Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
إلى أرض أمامه مغروسة ببعض الأزهار، فتقطف وردة ثم تعود وتغرسها في شعرك وأنت نائمة، وتقول: انظروا، ورد على ورد! فكنت أول انتباهك من النوم تستنشقين ريحين: ريح الورد في شعرك، وأنفاس أمك الحنون التي كانت تستقبلك، ثم توفيت أمك وانفرط عقد منزلك؛ إذ تزوجت أخواتك وتزوجت أنت أيضا، ولكن كان نصيبك هائلا ... أصبحت وحيدة فريدة في الدنيا ترين الناس يقومون ويقعدون، ويروحون إلى أعمالهم ويجيئون، وأنت منفردة ساكنة ليس لك أحد تعتمدين عليه، وتستندين إليه، فماذا تفعلين؟ وكيف تعيشين؟ هنا وصلت إلى الحمامة المفترسة التي استشهدت بها في كلامك، فماذا كان ينبغي للحمامة أن تفعله لئلا تفترس؟
لقد كان أمامها طريقان: الأول أن تكون قوية، فتتسلط على عقلها وقلبها وتبادر بنشاط النحلة ودأب النملة إلى كسب رزقها بيديها؛ للاستغناء عن غيرها إذا لم تجد كفؤا لها يصونها ويغنيها. ولكسرة خبز تؤكل في هذه الحالة من الاستقلال وعزة النفس، وشرف الاسم، وطيب الأحدوثة بين الناس؛ خير من جميع ثروات الدنيا وترفها إذا كانت - أي هذه الثروات - غير مقرونة بها. والطريق الثاني: الاستسلام إلى العواطف والأوهام ووهن العزيمة ... على أن تلك الحمامة لم تقدر على حسن الاختيار بين هذين الطريقين؛ لأنها لم تهيأ لهذا الاختيار ولم تعد له. وهذه عقدة المسألة.
هنا تظهر بأجلى بيان مبادئي التي سمعتها وأنت متوارية وراء الشجرة، وغضبت هذا الغضب من أجلها؛ فمبادئي توجب على الحمامة أن تختار الطريق الأول؛ أعني أن تكون قوية وتحذر، وتنبه نشاطها، وتقوي إرادتها، وتختط خطة تسير عليها دون أن تترك للصدفة سبيلا للعبث بها. القوة والإرادة والدربة، هذا ما كان ينقص الحمامة؛ فما كل حمامة تفترسها الأفعى مع قوتها وغدرها، وإنما تفترس الأفعى الحمامة التي لا تحتاط لنفسها، ولا تحسن الدفاع عنها.
فماذا تقول الحمامة يا مريم إذا قلت لها هذا القول: إنك أجمل الطيور الأليفة، فلا تتركي الأفاعي تدنسك وتسطو عليك ... لقد خلق الله لك جناحين تطيرين بهما إلى حيث لا تصل الأفاعي إليك ... وإذا احتطت لنفسك وأعملت فكرتك ونشاطك ودربتك، واستعملت إرادتك، فليس لجارح أو كاسر في أعالي الجو قوة على الوصول إليك؛ لأنك مع ضعفك وشدة ذلك الكاسر قد أعطيت قوة على التخلص منه، على شرط أن تشحذي قوتك وإرادتك وتنبهيهما فيك على الدوام، ولكن إذا نمت عنهما وتركتهما تنامان، واستسلمت إلى الضعف والوهن والصدفة والاتفاق، فعدم وجودك خير من وجودك في هذا الزحام الهائل في الحياة؛ لأن في عدم وجودك راحة لك، وفي وجودك ضعيفة بين الجوارح والكواسر ألم دائم وعذاب أبدي.
هذا ما كنت أقوله يا مريم وأغضبك ذلك الغضب، هذا ما كنت أقوله في حمامة السماء، وأقوله الآن لحمامة الأرض أيضا ... أمن حقك أن تثوري علي تلك الثورة بعد هذا؟ ألا ترينني في كلامي نصير الضعفاء لا نصير الأقوياء؟ ألا تعتقدين أن مبادئي هذه هي الوحي الجديد الذي يحتاج إليه شرقكم الذي أفنته تلك المبادئ القديمة، وأضعفت فيه كل حماسة للحياة الراقية، وأصابت روحه بالشلل؟ لقد كنت في هذا صديقك لا عدوك يا مريم، فاحكمي بعد أن سمعت.
قال شيشرون هذا الكلام ثم سكت وشخص في جهة مريم ليرى فعل كلامه فيها، وكانت لوائح الألم تلوح في وجه مريم من حين إلى حين في أثناء كلامه، فتارة يغور دمها إلى قلبها فتبرد أطرافها ويصفر وجهها، وطورا يثور دمها ويفور فيصطبغ وجهها بلون قرمزي، ويتوارد الدم إلى دماغها تواردا يكاد يخنقها؛ ذلك أن شيشرون أثار فيها بكلامه هذا عاطفتين هائلتين: الأولى عاطفة الكبرياء الذاتية، والكبرياء أم الفضائل، كما أنها أم الرذائل، فإنه بثنائه عليها، ووصفه جمال جسمها ونفسها، وطهارة حياتها السابقة حرك ما كان كامنا فيها من الأشجان، ورد إليها نفسها الأولى التي كانت لها قبل دخولها في وادي الشقاء ...
ولكن هذه العاطفة كانت ضعيفة بالنسبة إلى العاطفة الثانية التي أثارها فيها كلام شيشرون البارع، فإنه لما أخذ يصف تربيتها في صباها، ويذكرها أمها وحنوها عليها، وحبها لها، وتعلقها بها، وتفانيها من أجلها، ثار كل ما كان مكنونا في نفس هذه المرأة المسكينة من العواطف الطيبة، والتذكارات العيلية الجميلة، كأن زوبعة هائلة هبت في داخلها فنسفته نسفا؛ ولذلك لم يفرغ شيشرون من كلامه ويلقي عليها قوله الأخير: فاحكمي بعد أن سمعت. حتى ارتخت أعصابها بعد توترها، وانحنت قامتها بعد انتصابها، وبقيت شاخصة في جهة شيشرون، ساكتة جامدة جمود الصنم. وبعد انقضاء عشرين ثانية عليها وهي في هذه الحالة ارتعشت ارتعاشا شديدا، ورفعت بغتة يديها إلى عينيها، ثم استخرطت في البكاء كأنه أصابها ألم فجائي.
فدهش شيشرون ويوسف لما أصابها، ونظر أحدهما إلى الآخر وقد تحركا كلاهما نحوها، إلا أن مريم لم تمهلهما أن يصلا إليها فانتفضت وصاحت وسقطت إلى الأرض مغمى عليها؛ إذ أصابتها نوبتها العصبية.
وبينما كان يوسف وشيشرون يعنيان بمريم وينبهان حواسها وهما في حزن وأسف لما أصابها، كان راعي الغنم في أعلى شرفة الوادي ينادي قائلا: يا قديس يوسف، سيعلق بك شياطينها. الحمد لله أن غنمي بعيدة عنها.
ثم إن الراعي تناول مزماره ونفخ فيه في وسط ذلك الهدوء أنغاما مطربة، فكان مثالا لفراغ البال والهناء في الخلاء، بينما كانت مريم تحت الشجرة أمامه تتشنج وتصيح كمثال لآلام الهيئة الاجتماعية وشقائها واضطراباتها.
Unknown page