
خرج أبو فراس، فكان أول من التقى به محمد الخالدي، وكانت رسائل أخته فاطمة قد زودته بكل ما كان بين أبي فراس ونجلاء، فخطا نحوه قائلا: أنا محمد الخالدي يا سيدي أمين خزائن الكتب بالقصر، أريد أن أشرف بلقاء البطل الشاعر، وأحب أن يعدني من أوفى أصدقائه، ثم مد إليه يده في شوق وقال: سمعنا شعرك يا سيدي - قبل أن نراك - في سجع الحمائم، وشربناه في كئوس المدام، وشممناه في أكمام الزهر. فشد أبو فراس على يديه، ثم مد ذراعيه لعناقه، وهو الحبيب أخو الحبيبة، وقال: ما أسعدني برؤيتك، ثم ما أسعدني أن تكون لي أخا حميما! أما الشعر الرائع الذي تتحدث عنه فلن يصل إلى مدى شعر الخالديين. هل انتهى العراك المحتدم بينكما وبين السري الرفاء؟ - لا يا سيدي، إنه لن ينتهي، وهذا الرجل عجيب أمره، فقد أخذ يذيع في كل مكان أننا نسرق شعره وندعيه لأنفسنا، ويعلم الله أن شعره أهون من أن يدعيه غلام ناشئ. ثم إن اللئيم أراد أن يؤكد هذه الدعوى فذهب إلى أحد الوراقين بحلب واتفق معه على أن يكتب له نسخا من ديواننا، فكتبها ودس في غضونها كثيرا من شعره، ثم صاح بين الأدباء: لقد وجدت الدليل! اذهبوا إلى محمود الوراق تجدوا أن ديوان الخالديين به كثير من شعري! وهنا أقبل عليهما قرعويه وهو لا يزال بشا يكاد يسيل رقة وظرفا، وبعد أن حياه الخالدي انطلق يقول: هل يقبل سيدي أبو فراس وسيدي قرعويه أن يشرفا بيتي الليلة بعد الغروب ليبعثا فيه روحا من البهجة والسرور؟ إن فعلا كان ذلك منة منهما وتكريما. فقبلا الدعوة، وغادرهما أبو فراس ليصعد لزيارة أخته.
وفي ذلك الحين كان فارس يقفز من صهوة فرسه عند باب القصر، ويسرع وعليه وعثاء
4
السفر إلى حجرة قرعويه، فلما مثل أمامه اتجه إليه قرعويه وقال: لقد أبطأت علينا يا فهد، فما وراءك؟ - مكثت يا سيدي أياما أرقب نجلاء حتى تحققت أنها تكثر من لقاء أبي فراس، فقد شهدتهما معا في أحد أرباض منبج، وكانا قد خرجا للصيد. أما سبب إبطائي فلأني انتظرت حتى سافر أبو فراس وسافرت نجلاء بعده بساعة أو ساعتين. - هذه الخبيثة التي طالما ماطلتني، وكلما ظننت أني تملكتها فرت من يدي كما يفر الماء من خلال الأصابع! أما مولانا أبو فراس فلي معه شأن أي شأن! ثم فكر طويلا وقال: إنه سيتعشى الليلة في دار الخالديين، وسوف يخرج في أخريات الليل مع غلامه، فهل تستطيع أن تجمع له عصابة تهجم عليه في الطريق وتقتله؟ - إني أعرف أشرار بني كعب، فكم يكفي لقتله؟ ثلاثة؟ - لا، فإنه فارس شديد المراس،
5
وفي رأيي أنه يقهر ما دون العشرة. - سأجمع له اثني عشر فارسا، وسنكمن له في الطريق، أين يسكن؟ - في قصر سيف الدولة أمام برج أبي الحارث. - حسن يا سيدي، لن يضايقك بعد اليوم.
كان لقاء أبي فراس لأخته صورة صادقة من الحب والحنان، فقد كانت أسماء شديدة الشوق إليه، وهي التي دفعت سيف الدولة إلى دعوته، هيأت له المنزلة عنده، وبعد أن سألته عن أمها قامت إلى خزانة لها وأخرجت علبة من الذهب، وقالت: أتعرف ما في هذه العلبة؟ - كيف أعرفه يا أختي؟ - إني وجدتها في خزانة أبيك بعد موته، وقد كتب عليها بخطه «هدية إلى ولدي أبي فراس» فحفظتها لك طول هذه المدة. ففتحها أبو فراس فرأى فيها لؤلؤة ثمينة بقدر البندقة لفت في ورقة، فوضعها في جيبه ووعد أسماء بأن يحتفظ بها، ثم سأل: ومن أين جاءت هذه اللؤلؤة لأبي؟ - أهداها إليه قائد عظيم من قواد الروم، وطلب منه أن يحتفظ بها، ولعل لهذه الهدية معنى لا نعرفه. - قد يكون.
وفي هذه الأثناء دخلت رملة أخت سيف الدولة فوقف أبو فراس يحييها في أدب ومجاملة، وكانت رملة في الرابعة والعشرين من عمرها أميل إلى القصر منها إلى الطول، ليس في وجهها من آثار الجمال إلا شمم في أنفها، وبريق شديد في عينيها، وقد انصرف عنها الخطاب، إما لمنزلة أخيها - وقد يكون بعد المنزلة أحيانا من أسباب العنوس
6
والبوار - وإما لأن القدر قسا عليها فلم يرض أن يعطيها الجاه والجمال معا، فانصرف الأمراء عنها، حتى يكاد يذوي شبابها، ويذبل عودها، وتقع في تلك الوهدة الموحشة التي ترى فيها الفتاة أنها في سن الأم وليست أما، وفي عداد الفتيات وليست في سن الفتيات.
نظرت رملة إلى أبي فراس فرأت فيه الأمير المرح الوثاب، والفارس المقدام، فجالت بنفسها خواطر ووثبت آمال: هذا هو الرجل الذي يجب أن تتزوج به، إنه الرجل الكامل الذي تحن إليه، إنه قريبها وصنيعة أخيها، فلم لا يخطبها منه؟ ولكن ربما كان يهولوه عظم مكانها، وبعد شرفها. وتجتهد رملة في أن تجذب إليها انتباهه. ولكن أبا فراس كان صخرة لا تحس، ورجلا بغير قلب. وكيف وقد أعطى قلبه كله لنجلاء؟ وادخر جميع نظراته لنجلاء؟ لقد كان يحادثها في رفق وأدب، وينصت إلى حديثها إنصات الخاشع المطرق، ولكن نظرة منه واحدة لم تنم عن ميل أو تدل على رغبة في إطالة الحديث.
وحينما هم بالانصراف لم تر فيه رملة إلا مهرا جموحا. وعند أذان المغرب ركب أبو فراس جواده وخلفه مملوكه سهم الذي أهداه إليه سيف الدولة، وذهب إلى دار الخالديين، ووثبت نجلاء للقائه فرحة بسامة، تحييه وترحب به، ثم انطلق بهما الحديث إلى شعب شتى، فتذكر هدية أبيه فأخرج العلبة من جيبه وقال: هذه يا نجلاء أغلى هدية عندي، أقدمها لأغلى فتاة عندي، فتناولتها نجلاء وقالت: ما أجمل هذه العلبة! انظر، إن عليها نقوشا رومية، ثم فتحتها فبهرتها اللؤلؤة بصفائها وعظم حجمها، وقالت دهشة: ما رأيت لؤلؤة مثلها. من أين لك هذه اليتيمة العصماء؟
7 - هدية من أبي، ولو عرف أنني سأحلي بها أجمل نحر في الدنيا لأهدى إلي كل ما في خليج عمان من لآلئ. - وما هذه الورقة التي لفت بها؟ إني أرى عليها كتابة بالرومية فما معناها يا ترى؟ - لا أدري، غير أن اللؤلؤة كانت هدية من قائد عظيم من قواد الروم. وهنا أسرعت نجلاء فوضعتها في خزانة حليها ثم قالت: متى تذيع بين الناس خبر خطبتنا؟ - لكل شيء أوان يا سيدتي، ومن الخير أن تبعثي إلي بدعوة كلما دعوت الأدباء والشعراء للحديث والسمر. - حسنا يا سيدي سأرسل إليك سلمى العراقية، وأرجو أن أراك بين الحين والحين، فإن في حضورك مجالسي شرفا وسعادة.
وفي ذلك الحين قدم الخالديان ومعهما قرعويه، ومدت المائدة وعليها أشهى الألوان، وكان قرعويه مرحا ضحوكا كثير المزاح والدعابة، وبعد الطعام أعدت أكواب الشراب، وأخذ القوم في السمر، وغنت نشوة الدمشقية من شعر أبي فراس قوله:
أساء فزادته الإساءة حظوة
حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي الواشيان ذنوبه
ومن أين للوجه الجميل ذنوب ؟
وقوله:
قد كان بدر السماء حسنا
والناس في حبه سواء
فزاده ربه جمالا
تم به الحسن والبهاء
لا تعجبوا، ربنا قدير
يزيد في الخلق ما يشاء
فماج القوم من الطرب وخرجوا عن وقارهم.
وتحين قرعويه فرصة فاستأذن من صاحبي الدار في الخروج، وبعد أن انتصف الليل قام أبو فراس بعد أن شكر الخالديين، وامتطى جواده وخلفه سهم، وكان الظلام حالكا، وقد خلت الطرق من السابلة، وبينما هما يمران بميدان أمام باب اليهود؛ إذ خرجت عليهما ثلة من الفرسان كانت تختبئ في أحد الدروب، فوثبت على أبي فراس فطارت النشوة من رأسه، وعاوده عزمه ورأيه، فدار حولهم حتى حاذى جانبهم، فأرادوا أن يتجهوا نحوه بخيولهم، فاضطربت الخيل واصطك بعضها ببعض، واهتبل أبو فراس هذه السانحة فأغمد حسامه في فرسين فسقطا على الأرض، ثم تراجع قليلا، فأراد الفرسان أن يتبعوه فارتطمت الخيل بالفرسين الساقطين، فانقض عليهم كما ينقض النمر، وأعمل فيهم سيفه ضربا وتقتيلا، وفي هذه اللحظة هجم عليه زعيمهم وكان ضخم الجثة، وكأنه قطعة الجبل، فضرب بسيفه سيف أبي فراس فأطاره من يده، فوثب أبو فراس من سرجه إلى صهوة جواد هذا الفارس الشعشاع، حتى إذا كان منه وجها لوجه، مد ذراعه الحديدية إلى عنقه فعصره بيسراه، واختطف بيمناه سيفه من يده. وضربه ضربة أطاحت رأسه، فسقط مجدلا. وحينما رأى من بقي من العصابة ما حل بزعيمهم طاروا من الذعر، وهم لا يكادون يصدقون أنهم أحياء، وعاد أبو فراس إلى جواده فامتطاه كأن لم يحصل شيء، وكأن هدوء الليل لم يزعجه صليل سيف، ولا وثبة جواد، وجال بخاطره وهو في طريقه إلى داره أن يترنم بقوله:
إذا كان منا واحد في قبيلة
علاها، وإن ضاق الخناق حماها
وما اشتورت إلا وأصبح شيخها
ولا احتربت إلا وكان فتاها
8
الفصل السادس
عاش أبو فراس بحلب في ظل الرفة والنعيم، واختلط بفرسانها وشعرائها، فكان النجم المتلألئ بين الفريقين، والمفرد العلم في الحلبتين، ولقي في كنف سيف الدولة من بعد المكانة ورفاغة
1
العيش، ونفوذ الكلمة ، ما تطيب به نفس الكريم. وكانت سلمى العراقية تحمل إليه رسائل الدعوة من نجلاء بين فترات قصيرة لا تتعدى اليومين، فعاش في ظلين من النعيم والجاه سعيدا جذلان هانئا.
وفي ذات يوم عزم على أن يبتاع سيفا ليعتاض به عن السيف الذي فقده ليلة محاولة اغتياله، فأرشده خادمه سهم إلى صانع السيوف «لوسيان» وهو رومي أسره العرب منذ عشرين سنة، استطاع بعد أن مر خمس منها أن يفدي نفسه. وقد طابت له الإقامة في حلب، وكان له من دماثة خلقه، وبراعته في فنه، ما حببه إلى كبار الأسر وعظماء القواد بالمدينة، فراجت صناعته ونمت ثروته، وكان مع تمسكه بدينه يرى أن الأديان كلها وسيلة للحياة الفاضلة، ووازع للناس عن ارتكاب الآثام، وحوط من أن يعبث بعضهم بحقوق بعض، فلم يكن عنده ذرة من التعصب، ولم يكن ينظر إلى مخالفه في الدين نظرة الحقد والضغينة، وكان يقول: إن الأديان سبب العداوة والبغضاء حاربت أول أغراضها، وانحرفت عن أجل غاياتها. لذلك كان شديد التمسك بآداب الإسلام والمسيحية، حريصا على تبجيل رجالهما، يقبل يد القسيس كما يقبل يد إمام المسجد. ولم يرزق من النسل إلا بنتا هي «صوفيا» الجميلة التي كانت بدعا في الحسن، وتمثالا إغريقيا حيا يتألق فيه بريق الشباب. ولكنها أحاطت جمالها بسياج من الرزانة والفضيلة، زاد عنه غربان الشر. علمها أبوها العربية، وأدبها فأحسن تأديبها، فاتصلت ببنات الأسر الشريفة بالمدينة، وأصبحت بينهم مضرب المثل في الجمال والذوق المرهف والخلق الكريم. وكانت كثيرا ما تلازم أباها في مصنعه، وتعينه في شئون عمله.
ركب أبو فراس جواده، ووصل إلى مصنع لوسيان فعرض عليه كثيرا من السيوف فأباها، وطلب إليه أن يصنع له سيفا وصفه له. وبينما هو في الحديث إذ لمح صوفيا فبهره ما رأى فيها من حسن هادئ، فابتسم نحوها وقال يخاطب أباها: وما لهذه الفتاة ومصانع السيوف والرماح؟ إن لها من نظراتها سيوفا تتحدى صمصامة عمرو، ومن قدها رمحا يسخر من رماح سمهر. ثم تقدم نحوها قائلا: سعد صباحك يا فتاتي، فحيته صوفيا في أدب مرتجل. ثم أخذت تحدثه في لطف وثقة جعلاه ينظر إليها كما ينظر إلى صورة في محراب، وملأ قلبه إجلالا لفضيلة الحسن وحسن الفضيلة. ولما أعجبه انطلاق لسانها وبراعة عبارتها سأل داهشا: أدرست العربية؟ - إني أقرؤها وأكتب بها كما لو كانت لغة أهلي ووطني. - أنت خير مني يا صوفيا، فإنني لا أعرف إلا لغة واحدة، ولكنها سيدة اللغات، فهي لغة الشعر والأدب والعلم، لم تترك خلجة لنفس، أو لمحة لعقل، إلا ترجمت عنها بأوضح بيان. - ولغتي لا تقل عن العربية سطوعا وصدق أداء، فهي لغة الشعراء والفلاسفة. - ولكني أظنها صعبة على من رامها. - وأي شيء دعاك إلى هذا الظن وأنت لم تحاول تعلمها؟ إن اختلاط المسلمين بالروم يوجب - فيما أظن - على رجال الإسلام أن يلموا بلغة جيرانهم. - لو تلقيتها عنك لأتقنتها في أيام، ولكن من لي بهذا؟ - إن الأمر هين، فلن يكون شيء أحب إلى نفسي من أن أكون أستاذة أبي فراس البطل. - هاتي يدك، اتفقنا، سأكون من غد تلميذك المثابر. ولكن احذري فقد يغضبك تبلد ذهني، فلا تجدين لضربي إلا سيفا أو رمحا.
فابتسمت في لطف وقالت: اطمئن يا سيدي فإن أي سيف لن يجرؤ على أن يمتد إلى سيف أرهف منه حدا، وأصدق فرندا، وعندئذ ودعها أبو فراس وحيا لوسيان وانصرف.
وبعد أيام دخل فهد غرفة قرعويه فرآه، وهو يكاد يتميز من الغيظ، لا يستقر في مكان من القلق، فلما نظر إليه سيده صاح به قائلا: أتعرف أنني أرسلت إلى نجلاء منذ ثلاثة أيام أستأذن لزيارتها فأبت واعتذرت بالمرض، مع أني أعرف وجواسيسي يعرفون أن أبا فراس يزورها في كل يوم أو يومين؟ إن هذا الرجل شغلها عني، قد كانت قبل أن تعرفه أميل إلى القرب منها إلى النفور، ويل لهذا الرجل مني، إن إنسانا واحدا لم يستطع قبل اليوم الوقوف في طريقي، ولو كان هذا الإنسان سيف الدولة نفسه، فما لي أجبن أمام هذا الفتى الغر؟ وما لحيلي تضيق بالفتك به أو صد غوائله عني؟ جردنا له اثني عشر فارسا من صعاليك بني كعب لقتله غيلة فهزمهم منفردا، وقتل زعيمهم بسيفه، أجني هو من جنود سليمان؟ أم خيال طائف لا يمسه سيف ولا يجرحه سنان؟ إنني إن أبعدته عن نجلاء خلصت لي وحدي، ونسيت حبها له في ظلال ثروتي ونعمتي، هل عندك من حيلة؟ - نحن يا سيدي الأيدي الباطشة، وأنت العقل المفكر. - اسمع يا فهد، لقد علمت أنه لا يزورها إلا إذا دعته برسالة تبعث بها مع سلمى العجوز. وهذه العجوز صورة من إبليس على الأرض في الخداع والخيانة والفساد. وهي إذا أسمعناها رنين الذهب طار عقلها، وباعت أمانتها ووفاءها بيع الخسار، فإذا استطعنا أن نجتذبها إلينا، وأن نطلب إليها ألا توصل الرسائل إلى أبي فراس امتنع عن الذهاب إلى نجلاء وقلق، وأسرع فكتب إليها رسالة يسألها عن سبب هجرها، وأغلب الظن أن يبعث بهذه الرسالة مع خادمه سهم، وسهم صنيعتنا، وكثيرا ما استخدمناه في بث الدسائس لأعدائنا، فإذا أخذ من سيده أية رسالة أوصيناه أن يسلمها للعجوز، وبهذه الطريقة لا تصل رسائل نجلاء إلى أبي فراس، ولا تصل رسائله إليها، فإذا امتد الزمن ازدادت القطيعة، وأساء كل الظن بصاحبه، وأدركته العزة فنفر نفور الإباء. وهنا أظهر لنجلاء بمظهر الصديق الوفي الساخط على أمثاله من الأدنياء، ما رأيك في هذه الحيلة؟ - الحيلة محكمة الأطراف، ولكني أضيف إليها حاشية تزيد في إحكامها وإتقانها. لقد تابعت أبا فراس منذ أيام فرأيت أنه يزور مصنع لوسيان الرومي كل صباح، ليتلقى درسا في الرومية على ابنته صوفيا، وسأوحي إلى سلمى العراقية أن تتحدث إلى نجلاء بأن الناس يهمسون بافتتان أبي فراس بصوفيا، حتى إذا رأت من سيدتها شكا فيما تقول عرضت عليها الرسائل التي سلمها إليها سهم، وزعمت لها أنها صادرة من أبي فراس إلى صوفيا، حينذاك يغلي صدرها بالغيرة، ويدركها ما يدرك النساء من السخط على من ينبذ ودهن، ويجرح كبرياءهن. - مرحى مرحى يا فهد لو أنصفوك لسموك ثعلبا! اذهب وافعل ما شئت فإنك بوسائل الخداع جد عليم.
وتحين فهد الفرص للقاء العجوز، حتى عثر بها مرة في سوق النساجين، وهي تحمل تختا من الثياب، فحياها قائلا: سعد صباحك يا أم.
فقبضت من عينيها، وكانت قصيرة النظر، حتى إذا عرفته ضحكت في سخرية ولؤم، ثم قالت في دعابة لاذعة: لقد كان صباحا سعيدا قبل أن أكون أما لفهد. - إن الفهد نمر صغير. - والبرغوث فيل صغير. - لقد نهينا في مأثور الخبر عن سب البرغوث؛ لأنه أيقظ نبيا للصلاة. - لو نسج غطاء أمك من البراغيث ما استيقظت لعبادة. - إن أمي لم تحمل في شبابها ما حملت من مآثم وأوزار. - لو لم يكن إلا أنها حملتك لكفى. - حملتني لأحمل على عجائز السوء. - ولتفر من الحرب. - لو كان للحرب مثل نابيك وخرطومك وعينيك النضاختين،
2
لفر منها أشجع الشجعان. - إن أمك والله أحق مني، فلم لا تشير على سيف الدولة بأن يجرد منها جيشا يطهر به البلاد من غزوات الروم؟ - إن الروم تغير على التخوم والدروب، وأنت تغيرين على ما في الجيوب. - لو وجدت في جيبك مالا لعلمت أنك سرقت ثوب غيرك. - إن في جيبي مائتي دينار. - إن ربع دينار منها يكفي لقطع يدك. - ولو أعطيتك المائتين لقطعت بها لسانك، فكفي عن هذا السباب. - إن عرضك يغري اللسان بالقذف، ولو حاولت إسكاته بكنوز قارون. - وعرضك لا يباع بدرهم. - لأن الكلاب تلغ فيه. ثم ضحكت ضحكة الظافر المنتصر، وربتت كتفه وقالت: من أين لك هذا المال يا جرذ؟ - من قرعويه. - هنيئا لك بسيدك! - وهنيئا لك بسيدي! - أنا! - نعم أنت، فالمال لك! وأنا الناقة التي تحمل الماء وهي عطشى. - متى بدأ سيدك يتصدق على العجائز؟ - حينما علم أن في أيديهن مفاتيح الجنة. - إن جنتي أغلى من أن تفتح بمائتي دينار. - هذه خطوة تليها خطوات، ونفحة تتبعها نفحات. وثمن أول طرقة على ذلك الباب القدسي الطاهر. - اكشف اللثام عن القول ودعني من الكنى. - تعلمين ميل سيدي المبرح إلى نجلاء، وتعلمين أنها تقابل فتونه بالصد، ولن يغيب عنك أنها بعد صداقتها لأبي فراس زاد إعراضها وجفاؤها لسيدي. - أعلم هذا، وأعلم إلى جانبه أني لو كنت في شباب سيدتي وجمالها، ما عملت غير ما عملت. إن أبا فراس لو علمت به الحور لفرت من الجنة للقائه. وأين منه سيدك يا لكع؟
3 - ذلك المتكبر الصلف؟! - هو متكبر صلف علي وعليك يا غبي، أما في مجالس الحسان فحنان وسحر ورقة، وعلى أية حال ماذا تريد مني؟ - أريد أن تقطعي الصلة بينه وبين نجلاء. - وكيف؟ - لا توصلي رسائلها إليه، وسنغري خادمه سهما بألا يوصل رسائله إليها. - هذا حسن، ثم؟ - ثم تشتد الجفوة بينهما، ويظن كلاهما بالآخر الظنون. - معقول، ثم؟ - ثم تنفثين سمومك، وتهونين أمره على نجلاء، وتدعين أنه مدله بحب صوفيا بنت لوسيان، وتطلعينها على رسائله التي سيوصلها إليك سهم، زاعمة أنه بعث بها إلى صوفيا، وأنك حصلت عليها من خادمها.
فاتكأت العجوز بذراعها على كتفه، وغاصت في تأملات عميقة، ثم رفعت رأسها وقالت وهي ذاهلة: كنت أظن أن بحلب مصنعا واحدا للدسائس هو رأسي، ولكني الآن أطرق إجلالا لمصنع جديد في رأس جديد. ثم عاد إليها جشعها فقالت: إن المكيدة قطعة فنية رائعة، ولكن الثمن لتنفيذها لا يزال قليلا. - إن سيدي، لا يفكر في الثمن كيفما عظم، فهو يضع في يدك كل أسبوع مائتي دينار، أتقبلين؟ - قبلت.
فأسرعت يد فهد إلى جيبه فنفحها بالمال.
وكان الاتفاق مع سهم سهلا، ومرت الأيام، واستمرت نجلاء تبعث برسائلها مع العجوز، والعجوز تصونها في حرز حريز، وقلق أبو فراس، فدعا بسهم وزوده برسالة إلى نجلاء كتب فيها:
إليك أشكو منك يا ظالمي
إذ ليس في العالم عون عليك
أعانك الله بخير أعن
من ليس يشكو منك إلا إليك
وذهب سهم، وأعطى العجوز الرسالة، وزوق لسيده كلاما أخبره فيه أنها تلقت الرسالة متضجرة، حتى إذا قرأتها التفتت إليه وقالت: قل لسيدك إني قرأت الرسالة. وغضب أبو فراس، وزمجر وتطاير الشرر من عينيه، ومد يده إلى قرطاس كتب فيه:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفا
وإذا كنى فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول ولا تحاش فإنه
لا بد منه أساء بي أم أحسنا
الذنب لي فيما جناه لأنني
مكنته من مهجتي فتمكنا
ثم دفع به إلى سهم وصاح في وجهه قائلا: يجب أن تعود منها برسالة، ثم جلس ينتظر قلقا مضطربا، يقلب في صفحات فكره فلا يرى أنه ارتكب إثما، أو اجترم جرما. ويعود سهم وقد ارتسم الحزن على وجهه، وصفرت يداه من أية رسالة ويقول في تلعثم وخوف: لقد نهرتني هذه المرة يا سيدي. - نهرتك؟ هكذا هن بنات حواء! وقديما قالوا: «وليس لمخضوب البنان يمين.» ثم انكب على رق
4
كتب فيه:
الآن حين عرفت رش
دي واغتديت على حذر
عنفت نفسي فانتهت
وزجرت قلبي فازدجر
هيهات؛ لست أبا فرا
س إن وفيت لمن غدر!
وكانت الدموع تتناثر من عينيه وهو يكتب، ثم أشاح بوجهه ومد يده إلى سهم بالرسالة وهو يقول: خذ هذه وألقها أمامها وأسرع دون أن تنتظر جوابا.
ولم تكن نجلاء خيرا من أبي فراس حالا فقد روعها جفاؤه، فكانت تذهب وتجيء في دارها في ذهول ووجوم. وكانت لا تزال تسأل العجوز وتلح علها تجد في حديثها الجاف المحرق واحة تلجأ إلى ظلها مما هي فيه من عذاب مقعد مقيم، حتى إذا نفد صبرها اتجهت إلى العجوز في هيئة المستعطف الآمل وهي تقول: هل من سبيل إلى معرفة ما أصابه يا سلمى؟ - خففي عنك يا سيدتي، فإن من أهان نفسه هان. - إنني لم أهن نفسي أيتها العجوز، إن حبنا سماوي قدسي جفا هذه الأرض المظلمة الدنسة وطار مع الملائكة في أفق كله طهر ونور. إنني لا أحب إلا النفس الكريمة والخلق النبيل. أرأيت ما فعلت بقرعويه ذلك الغر الأبله، الذي ظن أنه يستطيع أن يغزوني بجاهه وسلطانه وثروته؟
فابتسمت العجوز ابتسامة الاستخفاف وقالت: عجيب شأن هذا الحب؟ إنه لا يعطي إلا من لا يسأله. إن قرعويه فتى تود كل فتيات المدينة لو ينلن منه كلمة رضا أو ابتسامة حنان! وأين منه هذا الطائر القلق الذي يغرد كل لحظة فوق فنن، ويسكن كل ليلة في عش جديد؟ - اسكتي أيتها العجوز الماكرة. إن أبا فراس لا يسكن كل ليلة في عش جديد. إن له من نبله وخلقه ما يرفعه إلى منازل الأبرار، وإني أخشى أن يكون في الأمر دسيسة قذرة. ومن يدريني أنه يشكو الآن مما أشكو، ويبكي كما أبكي؟ - أخشى أن تكوني صادقة، ولكنه لا يشكو لبعدك ولا يبكي لفراقك.
فظهر الذعر في وجه نجلاء وصاحت: ما هذه الألغاز يا أخت إبليس؟ أتكتمين شيئا عني؟ - إن أخي إبليس أوحى إلي ألا أثق بالرجال. وعلمني في شبابي أن ألعب بهم، وألا أدع واحدا منهم يلعب بي. - أفصحي بالله عليك يا سلمى! - إن الإشارة تغني عن الكلام، ومن العبث أن يقذف المرء بالحجارة زجاجا محطما. - قولي لي يا سلمى فإن صاحبة الزجاج المحطم تريد أن تعرف مكان الخطر. - كانوا يهمسون باسم صوفيا، ثم تحققت صدق ظنونهم. - صوفيا؟ صديقتي صوفيا بنت لوسيان؟ لا لا يا سلمى. قولي كلاما آخر، إنه إن سقط من عرش كرامته، فإن مثلها لن يقدم على حب يستحيل أن ينتهي بشرف الزواج. إنها على شممها وعلو نفسها لا تنسى أنها بنت أسير رومي، وأنها لن تستطيع أن تتصل بملوك العرب. - إنه يذهب إلى دارها كل مساء، وقد بدأ الأمر بأنه يريد أن يتعلم اللغة الرومية. - أنت كاذبة، إن حبيبي لن ينحدر إلى هذه الوهدة. - وماذا تقولين في رسائل أرسلها إليها واستطاع خادمها أن يسرقها لي من خزانتها؟ - أين الرسائل؟
وهنا مدت العجوز يدها إلى جيبها، وأخرجت الرسائل التي سلمها إليها سهم، فاختطفتها نجلاء في غضب يشبه الجنون، وقرأت فإذا استعطاف وشكوى وحنين، وإذا الخط خط حبيبها، وإذا كلمة «يا صوفيا» كتبت في صدر كل رسالة، وكانت قد زورت تزويرا متقنا لم تدركه، وهنا أخذت تئن كما يئن الجريح أقصدته
5
السهام، حتى إذا قضت إربتها من البكاء رفعت رأسها في شمم وكبرياء وقالت: إن أحدا لن يعبث بقلبي ولو كان أبا فراس. وسيرى الناس جميعا أن بنت الخالدي ستستمد من الهزيمة قوة الانتصار، قومي يا سلمى فلن تريني باكية بعد اليوم.
أما أبو فراس فكثرت وساوسه، واختلط عليه الأمر، ولزم داره، وبينما هو يناجي شجونه الضائعة، ويسخط على الدنيا وما فيها من خداع ورياء وختل، إذا رسول سيف الدولة يدخل وبيده رسالة من سيده يخبره فيها باقتراب الروم من مرعش، ويهول له في الأمر، وينبئه بأن الفرصة الآن سانحة للإغارة على حصن برزويه واستنقاذه من أيديهم. ما كاد يتم قراءة الرسالة حتى امتطى جواده وانطلق إلى قصر الحلبة وهو يسابق الريح، وقد شعر في نفسه بشيء من السرور لهذه الدعوة إلى القتال الذي قد ينسيه لواعج الحب، أو يريحه منها إلى الأبد.
الفصل السابع
وصل أبو فراس إلى ميدان القصر في اليوم الثالث من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فرأى زحاما تكاد تلتصق فيه الأجسام، وقد اضطربت آذان الأفق بصهيل الخيل وعجيج الرجال، ورأى جيشا لهاما لا يبلغ الطرف مدى حده، كأنه البحر المائج، وقد لمعت سيوفه، وأشرعت رماحه، واشتاقت فيه النفوس إلى لقاء الموت، ولمح من بعيد سيف الدولة فوق جواده الأشهب، وقد ابتسمت أساريره، وملأه الزهو برجاله وعتاده، فانطلق نحوه حتى إذا بلغه نزل عن فرسه وحياه تحية الملوك وقال: «إنا معك يا بن العم إلى آخر الأرض، ولن نرجع حتى نعلم الدمستق كيف يكون القتال، وحتى نأبى أن نتعلم منه كيف يكون الفرار. سر يا بن العم فإن جيشك غيل
1
متحرك به أسود طال بها الطوى، وحرقها الظمأ إلى دماء الأعداء.»
وهنا صاح الفرسان في حماسة: حيا الله أبا فراس؛ إن جيشا يقوده سيف الدولة ويصول فيه أبو فراس لن يغلب أبدا. وبعد قليل انطلق الجيش كأنه الطود الشامخ يتعثر بالآكام، حتى إذا بلغ حصن برزويه وثب أبو فراس في طليعة الفرسان وسيفه في يده كأنه الشعلة المتوقدة، واحتدمت الحرب، وحمي وطيسها،
2
وتنادى الشجعان، واختلطت الأصوات، وعلا الصهيل والصليل، وطال الصراع ساعات، حتى إذا بلغت القلوب الحناجر، صاح الصائحون: إلى الجنة؛ إلى الجنة أيها الشهداء؛ لقد فتحت اليوم أبوابها، إن الحور العين ينظرن إليكم من خلال السحب، فأروهن أنكم أشوق منهن إلى اللقاء. النصر، النصر! لن يخفق للروم علم بعد اليوم!
وأخذ أبو فراس سمته
3
نحو الحصن وخلفه ضراغم العرب، وتكاثر عليه الروم فكان يطيح رءوسهم كما يحصد الزارع سنابل القمح، وما زال يصعد والفرسان خلفه، حتى وصل بفرسه إلى قمة الحصن، فخلع رايته وقذف بها في التراب، ثم صاح: الله أكبر؛ فردد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن حتى أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف قائدهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد سيف الدولة إلى أنطاكية، ووراء جيشه جيش ثان من الأسرى والغنائم.
وما كاد سيف الدولة يستقر في ضيافة قريبه أبي العشائر والي أنطاكية، حتى تقدم إليه الوالي وهو يأخذ بذراع رجل في هيئة الفارس، تجاوز الثلاثين، طويل القامة، خفيف الجسم، رقيق الشفتين، أصيد
4
العنق، في ملامحه كبرياء الواثق بنفسه، المعتد بها، وفي صدره المرتفع ما يدل على ما يجيش به من آمال جسام، تقدم أبو العشائر إلى سيف الدولة وهو يقول: هذا يا مولاي أحمد بن الحسين المتنبي الشاعر. وهو نادرة الفلك، وفخر عطارد، يريد أن يشيد بمحامد مولاي، وأن يسجل غزواته في جبين الدهور بشعره الخالد. فاشمأز أبو فراس قليلا لطول المديح وكثرة الإطراء، وعجب أن يوصف أمامه شاعر هذا الوصف، وزاد عجبه حينما رأى سيف الدولة يحتفي به ويجلسه إلى جانبه، وحينئذ علم أن زامر الحي لا يطرب، وأن النبي لا يكرم بين قومه. ووقف المتنبي وأنشد قصيدة ميمية وصف فيها انتصار سيف الدولة واستيلاءه على حصن برزويه، منها:
لقد مل ضوء الصبح مما تغيره
ومل سواد الليل مما تزاحمه
5
ومل القنا مما يدق صدوره
ومل حديد الهند مما تلاطمه
6
لقد سل سيف الدولة المجد معلما
فلا المجد مخفيه، ولا الضرب ثالمه
7
على عاتق الملك الأغر نجاده
وفي يد جبار السموات قائمه
8
تحاربه الأعداء وهي عبيده
وتدخر الأموال وهي غنائمه
ويستكبرون الدهر والدهر دونه
ويستعظمون الموت والموت خادمه
وكان سيف الدولة يتمايل من الطرب، وأعجب بعض الشعر أبا فراس، ورأى فيه تجديدا، ولكنه لم يكن يحب من الشاعر ذلك الزهو الذي لا يطاق وبخاصة حينما قال:
عجبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف، والشعر تهذي طماطمه
9
عند ذلك علم أبو فراس أن حربا أدبية بجانب حرب الروم ستنشب نيرانها بحلب، وأن شعراء الشام وهم خير شعراء العرب لن يلقوا أقلامهم أمام هذا الشاعر المتحدي، وأنه وقد أعده الله ليثل عرش الروم بسيفه لن يصعب عليه أن ينزل هذا المغرور إلى حيث يجب أن يكون. ثم سار أبو العشائر بالمتنبي حتى بلغ أبا فراس وقال: هذا ابن عمي أبو فراس فارس بني حمدان وشاعرهم. - سمعت يا سيدي شعره من قبل فأكبرت فنه وأدبه، ما أحسن الملك والأدب يجتمعان! وددت لو بعت نصف شعري بولاية في أقصى الأرض.
فقال أبو فراس: الشاعر له في دنيا شعره ما هو خير من الولايات والمناصب لو استطاع أن يرفع شعره عن شهوات النفوس. لقد أحسنت أبا الطيب في قصيدتك بعض الإحسان لولا أنك أثرت عليك حفيظة الشعراء. ما لك ولهم يا صاحبي؟ إن نوال ابن عمي بحر فياض لا ينقص منه تزاحم الواردين. - إنها الصنعة يا سيدي، وإن للمدح أساليب هذا أحدها، وأنتم لمكانتكم من الملك لا تحاولون هذه المذاهب. - صدقت. وشعراؤنا - وليس لهم ظل من ملك - لا يحاولونها أيضا. انظر، إن ابن عمي يدعوك لتذهب إليه.
وأقام سيف الدولة بأنطاكيا أياما، ثم ارتحل إلى حلب، وكان أبو فراس يظن أن الحرب وأهوالها تنسيه حبه لنجلاء، فإذا خيالها يعرض له في كل معترك، وإذا صورتها تبرز له حزينة باكية بين مشتجر الرماح، جرب السلو بالوحدة فزادت في أشجانه وبالامتزاج بالناس فكانت كل كلمة منهم تذكره بها، وتشعل فؤاده شوقا إليها، وجربه بالراح فطفا وجهه الفاتن فوق كل كأس؛ وظهر لؤلؤ ثغرها في كل حبب،
10
وجربه بالشعر فكانت كل قافية تشير إليها، وكان كل بيت يفتح أبوابه لينبعث منه نور جبينها الوضاح. ثم جربه بالنوم فكانت أطيافها تنتابه
11
في أشكال وصور تثير كامن الآلام، وتنكأ
12
هادئ الجروح.
وصل أبو فراس إلى حلب وقضى ليلة بين هم ويأس، حتى إذا بدا حاجب الشمس قام من فراشه مضنى متعبا حزينا، وطفق يحدث نفسه هامسا: إنها وشاية، إنها نميمة كاشح.
13
إن نجلاء أنبل وأكرم عرقا من أن تهجرني من غير ذنب. إن صداقتي لها أوغرت علي صدورا ملئت باللؤم، وطباعا خبيثة تعرف كيف تحسن الكيد: فمرة تجتمع شرذمة من شذاذ العرب لقتلي عند خروجي من دارها، ومرة يدخلون عليها بهذه الدسيسة الماكرة التي فرقت بيني وبينها. أين السبيل؟ وكيف أصل إليها بعد أن ظهر أن كل الناس يأتمرون بي؟ صوفيا؟ إني سمعتها تذكر نجلاء، وتثني على نجلاء. أتستطيع أن تعمل لي شيئا؟ ولم لا؟ إنها فتاة كريمة الخلق، رقيقة العاطفة. ولم لا أجرب؟ يا أسامة أعد جوادي. وركب أبو فراس حتى وصل إلى مصنع لوسيان فلاقته صوفيا في طلاقة وبشر، وأكثرت من الترحيب به، ثم قالت تداعبه: أظنك نسيت جميع دروسي. - لقد شغلني عنها درس لا أستطيع فهمه. - لن يصعب شيء على ذهنك الوقاد. - ربما استطعت أن أفهم كل شيء، ولكني أقر لك صادقا أنني عجزت عن فهم النساء. فضحكت صوفيا وقالت: ويحي على فارس الطعان، ومبيد الأقران، وفاتح العواصم والثغور، كيف تعجز عن فهم امرأة؟ - نعم يا صوفيا، إن أمري عجب، فهل لديك من معونة؟
وقص عليها أبو فراس أمره من بداءته إلى نهايته، حتى إذا أتم قصته قامت وشرعت تلتف بلفاعها، وهي تقول: سأكون رسولك إليها الساعة. انتظرني هنا. ثم انفلتت كأنها هبة النسيم، وبقي أبو فراس بين أمل يائس، ويأس آمل.
بلغت صوفيا دار نجلاء، فدخلت حتى وصلت إلى البهو الكبير ورأتها سلمى العجوز فجن جنونها. ورأت أن جريمتها أوشكت أن تنكشف، فأخذت تبحث في زوايا رأسها الأشيب عن حيلة تدرأ عنها الخطر، فحيت صوفيا في شوق وترحيب، ثم قالت: أخشى يا بنيتي ألا تستطيع سيدتي نجلاء لقاءك اليوم؛ لأنها تؤثر أن تبقى في سريرها. فأدركت صوفيا أن العجوز - على الرغم من ريائها الظاهر - لم ترتح للقائها، ورأت أنها تكثر من الابتسام ومن بلع ريقها، وتحاول خفض صوتها، فعلمت أن وراء الأمر سرا، وأن هذا السر قد تكون له صلة بما جاءت من أجله، فرفعت صوتها وقالت: ما أجمل هذا البهو يا سلمى! وما أعظم هذه الأعمدة! ثم رفعت صوتها وهي تقول: وهذه النقوش! هذه النقوش! ما أبدعها وما أروع ألوانها! فذعرت العجوز وقالت: خفضي صوتك يا بنيتي. فزادت الشبهة في نفس صوفيا، وأخذت تصيح كالمجنونة: انظري، انظري يا أمي إلى السقف! انظري! انظري! بالله عليك انظري! هذه صورة نسر جارح تفر أمامه الطيور في ذعر ووهل.
14
وهذه صورة نمر يطارد غزالا. مسكين مسكين هذا الغزال!
وبينما هي في صياحها إذ فتح باب البهو وبرزت منه نجلاء. فلما رأت صوفيا بهتت وبان الغضب في عينيها، ووقفت في مكانها لا تريم،
15
وعادت إليها ذكريات صديقها، وآثار آلامها، إن غاصبة هذا الصديق تزور بيتها، وتقف أمامها باسمة كأنها لم تهدم حياتها، ولم تضرج يديها بدماء قلبها، فقربت منها وقالت وصدرها يرتفع وينخفض كأنه كير حداد: ما كنت أظن أن أراك في منزلي بعد أن أغلقت بيديك بابه دونك. - أنا أغلقت بابه دوني يا نجلاء؟ ولمه؟ - هذا سري وسرك. - وقد يكون سر سلمى فقد هالتها زيارتي في هذا الصباح. - إن لها كثيرا من العذر. - ماذا أسمع يا رب؟ لقد جئت شفيعة فأصبحت في حاجة إلى شفيع. - جئت شفيعة؟ - نعم. - لمن؟ - لصديق عزيز، فتهانفت
16
نجلاء وقالت: تتشفعين لصديق عزيز لتسلبيه مرة أخرى! - ما هذا يا إلهي؟ حبيبتي نجلاء! ماذا بك؟ - أنت بي، وأنت دائي، وأنت بلائي. - نجلاء؟ أين ذهب بعقلك؟ بالله عليك قولي ماذا جنيت؟ - خبريني أولا لمن تتشفعين؟ - لمولاي أبي فراس.
فوثبت نجلاء وقالت في دهشة المحموم: لأبي فراس؟! - نعم لأبي فراس. ماذا فعل أبو فراس حتى هجرته وكدرت عليه صفو حياته، وهو أطهر الشباب قلبا وأكرمهم نفسا، وأعلاهم نسبا؟ ماذا جنى حتى بدلت بنهاره ظلاما، وبريحان حياته شوكا وقتادا؟ - ألا تغارين عليه يا صوفيا؟
فحملقت صوفيا وقالت: أغار عليه؟ إنه حبيب إلى كل قلب، ولكنه لا يبعثر حبه على الحسان. إنني أحبه كما أحب القمر الزاهي في ليالي الربيع، دون أن تحدثني نفسي بالصعود إليه. إن من الخبل أن تتعلق رومية بعروش الملوك. - إذا ما هذه الرسائل التي كان يبعث بها إليك؟ فقهقهت صوفيا وقالت: مسكينة يا نجلاء! لقد وقعت في دسيسة أشرار أشقياء. أين هذه الرسائل؟ فقامت نجلاء وأخرجت الرسائل من خزانتها. فلما نظرت إليها صوفيا، وكانت نافذة الذكاء، صاحت: انظري، إنها مزورة، إنها بخطه إلا تلك الكلمة التي صدرت بها كل رسالة. تأملي يا حبيبتي في كلمة «يا صوفيا» أهي من نوع خطه؟
فنظرت نجلاء طويلا، ثم رفعت رأسها كما يرفع الغريق رأسه من اللجة وصاحت: لا يا صوفيا إنها ليست خطه. إنها مزورة، فقد كنا فريسة مكيدة خبيثة. ثم قذفت بنفسها على صوفيا تعانقها وتقبلها في شبه جنون، وهي تغمغم: ويل لي من غباوتي! لقد كدت أضيع صديقي، وأفقد حياتي وسعادتي. مسكين أيها الصديق! ماذا ظننت بي؟ وبم حكمت علي؟ ثم التفتت فلم تجد العجوز فصاحت: أدركوا العجوز! أدركوا العجوز! فهرع الخدم وأسرعوا للبحث عنها في كل مكان من الدار، فلم يعثروا لها على أثر، فاتجهت إلى صوفيا وقالت: هذه العجوز هي رأس الشر، وأم الكبائر. أين أبو فراس الآن؟ اذهبي يا حبيبتي إليه وقصي عليه ما رأيت وسمعت، وتلطفي به، واطلبي إليه أن يقابلني بعد ساعة بقصر أخته أسماء، لنحل معا هذا اللغز المعقد.
وعادت صوفيا إلى أبي فراس فرأته يذرع الغرفة جيئة وذهوبا في قلق ووجوم، فلما وقعت عليها عينه صاح: ما وراءك؟ فلم تجبه وقالت: اجلس هنا يا فارسي، وبالله عليك لا تحملق عينيك هكذا فإنك تخيفني. اهدأ يا سيدي اهدأ، فإن حديثي سيطول، ثم ما هذا العبوس؟ وما ذلك الحزن الذي كاد يعصف بك؟ وفي تلك اللحظة أخذ كلبها يتواثب حولها فمالت إليه تداعبه وتدلله، وتحمله بين ذراعيها، وتخاطبه بعبارات ملؤها الحب والحنان، فضاق أبو فراس ذرعا واشتدت وساوسه، وقال: قوليها كلمة واحدة يا صوفيا، ففي اليأس راحة المحبين، فأغرقت في الضحك وقالت: أي يأس يا صديقي؟ إنها مكيدة محبوكة الأطراف نسجتها يد العجوز سلمى مع أيد أخرى، أترك لك ولنجلاء البحث عنها. - مكيدة؟ ونجلاء لا تزال على صداقتي؟ - نعم، ثم أخذت تقص عليه القصة في تفصيل وإسهاب، وهو مطرق واجم، يتأوه حينا، ويثب من الغضب أحيانا، فلما نفضت إليه كل ما عندها قال: خادمي سهم خائن، والعجوز خائنة، وأنت مسكينة مظلومة، ويل لسهم! ويل لسهم! ولكن هناك أيديا أثيمة أخرى هي التي كانت تدفع هذين الخائنين. الحمد لله والشكر لك يا صوفيا، ما أعجب تصاريف القدر! إنهم لو لم يدخلوك في هذه الدسيسة ما استطعنا لها كشفا! أنا اليوم أسعد خلق الله. اليوم عاد إلي شبابي، وانبعثت آمالي. ثم أخذ يقبل صوفيا في جبينها، ودموعه تغسل مكان كل قبلة، وهو يقول: أتقولين إنها ستقابلني بعد ساعة عند أختي؟ وما كادت تجيب حتى وثب إلى جواده والشوق يكاد يطير به، فما رأى الناس أشد مرحا من فرس وفارس!
وصل إلى قصر أسماء فعانقها طويلا؛ لأن شوقه الثائر الزخار كان يتطلب منفذا، ولو أنه رأى في السلم عبدها جوهرا لأغرقه عناقا وتقبيلا، وجاذبته أخته كثيرا في الأحاديث، وسمعت رملة بقدومه، فأسرعت نحوه في شغف سافر فرد تحيتها في أدب هادئ رزين. وبينما هي تحادثه إذا جوهر يعلن عن قدوم نجلاء. فالتفتت أسماء إلى أخيها وقالت: إن نجلاء فتاة أديبة لا تحتجب عن الرجال، وأظنك حضرت مجالسها التي تجمع رجال الشعر والأدب، أتعرفها؟ فقال: نعم، وهنا أمرت جوهرا أن يدعوها إلى المجلس. فدخلت نجلاء فعانقت أسماء ورملة وألقت بابتسامة خفيفة نحو أبي فراس، ومدت إليه يدها في إجلال وقالت: سمعت قصيدتك يا سيدي في موقعة حصن برزويه، وسمعت قصيدة الشاعر الجديد الذي يدعونه بالمتنبي، وعجبت أشد العجب أن يحتاج مولاي سيف الدولة إلى شاعر جديد، وفي الدولة مثلك ومثل النامي والناشئ وكشاجم وغيرهم من الشعراء المجيدين . - إن كل شاعر في المملكة يا سيدتي سيف للملك ودرع لها. وما أحوج الممالك الناشئة إلى كثرة السيوف والدروع، فقالت نجلاء: إن قصيدة المتنبي كلها عيوب، فمطلع القصيدة طلسم مغلق لا يفهم، وأبياتها مفككة الأواصر ليس فيها شيء من إشراق الديباجة أو الفلسفة البارعة. وحينما هم أبو فراس بإجابتها وكانت أخته قد عرفت من منظره وحركاته ما تنطوي عليه نفسه فصاحت: إنني لا أحب الجدال في الشعر والأدب، فهلا ذهبتما إلى الحديقة فإنها أوسع من أن تضيق بالحديث في الشعر وفنونه يا نجلاء، فذهبا إلى الحديقة وأخذا يتحدثان في المكيدة وما لقيا من جرائها، ثم سأل أبو فراس: من الذي حاك خيوط هذه المكيدة يا نجلاء؟ - قرعويه. - هذا عجيب! - ليس بعجيب يا سيدي، فإنه يريد أن يفرق بيننا بكل ما يستطيع من وسائل. وأذكر أن العجوز سلمى في أثناء احتجابك عني كانت تكثر الغض منك، ومن الثناء عليه، وتلح علي في وصل حبال صداقتي به، ثم إني أعتقد جازمة أن العصابة التي حاولت قتلك ليلة خروجك من داري لم تكن إلا بتدبيره وإيعازه. - اللئيم الفاجر! سأذبحه بسكين جزار؛ لأنه أحقر من أن يقتل بسيف. - لا يا سيدي، إن حب سيف الدولة لهذا الخبيث فوق كل حب، وهو لا يتوانى عن محق كل ما يعرض له بسوء ولو كان ابن عمه. فدعنا بالله نعش في سعادة ونعيم. ودعنا نسخر من مكايد أعدائنا بعد أن نتحصن بالحذر منهم. لا بد أن تحضر الليلة للعشاء فإني سأدعو بعض الأدباء ورجال القصر وبينهم قرعويه، لأمتع نفسي بتعذيبه والتشفي منه. وقد أرسلت إلى نشوة المغنية وإلى الراقصة «صبح» لتكون ليلتنا ليلة سرور وبهجة، ننسى بها ما مر من ليال سود، وأيام نحسات. وبينما كانا في الحديقة كانت رملة تطل عليهما من ثقوب نافذة مقفلة، فلما رأتهما عادت إلى غرفة نومها متعثرة في كل خطوة، ثم ألقت بنفسها على سريرها، وهي تئن أنين اللبؤة المكلومة. وجاءت خادمتها الأمينة «مارينا» فسألتها في ذعر عن سبب بكائها فلم تجبها، وتكرر السؤال، وزاد الإصرار على الكتمان، حتى إذا هدأت نفسها قليلا قالت: دعيني يا مارينا دعيني، فإنني أحترق كما تحترق الشمعة دون أن يرثي أحد لحالي. إنني لست أخت ملك. إنني أبأس فتاة في حلب. ولكن الخادمة أخذت تسكن من ثورتها، وتلح عليها في أن تكشف لها خبيئة أمرها، وبعد لأي مالت رملة إلى أذنها وهمست بكلمات يقطعها النشيج
17
والزفير، وحينما أتمت حديثها هزت مارينا رأسها وقالت: إن الأمر جد خطير، ولكن دعيني يا سيدتي أدبر، وأرجو أن تزول من طريقك العقبات، وأن يتم الأمر كما تحبين.
الفصل الثامن
خرجت سلمى العجوز هائمة حيرى تعض بنانها غيظا وحنقا، ولم يكن غضبها؛ لأن صلتها انقطعت بقوم عاشت في كنفهم عيشة الرغد والنعيم، ولا لأن أواصر رحمة وحنان تشبه أواصر الأمومة كانت بينها وبين نجلاء قد تفككت، ولكنها غضبت واشتد غضبها؛ لأنها لم تحكم المكيدة، ولم تأخذ حيطتها لكل طارئ. وحزنت للفن أكثر من حزنها على نفسها، وخشيت أن يكون لعلو السن يد في اضطراب تفكيرها، وأنها كلما تقدمت بها السنون فقدت هذه المواهب الغالية شيئا فشيئا، حتى تصل إلى الخرف،
1
ورأت رجليها تسوقانها إلى بيت قرعويه، فلما مثلت أمامه - وكان فهد واقفا إلى جانبه - عرف بذكائه أن في الأمر شيئا فقال: أهلا بسلمى. هل طار العصفور من القفص؟ - طار يا سيدي لأن القفص كانت به فجوة تسع النسر. والذنب ذنب صانع القفص، وقد جاء إليك اليوم حزينا معتذرا. - هوني عليك يا سلمى فمثلك من يستطيع صنع قفص جديد لا تنفذ منه الذبابة. والخيبة أول مراتب الفوز. ماذا حصل؟
فقصت عليه العجوز في خجل واستخذاء جملة الأمر، فلما انتهت من الكلام رفع رأسه في عبوس وصلابة، والتفت إلى فهد وقال: ما كان ينبغي لنا أن ندخل صوفيا في الأمر، فإنها فجوة القفص الواسعة التي فر منها العصفور، ولكن ... لا بأس عليك يا سلمى، أقيمي بدارنا فإننا دائما إليك في حاجة. وفي هذه اللحظة دخل خادم ومعه بطاقة فناولها لقرعويه فقرأها عابسا مرة وباسما أخرى، وقال: هذه رقعة من محمد الخالدي يدعوني للعشاء عنده الليلة، ولعله يحتفل لعودة الصفاء بين الصديقين! ثم التفت إلى فهد وقال: قل لحامل الرسالة إنني سأجيب الدعوة.
وكانت ليلة مشرقة حقا، ضاحكة حقا. نبذت فيها الكلفة، وأرسلت النفوس على سجيتها، وأعد فيها كل ما يبهج ويسر، وكانت نجلاء في روعة جمالها، وحسن زينتها ولطف حديثها، شرك القلوب، وملتقى العيون. أما أبو فراس فقد استخفه الطرب، فطار مع اللذات حيث طارت، وقذف بثوب الوقار من النافذة، وكانت نجلاء تكثر من تحية قرعويه، ومن الإقبال عليه كأنه لم يكن منه ما كان، وكأن لم يخش منه ما يكون. والنساء النساء لا يلذ لهن تسميم أعدائهن إلا في كوب عسل! وقامت صبح فأتقنت الرقص، وأجادت الحركات.
وكانت دقات صنوجها فنا من الفن، وطربا من الطرب، وغنت نشوة من قول أبي فراس:
ولما ثار سيف الدين ثرنا
كما هيجت آسادا غضابا
أسنته إذا لاقى طعانا
صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات
فكنا عند دعوته الجوابا
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فراميها أصابا
ثم غنت من قوله:
ألزمني ذنبا بلا ذنب
ولج في الهجران والعتب
أحاول الصبر على هجره
والصبر محظور على الصب
وأكتم الوجد وقد أصبحت
عيناي عينيه على قلبي
وكنت ذا صبر وذا سلوة
فاستشهدا في طاعة الحب
فاهتز القوم من الطرب وعلت صيحاتهم، وما فجعهم إلا شعاع من الشمس يسطع على الحيطان، فقاموا، ودعت نجلاء أبا فراس فهمس في أذنها: متى تصلني منك رسالة يا نجلاء فضحكت وقالت: لقد أذعت سر خطبتنا فليس علينا بعد اليوم من حرج، فاحضر متى شئت وكيف شئت.
وفي صبيحة يوم دخلت مارينا غرفة نوم رملة ورفعت الستور فرأتها في سريرها عابسة، وقد دلت أساريرها أنها لم تنم ليلتها، فقالت لها مارينا: لقد عرفت كل شيء من سهم. - ومن سهم هذا؟ - خادم القصر الذي وهبه سيدي سيف الدولة لأبي فراس. - وما شأنه؟ - لقد فر المسكين من سيده بعد أن انكشفت الدسيسة التي اشترك فيها هو وسلمى العجوز وفهد خادم قرعويه، وكان الغرض من هذه الدسيسة التفريق بين أبي فراس ونجلاء، فإنه قد جن بحبها جنونا. فتنهدت رملة وقالت: علمت ذلك حينما أطللت عليهما من نافذة القصر. - لقد لبثت طول الليل أفكر في وسيلة لإبعاد نجلاء عنه وتيئيسه من الحصول عليها، ثم في اجتذابه إلى القصر، والاستعانة بنفوذ مولاي سيف الدولة من حيث لا يشعر، حتى يأتي خاضعا يستجدي رضاك. - وهل اهتديت إلى شيء؟ - أظن. أتعرفين غالبا التميمي؟ - هو من كبار الجنود في جيش أخي. فضحكت مارينا وقالت: وهو حبيبي المفتون بي، والذي إذا أمرته أن يتسلق الشمس فكر في طريقة للوصول إليها. - وماذا تريدين منه أن يفعل؟ - آه. هنا يقف السر فلا يتقدم خطوة واحدة، فثقي بي يا سيدتي، ولا تتعبي رأسك بالدسائس، فإنها شائكة معقدة.
وبعد أيام زارها غالب في هداة من الليل، فانفردت به في حجرة بحديقة القصر، وطال بينهما الحديث والجدل، وخرج غالب بعد ساعتين وجبينه يتصبب عرقا، وهو يهمس في أذنها: إنها مسألة شديدة الخطر يا حبيبتي، وأخشى أن يقضى عينا جميعا إذا كشف أمرها. - كن رجلا، واعلم أن حبي وزواجي بك في كفة، وقضاء هذا الأمر على ما أريد في كفة، فاختر أية الكفتين شئت. - اخترت الكفة التي فيها حبك، ولو سقطت بي إلى الجحيم، وسأعمل بكل ما أمرت ودبرت.
وبعد هذه الليلة بسبعة أيام أو ثمانية، ركب أبو فراس للقاء نجلاء في دارها فرأى الدار في اضطراب مائج، وأقبل عليه محمد الخالدي باكيا، يضرب بكف على كف، ويقول: فقدنا نجلاء! فقدنا نجلاء، لقد ماتت، لقد ماتت! ولكن أين جثتها؟ لقد بحثنا في كل ركن، وفي كل درب، وفي كل زقاق من المدينة وأرباضها، فلم نجد لها أثرا. خرجت هذا الصباح لزيارة إحدى صويحباتها فلم تصل إلى دارها، وكأنما غاصت بها الأرض، أو تخطفتها السماء. فذهل أبو فراس وكأن عاصفة جرفت به الأرض، فلوى عنان فرسه كالذاهل المجنون، ينظر في وجه كل شخص ويبحث في كل زاوية، ويمر على كل بيت يظن أنها طرقته، حتى إذا يئس في أخريات الليل ذهب إلى داره شبحا محطما، ولم يبق فيه من الحياة إلا زفرات وأنات ودموع.
ومرت الأيام تتلو الأيام ولا يعلم لنجلاء مكان، واهتم سيف الدولة ورجال دولته بالبحث عنها فلم يفلحوا، وكاد مرور الزمن، وتراكم اليأس على اليأس يمحو ذكراها من نفوس الناس إلا من نفس واحدة حزينة: هي نفس أبي فراس. واتهم قرعويه أبا فراس بأنه اختطف نجلاء، واتهمه أبو فراس بأنه اختطفها، ولكن التهم لم تتجاوز شبهات لا تقف على رجلين. فذهب إليه أبو فراس مرة بعد أن طغت عليه وساوسه، فلما تقابلا جعل كل منهما ينظر إلى صاحبه نظرة الثعلب إلى الثعلب، وقال أبو فراس: وهكذا يا صاحبي عجز رجالك عن معرفة مكان نجلاء! - يظهر أن من دبر اختطافها كان في ذكائك وحصافتك فلم يترك وراءه أثرا يدل عليه. - لا بد أن تكون له سابقة في الدسائس، ودربة في نصب الحبائل. - على أنني لا أستبعد مطلقا أن تكون في حلب، وأن تكون في دار رجل عظيم مثلك. - وقد يكون مختطفها رجلا غيورا، فاختطفها ليروضها على حبه، ويكرهها عليه إكراها. - إني لا أجد من يستطيع ردها سواك يا سيدي أبا فراس إن كانت لا تزال بين الأحياء. - وعليك أن تبحث أنت أيضا فربما لا تكون بعيدة عنك. سأتركك الآن يا صاحبي وأرجو أن يهديك الله إلى مكانها.
أما رملة فاستبشرت باختفاء نجلاء، ولوحت إلى أسماء من بعيد بأمنيتها، وعملت أسماء على استهواء أخيها بالثناء على رملة والإشادة بما يحيط بها من ملك وجاه عريض، ولكن أبا فراس كان عزوفا يسمع ويغضي، ويساق فيأبى المسير. ولكن ماذا جرى لنجلاء حقا؟
خرجت في الصباح لزيارة صديقة، فتقدم إليها بالقرب من دارها ثلاثة رجال في زي الحمالين، ومعهم محفة،
2
فتقدم أحدهم في أدب وإجلال قائلا: أتأمر سيدتي أن نحملها في محفتنا إلى ما تريد، فإننا لم نشتغل بدرهم طول نهار أمس؟ فعطفت نجلاء عليهم، وركبت المحفة، وأخبرتهم بمقصدها، فانطلقوا بها يسابقون الريح، حتى إذا بلغوا مكانا خلا من الناس، أسرع أحدهم فكم فمها، وقيد يديها ورجليها في سرعة البرق، ثم أمر صاحبيه أن يسرعا، واستمر ثلاثتهم يعدون حتى جاوزوا أرباض المدينة، وأدركهم الليل فلم يستريحوا. ولما ظهرت تباشير الصباح غيروا أزياءهم، ولبسوا لباس الجنود، ووقفوا عند قلعة رومانية قديمة، تسمى «برج الروم» كانت سجنا سياسيا لأعداء سيف الدولة، وقابل كبيرهم صاحب السجن، وقال له: لقد أحضرنا إليك اليوم فتاة هي أشد خطرا على الدولة من الروم، وهي جاسوسة ماهرة، تستعين بجمالها على استهواء الرجال واستخراج أسرارهم من مكامنها، ثم الإفضاء بها إلى الروم. وقد حيرت مولاي سيف الدولة، وأقضت مضجعه، وكان كلما طاردها أو حاول القبض عليها فرت من بين أصابعه كأنها طيف خيال، والذي نخشاه أن تستبيك هذه المرأة بجمالها، أو تستهويك بفنونها، فاحذر يا خالد! فإن رقبتك لن تكفي سيف الدولة في الانتقام منك. وقد تقول لك: إنها بنت فلان العظيم، أو أخت فلان الكبير، أو إن زمرة من الأشقياء اختطفتها، أو إن أبا فراس أو غير أبي فراس سيبحث عنها، ويعاقب كل من له يد في اختطافها وسجنها. قد تقول لك كلاما كثيرا وهذرا كثيرا، فلا تتزعزع واثبت، واعلم أنك أمام أخبث امرأة في هذا الوجود، أفهمت؟ - فهمت وسأضعها في غرفة منفردة، وأصم أذني عن سماع حديثها وتوسلاتها. - احذر يا خالد واثبت، فإنها ساحرة فاتنة. - لم يبق مني الهرم شيئا يستجيب للسحر والفتنة.
ثم انطلقوا راجعين في أزياء الجنود وما بلغوا حلب حتى قابلوا غالبا التميمي، فمنح كل واحد منهم ثلاثمائة دينار.
انفردت نجلاء بحجرتها، وحينما دخل عليها خالد الشماخ يحمل بعض الطعام سألته: أين أنا؟ فضحك ساخرا وقال: في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية. - أأنت زعيم عصابة اللصوص الذين اختطفوني؟ - حقا لقد سرقوا كنزا من كنوز الدولة ثمينا. - أتعرف من أنا؟ - أعرف أنك هنا وهذا يكفيني. - أنا نجلاء بنت الخالدي، أخت محمد وسعيد كاتبي سيف الدولة وشاعريه. - يظهر أن في المسألة شعرا وخيالا. - أنا صديقة الحارث أبي فراس قائد جيوش سيف الدولة. - وقد عرفت منه كل أسرار الجيش. - أين يذهب بك يا شيخ؟ انظر إلي. - أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق! - إن سيف الدولة يبحث عني، ولو عرف أني في حوزتك لقتلك. - أعرف أنه كان يبحث عنك كثيرا. - بالله لا تراوغني، واستمع لحديثي بعقل وروية، لقد اختطفني لصوص أدنياء، وأدخلوا عليك الغفلة في أمري، فأسرع واذهب بي إلى حلب لتنال أعظم جائزة، وضاق صدر خالد، ونظر إليها مغضبا وقال: اسمعي يا فتاة، إنني رجل من صخر لا يؤثر فيه مال، ولا يستهويه جمال، وقد خلقني الله آلة جامدة تعمل ما طلب إليها عمله، فلا تتعبي نفسك في الباطل، ودعي مكرك ومحالك
3
وادعاءك أنك بنت فلان، أو أخت فلان، وسيصل إليك الطعام مع أحد جنودي؛ لأنني عزمت على ألا أراك مرة أخرى. ثم انصرف مقطبا، واستسلمت نجلاء لأحزانها بعد أن يئست من وسائل النجاة، وتوالت الأيام والليالي وهي لا تجد إلى الأمل منفذا.
وكان أبو فراس قد برح به الحزن لا يجد بعض الراحة إلا عند زيارة صوفيا، التي كانت كثيرة العطف عليه، شديدة الألم لما حل به، وبينما هو في قصره ذات صباح إذا خادمه يعلمه بقدوم صوفيا، فدهش؛ لأن صوفيا كانت شديدة التحرج، مبالغة في التصون. فأسرع يحييها ويرحب بها، ولكنه لحظ في وجهها آثار الاضطراب فأدنى منها كرسيا فجلست، وهي تلهث متعبة مكدودة، ثم همست في أذنه تقول: علمت السر، فوثب أبو فراس صائحا: أي سر يا صوفيا؟ - سر الجريمة، سر اختطاف نجلاء.
فانكب على يديها يقبلها وهو يقول: أنت ملك كريم يا صوفيا، أنت ملك كريم. بحقك أسرعي ونبئيني: ألا تزال بين الأحياء؟ - إني كنت واثقة بكرم الله ولطفه في قضائه. - قولي يا صوفيا قولي. - في هذا الصباح حضر جندي إلى مصنع أبي ليشتري سيفا، فعرض عليه سيفا رخيص الثمن، فأبى في كبر واعتزاز، وأصر على أن يشتري سيفا بثلاثين دينارا، فعجبت للأمر وأردت أن أعرف خبيئة هذا الجندي البائس، فقلت له: إن هذا السيف غال على مثلك، إنه لا يشتريه إلا كبار القواد، وتماديت في السخرية منه، والازدراء عليه، فاشتد غضبه وقال: أتظنين «بشرا الخزامي» فقيرا يا فتاة؟ ثم مد يده إلى جيبه فأخرج منه ما يزيد عن مائة دينار، فتأجج في الميل إلى معرفة مصدر هذا المال. وحينئذ عدت إلى غريزة النساء، فضحكت ثم قلت: حقا إن هذا السيف الجميل لا يحمله إلا الفارس الجميل! فتيقظ غروره، وظن أن المال اجتذبني إليه، فقرب مني، وهمس في أذني بكلمات الحب الوضيع، فلم أغضب، وأشرت إليه أن يتبعني. ودهش أبي وبهر، ولكني غمزت له بعيني فسكت وأطرق. وذهبنا إلى الغرفة لنتحدث فقال: إني أضع كل مالي تحت قدميك، فأظهرت الفرح وقلت: هذا مال كثير، من أين أتيت به؟ فسكت مطرقا، فقلت له: لا بد أن تخبرني يا حبيبي. إننا سنكون زوجين، فكيف تخفي عني سريرة نفسك؟ ألا تعلم أنني سأعترف لك قبل زواجنا بكل شيء؟ سأقول لك: إني كنت أحب ابن عمي، وسأقول لك: إن هذا العقد الذي أزين به جيدي لم أشتره ولكني سرقته في ليلة عرس لأحد الأمراء، وسأقول لك كثيرا وكثيرا. واعلم أني رومية أبيح لزوجي أن يكون لصا، وأبيح له أن يكون قاتلا، ولكني لا أبيح له أن يكذب علي، فإن طمعت في زواجي فاكشف لي عما في نفسك كأني أقرؤه في كتاب. قل يا بشر: من أين هذه الدنانير؟ فقال: هذا المال له قصة يا حبيبتي. فقلت: لا بد أن تكون قصة بطولة وإقدام. فتردد طويلا ثم زفر وقال: طلب إلينا غالب التميمي يوما أن نخطف فتاة من بنات أثرياء المدينة، فاختطفناها، وأعطى كل واحد منا ثلاثمائة دينار. فصحت: مرحى بزوجي البطل! ورميت نفسي عليه أملأ وجهه تقبيلا، ثم قلت وقلبي يرتجف: وأين وضعتم الفتاة؟ فقال: وضعناها في برج الروم، فقلت في شماتة: لا بد أن تكون ماتت وذهبت إلى الجحيم. ثم سألته: من كان معك؟ فقال: جنديان هما: حسان بن علي، وعقيل الحارث. - وأين الرجل؟ - مصفد بالقيود في المصنع، فقد دعوت أبي وصناع المصنع فتكاثروا عليه وأحكموا وثاقه. فوثب أبو فراس وحمل صوفيا بين ذراعيه، وقد ذهب بعقله الفرح، وأخذ يدللها كما يدلل الطفل ويقول: أنت الرحمة في جسم، والحنان في شخص! هذه هي المرة الثانية يا صوفيا، التي تنقذين فيها حياتي وحياة نجلاء. ثم خرج مسرعا من الدار.
أسرع أبو فراس إلى سيف الدولة، وأخبره بكل ما سمعه، وأرسلت الجنود فقبضوا على بشر الخزامي وحسان بن علي وعقيل الحارث. أما غالب التميمي فلم يقفوا له على أثر؛ لأن مارينا أسرعت إلى داره فأخبرته بظهور الجريمة، وحثته على الهرب.
الفصل التاسع
طار أبو فراس إلى «برج الروم» على جواده، كأنه القدر المحتوم، ووراءه خادمه أسامة، وبعد ساعة لمح على الأرض أثر جواد يسلك الطريق نفسها، فثارت شبهاته وظن الظنون، وخاف أن يكون أعداؤه قد سبقوه إلى نجلاء لنقلها إلى مكان آخر، فوكز جواده مستحثا فانطلق ينهب الأرض كأنه البرق الخاطف، أو الخيال الطائف، وبعد ساعتين ظهر شبح فارس، ترفعه النجود، وتخفضه الوهاد، فصاح بجواده وزجره زجر المتيئس، وألهب جنبيه بالسوط، حتى إذا دنا منه وأحس الفارس قربه حاول الفرار فكبا به فرسه، فقبض عليه أبو فراس وتأمل وجهه فإذا هو فهد خادم قرعويه، فسأله عن طيته، فتلعثم وتردد ثم قال بعد أن بلع ريقه مرتين: أظن أنني لم أكن أسيرا فارا، وأعتقد أن لأي إنسان الحق في أن يذهب في أرض الله متى شاء وحيث شاء دون أن يرهق بسؤال. - صحيح، إلا إذا حامت الشبهة حول شخص يريد الفساد في الأرض. - وأي فساد يخشى من فارس يمتطي جواده ليسافر من بلد إلى بلد آخر؟ - الفساد في الغرض لا في السفر، وفي النية لا في الوسيلة، فإلى أي بلد أنت ذاهب؟ - إلى «بالس».
فالتفت أبو فراس إلى أسامة وقال: فتشه يا أسامة، ففتشه فلم يجد معه شيئا، ثم أعاد التفتيش فلم يعثر على شيء، وهنا أخذ فهد يسخر منه في شماتة لاذعة، فغضب أسامة ولطمه على وجهه فطارت عمامته من على رأسه، فأسرع فهد في ذعر واهتمام إلى التقاط العمامة، ولحظ أبو فراس اهتمامه فصاح: هات العمامة يا أسامة، فلما ناوله إياها دقق البحث فيها ففطن إلى أن أحد جوانب القلنسوة أغلظ من باقيها، ففك خياطتها فإذا ورقة بين الظهارة والبطانة كتب فيها:
من قرعويه قائد جيوش الأمير سيف الدولة، إلى خالد الشماخ، إذا بلغتك رسالتي هذه، فأطلق السجينة نجلاء الخالدية، وابعث بها مع رسولنا فهد.
فلما قرأ أبو فراس الرقعة احتدم وجهه بالغضب، وأمر أسامة أن يقيد رجلي فهد، ويردفه وراء فرسه، بعد أن يربطه بالحبال إلى السرج. فأحكم أسامة وثاقه، وكان في أشد الحنق عليه والبغض له. وبعد أن ركبا خطر لأسامة وهما يعدوان فوق قمة أكمة، أن يقطع الحبال التي تربط الأسير بالفرس، ليستريح منه، ولتستريح الأرض من شره، فأخرج سكينه في خفية وسرعة، وقطع الحبال، ورمى السكين فسقط المسكين يتدهده من صخرة إلى صخرة، حتى وصل إلى الهاوية مهشما، فالتفت أبو فراس مذعورا غاضبا. وصاح: ويل لك يا أسامة، أأنت فعلت هذا؟ - لا يا سيدي، إن الشرير هو الذي قتل نفسه، ويظهر أنه قطع الحبال بشيء كان معه، وقد أخطأت إذ لم أقيد يديه أيضا. - أرجو أن تكون صادقا ... أسرع فقد خف فرسك.
وبعد ساعات وصلا إلى «برج الروم» فترجل أبو فراس ووثب إلى داخل البرج قلقا يساوره اليأس والأمل، فلقيه خالد الشماخ، ومال ليقبل يده، ولكنه جذبها منه وقال: أين سجينتك نجلاء؟ فأجاب مضطربا: في الطبقة الثانية يا سيدي. فانطلق أبو فراس كما ينطلق السهم حتى بلغ غرفتها فأطل فإذا كومة من الثياب ملقاة على الأرض، لا تهزها حركة. فتأمل فإذا فتاة ساجدة وقد طال سجودها، فهتف وهو يرتعد: نجلاء! نجلاء! فرفعت رأسها فأضاء الغرفة نور وجهها الوضاح، ونظرت فإذا أبو فراس: فوثبت من صلاتها في شبه جنون، وهي تضحك وتبكي وتصيح. ثم ألقت بنفسها عليه والدموع تمتزج بالدموع، وبعد لأي قال أبو فراس وهو يلهث: كيف اختطفوك يا نجلاء! لقد اختطفوا روحي وعقلي وقلبي. - إنني لم أجزع لاختطافي كما جزعت للبعد عنك، فلو أنهم كانوا اختطفوك معي لعشنا هنا عيشة هنيئة.
فضحك أبو فراس وهو يقول: إنني لا يختطفني إلا جيش جرار أيتها البلهاء، أرأيت كيف يعمل أعداؤنا على تفريقنا؟ أرأيت كيف ينصبون لنا الحبائل؟ فمالت إليه وهي تقول: من صاحب هذه المكيدة الجديدة؟ أتظنه قرعويه؟ - أنا في حيرة، إن الذي نفذها جندي يدعى غالبا التميمي، ولكني لا أعلم لمن كان يعمل، وقد أدركنا في الطريق فهدا خادم قرعويه ففتشناه فوجدنا معه رقعة من سيده يأمر فيها السجان بإطلاقك. فهل يدل هذا على أنه واضع المكيدة؟ - لا، لو كان صاحب المكيدة ما مد فيها إصبعه هكذا علانية، وإنما أراد بالإسراع إلى تخليصي أن ينال عندي حظوة ومنزلة. قل لي: متى نستريح يا صاحبي من هذه الدسائس؟ - حينما نتزوج. - ومتى نتزوج؟ - حينما لا تبقى قدم رومية فوق أرض عربية.
فتنهدت نجلاء وقالت: لقد أبعدت كثيرا يا سيدي. - لم أبعد، وإن سيفي ليحدثني بأن نصر الله قريب.
وهنا دخل خالد الشماخ حزينا ذليلا، بعد أن علم كيف خدعه اللصوص، وضحكوا من ذقنه، فصاح به أبو فراس: لا تثريب عليك يا صاحبي، فقد خدع الأشرار قبلك من كان يظن أنه أذكى منك. - لقد دخلوا علي يا مولاي في ثياب الجنود فما شككت في صدق قولهم. - لقد كانوا جنودا حقا، وإني أعلم أن إخلاصك للدولة، وجمودك في أداء الخدمة حالا بينك وبين الشك والتردد. وهنا قالت نجلاء: لقد كان خالد فيما وراء قيامه بواجبه كريما شريفا.
وبعد أن استراح أبو فراس قليلا، ركب جواده، وأركب نجلاء فرس فهد، وانطلقا يسابقان الريح حتى طلعا على حلب عند طلوع الشمس، وسرت البشرى في المدينة بعودة نجلاء. وأقبل العظماء والأدباء لتهنئتها، وتوافد على دارها كرائم النساء يعلن السرور، ويتوقعن أن يسمعن حديثا عجبا عن اختطافها العجيب، ووصل الخبر إلى رملة فزاد حزنها، وتأججت في قلبها نار الغيرة من جديد ، وكاد يمسها ما يشبه الجنون.
وكان قرعويه بين القادمين لتهنئة نجلاء، فلما وصل إلى باب الدار تقدم أسامة الخبيث نحوه وقد أراد التشفي منه فقال في أدب وإجلال: لقد عثرنا على فرس لمولاي في الطريق يرعى العشب وليس معه فارس، رأينا بجانبه هذه القلنسوة، ومد بها يده نحو قرعويه، فظهر منها الجانب الذي نقضت خياطته، فنظر إليها قرعويه والحقد والغضب يأكلان قلبه وقال وهو يبتسم ابتسامة الأسد: لعل حادثا وقع للفارس يا أسامة، سننظر في كل هذا فيما بعد.
ولاقت نجلاء قرعويه بترحيب، ورآها أبو فراس فحاكاها في ريائها وهو يغمغم
1
بقول أبي تمام:
النار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
وصفا العيش لأبي فراس ونجلاء، ومرت شهور وشهور وهما في ظلال النعيم يعبثان كما يعبث الطفلان المدللان، فلم يكن يفرق بينهما إلا غزوات الروم. فقد غزاهم سيف الدولة في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وكان يقود أعظم كتائبه فارسه المعلم أبو فراس، فأوقع بالروم في «سروج» ثم عرج على «مرعش» فأعاد بناء قلعتها وشتت جموع الروم، وأسر أبطالهم.
وما كادت تطل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، حتى اتجه سيف الدولة بجيشه الزاخر، وأبو فراس في طليعته، نحو «ملطية» فهزم الروم شر هزيمة، ووقع في أسره قسطنطين فوكاس ابن ملك الروم. وفي هذه الموقعة يقول أبو فراس:
وولى على الرسم الدمستق هاربا
وفي وجهه عذر من السيف عاذر
2
فدى نفسه بابن عليه كنفسه
وللشدة الصماء تقنى الذخائر
3
ولم تمض على هذه الغزوة إلا سنة حتى انقض جيش سيف الدولة على جيش الروم عند حصن «الحدث». وكان الروم في نحو خمسين ألفا، فهزمهم وأسر صهر الملك وحفيده وكثيرا من القواد، وأبلى أبو فراس في هذه الموقعة خير البلاء. حين يقول:
حسبي بها يوم الأحيدب وقعة
على مثلها في العز تثنى الخناصر
4
عدلنا بها في قسمة الموت بينهم
وللسيف حكم في الكتيبة جائر
فلم يبق إلا صهره وابن بنته
وثور بالباقين من هو ثائر
وكان يعود بعد كل غزوة وأعلام النصر تخفق فوق رأسه لينعم بالحياة هنيئة رغيدة إلى جانب من يحب، وكانت نجلاء تلوح بزواجهما بين الصبوة
5
والحياء، فلا تجد منه إلا إشارة لطيفة تدعوها إلى الصبر والانتظار.
وفي آخر سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، عزم سيف الدولة على ضرب الروم في بلادهم، فعقد الراية لأبي فراس على القسم الأعظم من جيشه، وسار الجيش، ودمر كثيرا من الحصون، وأملى قائد الروم لسيف الدولة وخدعه، حتى انتهى جيشه إلى «خرشنة» فدهمه عندها بجمع لا يحصى، فحاول التقهقر ولكنه رأى أن الروم سدوا عليه الطرق والمضايق. وكان قرعويه بجانب أبي فراس، وكان الخبيث يعرف منفذا واحدا أغفله الروم، فرأى الفرصة وقد سنحت للقضاء على أبي فراس، فأرشده إلى منفذ آخر يسمى «مغارة الكحل» فانطلق أبو فراس نحوه بجواده فسقط عليه الروم من كل جانب، فلم يستطع عن نفسه دفعا، فاقتادوه أسيرا، وفر قرعويه مع سيف الدولة في ثلاثمائة غلام، بعد أن فقد رجاله وسلاحه، وكانت هزيمة منكرة.
اقتاد الأعداء أبا فراس إلى قلعة «خرشنة»، فسار بينهم فوق جواده مرتفع الرأس، ثابت القلب، يتحدى الكوارث، ويسخر من طوارق الأيام، وكانت القلعة رومانية البناء ضخمة حصينة شاهقة، تشرف من أكمة على نهر الفرات. فأدخلوه بها والسرور يملأ جوانحهم، والزهو ينفخ خياشيمهم؛ لأنهم ظفروا بصقر العرب وفارسهم المغوار الذي طالما شتت جموعهم وفزع قلوب شجعانهم. ودخل أبو فراس حجرته المظلمة الضيقة المنافذ وهو يقول:
إن زرت خرشنة أسيرا
فلكم حللت بها مغيرا
من كان مثلي لم يبت
إلا أميرا أو أسيرا
ليست تحل سراتنا
إلا الصدور أو القبورا
وبقي في الأسر أكثر من شهر، وهو في كل يوم يفكر في الفرار فلا يجد إليه من سبيل. وكان يخرج في أصيل كل يوم ممتطيا جواده ليدور في فناء القلعة، وليطل على الفرات، فكان إذا أطل عليه رأى بينه وبين القلعة ما يزيد على خمسمائة ذراع، فيحار بصره ويدركه اليأس. ولكن طائفا من خيال نجلاء كان يبدد هذا اليأس، ويسخر من هذا الارتفاع الشاهق، ويزعم أن للحب أجنحة يطير بها العشاق إلى من يحبون، كان طيف نجلاء لا يفارقه في صحوه ومنامه، وكان اسمها لا يفتر عنه لسانه، وكانت ذكراها لا ترحل عن فكره ولا تريم. رآها مرة في نومها وهي باكية غاضبة، فلما حاول الدنو منها نفرت منه، وقالت: إن الذي لا يستطيع أن يقرب مني في اليقظة، ليس أهلا لأن يقرب مني في المنام، فهب من نومه جزعا حزينا، وخرج إلى فناء القلعة فامتطى جواده، وصمم على الفرار، ولو لقي في سبيله الموت. فوقف بفرسه على صخرة ونظر تحته فرأى الفرات من بعد سحيق وهو يمور ويزمجر كأنه الأسد ينتظر فريسته، فنزل وعصب عيني الفرس، ثم امتطاه وجمع قوته، واستحث عزيمته، واستنجد بكل ما في نفسه من أمل، ونخس الجواد، وصاح به صيحة يعرفها، فوثب كأنه النسر المنقض، وبقي في الهواء زمنا، وأبو فراس فوقه، وقد طوق عنقه بذراعيه كأنه الحرباء فوق فرع شجرة في يوم عاصف، حتى سقط في النهر فمات الفرس من شدة الصدمة، وأفاق أبو فراس من ذهوله، فرأى الموج يتواثب حوله ثائرا صاخبا، فاسترد عقله وعزيمته، وأخذ يسبح كما يسبح الحوت المذعور، وحراس القلعة ينظرون إليه من أعلاها مشدوهين مأخوذين، وقد قيدت الحيرة أرجلهم، وطوحت المفاجأة بصوابهم، فلما بلغ الشاطئ انطلق يعدو كالظليم. ويشاء القدر أن يمر به في هذه اللحظة فارس من الروم، يمشي الهوينى، فيثب عليه أبو فراس كالذئب الجائع فيسقطه عن جواده، ثم يعلوه ويندفع به نحو حلب، وقلبه يكاد يطير من بين جنبيه، واستمر يغذ
6
السير حتى بلغ المدينة، فهبت لاستقباله والإشادة ببطولته. وكان ذكره حديث المجامع، ووصف فراره ملء الأفواه والمسامع. وسعى إلى داره سيف الدولة في جمع من رجاله وبينهم قرعويه، فمد إليه سيف الدولة ذراعيه ضاحكا باكيا، مثنيا على بطل العرب وصاعقة الروم.
وذهب أبو فراس للقاء نجلاء. وهنا نضع القلم عاجزين. فقد يفسد الكلام وصف ما لا يستطيعه الكلام. ومال أبو فراس على أذن نجلاء هامسا: الآن نستطيع الزواج يا حياتي، فإني أخشى ألا تطول حياتي . ففزعت نجلاء لهذا التطير، وعنفته في دعابة ودلال، غير أنه لم تمض إلا أيام حتى أقيمت معالم الأفراح، وتزوج زين الأمراء بأجمل بنات حواء.
الفصل العاشر
حزن قرعويه وسقط في يده وخاب أمله، وعاش أبو فراس مع زوجه نجلاء في أمن وسعادة، يرف فوقهما جناح الحب الهنيء! وكانت صوفيا تكثر الزيارة لهما، وتشاركهما في كثير من صنوف البهجة والسرور. وأقبلت أمه من منبج بعد طول الفرقة لتنعم بقرب ابنها البطل. وبعد سنة وضعت نجلاء طفلة بارعة الحسن، سمتها «فوزا» لأنها كانت تشعر حقا بحلاوة الفوز بحبيبها، بعد أن وقفت الحوائل طويلا بينهما.
وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، زحف الروم إلى مدينة حلب نفسها، فاشتد الذعر والقلق، وقام أبو فراس يدعو إلى الغزو والجهاد ويصيح:
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم
ضيعوا الحق فيه أي ضياع؟
فمطاع المقال غير سديد
وسديد المقال غير مطاع
ونهض مع سيف الدولة على رأس جيش قليل العدد لا يزيد على أربعة آلاف، وكان جيش الروم يبلغ الثمانين ألفا مجهزا بالعدد الحربية، وآلات التدمير، والنار اليونانية، والدبابات الهائلة، والتقى الجيشان بالقرب من «منبج». ووثب أبو فراس على أعدائه لا يهاب الموت ولا يرهب العدد العديد. وما زال يضرب باليمين وبالشمال طول يومه، حتى تحطم سيفه، وتمزقت درعه. ولما نفدت طاقته، وأصابه سهم في فخذه كاد يستنزف دمه، تكاثر عليه الروم فقبضوا عليه، بعد أن أعياهم قتاله. ونجا سيف الدولة بنفسه إلى بالس. وهي مدينة بين حلب والرقة على ضفة الفرات.
وقع أبو فراس في الأسر، وخاف الروم أن يفر من أيديهم هذه المرة، فنقلوه إلى القسطنطينية، ووصلت الأخبار إلى حلب فحزن الناس، وأقاموا بكل بيت مأتما. وكانت ثلاثة رءوس تجتمع في كل ليلة مطرقة حزينة سامدة،
1
تطيل الإطراق ثم ترتفع وقد شخصت عيونها إلى السماء، وانطلقت ألسنتها بالدعاء والتوسل، هذه هي: رءوس نجلاء وسخينة وصوفيا.
وابتهج قرعويه لأسر عدوه، وعمل على أن يفسد بينه وبين سيف الدولة، وما زال بالرجل حتى أحفظه على ابن عمه، بعد أن كان له محبا وبه كلفا.
ودخل أبو فراس السجن بالقسطنطينية. وكان حصنا رحيبا يشرف على البوسفور. ولم يكن يشغل باله إلا نجلاء وابنته فوز. وأساء إليه الروم أول الأمر، وخشنوا في معاملته، فكان لا يسعده في وحدته إلا الشعر يرسله مع أنات الحنين. وكان يبعث إلى ابن عمه سيف الدولة بطويل القصائد يستحثه على افتدائه، ويصف إليه سوء حاله. وهي تلك القصائد الرائعة، التي فاز بها الأدب العربي في هذه الحقبة. فطالما صاح بابن عمه في ظلمة الليل البهيم وهو يقول:
دعوتك للجفن القريح المسهد
لدي وللنوم القليل المشرد
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها
لأول مبذول لأول مجتدي
وما زل عني أن شخصا معرضا
لنبل العدا إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي
على صهوات الخيل غير موسد
نضوت على الأيام ثوب جلادتي
ولكنني لم أنض ثوب التجلد
فمن حسن صبر بالسلامة واعدي
ومن ريب دهر بالردى متوعدي
فمثلك من يدعى لكل عظيمة
ومثلي من يفدى بكل مسود
تشبث بها أكرومة قبل فوتها
وقم في خلاصي صادق الوعد واقعد
فإن تفتدوني تفتدوا شرف العلا
وأسرع عواد إليها معود
يطاعن عن أعراضكم بلسانه
ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى
طويل نجاد السيف رحب المقلد
ولا وأبي ما ساعدان كساعد
ولا وأبي ما سيدان كسيد
وإنك للمولى الذي بك أفتدي
وإنك للنجم الذي بك أهتدي
وأنت الذي بلغتني كل رتبة
مشيت إليها فوق أعناق حسدي
وقد يغلبه اليأس فيصيح:
هل تعطفان على العليل؟
لا بالأسير ولا القتيل
باتت تقلبه الأكف
سحابة الليل الطويل
فقد الضيوف مكانه
وبكاه أبناء السبيل
وتعطلت سمر الرما
ح، وأغمدت بيض النصول
يا فارج الكرب العظي
م، وكاشف الخطب الجليل!
كن يا قوي لذا الضعي
ف، ويا عزيز لذا الذليل
قربه من سيف الهدى
في ظل دولته الظليل
لم أرو منه ولا شفي
ت بطول خدمته غليلي
ولئن حننت إلى ذرا
ه لقد حننت إلى وصول
لا بالقطوب ولا الغضو
ب ولا الكذوب ولا الملول
يا عدتي في النائبا
ت وظلتي عند المقيل!
أين المحبة والذما
م وما عددت من الجميل؟
وطالما ثارت نفسه على الناس فغمغم يقول:
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه؟
ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم
ذئابا على أجسادهن ثياب
تغابيت عن قوم فظنوا غباوتي
بمفرق أغبانا حصى وتراب
ولو عرفوني بعض معرفتي بهم
إذا علموا إني شهدت وغابوا
إلى الله أشكو أننا بمنازل
تحكم في آسادهن كلاب
تمر الليالي ليس للنفع موضع
لدي، ولا للمعتفين جناب
وكثيرا ما استطال مدة أسره دون منقذ أو معين فهتف:
أقمت بأرض الروم عامين لا أرى
من الناس محزونا ولا متصنعا
إذا خفت من أخوالي الروم خطة
تخوفت من أعمامي العرب أربعا
وإن أوجعتني من أعادي شيمة
لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا
ولو قد رجوت الله لا شيء غيره
رجعت إلى أعلى وأملت أوسعا
لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى
ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا
وما مر إنسان فأخلف مثله
ولكن يرجى الناس أمرا موقعا
تنكر سيف الدين لما عتبته
وعرض بي تحت الكلام وقرعا
فقولا له من صادق الود إنني
جعلتك مما رابني الدهر مفزعا
ولو أنني أكننته في جوانحي
لأورق ما بين الضلوع وفرعا
فلا تغترر بالناس ما كل من ترى
أخوك إذا أوضعت في الأمر أوضعا
فلله إحسان علي ونعمة
ولله صنع قد كفاني التصنعا
أراني طريق المكرمات كما أري
علي وأسماني على كل من سعى
فإن يك بطء مرة فلطالما
تعجل بي نحو الجميل فأسرعا
وإن يجف في بعض الأمور فإنني
لأشكره النعمى التي كان أودعا
وإن يستجد الناس بعدي فلم يزل
بذاك البديل المستجد ممتعا
وقد يطالعه خيال نجلاء فينشد:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
ويحن إلى أمه فيقول:
لولا العجوز بمنبج
ما خفت أسباب المنيه
ولكان لي عما سأل
ت من الفدى نفس أبيه
لكن أردت مرادها
ولو انجذبت إلى الدنيه
أمست بمنبج حرة
بالحزن من بعدي حريه
لا زال يطرق منبجا
في كل غادية تحيه
فيها التقى والدين مج
موعان في نفس زكيه
يا أمتا لا تحزني
وثقي بفضل الله فيه
يا أمتا لا تيأسي
لله ألطاف خفيه
أوصيك بالصبر الجمي
ل فإنه خير الوصيه
وحينما نفد صبره، وضاق صدره بالأسر، حاول الفرار ذات ليلة وكاد يفلت، لولا أن هبت فجأة عاصفة هوجاء، أيقظت الحراس النائمين. وشاع خبر محاولته الهرب في المدينة، وتحدث الروم من جديد بشجاعة الفارس العربي وجرأته، وأخبر ملك الروم زوجه «تيوفانو» بالحادثة، وأفاض في إطراء أبي فراس ووصف وسامته وشجاعته، وأنه مثال رائع للبطولة العربية. فتشوقت إلى رؤيته. وكانت تيوفانو آية من آيات الجمال الإغريقي: تزوجت أول أمرها برومانس ملك الروم، وكان فتى جميل الطلعة نضير الشباب، ولكنها لم تنعم بحبه طويلا حتى طواه الموت. وجلس بعده نيقفور على سرير الملك، واستهواه جمالها، فما زال يتقرب إليها ويتوسل ويستعطف، حتى تزوجته على كره منها.
وما تبلج الصباح حتى خرجت تيوفانو إلى السجن، لتشاهد ذلك الفتى العربي، الذي أثار الناس حوله ضجة من المديح، وكادوا يلحقونه بآلهتهم القدماء. وما كادت تقف أمام أبي فراس حتى رأت تمثالا أبدع الخالق القدير تنسيقه للقوة والبطولة، ورأت الشهامة العربية والشمم القرشي في وجه لم تستطع الوقائع والأهوال واشتباك السيوف أن تمس شيئا من وسامته، فخطر بنفسها خاطر يشبه الجنون: لم لا يكون هذا الفارس الجميل قائدا من قواد الروم؟ ولم تحرم القسطنطينية هذه الدرع الحصينة التي هي أصلب من أسوارها، وأقوى من قلاعها، إنه إذا انضم إلى جيش الروم قهر الدنيا وأعاد إلى القسطنطينية المجد القديم. لقد وقع هذا الصقر في أيدينا فلم لا نتخذ منه قوة إلى قوتنا، وبازيا لصيد أعدائنا؟ خطر بنفسها هذا الخاطر فمالت نحو الأسير وقالت: ما حالك اليوم يا بطل الصحراء؟ وكان أبو فراس تعلم من صوفيا ما يستطيع به أن يفهم الرومية، وأن يتحدث بها في شيء من اليسر فابتسم وقال: حال الأسير العاني يا درة البحار. - هل فارقت في حلب حبيبا؟
فزفز أبو فراس وقال: فارقتها ولم يفارقني خيالها. - إن في فتيات الروم من الحسن ما يزهد فيك كل ذات جمال، وقد جئت أيها الفارس لأفتح أمامك باب الأمل، ولأبدد عنك خواطر اليأس، ولأنقلك من هذه الحجرة المظلمة إلى أعظم قصر بالمدينة. - كيف يا سيدتي؟ - إن الأمر بيدك وهو عليك جد يسير. - لا أفهم ما ترمين إليه. - سنخلص لك الود ونغمرك بمحبتنا ونعمنا إذا رضيت بالحياة معنا وجردت حسامك في صفوف جيوشنا. - أنا يا سيدتي؟ - نعم سيجعلك نيقفور قائد جيوش الروم، وستكون مرتبتك تالية لمرتبته.
فضحك أبو فراس وقال: يا سيدتي إن العرب لا يبيعون أنفسهم لأعدائهم ولو لاقوا ما هو شر من الحمام. إننا يا سيدتي أبناء الصحراء نبتت أخلاقنا من صخورها، واتقدت قلوبنا في قيظها وهجيرها. نحن لا نحن إلى النعيم إلا في ظل الشرف والكرامة والذود عن الحوزة والدفاع عن العقيدة والوطن. لا يا سيدتي إنني أجد في الأسر لذة ونعيما كلما ذكرت أنني لم أصل إلى السجن إلا بعد أن سقطت في ميدان الشرف والجهاد. - عجيب أمرك أيها الفتى، تقبل الدنيا عليك بحذافيرها فتركلها بقدمك لوهم كاذب وكبرياء معتوهة؟! - إنها العقيدة الراسخة يا سيدتي، والخلق العربي الذي ارتضعناه من أثداء أمهاتنا. - تصور أنك ستكون القائد الأعظم لجيوش الروم، وتصور أني سأزوجك إحدى وصيفاتي وهي أجمل امرأة فتحت عليها عين إنسان. - لو كنت جنديا في جيش العرب ما قبلت أن أكون ملكا لكم. أما الزواج يا سيدتي فإني متزوج بمن لا أبيعها بالجنة وملائكتها الأطهار. - إنك ستظل في الأسر ذليلا إلى أن تموت دون أن تجرد سيفا لنصرة العرب ودون أن ترى لزوجك ظلا. - السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.
فظهر الغضب على وجه تيوفانو وغادرت السجن وهي تغمغم بكلمات لم يفهمها. ولم تزره في السجن بعد ذلك، ولكنه لحظ بعد زيارتها تضييقا من الحراس وعنتا. واستمر في السجن أكثر من ثلاث سنين دون أن تقدم فدية لإطلاقه.
وقضت نجلاء طوال هذه المدة في هم مقعد مقيم، لا تجد إلى تخليص زوجها سبيلا، حتى إذا اشتد بها الوجد، فتحت خزائنها لتمتع عينيها برؤية أول هدية أهداها إليها، فأخرجت العلبة الذهبية، وكشفت غطاءها، وأبرزت اللؤلؤة الفريدة ملفوفة بورقتها كما أخذتها من أبي فراس، وجلست تنظر إليها في ألم وحسرة، وقد طافت بها طيوف الماضي البعيد. وبينما هي كذلك إذ دخلت صوفيا، فأرتها اللؤلؤة، وأخبرتها بخبرها، وبأن قائدا من قواد الروم أهداها إلى الأمير سعيد أبي زوجها، وأن سعيدا أهداها قبل موته إلى ابنه أبي فراس.
فعجبت صوفيا من عظمها وصفائها، ثم التفتت فإذا ورقة على بساط الغرفة يعبث بها النسيم، فمدت إليها يدها وبسطتها، فإذا عليها كتابة بالرومية، فلما شرعت تقرؤها بدت على وجهها علامات الدهش، ثم صاحت: نجا أبو فراس! نجا أبو فراس! فهزت نجلاء كتفيها في خشونة وصاحت: كيف؟ كيف؟ بالله قولي كيف؟ - اسمعي يا حبيبتي ترجمة ما في هذه الورقة التي بقيت في خزانتك أكثر من ثلاث سنوات، وزوجك يلاقي ذل الأسر وعذاب الهون، والتي قذفت بها فوق بساط الغرفة تذهب بها الرياح كل مذهب. - ماذا فيها يا صوفيا؟ - فيها ما يأتي: «أنا واسيلوس الأول رأس الأسرة المقدونية وملك الروم، أقرر بخطي أنني بينما كنت في «قيصرية» وقعت أسيرا في يد أمير من أمراء العرب اسمه أبو العلاء سعيد الحمداني. فأكرمني غاية الإكرام، وفك أسري، فلم أجد وسيلة لشكره إلا أن أهديه علبة من الذهب بها لؤلؤة نفيسة، ليس لها مثيل في الدنيا إلا لؤلؤة محفوظة بقصرنا بالقسطنطينية، وإني آمر كل رومي أن يكرم كل من يحمل هذه الورقة، ويحمل معها اللؤلؤة، وأن يجيب مطالبه.»
وما كادت تتم صوفيا قراءة الرسالة حتى رقصت نجلاء من الفرح، وأقبلت على صوفيا تقبلها، وتجتذب شعرها، والدموع تنهمر على عينيها انهمارا. فلما أفاقت من النوبة، التفتت إليها وقالت: يا صوفيا! أنت نجم أبي فراس الصاعد، وملكه الحارس، هذه هي المرة الثالثة التي تنقذينه فيها. وهنا دخلت سخينة فأخبرتها الخبر، فكادت تجن من الفرح. ثم قامت نجلاء إلى خزانة أبي فراس وأخرجت منها ثلاثة أثواب، وأمرت خادمها أن تأتيها بخيط وإبرة. فدهشت صوفيا وقالت: ماذا تريدين أن تصنعي؟ - أريد أن أقصر هذه الثياب حتى تلائم قدي لأرتديها وأذهب إلى القسطنطينية لإنقاذ زوجي. - وحدك؟ - نعم وحدي، ولن يذهب أحد معي. إنه كان يستهين بالموت في حبي، فلم أهاب الموت في حبه؟ هلم هلم، قصرا الثياب فإن الانتظار يكاد يقتلني. وبعد أن تم تقصير الثياب قصت نجلاء شعرها، ولبست أحد الأثواب، ووضعت الثوبين الآخرين مع عشرة أكياس من الدنانير في علبة، وتمنطقت بحزام به خنجران، وتقلدت أحد سيوف زوجها، وأمرت أسامة أن يعد لها أسبق جواد في الإصطبل، ثم ودعت سخينة وصوفيا، وانطلقت فوق الجواد كأنها البرق الخاطف.
ولو حاولنا وصف الطريق، وما لقيته نجلاء من الجهد والنصب، ومن عصابات اللصوص بين عرب وروم، لامتدت القصة وطال حبل الكلام، ويكفينا أن نقول: إنها بلغت القسطنطينية بعد عشرين يوما قضتها بين الخوف ولقاء الموت، وبين اليأس والأمل. فأخذت سمتها نحو قصر الملك، فقابلها الحراس لدى الباب، وصاح بها زعيمهم وكان له إلمامة بالعربية: من أنت أيها الفتى؟ - رسول من قبل سيف الدولة برسالة إلى الملك. - لعله يطلب الهدنة بعد أن دمرنا عليه حلب. - إنكم دمرتم بنيانها، ولم تدمروا قلوب رجالها. فظهر الغضب على وجه الزعيم وقال: عجيب شأن هؤلاء العرب فإن اليأس لا يعرف إلى قلوبهم طريقا. - إن العرب يحاربونكم بإيمانهم، وأنتم تحاربون بدباباتكم ونيرانكم اليونانية. - كفى أيها الفتى الشجاع، تسلب من سلاحك وادخل.
فنزعت نجلاء سلاحها، ودخلت القصر مع المترجم، حتى وصلت إلى بهو العرش، فرأت نقفور فوكاس جالسا على سريره وحوله الوزراء والقواد، فأدت تحية الملوك، وقدمت إليه الورقة، فقرأها والدهشة تبدو على وجهه. ثم صاح بالمترجم: سل الفتى أين اللؤلؤة؟ فمدت نجلاء يدها بالعلبة، فأخرجت منها اللؤلؤة فقال: حقا إنها أخت لؤلؤة القصر. ثم اتجه إلى المترجم وهو يقول: هذه الرسالة من مؤسس دولتنا واسيلوس، وأمره حكم واجب الطاعة، ويظهر أن الأمير العربي الذي أحسن به، ووهب له حياته، كان بطلا كريما، فسل الفتى أيها المترجم عما يشاء. فلما ترجم الكلام لنجلاء قالت: أطلب إطلاق رجل في أسر الملك، هو أبو فراس الحمداني! - لقد طلبت عظيما يا فتى. إن أبا فراس وحده جيش لهام، ولم يهدأ للروم روع إلا بعد أن ظفروا به. أطلب ما تشاء يا فتي غير هذا. - لن أطلب سواه.
ففكر نيقفور مليا ثم قال لقواده: اذهبوا معه، وأطلقوا سراح أبي فراس. فخرجت نجلاء وهي لا تكاد تصدق ما سمعت، حتى إذا وصلت مع القواد إلى السجن، واتجهوا نحو غرفة أبي فراس سبقتهم إليها، فلما رآها صاح: نجلاء؟! نجلاء حبيبتي؟! وانكب عليها كالمجنون يقبلها ويبكي، وقد طوقته بذراعيها، وهي تهتف: وجدت حبيبي، وجدت حبيبي! ودخل القواد فعجبوا مما رأوا، وزاد في دهشتهم أن الفتى العربي انقلب فتاة رائعة فاتنة، وبعد لأي هدأ الفتى، وهدأت الفتاة، وأخبرته نجلاء بقصتها، وبأمر الملك بإطلاقه. فحملها بين ذراعيه كأنه يحمل البازي العصفور، وخرج من السجن والقواد أمامه، وإذا هم لدى الباب رأوا تيوفانو واقفة وهي تبكي، وحينما لمحت أبا فراس مدت إليه يدها في حزن وأسى، وهي تتمتم: سحقا للروم لقد سلمت سلاحها لأعدائها!
واشترى أبو فراس جوادا، وانطلق مع نجلاء نحو حلب، حتى إذا بلغاها هبت المدينة للقائهما، وأصبحت قصة نجلاء حديث كل دار، وأنشودة كل شاعر، ولقي أبو فراس أمه فأبكاهما اللقاء، ولقي صوفيا فعانقها طويلا، وكان شكره لها أطول من عناقه، وملأ السرور كل قلب إلا قلب رجل واحد، هو قرعويه.
الفصل الحادي عشر
ومرت سنة مات فيها سيف الدولة، فترك موته في كل نفس لوعة، وولي الملك بعده ابنه أبو المعالي سعد الدولة، وكان في الخامسة عشرة من عمره ضعيفا بأعباء الملك كاهله، فتحكم فيه قرعويه. وكاد يقوم بشئون الملك دونه، وملأ صدره حقدا على خاله أبي فراس فبرم أبو فراس بدسائس قرعويه، وأحزنه أن يصبح ابن أخته لعبة في أيدي الطامعين في الملك المتوثبين عليه. فخرج على سعد الدولة في ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وضم إليه بعض الجنود، وسار بهم نحو «حمص» يريد الاستيلاء عليها، وكانت نجلاء وابنته فوز وأمه معه في هذه الغزوة. وما كاد يعلم قرعويه بنيته حتى أغرى سعد الدولة بإرسال جيش عظيم لمحاربته، وحينما التقى الفريقان بالقرب من ضيعة تسمى «صدد» استهوى قرعويه جنود أبي فراس بالمال، فانصرفوا عنه، ودهمه بجيش كثير العدة والعدد.
وحارب أبو فراس حرب المستميت، ولكن السهام انصبت عليه من كل ناحية، وانتاشته السيوف من كل مكان، فسقط عن جواده مثخنا بالجراح، فتركه أعداؤه، وهو يجود بأنفاس قصار، وانطلقت إليه نجلاء وأمه وابنته حزينات نائحات، وحملت نجلاء رأسه فوضعته فوق ركبتها في رفق وحنان، وأخذت تناديه وتناجيه بعبارات تقطع القلب، وتذيب الصخر. وقامت أمه حوله تلطم عينيها حتى أذهبت بصرهما، وطال بكاء فوز وجزعها، وامتد نشيجها، ففتح أبو فراس عينيه وهو يحتضر، والموت يزاحم أنفاسه، ونظر إلى نجلاء، ثم إلى أمه ثم إلى بنته وقال في صوت متقطع:
أبنيتي لا تجزعي
كل الأنام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرة
من خلف سترك والحجاب
قولي إذا ناديتني
وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا
س لم يمتع بالشباب!
Unknown page