Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
فرح أنطون
الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة
إنشاء الروايات العربية
الروايات وأنفعها لنا
بين الفصحى والعامية
اللغة العربية الجديدة
أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية
الشبان وخطرهم وما يجب لهم
تربية المرأة
تربية البنات
Unknown page
عمر الخيام
ابن رشد وفلسفته
الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير
سوريا حلقة التمدن
إسكندر الكبير
عبادة الإنسان النبات
خطبة لدى شلال نياغرا
مريم وشيشرون
الوحش! الوحش! الوحش!
فرح أنطون
Unknown page
الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة
إنشاء الروايات العربية
الروايات وأنفعها لنا
بين الفصحى والعامية
اللغة العربية الجديدة
أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية
الشبان وخطرهم وما يجب لهم
تربية المرأة
تربية البنات
عمر الخيام
Unknown page
ابن رشد وفلسفته
الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير
سوريا حلقة التمدن
إسكندر الكبير
عبادة الإنسان النبات
خطبة لدى شلال نياغرا
مريم وشيشرون
الوحش! الوحش! الوحش!
فرح أنطون
فرح أنطون
Unknown page
حياته - أدبه - مقتطفات من آثاره
فرح أنطون
1874-1922
كان في الثانية عشرة من عمره عندما دخل مدرسة بكفتين يتلقى فيها العلم؛ وهي مدرسة للروم الأرثوذكس بقضاء الكورة في دير فوق طرابلس. وكانت يومئذ على جانب من الرقي والازدهار، تعلم العلوم والآداب والفقه الإسلامي، واللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية، ومع أنها مدرسة طائفية فلم تصطبغ بها أسرتها التعليمية، بل كانت خليطا لا ينتمي إلى طائفة واحدة؛ فالرئيس بروتستنتي، والمدير والناظر مارونيان، وأستاذ العربية والفقه مسلم، ولم يكن فيها سوى معلم أرثوذكسي واحد، كما يخبرنا فرح أنطون في مجلته «الجامعة»، فأقبل إليها الطلاب على اختلاف النحل، تسودهم الألفة والمودة، فتركت هذه المدرسة المختلطة أثرا بليغا في نفسه لبعدها عن التعصب الديني، ويقول في ذلك: «وإنما الأثر الذي أشرت إليه أثر أدبي لم يبرح نفسي قط، ولعله كان ذا تأثير على أفكاري في كل حياتي.» ا.ه.
ولزم الفتى الناشئ هذه المدرسة إلى السنة السادسة عشرة من عمره، فأتقن فيها العربية والفرنسية، وطرفا صالحا من العلوم. وكان لا يميل إلى الإنكليزية فأعرض عنها، وسخر برفاقه الذين يعنون بها دون الفرنسية، إلا أنه ندم على تنكره لها بعدما سافر إلى الولايات المتحدة وشعر بالحاجة الملحة إليها.
وكان شديد الشغف بالآداب الفرنسية، فأكب على مطالعة مصنفات أعلامها منهوما لا يشبع، وجليدا لا يهي له صبر أو يعتريه ملل، فكان من أكثر الأدباء حبا للقراءة، كما يشهد على ذلك الكتب المتنوعة التي نقلها إلى العربية أو لخصها، أو بحث فيها دارسا منتقدا. ويخبرنا عن نفسه أنه صرف عمره في درس الفرنسية، وقرأ فيها ما لا يقرؤه غيره في مائة سنة.
ولم تقتصر مطالعاته فيها على ما أنتجه أبناؤها، بل شملت جانبا مما نقل إليها من آداب الألمان والإنكليز والروس، فكانت له ثقافة غربية متسعة أضافها إلى ثقافته العربية والشرقية، وهي في جوهرها عقلية أكثر منها أدبية؛ فقد كان ينزع إلى حياة الفكر، فيعنى بالفلسفة والتاريخ والاجتماع والدين، وإن لم يهمل الأدب والفن، ولا سيما القصص والتمثيل.
على أن هذه الثقافة المأخوذة من مطالعات سريعة غير متئدة، فوضوية غير منتظمة، متنوعة غير محدودة، مفرطة غير معتدلة، لا يسهل في الغالب هضمها على ملتهمها، فتحدث له اضطرابا في الحفظ، وارتجاجا في التفكير، لا يقتدر معهما على التأمل الصحيح ليبني رأيا ثابتا بعد التدقيق والتمحيص، فيصبح عرضة للتأثرات الطارئة عليه من كل كتاب يقرؤه، أو مذهب ينتهي إليه.
وهذا ما نجده عند فرح أنطون في أبحاثه وقصصه؛ فقد كان متأثرا بروح الثورة الفرنسية، على ما فيها من حسن وقبيح، يلذ له أن يشاكس رجال الدين وأرباب الأموال، وينادي بالمساواة وحرية الفكر وحقوق الإنسان، ولكنه لا يتنكر لسنة تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعي، وسيادة الأفضل. ويكتب عن ابن رشد معجبا بآرائه في أزلية المادة، ملخصا أقوال رينان فيه، ويتطرف إلى بحث ديني جعل الشيخ محمدا عبده يناظره ويرد عليه. وكان - مع ذلك - يميل إلى رأي الغزالي في فصل الدين عن الفلسفة؛ لأن الدين ينبجس من القلب، والفلسفة من العقل. ولخص تاريخ المسيح وأعمال الرسل لرينان، وتحمس له كثيرا وانتحل مذهبه في إنكار المعجزات، دون أن يحاول درسه ونقده ليتبين له الصحيح من الفاسد، على أنه لم يكن معطلا للدين في حقيقته الإلهية، ولا واقعا في الجحود المطلق، ويؤثر الاشتراكية الإنجيلية على الاشتراكية المادية.
ومثل هذا الاضطراب نجده في قصته: «العالم الجديد، أو مريم المجدلية»، فإن خطبة شيشرون مستوحاة من مذهب نيتشه في إتلاف الضعيف، وتحقير الرحمة، وتعظيم القوة والصراع. وخطبة مريم في الرد عليه ترمي إلى تحطيم هذا المذهب، وتدعو إلى رحمة الضعيف كما يدعو إليها الدين.
Unknown page
وله قصيدة عنوانها «على جبل» نظمها في نيويورك، وجعلها بين نيتشه وتولستوي، فذكر أقوال الفيلسوف الألماني في نبذ الشرائع الدينية، وتغليب القوي على الضعيف، ولكنه احترس منها بقوله:
هذا كلام نيتش إن نيتش كا
ن مقوم المعوج والمناد
في زعم بعض الناس. أما مذهبي
فيه، فأبقيه إلى ميعاد
ثم ذكر أقوال الفيلسوف الروسي في نقض آراء معطل الشرائع، وقاتل الرحمة، حتى إذا سكت الفيلسوفان لم يستفد صاحبنا منهما إلا التحير والارتجاج:
لم تستفد غير التحير منهما
فجميعها أمسى أبا مرقال
وكذلك قصة الدين والعلم والمال، حاول أن يشرح فيها المشكلة الاجتماعية بين العمال وأصحاب رءوس المال، فبنى لها ثلاث مدن متجاورة تتجادل وتتخاصم وتتشاتم، فلم يجد وسيلة للتوفيق بينها، فدمرها كلها وتركها خرابا.
كان فرح أنطون وافر الذكاء، متقد الخاطر، واسع الاطلاع على مذاهب روسو، ورينان، وفولتير، وكونت، وداروين، ونيتشه، وماركس، وتولستوي، وابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام وسواهم، فنقل من مصنفاتهم، ولخص آراءهم وحللها، وأحبها كلها، وأشاد بذكرها، وأراد الإصلاح والحرية والخير للإنسان، ولكنه اضطرب في آرائه، وارتج عليه، فلم يقم له مذهب شخصي، ولا نظام فلسفي مترابط، مع ميله إلى الحياة الفكرية، واتسع نشاطه الأدبي إلى القصص والمسرحيات تصنيفا وترجمة، وتشبه بكتاب الفرنجة والروس، فجعل ما صنفه منها وسيلة لبث آرائه الدينية والاجتماعية، فغلبت عليه الخطب والمواعظ والمجادلات، فضعفت في قصصه الميزة الأدبية والفنية.
Unknown page
ولغته سهلة غير متكلفة، لا يعنى باختيار ألفاظها، وحسن تنزيلها، فهي أشبه بلغة الجرائد، وكان يؤثر هذا الأسلوب في الكتابة ويدعو إليه، ويتنكر لتنميق العبارة وتنخلها. ولعل مرد ذلك إلى شغفه بالثقافة العقلية، ثم إلى سرعته في العمل، وكثرة اشتغاله بالتأليف والنقل وتحبير «الجامعة»، فلم تنحسر له أسرار الألفاظ كما انحسرت له أسرار المعاني، وفاتته ملكة التعبير، فلم يدرك جماله كما أدرك جمال التفكير.
وظل يتعهد مجلته «الجامعة» في الإسكندرية حينا، وفي الولايات المتحدة آخر، ويعالج الأبحاث الاشتراكية تصنيفا وترجمة، ويتوفر على القصص والتمثيل حتى تهدمت بنيته وانهارت قواه، ويخبرنا عن نفسه فيقول: «رأيت في بعض الليالي الفجر يطلع علي وأنا وراء مائدة العمل.» فتوفي في مصر وهو دون الخمسين من عمره.
بطرس البستاني
عن: مناهل الأدب العربي، رقم 29
الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة
لكل عصر حاجات، ولو كان العصر اليوم كعصر الهمذاني والزمخشري وابن المقفع والمتنبي، لما كان لأحد أن يذكر للكتاب حاجات جديدة؛ فإن الهمذاني كان يزور خراسان مثلا فينشد بضعة أبيات، ويكتب بضع رسائل، فيعود ممتلئ الأردان، والمتنبي كان يقول قصيدة واحدة فيعطى من أجلها ألوف الدنانير. ومتى كانت سوق الأدب رائجة إلى هذا الحد، فذلك دليل على وجود الاتفاق التام في أذواق القائلين والسامعين.
ولو أن العصر بقي كما كان في أيام من أشرنا إليهم؛ لجاز أن يقال لأدباء اليوم: تحدوا سابقيكم، واقتدوا بمتقدميكم. وحينئذ كان هذا الاقتداء أمرا معقولا مقبولا، ولكن العصر قد تغير من حسن الحظ، ولم يعد المقصود من الأدب وصناعته مدح الملوك والأمراء أو العظماء، بل صار يقصد به أمر أسمى من هذا كثيرا، ونريد بذلك تكوين الأمم، وتكبير نفوسها، وإنهاض ضعفائها، وترقية شئونها.
كان المتنبي لا ينظم شعره إلا لممدوحه ولطبقة الشعراء والمتأدبين، وكان يظن أن هؤلاء الشعراء والمتأدبين هم الدنيا كلها، بدليل قوله: «إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا.» مع أن هؤلاء الشعراء والمتأدبين كانوا جزءا صغيرا من الأمة. أما اليوم فالكاتب العصري عليه أن يكتب لمجموع الأمة كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء، رجالا ونساء، تجارا وصناعا وزراعا وأدباء؛ أي إن الأدب والعلم أفلتا من قيدهما القديم الذي كان يحصرها في طبقة واحدة لغرض التسلية والطرب، واندفعا نحو جميع الطبقات لأغراض عمومية يقصد بها فوائد أدبية وعملية؛ فنتج عن ذلك أن رواج الأدب لم يعد متوقفا على طرب أمير كسيف الدولة، ولا على جود الملوك والخلفاء، بل على تأثير أقوال الكاتب في الجمهور الذي صار السيد الحقيقي على الأدب والأدباء؛ فوظيفة الكاتب إذا أن يحسن التأثير في نفوس هذا الجمهور.
وإن قيل إن الملوك والأمراء قد يؤثرون أعظم تأثير في ترويج الأدب لمساعدتهم أهله، فنجيب: إن هذا القول صحيح متى كانوا يقصدون بمساعدتهم لهم مجرد إنماء مواهبهم لتنتفع الأمة بها، ولكن إذا كانوا يقصدون بذلك تقييد تلك المواهب بهم لتنشر نور مجدها عليهم وعلى أعمالهم بالمدح والثناء، فإن الحال تتغير تغيرا عظيما، خصوصا متى كانت مصلحة الملك مخالفة لمصلحة الأمة. ذلك أن صاحب تلك المواهب لم يعط مواهبه من الله ليجعلها وقفا لفرد واحد، ولو كان ملكا، بل أعطيها ليخدم بها جميع بني جنسه، فإذا خطر له وقفها على واحد أو جماعة أو طائفة أو مذهب دون غيره، فإنه بذلك ينقض العهد الذي أعطاه على نفسه وهو في بطن أمه، حين أخذ تلك المواهب عن طريق الطبيعة من يد العناية الإلهية، وحينئذ يقع بين نارين: إما دوس مصلحة الأمة من أجل مصلحة ملكها، وإما ترك الملك وقيوده الذهبية مختارا عليها معيشة الفقر والحرية مع الأمة.
ولا ريب في أن أولئك الكتاب والشعراء المتقدمين الذين كانوا يتزاحمون على أبواب الخلفاء والأمراء، ويتنافسون في إطراء ممدوحيهم، ووضعهم أحيانا في مرتبة الآلهة، ليستدروا منهم ألوف الدراهم والدنانير - تلك الأموال التي كانت مأخوذة من دماء الشعوب والأمم بطرق مختلفة - لو علموا أنهم وجدوا لمساعدة الشعوب والأمم، لا لمساعدة ملوكها على ابتزاز أموالها، ومشاركتهم بعد ذلك فيها بطرق تشبه طرق الشحاذة؛ لعلموا أنهم أضاعوا مواهبهم في غير وجوهها، ولم يأكلوا مالا حلالا.
Unknown page
ومتى ثبت أن أول أغراض الأدب والعلم ترقية الأمم وإنهاض الشعوب؛ ترتب علينا أن نعلم حاجات الكاتب الشرقي الجديدة في هذا العصر.
الحاجة الأولى:
وعندنا أن أولى حاجات الكاتب الجرأة والحرية، ونريد بذلك حرية الفكر والنشر، وتحت الحرية تدخل فضائل كثيرة، فإنه متى كان الكاتب يكتب بحرية واستقلال فكر، فإنه يكون صادقا منصفا عادلا قليل الشذوذ والشرود. ويشترط في ذلك أن تكون الحرية مطلقة في أقواله، لا أن يتكلم بحرية في هذا الموضوع لأن الحرية فيه موافقة لمصلحته، ويداهن ويصانع في ذاك لأن الحرية فيه مخالفة لمصلحته. وكل إنسان يعذر الكاتب
المداراة القانونية، ولكن ما عذر الكاتب الذي يعيش في بلاد أقلامها مطلقة؟ لا عذر له
مدح ما يستحق الذم، وذم ما يستحق المدح، وحينئذ يخرج عن دائرة الوظيفة الحقيقية التي توجد لها الصحافة، وتثقف لها الأقلام.
ولسنا ننكر أن هذه الحالة شائعة في كل العالم؛ لأنها حالة عمومية؛ إذ كل إنسان يطلب تأييد مصلحته قبل كل شيء؛ ولذلك كانت أكثر صحافة أوروبا نفسها مبنية على المصلحة. قال أحد كتابهم في الشهر الماضي: إن جرائدنا صارت عبارة عن وباء حقيقي، فإن المدح والذم يكالان فيها بلا عدل، وقد قتلوا الانتقاد الصحيح المبني على الصدق وحرية الفكر، ووضعوا في مكانه أوراقا يرسلها المؤلفون وأصحاب الكتب، فإذا قرأت انتقاد كتاب، فاعلم أن أكثره مكتوب بقلم المؤلف نفسه أو بقلم صديق له. نقول: ولكن إذا كان في الغرب جرائد هذه حالها، ففيه أيضا جرائد كالتيمس، والطان، وبرلنر تاجبلاط لا يمكن أن يلحقها شيء من هذا الغبار. فنحن نرجو أن تقوى في الشرق صحافة جدية مستقلة كهذه الصحافة؛ لتخرج من الدائرة التجارية المحضة إلى الدائرة الصحافية الحقيقية. ويلوح لنا أن ذلك لا بد منه، وإلا بطل كل تأثير لها في القراء؛ لأن الأقوال لا تؤثر إلا متى كانت خارجة من القلب والضمير.
الحاجة الثانية:
ورب قائل يقول: ماذا يحل بالأفكار في الشرق إذا كان كل كاتب فيه يبسط آراءه بكل حرية دون مراعاة ما هو معروف من تعدد العناصر؟ فنجيب: لا يحل بالأفكار سوء؛ لأن التساهل كالماء يخمد كل حدة وكل نزق، فالحاجة الثانية: التساهل. وليس المراد بالتساهل أن يكون ما يكتبه الكاتب موافقا لكل الآراء، وكل العناصر، وكل المذاهب. كلا، فإن هذا التساهل يفني قوى الكاتب، ويذهب بتعبه أدراج الرياح، ويشوه الحقائق أقبح تشويه. ولقد سمعنا مرة بعضهم يقول: إن موقف الكاتب الشرقي صعب جدا في هذا العصر؛ لأنه يكتب للمصري والشامي والجزائري والتونسي والهندي والفارسي والأفغاني والقوقازي إلخ إلخ؛ ولذلك يجب عليه ألا يكتب إلا ما يرضي الجميع. فضحكنا عند سماعنا هذا الكلام وقلنا: إن وظيفة الكاتب أسمى من ذلك بكثير. أجل، ليست وظيفة الكاتب بتر الحقيقة هنا، وتمويه الكلام هناك إرضاء لهذا أو ذاك، بل وظيفته أن يقول الحق، وينطق بالصدق في أي جانب كان، لكن يشترط عليه في ذلك شرط لا بد منه، وهو أن يترك دائما للقارئ الحكم في المسائل التي يبسطها؛ لأن القارئ قلما يحب أن تضغط عليه لتقنعه. وإذا كنت تطلب منه التساهل فيجب عليك أن تعلمه ذلك بالقدوة؛ أي أن تكون متساهلا في آرائك؛ لأن القدوة خير المعلمين. إذا لا تضع آراءك وأقوالك في منزلة الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد مسه، فإن لكل إنسان نظرا ومذهبا في الأمور، ومتى احتكت هذه المذاهب والآراء بعضها ببعض فلا يبقى منها مع الوقت إلا أفضلها. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنشر الحقائق والمبادئ نشرا فعليا بين الناس، وترقية العقول عن الأشياء المألوفة الراسخة في النفوس بحكم العادة. وكن على ثقة من أن كل العناصر التي ذكرتها تقرأ أقوالك ولا تستاء منها إذا راعيت هذا الشرط، ولو وجدت فيها ما يسوء؛ لأنها تعلم أنك لا تقصد بها سوءا ولا سيطرة على عقولها فيما تكتب، وإنما تقصد بسط الآراء والمبادئ بعضها بجانب بعض طلبا للحقيقة في أي جانب كانت.
الحاجة الثالثة:
والحاجة الثالثة أن يحب الكاتب صناعته، ويولع بها، ويطلبها لذاتها. ولا بد هنا من اعتراض قوي، وهو أن جميع الكتاب في كل البلدان يحبون صناعتهم، وكثير منهم لا يجنون منها فائدة كبيرة ، ومع ذلك تراهم متعلقين بها. فالجواب أن هنا إشكالا تجب إزالته؛ إذ شتان بين من يولع بشيء لأنه عمله الذي خلق له، وبين من يريد أن يجعله عمله قسرا، ويرغم طبيعته به ميلا إلى جماله وجلاله. وهذا الخطر موجود في كل مكان، لا في الشرق فقط. وقد وضع المسيو بونيه الفرنسوي منذ بضعة أشهر كتابا سماه: خطر صناعة القلم، أو ثلاثة من عائلة لكران، أثبت فيه أن ألوفا من الأدباء يتهافتون في كل عام على صناعة القلم في فرنسا، وتسوء حالهم لأنهم قهروا طبيعتهم قهرا على عمل لم يكونوا من رجاله، وإنما جذبوا إليه بجاذب جماله.
Unknown page
وإنما أردنا بحب الكاتب صناعته وطلبها لذاتها: مقاومة داءين شديدي الفتك؛ الداء الأول: يأس كثيرين من الكتاب من صناعة الأدب في الشرق؛ ولذلك يولولون عليها ويقيمون المآتم حزنا لموتها. وهذا الأمر يسبب ضررين؛ الأول: الحط من كرامة الأدب لدى قرائه، والثاني: إزالة الثقة من نفوس أولئك الكتاب، ومتى زالت من نفس الكاتب ثقته في نفسه وفي صناعته، فقد قضى على نفسه وعلى صناعته وعلى قرائه، ولم يعد يقدر أن يصنع شيئا مفيدا، فالأجدر به في هذه الحالة أن يترك القلم بسكون وهدوء، ويطلب الرزق من باب آخر. والداء الثاني: اتخاذ الأدب شباكا لصيد الذهب. وهذه آفة الأدب في الشرق. ولسنا ممن يحرمون الغنى على طلاب الأدب، ولكنا ممن يحرمون في الأدب جعل المال في المرتبة الأولى، والعلم والأدب في المرتبة الثانية؛ لأن صناعة الأدب ليست بصناعة تجارية، ومن يريد معاملتها معاملة التجارة فهو غير أهل لأن يكون منها. وسبب ذلك أن موضوع الأدب خدمة الجمهور، كما تقدم، وهذه الخدمة تقتضي أن تعطي الجمهور من قوتك ومن نفسك أكثر ما يمكنك إعطاؤه؛ فالكاتب الذي لا يطلب صناعته لذاتها بل لأجرتها يكتفي في أكثر الأحيان بملء الورق بما يكون قريب المنال؛ إذ غرضه ربح المال لا إبراز أرقى ما يمكنه إبرازه من قوى نفسه. وبذلك يصبح الجمهور مغبونا، والأدب مظلوما؛ لأنه ينحط بهذه الطريقة، ولا يمكن أن يترقى معها، وحينئذ يتساءل الناس: لماذا لا تؤثر الأقلام في النفوس؟ مع أن السبب معروف محسوس. وإن قيل إن التبعة في هذه الحالة واقعة على الجمهور لأنه لا ينشط أهل العلم والأدب التنشيط الواجب ليسد حاجاتهم، ويجعلهم يطلبون صناعتهم لذاتها، فالجواب: إن على الجمهور تبعة عظيمة في هذا الأمر، ولكن هذا لا يخفف التبعة التي على الكاتب؛ إذ متى وجد كتاب يطلبون العلم والأدب لذاتهما، فإنه يكون عندهم الفقر والغنى سببين في هذه الصناعة؛ لأن الغنى الذي في النفوس لا تنقص قيمته عن الغنى الذي في الخزائن، إن لم نقل إنه أفضل منه.
الحاجة الرابعة:
وأما الحاجة الرابعة فهي مختصة بقلم الكاتب، ونريد بها تضلعه من المواضيع التي يكتب فيها.
وهذه الحاجة تقسم عندنا إلى قسمين: المادة ولباسها؛ أي الأفكار والألفاظ التي يعبر بها عنها، والأسلوب الذي يجري هذا التعبير به.
أما المادة فهي تكاد تكون موجودة في كل يد ... فإن كل كاتب يكفيه لخوض أبواب السياسة والتاريخ والعلم الأدبي والعلم الطبيعي والفلسفة أن يفتح أي جريدة أوروبية أو أي كتاب أوروبي ... وهذا من فضل اللغات الأجنبية التي تسهل للكتاب طريق هذه العلوم التي تعب المؤلفون عشرات السنين في سبيل تحصيلها، ولكن الحق يقال: ليس الذنب في ذلك للشرقيين، بل للناموس الطبيعي، فإننا الآن في عصر يسميه علماء العمران: عصر القرود، يريدون به عصر التشبه بالغير والتقليد، وإذا ساعدت الأحوال المعارف الشرقية، فإنها ستنتقل - إن شاء الله - من طور الاتباع إلى طور الابتداع، وحينئذ ينبغ في الشرق المبتكرون والمخترعون، ولا نعود نرى المعارف الشرقية عبارة عن نسخة من المعارف الأوروبية، وصدى لمجلاتها وجرائدها العلمية والسياسية، بل يكون الباحث في الكيمياء معتمدا في بحثه على معمله لا على مجلته، والباحث في التاريخ معتمدا على سياحاته لدرس الآثار في أماكنها الأصلية، لا على الكتب والأوراق، وهلم جرا. وربما وصل الشرق إلى هذا الزمن بعد قرن أو نصف قرن إذا ساعدته الأحوال، وكثر قراء اللغة العربية فيه كثرة تمكن أحد الكتاب من التفرغ لكتابة كتاب واحد في عامين أو ثلاثة؛ أي إن الكاتب يستفيد من كتابه هذا بعد كتابته ونشره فائدة مالية تكافئ أتعابه ونفقاته.
وبما أن المادة صارت اليوم موجودة في كل يد - كما تقدم - فقد صار الفضل والصعوبة في الأسلوب الذي تبرز به، ورب مادة يعطاها كاتبان فيصنع أحدهما منها فصلا ترقص له عجائز وائل، ويصنع الآخر منها فصلا لا يقرؤه أحد. وهنا مذهبان مختلفان يتنازعان الكتاب في كل أمة تقريبا؛ المذهب الأول: مذهب الذين يعتمدون على قواعد السلف وأصولهم في الكتابة والتأليف، فلا يخرجون عنها قيد أصبع، والمذهب الثاني: مذهب الذين يحكمون عقولهم وأفهامهم في جميع شئونهم، ويكرهون التقليد إذا لم يكن في محله، ويرومون أن يكتبوا كما يشعرون، وعندنا لهذين الفريقين كلمة تدل عليهما أحسن دلالة، وهي أن الفريق الأول يهتم بالألفاظ قبل اهتمامه بالمعاني، والفريق الثاني يهتم بالمعاني قبل اهتمامه بالألفاظ.
ومهما صرخ أنصار المذهب الأول، فإن مذهبهم آخذ في الانقراض؛ لأن تلك الأسجاع الضخمة والألفاظ المنتفخة كأنها الهر يحكي الأسد، قد نبتت في المعد، وصارت في كل يد، كما قال الهمذاني، رحمه الله، وإذا قابلت بين أسلوب الكتابة العربية منذ 30 سنة وبين أسلوبها اليوم؛ رأيت الفرق بين الأسلوبين، وإن قيل إنه قد بقي إلى اليوم شيء من تلك الأسجاع والألفاظ المترادفة والتعابير الخطابية التي تسرد منها سطرين أو ثلاثة، ولا يكون تحتها إلا فكر واحد - كأنها صبيرة طمسن - نقول: ما ذلك إلا لأن هذا الأسلوب أصلا مكينا في نفس اللغة العربية، وهذا الأصل لا يموت وينقرض تماما إلا بانقراض طلابه، ولكنه الآن يموت شيئا فشيئا، ولا أمل بإحيائه إلا بطريقة واحدة. وهذه الطريقة يرضى بها حتى أصحاب المذهب الثاني، وهي أن يعود مؤسسو ذلك الأصل من قبورهم الأبدية، ويكتبوا لنا مثل كتاباتهم الماضية، فحينئذ نقبل منهم ذلك بكل سرور ورضى؛ لأن كتابتهم أرقى ما يتصور الإنسان كتابته في هذا النوع.
وكيف إذا قام الهمذاني من قبره وكتب شيئا من رسائله يمكننا أن نقول له اترك هذا فقد ذهب وقته؟ وكيف إذا قام ابن المقفع بلغته السهلة البليغة المفهومة ليعرب عن الهندية كتابا آخر - ككليلة ودمنة - يمكننا أن نقول له عربه بلغة الكتابة العصرية لا بلغتك؟ كلا، إننا لا نقول لهما ذلك، وإنما نقوله بلا تردد للذين يحاولون تقليدهما في هذا العصر ولا يكون لهما مقدرتهما، وقد قيل: بين المقلد والمقلد ما بين التكحل والكحل. وإن قيل إن الأموات لا يعودون، بل ينبغ من الأحياء من يقوم مقامهم ويبلغ منزلتهم، فالجواب: أين الذي يضمن لنفسه نفسا كنفوسهم، ثم يصرف قواها كلها عشرين سنة أو أربعين في درس كتب اللغة والأدب ليبلغ منزلتهم فيها؟ ثم إذا كان مثل هذا الانقطاع ممكنا في الشرق، ألا يكون من الجناية على الشرق جعله للغة والألفاظ بدل جعله للعلم الحقيقي الذي يرقي الأمم وينقلها من حال إلى حال؟
فالأفكار الأفكار، المعاني المعاني. هذا هو الغرض الحقيقي من الكتابة؛ لأن الألفاظ ليست سوى لباس أو قشور للمعاني.
بقى الأسلوب الذي هو صلة بين الألفاظ وبين المعاني؛ لأنه قالبها الذي
Unknown page
قال بعضهم: إن إنشاء الإنسان هو الإنسان نفسه. يعني بذلك أن كتابته تدل عليه؛ لأنها صادرة عن نفسه؛ وعلى ذلك يكون أسلوب الإنسان في الكتابة على نوعين: اكتسابي، وغريزي؛ فالأسلوب الاكتسابي: ما حصله الإنسان بكد الخاطر، وتهذيب النفس، ومعرفة الأصول، ومطالعة أشهر المؤلفين، والأسلوب الغريزي: ما يكون مغروسا في فطرة النفس. وهذا لا يشرى ولا يباع ولا يحصل؛ لأنه ملازم للنفس، وقد قال بوفون وغيره: إن قرائح النوابغ تنشأ عن الصبر والكد والمزاولة. وهو قول غير صحيح من بعض الوجوه، خصوصا في العلوم الطبيعية التي تقتضي من علمائها والمخترعين فيها الكد والصبر والجلد الشديد. وهذا نيوتن وباستور خير مثال على ذلك. ولكن العلوم الأدبية والفلسفية تختلف عن العلوم الطبيعية. وبما أن العمدة في تلك العلوم الأدبية والفلسفية على التأثير في النفوس، فالواجب أن يكون أسلوبها اللطيف أول أسلحتها، وماذا كان عمل روسو وبرناردين دي سان بيير ورسكن ورينان وغيرهم لو لم تكن فطرتهم مسلحة بذلك السلاح اللطيف، الذي كان يهز النفوس كما تهز الزوابع باسق الأشجار؟ فعلينا في الشرق أن نذكر أننا محرومون تلك اللذة الحقيقية التي تتناجى بها نفوس القراء والكاتب لاستطاعته تحريكها من أعماقها، ولا نلقين التبعة في ذلك على القراء، بل على الكتاب - وإن كان لهم بعض الأعذار - لأن أشجار الحدائق إذا بقيت ساكنة ولم تتحرك فالذنب للريح؛ لأنها لم تهب لتحركها.
ولكننا نرى أن هذه الريح محال أن تهب لتحريك الأشجار إذا لم تطلق اللغة العربية من أسر الاهتمام بالألفاظ والسجع والمترادفات وتحدي المتقدمين، ويقدم عليها الاهتمام بالمعاني المقصود إبلاغها إلى فهم القارئ؛ ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يعبر عن العواطف المختلفة التي تختلج في نفسه إذا كان يتعود صرف قواه حين الكتابة إلى الألفاظ لا إلى تلك المعاني. ألا ترى الكاتب إذا تكلم بلغته العامية اندفع اندفاع السيل، وأبرز بكل سهولة صورا جميلة من المعاني كانت تجول في نفسه؟ ولكن اطلب منه أن يبرز تلك الصور الجميلة باللغة الفصحى ملتوتة بالمترادفات الزائدة، والألفاظ الضخمة، والأسجاع الفارغة، فإنه يقيم يوما كاملا لكتابة ما عبر عنه في ساعة واحدة بلغته التي يتكلم فيها، وما يكتبه يجيء باردا.
ولا تقل إن سبب ذلك كونه لم يتعود الكتابة بلغة الهمذاني والحريري. كلا، ما من سبب لذلك سوى أنه مع اللغة العامية يفكر بالمعاني فقط، ومع لغة السجع والمترادفات يفكر بالألفاظ. ولكن أخبرونا من هو الكاتب؟ الكاتب كالشاعر؛ هو الذي يشعر بالمعاني شعورا أشد من شعور سواه، ويبرزها إلى القراء بأسلوب جميل لطيف سهل مفهوم لإبلاغها إليهم. ويتفاضل الكتاب كما يتفاضل الشعراء؛ أي إن أفضلهم أشدهم شعورا، وألطفهم إحساسا؛ ولذلك قالوا إن الكتابة صناعة من صناعات النفس، وما الكتاب العظام الذين أقاموا بني عصرهم وأقعدوهم بما كانوا ينشرونه بينهم سوى نفوس أدق شعورا من باقي النفوس. كانوا يجمعون العواطف التي تختلج في صدور بني عصرهم بوجه مبهم غامض، ويبسطونها واضحة جلية يتناولها القريب والبعيد؛ لأنهم كانوا أشد شعورا بها. فتأملوا في هذه الوظيفة التي هي وظيفة الكتاب الحقيقية، وقابلوها بوظيفتهم متى كان عملهم مقصورا على طلب الألفاظ الغريبة من قواميس اللغة، واقتناص التعابير البدوية والأساليب القديمة التي لم يبق ما يسوغ استعمالها في عصر كهذا العصر. ولا ريب عندنا أن هذا بمثابة ردم معادن المعاني في نفوس الكتاب، وجعل أذهانهم عبارة عن مخازن للألفاظ فقط؛ وبذلك يقضى على الكاتب العربي أن تبقى كتابته بلا تأثير في قرائه مهما أبدع وأجاد في تنسيق التعابير والألفاظ؛ لأن الألفاظ عبارة عن جماد لا يؤثر في النفس؛ إذ النفس لا يؤثر فيها إلا فيض المعاني الخارج من نبعها العذب. ولا تنس أننا قلنا في مقدمة الكلام إن وظيفة الكاتب الكتابة للأمة، لا لنفسه ولا لطبقة واحدة من طبقات الأمة، وإن حسن التأثير شرطها الأول، والفائدة العمومية أساسها الحقيقي.
إنشاء الروايات العربية
كثر في السنوات الأخيرة وضع القصص العربية، فقلما يمر شهر إلا وتصدر بضع منها في البلاد التي فيها مطابع عربية. وهم يسمونها «روايات»، وهذا خطأ في التسمية؛ لأن الروايات في اللغة: الأحاديث المنقولة بالتواتر من فلان عن فلان عن فلان، فيلزم أن يكون هناك راو ومروي عنه وحديث مروي؛ فاسمها الحقيقي إذا: قصة؛ لأنها عبارة عن أحاديث ووقائع يتخيلها المؤلف ويقصها على قرائه. ولكن هذا الخطأ - إذا كان هناك خطأ - كان الأصمعي المشهور أول من وقع فيه في قصة عنترة؛ فإنه يقول هناك في كل صفحة تقريبا: قال الراوي. وقصة عنترة أكثرها اختراع وابتداع، كما هو معلوم. والخطأ أو الاصطلاح الذي يجيزه رجل كالأصمعي يجوز أن يعد من الصواب المقبول. (1) ما يلزم الرواية
على أنه لو لم يكن في الروايات التي تنشر في اللغة العربية غير هذا الخطأ الاصطلاحي الصغير لكان الخطب هينا، ولكن هناك مآخذ لا يصح السكوت عنها وقد كثر انتشارها؛ فإن كل من أمسك قلما في هذه الأيام يرى نفسه قادرا على وضع رواية؛ لأن كل إنسان يقدر على قص قصة وسرد حوادث يتصورها. وجميعهم يعلمون أن فن الروايات علم بأصول، ولكنهم يجرءون مع هذا على وضع هذه الروايات لثلاثة أسباب؛ الأول: انعدام حرية النقد، أو بعبارة أخرى: الجهل بحقيقة هذا الفن للإقدام على نقده، والثاني: اعتبار القراء في الشرق الرواية عالما خياليا يلهى به ساعة أو نصف ساعة، فلا يطلبون فيه غير قطع الوقت، والثالث: قلة القراء في اللغة العربية؛ فالروايات التي تظهر فيها لا يستفيد منها مؤلفوها فائدة حقيقية إلا إذا كانوا أصحاب مكاتب ومطابع صناعتهم التجارة بالكتب؛ ولذلك قلما ترى كاتبا يجهد قريحته، ويكد فكره، وينضج رأيه في وضع رواية مهمة؛ لأنه يعلم أن الفائدة التي تنشأ عنها لا تعدل التعب الذي يبذل في تأليفها وطبعها، والجمهور لا يفهم منها سوى قصتها. وإذا قيل إن حافظ أفندي إبراهيم؛ الشاعر المشهور، قد عرب جزءا صغيرا من رواية الميزرابل فجنى منه - على ما قال - ألف جنيه (5000 ريال)، فالجواب أن ما جناه المعرب من هذه الرواية لم يكن ثمنا للرواية ولا جزاء تعبه فيها، ولكنه كان تنشيطا له من بعض سراة المصريين الذين دفع بعضهم ثمن النسخة الواحدة 50 جنيها (200 ريال).
وقد يظن بعضهم أن الروايات الموضوعة تعريبا تسلم من تلك المآخذ التي تقع في الروايات الموضوعة تأليفا؛ لأن شروط الرواية مستوفاة في الروايات الإفرنجية الكبرى، وما على المعرب إلا أن ينحو نحوها، وينسج بردتها العربية. والحقيقة أن بعض الروايات الموضوعة تعريبا قد تجد فيها من التشويه، وفساد الوضع، والخرق في الرأي، ما لا تجد مثله أحيانا في الروايات الموضوعة تأليفا. وسبب ذلك أن المعرب يتناول قلمه ويغير على تلك الرواية، فيتصرف فيها حذفا وإضافة، فيقطع سلسلة أخلاقها السيكولوجوية، ويشوه طبائع أشخاصها، وينقص فيها ويزيد عليها من الحوادث ما لو رآه مؤلفها لقطع أذنه، وجدع أنفه، ورض ساقيه، وبقر بطنه، تشويها له، وتمثيلا به، كما شوه روايته ومثل بها. وما زلنا نذكر مباحثات كثيرين ممن شهدوا تمثيل رواية «ابن الشعب» في مصر، وقولهم في الجرائد وغير الجرائد أنهم لم يفهموا أغراض هذه الرواية ومرامي مؤلفها، وحقهم أن يقولوا ذلك ؛ لأن الذي ينظر في هذا الفن ولا يكون من أهله لا يدرك منه سوى سياق القصة، وتفوته أغراضها الحقيقية التي بنيت الرواية عليها، وكانت سببا في إنشائها.
وقبل بيان أغراض المؤلف في هذه الرواية، نأتي على بيان الصفات اللازمة للروائي؛ ليصح أن يكون ما يكتبه معدودا في جملة الروايات الحقيقية؛ أي عوالم خيالية تنطبق صفاتها وأخلاقها على العوالم الحقيقية انطباقا كليا كأنها صورة لها، وكأن أشخاصها أشخاصها مع زيادة في الصبغة الأيدياليستية فيها؛ ليكون غرضها رفع النفوس بدل انحطاطها: (1)
قوة الاختراع: أولى تلك الصفات قوة الاختراع، والمراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة على اختراع حوادث وأخبار تجعل في الرواية فكاهة ولذة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكبرى التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكا شديدا يستأسر لب القارئ. وكان ديماس رأس المبرزين في هذه القوة، إلا أنه يجب ألا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول، وإلا عدت من سقط المتاع، كروايات بونسون دي ترايل. ولما سئل تولستوي منذ مدة عن رأيه في رواية غوركي «الطبقة السفلى»، التي جعلت له بين كتاب أوروبا منزلة سامية، أجاب: إنها جيدة، ولكن ينقصها قوة الاختراع. ولكن كثيرين يقولون عن روايات تولستوي نفسه مثل هذا القول؛ لأنها إنما تمتاز بمبادئها وآرائها وصبغتها الفطرية، لا باختراع حوادثها. (2)
قوة الحركة: والقوة الثانية «قوة الحركة»؛ فإن تلك الحوادث التي يجيد المؤلف في اختراعها إذا لم يجعلها متحركة سئم قارئها ومل قراءتها. والحركة كانت مزية ديماس الكبرى، فإنك تعرف تاريخ أشخاص روايته، وأخلاقهم ومزاياهم، وماضيهم وحاضرهم مما يقوله غيرهم عنهم في الرواية، لا مما يقوله المؤلف نفسه. وكل من قرأ رواية لا يجهل أنه يفضل قراءة مباحثات أشخاصها على قراءة تعليقات مؤلفها. والإجادة هنا هي في جعل حوادث الرواية منبئة عن أخلاق أشخاصها. وكم من مرة قرأنا فصولا لكبار نقاد الروايات الفرنسوية يقولون فيها عن فصل في إحدى الروايات: إن حوادثه غاية في حسن الاختراع، ولكنه جامد تنقصه الحركة. وهم يعتبرونها في مقدمة شروط الروايات الجيدة . (3)
Unknown page
وحدة السياق وتنوع الموضوع: والشرط الثالث في تأليف الرواية «وحدة السياق وتنوع الموضوع»، والمراد بوحدة السياق: رسم طريق للرواية، تبتدئ في أولها وتنتهي في آخرها، دون أن تخرج الرواية عنها في أثناء تقلباتها، فكأنها سلك يمده رجل بين طرق ضيقة وشوارع واسعة فيوغل فيها، ولكن السلك في يده، وهو يعرف من أين ابتدأ وإلى أين ينتهي. والمراد بتنوع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرع من ذلك السياق متنوعة متفرعة؛ لاجتناب ملل القارئ أولا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص الرواية ثانيا. ومن أقوال الفلاسفة: إن الطبيعة واحدة من حيث مادتها ونواميسها، ولكنها متنوعة من حيث صورها وأشكالها. وهم يسمون هذا باسم: التنوع في الوحدة. وما يقال في الطبيعة يقال في الرواية؛ لأن الوحدة المقرونة بالتنوع أساس قوة كل شيء وجماله في العالم، وبدونهما تكون الحياة مضطربة مضجرة. (4)
قوة السيكولوجيا والسسيولوجيا: يصح أن يقال إن هذه القوة أهم القوات الضرورية للرواية. ولما كانت مواضيع الرواية تشمل جميع الحوادث والحالات التي تطرأ على أشخاصها، وعلى الوسط الذي يعيشون فيه؛ كانت الرواية محتاجة إلى أكثر أصناف العلوم، فهي تحتاج إلى علم الطبيعة لكي تبنى آراؤها ومبادئها وأخلاق أشخاصها على دعامة علمية؛ أي على النواميس الطبيعية، وإلا كانت نسيج أوهام وخرافات، وتحتاج إلى علم تقويم البلدان «الجغرافيا»؛ لمعرفة البلاد التي يكتب عنها، وطبائع أهلها وأهوائها، وتحتاج إلى علم التاريخ، خصوصا إذا كانت تاريخية. وقد تحتاج إلى سائر العلوم إذا كان لمواضيعها اتصال بها، ولكنها إذا احتاجت إلى جميع هذه العلوم أحيانا، وأمكنها الاستغناء عنها جميعها أحيانا، فهناك علمان لا يمكنها أن تستغني عنهما أصلا؛ وهما: علم السيكولوجيا، وعلم السسيولوجيا.
علم السيكولوجيا أو علم النفس والأخلاق: أول شيء يجب على الروائي الاطلاع عليه، وهو قسمان: مصنوع ومطبوع؛ أي: اكتسابي وغريزي؛ فالسيكولوجيا الاكتسابية يستفيدها الكاتب من مصدرين؛ الأول: درس كتب السيكولوجيا، والثاني: مراقبة الطبيعة والبشر لملاحظة أخلاقهم وأحوالهم في جميع أطوارهم. وقد كان موليير الروائي المشهور يصرف مدة من وقته كل يوم في الجلوس في دكان حلاق ؛ حيث يحتشد الناس عادة من طبقات مختلفة، وهناك يراقب أخلاقهم ويسمع أحاديثهم. والسيكولوجيا الغريزية هي قوة غريزية تكون في نفس الدارس، يقدر بها على استنباط مكنونات النفوس، واستنتاج أخلاقها، وتصوير حالاتها دون أن تدري هي بها. وهي هبة من الطبيعة لتلك النفس، وإن كان بعض علماء الأخلاق يقول: إن الدرس والاختبار قد يؤديان إليها.
قال بوفون العالم الطبيعي الفرنسوي: إن نبوغ أعاظم الرجال ناشئ عن تعبهم وصبرهم على الدرس. قلنا: هذا قول صحيح في العلوم الطبيعية التي لا يستلزم الاكتشاف والاختراع فيها قوة نفسية، بل قوة عقلية، وأقرب شاهد على ذلك باستور وسبنسر. وقد عد الفيلسوف نيتشه نفس سبنسر في جملة النفوس الاعتيادية. ولكن علم النفس والأخلاق، وعلم الأدب، والفنون الجميلة لا تقاس بتلك العلوم؛ فإن ملتن وشكسبير وهيغو ورينان وجوت ورانيير لولا أن الطبيعة خصتهم بنفوس كبيرة جميلة راقية؛ لما قدروا أن يبرزوا شيئا مما أبرزوه في تآليفهم من آيات الجمال والكمال ولو قطعوا أعمارهم درسا. وهل يصير غير الشاعر شاعرا حقيقيا بمجرد الدرس وقرض الشعر؟
فالسيكولوجيا الاكتسابية والغريزية أهم ضروريات الرواية؛ لأنها تصون المؤلف من الوقوع في الأغلاط الفاضحة بشأن أخلاق الأشخاص الذين يتكلم عنهم، وتمكنه من تصوير أخلاق بشرية حقيقية منطبقة على أخلاق البشر في الدنيا سيكولوجيا. وكم من مرة تصفحنا بعض الروايات التي تنشر بالعربية، حتى أهمها وأشهرها، فرأينا الكاتب يصور أخلاق أشخاصه في أول الرواية تصويرا لا ينطبق على أخلاقهم في آخرها من الجهة السيكولوجية! فإنه مثلا يجعل مزاج الشخص في البدء عصبيا، ثم تراه في الخاتمة يجعله يسلك مسلك ذي مزاج دموي محض.
وأغرب من هذا أنك تراه يجمع في نفس أشخاصه صفات متقابلة متناقضة تتبرأ السيكولوجيا منها، وأحيانا تراه يجعل شخصه يجيب أجوبة لو اطلع عليها أصغر كاتب ملم بمبادئ السيكولوجيا، بعد اطلاعه على الأخلاق التي صورها المؤلف له؛ لقال: هذا تخريف لا تأليف. والحوادث المستخرجة من تلك الأخلاق قلما تكون لازمة عنها، خارجة منها، بحكم السيكولوجيا، وإنما هي مجذوبة جذبا لتكون نتيجة لها، وما هي بنتيجة لها. وهذه العيوب الفاضحة لا تظهر في الشرق؛ لأنها لا تظهر إلا لعين الناقد البصير؛ ولذلك يعجب بعض القراء السذج بتلك الروايات، ولو نشرت في الغرب حيث يميز الجمهور بين الفاسد والصحيح لكانت في جملة الروايات الضعيفة التي لا يلتفت إليها أحد من أفراد الجمهور الراقي.
وما قلناه في السيكولوجيا نقوله في السسيولوجيا؛ أي علم الاجتماع البشري. وهذا العلم ضروري لمؤلف الرواية لسببين؛ الأول: أن جميع الروايات المهمة في هذا العصر أصبح غرضها اجتماعيا، وإذا كان الفيلسوف أوغست كونت واضع الفلسفة الحسية أو الوضعية قد أثبت ببراعة مشهورة قبل تلميذه سبنسر أن جميع العلوم من أكبرها إلى أصغرها تنتهي إلى السسيولوجيا، وأن السسيولوجيا هي غرض تلك العلوم، فأحر بالروايات أن يكون غرضها السسيولوجيا أيضا؛ أي البحث في حالات المجتمع البشري لترقيته، وإنماء قواته النافعة، وإفناء قواته المضرة. والروايات بعد الصحف أو قبلها من أهم ذرائع هذه الترقية، بل هي في الشرق أشد تأثيرا من الصحف في هذا الشأن؛ لأن ألوفا من عامة القراء لا يقرءون الجرائد، ولكنهم يقرءون الروايات. فهنا للرواية وظيفة اجتماعية عليا، دونها وظيفة جميع الصحف والمدارس والكليات؛ لأنها المدرسة الأولى للشعب الساذج الجاهل. وإننا نشفق من صميم قلبنا على هذا الشعب حين نرى السم الزعاف المدسوس في بعض الروايات العربية التي يقرؤها. (5)
درس هذا الفن: كما أن العالم لا يصير عالما إلا بالدرس والبحث، والصانع لا يصير صانعا إلا بالإكباب على صناعته، فكذلك الروائي لا يصير راويا إلا بدرس فنه. ولكن ليس للروايات مدرسة تعلم فيها أصول هذا الفن، وإنما مدرسته أمران؛ الأول: مطالعة روايات أكابر المؤلفين، والثاني: مطالعة كتابات مشاهير نقادي الروايات.
أما الأمر الأول، وهو مطالعة روايات أكابر المؤلفين، فأظهر دليل على أنه المدرسة الحقيقية لمؤلفي الروايات ما كتبه إسكندر ديماس الكبير عن نفسه، فقد قال ما خلاصته: إنه لما عقد النية في شبابه على أن يكون مؤلف روايات، أخذ يطالع جميع الروايات المشهورة لأكابر المؤلفين، فرنسويين وغير فرنسويين، فصرف وقتا طويلا في درسها، والتأمل بها، وتدبر أغراضها ومراميها، فأتى عليها كلها حتى انطبعت في ذهنه أساليبها وطرقها، واختلطت في فكره وقائعها ومذاهبها، وبعد ذلك شرع في الكتابة، فكتب الرواية الأولى وأحرقها لعدم رضائه عنها، ثم كتب الثانية والثالثة وأحرقهما أيضا، ولما كتب الرابعة دفعها للتمثيل، فكان لها دوي في باريس. وقد حضرها أحد أمراء العائلة المالكة، وكان ديماس مستخدما عنده، فلما ذكر اسم المؤلف للجمهور نهض الأمير من مجلسه ورفع قبعته لمستخدمه ديماس؛ إكراما وتنشيطا له.
فالروايات المشهورة الجيدة هي خير مدرسة لمؤلف الروايات؛ لأنها خلاصة الاختبار والعلم في هذا الفن. ولكن هذه المطالعة وحدها لا تكفي الراغب في التأليف إذا لم يكب على الأمر الثاني - درس أقوال نقادي الروايات - إكبابه عليها.
Unknown page
من تصفح الجرائد الفرنسوية الكبرى وغيرها وجد فيها فصلا مخصوصا ينشر في كل يوم اثنين في ذيل الجريدة لأحد النقدة المشهورين، وموضوعه نقد الروايات التي تمثل في خلال الأسبوع، ورب أحد هؤلاء النقدة تدفع له الجريدة أجرة للمقالات الأربع في الشهر راتبا يعدل راتب وزير. وقد كان سارسي؛ كبير النقادين في القرن التاسع عشر بعد سنت بوف، يكتب في جريدة الطان، وكان الممثلون والمؤلفون إذا رأوا في وجهه وهو في «لوجه» دلائل الاستياء، وعدم الرضى، ترتعد فرائصهم خوفا؛ لأنه كان على رأيه المعول.
فدرس كتابات هؤلاء النقدة وغيرهم من نقدة أوروبا من أهم واجبات كاتب الروايات؛ لأنه يستفيد من كتاباتهم نتيجة اختبارهم هذا الفن، واختبار مشاهير النقدة الذين تقدموهم فيه منذ نشأته. وقد كنا نقرأ نقد سارسي في الطان بلذة كبرى، فلما توفي أصبحنا نقرأ نقد المسيو أميل فاكه في جريدة الديبا، وهو من رجال الأكاديمي وأشهر النقدة الفرنسويين اليوم، على أن كتب النقد الروائي كثيرة في اللغة الفرنسوية لمن يطلبها، وهي أهم وأصح من الكتب غير الفرنسوية؛ لأن الفرنسويين ما زالوا متفردين في هذا الفن في أوروبا كلها. (6)
عاطفة الجمال: والشرط السادس والأخير من شروط وضع الروايات «التزام عاطفة الجمال فيها»؛ لأن تأثيرها وحلاوتها متوقفان على ذلك ، ويدخل في هذا أمران؛ الأول: جمال موضوعها، والثاني: جمال سبكها. أما جمال موضوعها فمتوقف على الإجادة في الصفات الخمس التي تقدم بسطها. وأما جمال سبكها فالمراد به نسجها بلفظ عذب، ومعنى طلي، وروح جلي، فيجد القارئ حين مطالعتها من الحلاوة والعذوبة ما يستأسر لبه. وإذا كان الجفاف والجمود في الإنشاء مما يغتفر في المباحث العلمية والتاريخية، لأن الغرض منها تقرير الحقائق، سواء كان لباسها من نضار أو كان عليها أطمار؛ فإن ذلك مما لا يقبل في الروايات أصلا؛ لأن العمدة في الروايات إنما هو على التأثير في نفس القارئ؛ لجذبه إلى مبادئها، وشرح صدره بحلاوتها. وهذا الجذب والتأثير لا يتمان إلا بعاطفة الجمال.
الروايات وأنفعها لنا
بسطنا رأينا في وظيفة الروايات والشروط اللازمة لواضعها، فلا نبحث هنا فيها، وإنما نبحث في أهم الروايات وأنفعها لنا. ومتى قلنا: أهم الروايات وأنفعها لنا، خرجت منها الروايات التي يقصد بها التفكه وقطع الوقت، وهي التي يتجر بها أصحاب المكاتب والمطابع الصغيرة، وانحصر كلامنا في الروايات التي يضعها مؤلفوها لفائدة يقصدونها. وبحثنا هنا في أمرين:
الأول:
ما هي الفائدة التي نحن أشد احتياجا إليها في الشرق؟
والثاني:
أي نوع من أنواع الروايات يوصلنا إلى هذه الفائدة؟
الأمر الأول:
Unknown page
كلنا نبحث في داء الشرقيين ودوائه، وكل واحد منا يشخص العلة من وجه، ويصف لها الدواء الذي يراه، فبعضهم يقول: داؤنا السياسة، وغيره يقول: داؤنا الرئاسة، وآخر يقول: داؤنا انحطاط التجارة والصناعة والزراعة، وعدم وجود قوة سياسية تحميها في داخل الأمة وفي خارجها، وغيرهم يقول: إن داءنا تعدد عناصرنا ومذاهبنا واستحكام الانقسام والبغض في نفوسنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا تربية مدارسنا، فإن دروسها وتربيتها لا تنطبق على حاجاتنا وأخلاقنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا منازعة الأجانب لنا الرزق والسيادة في بلادنا منازعة تحول دون إصلاح شئوننا.
على أن المتأمل البصير الذي ألف النظر في أخلاق الأمم ومعرفة الأسباب التي ترفعها وتحطها، يرى بعد إعمال الفكرة في جميع الوجوه التي تقدمت أن هنالك سببا فوق جميع تلك الأسباب. ولا مشاحة في أن تلك الأسباب أسباب حقيقية للانحطاط، ولكنها في الحقيقة أسباب فرعية؛ أي مسببات لا أسباب. وأما السبب الذي أشرنا إليه هنا، فهو الأصل الذي تتفرع منه جميع بلايا المشرق، وهو: عدم وجود الشخصيات الراقية بين أبنائه.
قد يمكن أن ترتفع الأسباب السياسية والدينية، قد يمكن أن تروج التجارة والصناعة والزراعة، قد يمكن أن تتحد عناصر الأمة ومذاهبها بتأثير يد قوية تحسن إدارة أزمة الأحكام، قد يمكن أن تعود أوروبا إلى رشدها، فتنظر إلى بلاد الشرق نظرها إلى أمم تريد لها الحياة لا إلى مستعمرات. كل ذلك قد يمكن أن يقع بأعجوبة أو بغير أعجوبة، ولكن وقوعه وحده لا ينيل الشرقيين ما يتمنونه من صيرورة أممهم أمما عزيزة راقية، بل يقيمون حينئذ على دورانهم في دائرة الانحطاط التي كانوا يدورون فيها حين كانوا أذلاء ضعفاء فقراء، تراهم يركضون ويجدون ويجمعون المال أكداسا إلى أكداس، فتخالهم صاعدين مرتقين، والحقيقة أنهم ما زالوا يدورون ضمن تلك الدائرة. إنهم كانوا من قبل فقراء منحطين، فأصبحوا بعد رواج أعمالهم أغنياء منحطين، وربما زادهم الغنى انحطاطا؛ لأن الثروة تبطر صاحبها إذا لم يكن أهلا لها، فضلا عن أنها تسهل له من إتيان الكبائر والصغائر ما كان عاجزا عنه قبل الوصول إليها.
بعدما تقدم تتضح لنا الأسباب في وجود مسائل نشكو ونعجب منها جميعا، فإننا نعلم بعده لماذا لا نعتبر أممنا أمما مجموعة بجامعة يحترمها الجميع ويخدمها الجميع، بل نعتبرها أفرادا متفرقين، ولكل واحد منهم مصلحة خاصة يسعى إليها، ولماذا يبتسم أكثرنا مزدرين ضاحكين حين يسمعون كلمة «المصلحة العمومية». نعلم لماذا الذين أصبحوا منا قادرين على النفع بثروتهم التي حصلوها بطرق مختلفة ليس لهم هم إلا التمتع بها بوقاحة وبله، دون أن يعملوا شيئا نافعا للأمة التي خرجوا منها وتحمل كل أثقالهم. نعلم لماذا حكامنا ورؤساؤنا، مدنيا ودينيا، متى ولوا شأنا عموميا؛ استخدموه لجر النفع إلى أنفسهم؛ لاعتبارهم الرعية بقرة حلوبا. نعلم لماذا نرى الأقوال عندنا كلها سامية جميلة، والآداب الاجتماعية والسياسية في أرقى مظاهرها في الظاهر، ولكن الأفعال والبواطن مما يضحك ويبكي. نعلم لماذا لا نقدر على الاجتماع والتعاون؛ ففقدنا بذلك أعظم القوات والعوامل في رفع الأمم؛ كإنشاء الجمعيات المختلفة للعلم والأدب والزراعة والصناعة والتجارة التي عليها مدار الارتقاء في هذا العصر، وبدونها لا يقدر الفرد أن يصنع شيئا عظيما، أو يحصل حقا ضائعا، حتى قال بعضهم في أوروبا: إن جمعيات العملة والزراعة والتجارة والصناعة هي التي تسوق اليوم السياسة والساسة في سبيل الارتقاء بقضيب من حديد.
فالدعوة إلى إيجاد شخصيات راقية في الشرق وتسهيل السبيل لها هي خير ما يخدم به الشرق وأبناؤه. وهذه الشخصيات الراقية توجد إما في الهيئة الحاكمة، وحينئذ ترقى الأمة وتوجد فيها شخصيات راقية طوعا أو كرها، وإما في الهيئة المحكومة، فتلزم الهيئة الحاكمة سبل الرشاد والسداد طوعا أو كرها. وارتقاء كل أمة إنما يقاس بعدد الشخصيات الراقية التي فيها، وهي نتيجة تهذيب النفس والعقل، وثمرة اختمار المبادئ الكريمة فيهما، وتأثير الوسط الذي يعيشان فيه جيلا بعد جيل. وما الإصلاح الاجتماعي الذي يدوي صداه في آذان الناس في هذا العصر إلا هذا الإصلاح.
على أن مقدمة رواية كهذه المقدمة لا تحتمل هذا البحث، وليس هو من مواضيعها، وإنما جر الكلام إليه ما قصدناه من بيان المبدأ الأول الذي يحتاج الشرق إليه، وبدونه لا تقوم له قائمة؛ لأنه يبني على غير أساس. فأنفع المطالعات لأبناء الشرق ما كان موضوعه الإصلاح الاجتماعي الذي تقدم ذكره، الذي أهم أغراضه ومراميه إيجاد شخصيات راقية.
الأمر الثاني:
أي أنواع الروايات توصلنا إلى الفائدة التي تقدم ذكرها في مقدمة الكلام؟ وهذا هو موضوع هذه المقدمة الحقيقي.
إن في الطبيعة البشرية عادة مألوفة، وهي: جر الإنسان الحبل لصوبه، كما يقول العوام، فكل إنسان يدعو إلى مبدئه ومذهبه، ويقبح رأي غيره، وأحيانا يكون هذا التقبيح مضحكا، وأحيانا يكون مقبولا، وإنما يكون مضحكا متى كان المقبح لا يرى إلا بعين واحدة، فإما أن يجهل ما في رأي غيره من الصواب، وإما أن يتجاهله لترويج بضاعة ، أو لاعتقاده حقيقة أنه غير صواب. ومذهب «الجامعة» ومبادئها في رواياتها وغير رواياتها معروفة عند قرائها، فلا حاجة إلى بسطها لتبيان فضل الروايات الاجتماعية عندها على سائر الروايات. ولكنا مع هذا لا نجر الحبل كثيرا لصوبنا؛ لكراهتنا هذا الخطأ الذي قد يقع فيه غيرنا.
إن الروايات التي تنشر الآن في اللغة العربية بعضها موضوع للفكاهة والخلاعة. وهذا النوع لا ننظر فيه؛ لأنه لا يستحق نظرا، وبعضها معرب، والقصد منه إبراز أحاسن الروايات الإفرنجية، وهو نادر جدا، وقلما يكون مستوفيا شروط تلك الروايات، وبعضها تاريخي. وهذا النوع التاريخي قسمان: فقسم منه يتضمن تاريخ الأمم الأوروبية، وقسم يتضمن تاريخ بعض أمم المشرق. أما القسم الأول فلا يستحق النظر أيضا؛ لأننا في غنى عن تاريخ أمم أوروبا، ومن يبرز منه شيئا عنده فلا يبرزه إلا للفكاهة، وأما القسم الثاني: وهو تاريخ بعض أمم المشرق، فالكلام فيه حسن؛ لأنه يوقف أهل ذلك التاريخ على تاريخهم، ولكن يتوجه على الروايات التاريخية أربعة اعتراضات:
Unknown page
الاعتراض الأول:
أنها أمر كمالي بالنسبة إلينا، فإن التاريخ لا يخرج عن كونه عبارة عن ذكر أيام مضت وحوادث خلت، والأمم التي لم تتكون بعد أو التي تكونت وانحلت لا يفيدها تاريخها شيئا سوى تذكيرها بعظمة ساقطة ومجد ذاهب، وهي قبل كل شيء تحتاج إلى قوات تنهض بها، وتوجد الشخصيات الراقية التي أشرنا إليها أضعاف حاجتها إلى تاريخها. وإن علم التربية وعلم الاجتماع والنشاط والحماسة للعمل، ونصب أغراض شريفة أمامها، وحثها على السعي إليها، وجمع كلمتها عليها بتأليف رأي عام منها، كل هذه مقدمة على جميع علوم التاريخ البشرية والإلهية، بل إن أصغر مبادئ الزراعة الأولى وأحقر مبادئ الصناعة الأولى مفضلة فيها على جلال التاريخ وعظمته؛ فالذي يصرف فكرها إلى حوادث تاريخها الماضية بكتبه ورواياته قد يفيدها، ولكن فائدتها من ذلك لا تكاد تذكر؛ لأن مثلها حينئذ يكون مثل فقير ذي أطمار يعلق في ثوبه ساعة وسلسلة من نضار. قال برناردين دي سان بيير: أية حاجة بنا إلى التاريخ وكتبه؟ وأي تأثير للتاريخ في سعادتنا في الأرض؟ بل أية علاقة بين السعادة وذكر حوادث مضت وأيام خلت؟ إن تاريخ ما كان لهو تاريخ ما هو كائن وما سيكون. وقال الفيلسوف نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر»: إن المؤرخين لكثرة تفكيرهم في الماضي وتنقيبهم فيه ينتهون إلى أن ينزلوا التاريخ منزلة كل شيء، فيصير مثلهم مثل السرطان الذي يمشي إلى وراء وهو يحسب أنه يمشي إلى أمام. يريد بذلك أنهم يتأخرون وهم يحسبون أنهم يتقدمون.
الاعتراض الثاني:
أن الروايات التاريخية هي سم للتاريخ قتال؛ وذلك لأنها تكون مزيجا من الحوادث المخترعة والحوادث التاريخية، وفي ذلك إفساد التاريخ بدل تحقيقه. ولا بأس من ورود التاريخ في الروايات، ولكن يجب أن يكون وروده عرضا. والعمدة تكون على ما في الرواية من الأفكار والمبادئ الاجتماعية التي هي غرض الرواية الحقيقي؛ لأن الروايات الخطيرة الهامة في هذا العصر إنما هي روايات اجتماعية.
الاعتراض الثالث:
أن كتب التاريخ تكتب للخواص، فالكاتب يجد في نفسه شيئا من الجرأة على الجهر بما يرى الجهر به حقا في التاريخ وإن ساء بعضهم؛ لأن في أفاضل الخواص من كل الأمم ميلا لمسامحة الكاتب ومعذرته إذا كانوا يعتقدون إخلاصه. أما روايات التاريخ فأكثر اعتمادها في رواجها على العوام والسذج، وهؤلاء لا يسامحون ولا يعذرون؛ ولذلك يضطر الكاتب إلى مجاراتهم ترويجا لبضاعته، فيشوه التاريخ في رواياته بكتمان ما كان الجهر به من أول شروط التاريخ، وبتحسين وتزيين أمور تزيد السذج تمسكا بأوهامهم وأغلاطهم، خصوصا إذا كان الكاتب من أمة والقراء من أمة، وعلى الأخص في بلاد الشرق. وبذلك يكون وجود تلك الروايات وعدمها سيين؛ إذ الفائدة الحقيقية في الروايات هي ما فيها من الجرأة والقوة الأدبية التي تحمل قرائها على ترك ضعفهم وأوهامهم لا زيادة تمسكهم بها.
الاعتراض الرابع:
قال المسيو إدوار رود منذ سنتين، في مقالة افتتاحية في جريدة ألفيغارو، في أثناء كلامه عن التاريخ وكبار المؤرخين الفرنسويين كتييرس وتان ورينان وميشله وغيرهم، ما خلاصته: إنه يجب على الناس أن يعلموا أن كتب التاريخ التي يقرءونها باللغة الفرنسوية وغير الفرنسوية لا يركن إليها، مهما ادعى أصحابها التحقيق والتدقيق؛ وذلك لسببين؛ الأول: أنهم يتخذون فيها طرق الاستنتاج والقياس، وفي أكثر الأحيان يجيء استنتاجهم وقياسهم فاسدين؛ ولذلك ترى آراءهم في التاريخ متخالفة متباينة ينقض بعضها بعضا، وكل مؤرخ منهم يكتب التاريخ كما يتراءى له، والثاني: أن المصادر التي يعتمدون عليها ويستقون منها أكثرها خطأ؛ لأن رواتها أخطئوا في النقل والرواية.
وإنك لترى المؤرخين الذين عاشوا في الزمن الأخير إذا كتبوا تاريخه اختلفوا في رواية حوادثه وتفسيرها، فكيف بهم إذا راموا كتابة تاريخ زمن لم يشهدوه، ولا علموا شيئا عنه غير ما نقلته الكتب لهم؟ وليس في التاريخ شيء ثابت يمكن الوثوق بصحته غير الحوادث والأرقام والأوراق الرسمية التي وصلت إلينا من تلك الأزمنة البعيدة. قلنا: وكل من تصفح كتب المؤرخين العربية والإفرنجية، ورأى فيها تناقض الآراء والحوادث والأرقام لا يسعه إلا أن يسلم بصحة هذا القول الذي ساء مؤرخي أوروبا، ولكنه صحيح. وما التحقيق في التاريخ - خصوصا التاريخ القديم، وبالأخص الشرقي منه - إلا خرافة ودعوى لا يقوم عليها دليل.
وليس هنالك تاريخ، بل آراء مختلفة، وظيفة الباحث فيها الترجيح بينها لا تحقيقها، وإنزال تلك الآراء والحوادث منزلة رفيعة من الأهمية، وبذل الإنسان قوته ونشاطه وعلمه ووقته فيها، إنما هو من قبيل الاشتغال بشيء مشكوك به، وفائدته لا تعدل التعب فيه؛ ولذلك قال رينان قبل وفاته: إنني آسف لأنني صرفت عمري بكتابة تواريخ قل أن يتصفحها أحد بعدي. قال ذلك مع أنه إذا لم يكن في كتبه شيء غير جمال إنشائه في كتاباته، فإن هذا كاف - كما قال بعض كتاب الفرنسويين - لأن يبقى جميع ما كتبه خالدا بين أيدي الناس، ومقصدا لطلاب الجمال وحلاوة القلم.
Unknown page
فبعد ما تقدم، لا نرى للروايات التاريخية وظيفة سامية بين الروايات، إلا إذا كان المقصود بها مجموعة قصص وفكاهات لتسلية الخاطر وترويح النفس في ساعات الفراغ. وظاهر بنفسه بعد هذا أن الوظيفة العليا بين أنواع الروايات هي للروايات الاجتماعية الفلسفية .
وقد ذكرنا كل ما تقدم لغرض لم نذكره حتى الآن، وهو الدفاع عن الروايات الاجتماعية الفلسفية، فإن بعض الكتاب رأى أن هذه الروايات روايات كمالية، لا نحتاج إليها في هذا العصر، بل نحتاج إلى روايات عملية. وربما وجد قوله هذا موافقين ومصدقين له دون أن ينظروا في لباب هذا الموضوع؛ لأن الناس اعتادوا موافقة من يعتقدون فيه أصالة الرأي وصدق النظر. وقد تقدم إثبات أن الروايات غير الاجتماعية هي الروايات الكمالية.
وقد يستغرب القارئ اهتمامنا بهذا الموضوع الصغير وتخصيص بضع صفحات به، ولكن الكاتب الذي تتبع آراء الشرقيين ومطبوعاتهم بانتباه وإمعان لا يعده موضوعا صغيرا، بل كبيرا، وربما يراه أكبر موضوع إذا نظر فيما يلي:
أن كثرة الكتاب في الشرق، وتعدد الآراء، وتنوع اللغات والتربيات قد جمعت في كتبه ومجلاته وجرائده جميع الآراء الفلسفية ومذاهب الأدب الكتابي. قد اجتمعت متناقضة متضاربة، وأصبحت خليطا من جميع المذاهب في الكرة الأرضية، فترى فيها مذاهب سبنسر وكونت وداروين وماركس والقديس توما وأفلاطون وأرسطو وأبيقور الكلبي، كما يسميه جمال الدين الأفغاني، وفلاسفة الإسكندرية، وشوبنهور ونيتشه وقنت وزولا وهيغو، ومذاهب القرآن والتلمود والتوراة والإنجيل والفيدا، كلها - أي كل هذه المذاهب المختلفة - تراها فيه متجاورة مشتبكة اشتباك الأسل. وليس هذا بالأمر الغريب العجيب، فإن بابل وجدت قبل اليوم على ما جاء في التوراة.
وإنما الغريب العجيب أمران؛ الأول: اجتماع المتناقضات من هذه المذاهب في حيز واحد دون أن يفطن صاحب هذا الحيز لها، والثاني: تسفيه صاحب أحد هذه المذاهب لمذهب آخر منها من وجه مذهبه، وبطرق مذهبه، بدل أن يسفهه من الوجه الخاص بهذا المذهب. وغني عن البيان أننا نتكلم هنا عن المذاهب الكتابية والفلسفية والأدبية، لا المذاهب الدينية، فترى مثلا بعضهم يكتب يوما كأنه على مبادئ كونت؛ صاحب الفلسفة الوضعية السائد روحها اليوم في أوروبا وأميركا، ويوما تراه يكتب كأنه على مبادئ قنت وشوبنهور الأيدياليستية. تراه يوما ينهج منهج زولا في كتاباته الناتوراليستية (تقليد الطبيعة)، ويوما ينهج منهج فيكتور هيغو في كتابته الرومانتيكية الأيدياليستية. وقد قرأنا يوما في جريدة يومية مصرية كلاما عن الوطنية، قالت فيه: إن الوطنية أثر من آثار الهمجية القديمة، مع أن الرصيفة تدافع عادة أشد دفاع عن جميع المبادئ التي هي عماد الوطنية ودعامتها. وعلة هذا الاختلاط والاختباط عدم وضوح المبادئ بعد لأبناء الشرق للاجتماع حولها أحزابا أحزابا، كل حزب يعرف أصل مبدئه وفروعه، ويجعل خطته الدفاع عنه وعنها لموافقتها مزاجه وأخلاقه وآراءه. وإليك مثالا لهذا الاختلاط والجهل بأصول المبادئ:
قال بعض الكتاب إن الروايات الاجتماعية والفلسفية روايات كمالية، والأهم منها الروايات العملية. وبعد هذا القول قال: إن أحوالنا تحتاج إلى إصلاح، وخير سبل الإصلاح تقبيح الرذائل الشائعة؛ كالكذب والخداع والمجاملة والمقامرة والمسكر والبورصة، وغيرها من الرذائل والمنكرات التي نئن تحت أعبائها.
فالذي وقف على أصول المبادئ الفلسفية والأدب الكتابي يستغرب هذا القول؛ لأنه يعلم أن الأدب الكتابي في الفلسفة نوعان: أيدياليست (مثالي)، ورياليست (واقعي)؛ فالأدب الأيدياليستي مشتق من قوى النفس والعقل، والأدب الرياليستي أو الناتوراليستي مشتق من الطبيعة. الأول يعتمد في التأثير والإصلاح على قوى نفس الإنسان، ويقدم تأثيرها على كل تأثير، والثاني يعتمد على الطبيعة وقواتها وتقليدها. الأول يقول: صوروا ما هو أسمى من الطبيعة لرفع النفوس به، والثاني يقول: إن ما هو أسمى من الطبيعة خيالي وهمي أو كمالي، وحسبنا الطبيعة وتقليدها وتصويرها؛ لأن فوائدها عملية.
فإذا عدت الآن إلى الاعتراض الذي تقدم، وجدت أن المعترض يقول إن المذهب الأيدياليستي أمر كمالي، وهو اعتراض جائز مثلا لمن كان رياليستيا؛ كالفيلسوف نيتشه الذي أدمى الأيدياليست نقدا وتهكما، ولكن متى سفه المعترض المذهب الأيدياليستي ذلك التسفيه، ثم عاد فقال ألفوا في اجتناب الكذب والخداع وما أشبههما من النقائص الاجتماعية، فإنه يخلط بين المبادئ دون أن يشعر؛ ذلك لأن توقع الإصلاح من محاربة الكذب والخداع وما أشبههما هو من مذهب الأيدياليست. ومذهب الرياليست يتساهل أحيانا مع الكذب والخداع، وقد قال نيتشه إنهما حق للضعيف ومن ملازمات العمران. فالنتيجة التي تخرج من هذا هي أن المعترض يسفه من جهة مذهب الأيدياليست؛ لأنه خيالي وهمي في رأيه، ومن جهة أخرى يدعو إلى إصلاح البشر به. وهو منتهى السذاجة والجهل بالأصول.
وليس غرضنا في هذا الفصل شرح مذهب الأيدياليستيين والرياليستيين، وإظهار آثارهما في المجتمع البشري، ومبلغ تأثير كل منهما في إصلاح الأرض؛ فإن ذلك بحث فلسفي طويل، متشعب الطرق، كثير الفروع. وسنغتنم أول فرصة لإبداء رأينا في هذين المذهبين. إنما غرضنا هنا أن نوجه الأنظار إلى وجوب فصل المبادئ في الشرق وترتيبها، ووضع كل واحد منها في مرتبته وبابه؛ تسهيلا للنظر فيها، واختيار أفضلها لنا، فضلا عن أن الخلط بينها دليل على الجهل بها، والجهل بها دليل على انحطاط العلم عندنا وكونه لا يزال في طفوليته.
بين الفصحى والعامية
Unknown page
لم تبق مجلة ولا جريدة من المجلات والجرائد العربية إلا وبحثت في هذا الموضوع الذي فتحت بابه رصيفتنا جريدة المؤيد وجريدة الإجبشن غازيت. ونحن نذكر باختصار لقرائنا تاريخ هذه المسألة ورأينا فيها.
وضع جناب المستر ويلمور - القاضي الإنكليزي في محكمة الاستئناف المختلطة - كتابا إنكليزيا في غاية الأهمية، اقترح فيه على أبناء اللغة العربية أمرين؛ الأول: أن يتخذوا الحروف الإفرنجية لكتابة الكلام العربي بدلا من الحروف العربية؛ وذلك لضبط اللفظ في الكلمات المتشابهة الكتابة المختلفة اللفظ، والثاني: استعمال اللغة العامية في الكتابة بدلا من اللغة الفصحى. وحجته في هذا الطلب أن الرجل الإفرنجي يصرف سنوات في درس اللغة العربية ثم هو لا يفهم اللغة التي يكتب بها كتابها اليوم، ولا اللغة التي يتكلم بها قومها. وفضلا عن ذلك، فإن الذين يفهمون لغة الكتابة اليوم من المصريين لا يتجاوزون 12 بالمائة من السكان. أما باقي السكان، وهم 88 بالمائة، فإنهم لم يتعلموا لغة الكتابة، وإذا وجب أن يتعلموها ليدرسوا بها اضطروا إلى صرف عدة سنوات في ممارستها، فهل من الواجب وضع هذه العقبات في طريق تعليمهم، أو تسهيل هذا التعليم لهم لتلقينهم الدروس بلغتهم؟ ويقول المستر ويلمور إن هذه اللغة العامية لغة مستقلة عن اللغة العربية، وقد جاء عليها وقت كانت فيه لغة بأصول وقواعد، فإذا جمعت أصولها وقواعدها صارت لغة سهلة عمومية لجميع أفراد الأمة، خاصتها وعامتها.
ولكن الكتاب قاموا على المستر ويلمور قومة واحدة، فنقضوا الرأي الذي رآه، وأظهروا له أن اللغة العامية ليست لغة مستقلة، وإنما هي تشويه محلي يعتري كل لغة في العالم، وهو ما يسمونه لهجة، واللهجات متفاوتة في كل أمة وكل بلد تقريبا، فأية لهجة يستعملون؟ وهل جن أبناء اللغة العربية ليقطعوا باللغة العامية الجديدة الصلة الجميلة التي بينهم وبين أسلافهم من فلاسفة العرب ومؤلفيهم وحكمائهم وعظمائهم؟
على أن بعضهم يظن أن اقتراح المستر ويلمور فريد في بابه، والحقيقة أن هذا الاقتراح موضوع اليوم في مجال البحث في كل بلد تقريبا؛ ففي كل ممالك العالم المتمدن اليوم فريقان يتنازعان في مسائل التعليم تنازعا شديدا، وهما يسميان الفريق القديم والفريق الجديد؛ فالفريق الجديد يطلب اختصار التعليم أشد اختصار، وتسهيله أشد تسهيل، وأن يقرن بكل ما يحتاج إليه المتعلم من الدروس العملية؛ ليحصل رزقه في زحام هذه الحياة، وينبذ منه كل ما يثقل دماغ الطالب وذاكرته دون أن يفيده فائدة عاجلة؛ كالإسهاب في الصرف والنحو وآداب اللغة والشعر والهندسة والجبر وغيرها. والفريق القديم يقول إن التعليم مسألة تهذيب وتثقيف لا مسألة تجارة أو صناعة، والابتكار والاختراع في العلم لا ينشآن إلا عن التضلع من أصول العلوم والفنون والغوص في أعماقها؛ ولذلك يوجب هذا الفريق درس أعصى العلوم وأصعبها، ويجعل درس اللغة اللاتينية إلزاميا؛ لأن هذه اللغة كانت منذ قرنين لغة العلم في أوروبا، وبها كتب كثير من أشهر كتب العلم والفلسفة، فضلا عن الكتب التي كتبها مؤلفو الرومان.
وإن قيل أي الفريقين هو المصيب؟ قلنا: إن الفريق الثاني مصيب بالنظر إلى خاصة الأمة الذين يرومون الانقطاع إلى العلم، والفريق الأول مصيب بالنظر إلى العامة وطالبي الرزق. والظاهر أن المستر ويلمور هو من هذا الفريق الذي يبغي التسهيل.
ولكن المستر ويلمور لا يعلم على ما يظهر أن للتسهيل حدا لا يتعداه، وأن ما حصل في اللغة اللاتينية لا يمكن حدوثه في اللغة العربية لاختلاف النسبة بين اللغتين؛ فإنه لما قام ديكارت وخالف العادة التي جرى عليها علماء عصره من التأليف باللغة اللاتينية وجد لغته الفرنسوية لغة صحيحة فصيحة، فيها كثير من كتب الأدب. وهذا ما زاد كتبه رواجا وإقبالا، وأنساه سخط العلماء عليه من أجل تلك البدعة. ولكن ماذا يجد كاتب اللغة العامية اليوم إذا رام التأليف فيها؟ أتكفيه لغة الحمارة والبحارة للتعبير عن أشرف عواطف القلب، وأسمى خطرات الفكر، مع أنه يشكو من ضيق لغة ابن رشد نفسها؟
والحاصل أن المستر ويلمور قد حاول أمرا مستحيلا، ولا خوف على لغتنا منه ومن أمثاله؛ لأنهم لا يحاربون فقط اللغة العربية بهذا الاقتراح، وإنما يحاربون النواميس الطبيعية أيضا؛ ذلك أن النواميس الطبيعية ضدهم في هذه المسألة، وأن اللغة التي قتلت اللغة الآرامية واليونانية في سوريا وفلسطين، واكتسحت لغة المصريين قبل الإسلام، وانتشرت أوسع انتشار في أفريقيا، ودخلت في أثر السيف إلى أواسط آسيا وأوروبا، والتي لا تزال تتغلب حتى اليوم على لغات الهند في عهد الاحتلال الإنكليزي نفسه؛ لهي لغة نافذة كالسيف، فلا تؤثر سطور كتاب إنكليزي فيها.
ولكن هل يؤخذ من هذا القول أنه لا يجب علينا أن ننظر في كتاب المستر ويلمور نظرة اعتبار لنستفيد منه ما يمكن استفادته؟ لا ريب عندنا أن هنالك فائدة في غاية الأهمية، وسنأتي على ذكرها في المقال التالي.
اللغة العربية الجديدة
أتينا على تفصيل المناظرة التي جرت في القطر بشأن ما اقترحه المسيو ويلمور من وضع اللغة العامية في مصر موضع اللغة الفصحى في تعليم الشعب المصري والكتابة له، وذكرنا ردود مناظريه عليه ونقضهم أقواله، ثم قلنا في ختام ذلك الفصل إن في اقتراح المستر ويلمور عبرة وفائدة، ووعدنا بنشر هذه العبرة والفائدة، وإنجازا للوعد نقول:
Unknown page
يزعم بعض فلاسفة العمران أن في كل قول حتى ما كان منه خطأ شيئا من الصواب، واقتراح المستر ويلمور هو من هذا القبيل، فإنه خطأ محض إذا نظرت إليه من جهة لفظه، ولكن فيه شيئا كثيرا من الصواب إذا نظرت إليه من جهة معناه. وغرضنا الآن الإشارة إلى هذا الصواب.
وبعبارة أخرى نقول إن المستر ويلمور مصيب كل الإصابة إذا كان غرضه في اقتراحه هذا إنشاء أسلوب جديد للكتابة يفهمه جميع أبناء اللغة، فإن اللغات لا يمكن استبدالها؛ لأن ذلك فوق طاقة الإنسان، وإنما يكون تغيير أسلوبها؛ كأن يهجر القديم البالي الذي كان حسنا في عصره، إلى الجديد الذي هو حسن ومفيد في هذا العصر. فإذا نظرنا إلى اقتراح المستر ويلمور من هذا الوجه تغيرت مسألته، وصار المقصود بها تسهيل اللغة الفصحى على المعلمين والمتعلمين، لا استبدال اللغة العامية الساقطة بها. وحينئذ يكون صوته الجهوري الذي دوى في فضاء مصر صوتا يدعو إلى أمر في غاية الأهمية، ويشير إلى إحدى مصائب العلم والتعليم في اللغة العربية.
نقول ذلك لأننا لا نجهل المصاعب العديدة التي تعترض طلبة العلم وناشريه في اللغة العربية، فإننا نعرف كثيرا من المعلمين يحسبون العلم محصورا في اللغة؛ ولذلك يصرفون إليها عقول تلامذتهم دون سواها من الفروع التي توسع دائرة العقل، وتنمي الإدراك، فيشب الولد بين أيديهم ويخرج من مدرستهم وهو لا يعرف غير: «ضرب اضرب ضرب ضارب تضرب». وهذا بلاء شديد على الشرق. وإنما كلامنا هنا عن المعلمين في المدارس الابتدائية التي هي بمثابة القوالب الحقيقية الأولى التي تتكون فيها عقول الطلبة ونفوسهم، فإذا كان غذاؤها قويا من لباب العلم وثمار المعارف الحقيقية شبت قوية، وكان في إمكانها بلوغ حد البلوغ والرجولية، وإذا كان غذاؤها ضعيفا من قشور اللغة وما يتبعها من صرف ونحو وشعر، دون سواها من المبادئ التي تقدم ذكرها؛ فإنها تبقى طفلة وإن بلغت في العمر مبلغ الرجال.
وكما أن هذا البلاء شديد على بعض المعلمين والمتعلمين في الشرق، فهو شديد على بعض الكتاب أيضا، فإن هؤلاء الكتاب يصرفون أعمارهم في تصفح كتب اللغة القديمة، وانتحاء مناحي بلغاء المتقدمين، فينطبع في نفوسهم أن صناعة الكتابة لا تقوم إلا بتنميق العبارة، وذكر المترادفات من الألفاظ، وانتقاء الضخم منها، حتى إنك حين قراءتها لتخالها كالبندق الذي قال فيه الشاعر: «خلي من المعنى ولكن له فقش.» وعلى ذلك تصير الكتابة عندهم عبارة عن ألفاظ واسعة الأكمام، ضخمة الأجسام، يضيع فيها المعنى الذي تدل عليه كما تضيع كأس من السكر في بركة من الماء البارد، أو تكون أسلوبا جافا ناشفا تنتظم فيه معان قليلة بسلك معوج لا يفهمه القارئ إلا إذا راجعه عدة مرات، وربما راجعه طول النهار إذا كان ضعيف الفهم ولم يفهم منه شيئا.
فالفضل العظيم الذي يرجع للمستر ويلمور في هذه المسألة هو في رأينا حذفه مسألة اللغة بكلمة واحدة؛ وذلك بقوله استبدلوا العامية بالفصحى، فكأنه قال للذين يقدمون اللغة على كل شيء: إنكم تشتغلون بالقشر وتتركون اللب، فدعوا القشر، وإذا كانت لغتكم تحول دون تركه؛ فاتركوها هي نفسها أيضا، واتخذوا اللغة العامية بدلا منها طلبا للب الذي هو العلم الحقيقي والفائدة الحقيقية.
أما نحن فإننا نقول للمستر ويلمور: إننا نعد هذا القول جناية على اللغة العربية؛ لأن هذه اللغة الجميلة الحلوة لا أسهل منها على من يحسن تسهيلها، ولا أطوع منها على من يحسن التصرف بأساليبها. فالعجز إذا إنما هو في نفوس أهل اللغة لا في أساليب اللغة نفسها.
وهنا نصل إلى النقطة الهامة في هذا البحث، فنسأل المستر ويلمور ألا يعدل عن اقتراحه إذا ثبت له أن اللغة الفصحى قد تقوم بوظيفة اللغة العامية من إبلاغ المعاني إلى أفهام العامة؟ وهذا أمر ممكن. وإيضاحا لذلك نقول:
تقتضى المخاطبة ثلاثة أمور؛ الأول: المعنى الذي في ذهن المتكلم، والثاني: الكلام الذي يراد إيصاله إلى فهم المخاطب، والثالث: فهم المخاطب نفسه. فإذا كان معنى الكلام والكلام نفسه صريحين واضحين مسبوكين بأسلوب على قدر فهم السامع، وصل ذلك المعنى إلى ذهن المخاطب بلا عناء ولا مشقة؛ فالعمدة في ذلك إذا: المعنى والكلام والأسلوب.
وبناء عليه، إذا كان المتكلم ماسكا زمام المعنى، ووضعه في ألفاظ بسيطة حسنة مفهومة لدى العامة، وسبكه بأسلوب بسيط أيضا؛ تحتم وصول ذلك المعنى من ذهن المتكلم أو الكاتب إلى ذهن المخاطب لا محالة.
مثال ذلك العبارة التالية: إن المقصود بالسنن الموضوعة في السياسات كلها هو المدينة والكل لا الشخص.
Unknown page
فهل يعرف القارئ من أين أخذنا هذه العبارة؟ لقد أخذناها من كلام للفيلسوف ابن رشد في تعريبه كلاما لأرسطو، وأصلها هكذا: هذه السياسات كلها المقصود بالسنن الموضوعة فيها إنما هو المدينة والكل لا الشخص. فانظر أيهما أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان.
وليس المراد بذلك أن العبارة التي بسطناها أولا هي أبلغ من العبارة الثانية التي خطها قلم ابن رشد؛ كبير فلاسفة العرب وأمير البلغاء، ولكن المراد أنها أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان. وقد قال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ولا ساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشيا، إلا أن يكون المتكلم به بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي. ومن ذلك يثبت أن الفهم هو شرط الجواز في استعمال المعاني والألفاظ.
ولكن قد يصيح هنا كثيرون من محبي اللغة ويقولون: إن ذلك يقتل ملكة البلاغة والفصاحة؛ لأنه يضيق دائرة اللغة، ويقضي على أساليبها الجميلة، وتعابيرها الأنيقة؛ إذ ماذا يحل بنا وبلغتنا إذا وجب علينا ألا نخاطب الناس إلا بما يفهمونه؟ فالجواب عن ذلك سهل جدا على المستر ويلمور، وهو قادر على أن يحجهم من كلام أئمة البلاغة أنفسهم، قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد، وأصلها من قولهم: أفصح اللبن: إذا ذهبت عنه الرغوة، وهي بالاصطلاح عبارة عن الألفاظ المبينة الظاهرة، المتبادرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال لمكان حسنها.
وقال أبو هلال العسكري: سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، والبلاغة مأخوذة من قولهم: بلغت الغاية: إذا انتهيت إليها وبلغتها غيري. وقال في الفصاحة: أما الفصاحة فقد قال قوم إنها من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره. والشاهد على أنها هي الإظهار قول العرب: أفصح الصبح: إذا أضاء. وقال في موضع آخر: يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى ، سهل اللفظ، وجيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
وقال صاحب المثل السائر: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال.
هذا ما يعتقده في الفصاحة والبلاغة أئمة اللغة وكتابها. وإذا كان فهم السامع كلام المتكلم والقارئ كلام الكاتب هو الشرط في الفصاحة والبلاغة؛ فقد جاز أن يقال إن البلاغة والفصاحة عند الأمم تكونان بحسب أخلاقها وعاداتها وحاجاتها وأساليبها، فما يكون بلاغة وفصاحة في البدو لا يكون بلاغة وفصاحة في الحضر، وما يكون بليغا لدى العرب لا يكون بليغا لدى الإفرنج وبالعكس. فبناء على ذلك، يجب على المعلمين والكتاب ألا يتقيدوا بالماضي تقيد الأعمى، فإن الماضي إنما هو الطفولية، كما قال باكون، والإنسانية تتقدم صاعدة شيئا فشيئا في مراقي الزمن الأزلية، وهي جسم حي كل ما فيه نام: جسمه، ونفسه، ولغته، فإذا تقدمت النفس وارتقت وبقيت اللغة متأخرة جامدة صارت النفس خرساء لا تحسن التعبير عن حاجاتها.
فيؤخذ من ذلك كله أن المستر ويلمور مصيب في طلبه لغة جديدة غير لغة الطفولية، ولكن هذه اللغة الجديدة المطلوبة التي تقتضيها حالة العصر، ويوجب سير التمدن قيامها ليست اللغة العامية؛ لأن هذه لغة ساقطة، ولكنها لغة بين اللغة الفصحى القديمة التي لا يفهمها العامة والخاصة أيضا وبين العامية. وهذه اللغة الجديدة موجودة الآن، وهي لغة المجلات والجرائد التي تحسن اختيار ألفاظها وأساليبها، وتتقي الخطأ فيها، فما طلب إذا المستر ويلمور إلا شيئا موجودا.
نتج إذا أن اللغة الجديدة التي ستكون اللغة العربية في المستقبل هي تلك اللغة البسيطة السهلة التي لا يكون فيها لفظ غير مألوف الاستعمال، ولا تعبير من التعابير البدوية القديمة التي لا مسوغ لاستعمالها في زمن كهذا الزمان. هي تلك اللغة التي تغيب ألفاظها وراء عرائس المعاني كأنها زجاج شفاف يظهر باطنه مع ظاهره، أو نبع صافي الماء تعد في قعره درر الحصى واحدة واحدة. هي تلك اللغة التي يقرأ أبناؤها مقامات الزمخشري والحريري واليازجي ورسائل الخوارزمي والهمذاني، فيأسفون على الوقت والقوى التي أنفقوها في صف الألفاظ بعضها وراء بعض، ويضحكون من تلك الكلمات الغريبة والأساليب العجيبة كما ضحك أعرابي من بيت لأبي تمام تلي عليه فلم يفهمه وقال إنه ليس بعربي. هي تلك اللغة التي إذا مات رجل عظيم من أبنائها قال كاتبها في تأبينه: مات رجل عظيم، لا كسفت الشمس، وخسف البدر، ومادت الجبال، وغارت البحار، بل هي تلك اللغة التي كل كاتب وكل معلم من أبنائها يكتب في دفتره الخصوصي مقال الجاحظ: ليست الفصاحة بالتفصح؛ لأنه لا يزيد متزيد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه.
أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية
قربنا من أيام العطلة المدرسية.
Unknown page
غدا تخلو المدارس الكبرى والصغرى من تلامذتها كما تخلو الأعشاش من صغارها. غدا، هذه الأماكن الطاهرة الجميلة التي تنشأ فيها الأجيال بعضها بعد بعض، والتي يدوي الآن في فضائها صراخ أبناء الإنسانية الصغيرة، تصبح ساكتة هادئة لا يسمع في جنائنها غير غناء الطيور التي تزداد غناء في غياب رفقائها التلامذة، كأنها استوحشت وحدها فقامت تشكو فراقهم.
ولا يخفى ما في منح المدارس فرصها الصيفية (المسامحات) من الحكمة والفائدة، فإن المقصود من إعطاء التلامذة فرصة شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر في السنة هو على ما نرى خمسة أمور:
أولا:
راحة أدمغة الطلبة والمعلمين من تعب الدرس مدة تتجدد فيها قواهم العقلية والجسدية.
ثانيا:
إظهار الفرق للتلامذة والمعلمين بين العمل والبطالة، وكيف أن الأول سار مفيد مع ما فيه من العناء، وكيف أن الثاني مضجر مضر مع ما فيه من الراحة، فيعود كل من الفريقين إلى أعماله المدرسية أكثر نشاطا وأشد شوقا إليها.
ثالثا:
عودة التلامذة إلى المعيشة العائلية مع أهلهم لاستعادة بعض ما أفقدتهم إياه المعيشة المدرسية من الانعطاف العائلي؛ لأنه من الثابت - ويا للأسف - أن المعيشة المدرسية؛ ونعني بها هنا المعيشة في المدارس الداخلية، تسلب من قلب التلميذ قسما من الألفة البيتية.
رابعا:
جعل السنة المدرسية شوطا بعيدا يجري فيه التلميذ على أمل أن يصل إلى الغاية؛ أي الراحة بعد التعب، وإحراز قصب السبق في الامتحان بعد طول الدرس والتنقيب، فإن هذا الأمل مما يخفف عليه مشاق الدرس، ويجعله يقطع تلك الطريق الطويلة بشيء من السهولة.
Unknown page
خامسا:
الفرار من حر الصيف الذي يكون الدرس فيه شاقا متعبا.
فأنت ترى مما مر بك أن العطلة المدرسية نعمة لعنصري المدرسة؛ ونعني بهما المعلمين والتلامذة، فينبغي السرور بها والارتياح إليها، خلافا لما يعتقده بعض بسطاء الآباء والأمهات من أنها تضر الأولاد وتجعلهم ينسون ما تعلموه.
أما نسيان الأولاد ما تعلموه، فهذا أمر لا نحب أن نسمع به من فم عاقل يفهم معنى التعليم. أفتحسبون التعليم هو تلك القواعد الباردة الشاردة الكاسدة التي يحفظها التلامذة في ذاكرتهم، فإذا لم يتذاكروا بها أو لم يراجعوها في كتبهم نسوها، وبذلك يخسرون ما تعلموه؟ كلا ثم كلا! إن التعليم الصحيح غير متوقف على قاعدة أو دفتر أو كتاب، حتى ولا على مكتبة، وإنما يتوقف على المبادئ التي يكون المعلم قد بثها في نفس تلميذه، ونعني بهذا: توسيع نطاق مداركه، وتربية دماغه، وتثقيف نفسه، حتى إذا خرج من المدرسة ونسي كل قواعد التصريف والإعراب، وكل مبادئ البيان وما أشبهها، بقي له معرفة نواميس الحياة، ومقدرة على فهم كل شيء يطالعه، والتمييز بين الفاسد والصحيح، والنافع والضار، والحرام والحلال.
هذا هو التعليم الحقيقي. أما القواعد فليست إلا آلة لهذا التعليم، وينبغي أن تكون كل واحدة منها بمثابة حجر يوضع في أساس هذا البناء العظيم الذي يسمى تربية وتعليما. أما إذا كانت القواعد مما يمنع التربية العقلية والنفسية التي أشرنا إليها، لا مما يؤيدها، فإننا نشفق حينئذ بنية خالصة على معلميها ومتعلميها.
إذا لا خوف من أن ينسى التلامذة في الفرص المدرسية ما تعلموه إذا كان التعليم صحيحا، وإذا لم يكن كذلك فلا أسف عليه إذا نسوه؛ إذ بذلك يطردون الفضول من ذاكرتهم.
وأما قولهم إن هذه الفرص تضر بالتلامذة، فهو قول فاسد، وكلامنا في هذه المقالة عن هذا الموضوع.
فإن العطلة المدرسية تكون مما يضر ويفسد حال التلامذة إذا صرفوها في وجه ضار؛ كالبطالة والمعاشرة الرديئة التي تفسد الأخلاق، وتكون مما ينفع إذا صرفوها في وجه نافع. وهذه أولية لا تحتاج إلى تبيان، وما جئنا لإقامة الدليل عليها، ولكن جئنا للإشارة إلى أمر مختص بالفرص المدرسية، وهو عظيم الأهمية للمدارس ومعلميها وتلامذتها وللهيئة الاجتماعية.
وهذا الأمر العظيم الذي نوجه إليه أنظار جميع أصحاب العقول الناضجة من المعلمين والمتعلمين هو إنشاء مدارس عملية في إبان العطلات المدرسية. ومعنى هذا ألا يصرف المعلمون والتلامذة أوقات العطلة في البطالة والكسل؛ فإن ذلك أمر لا يليق بأصحاب العقول.
وإن قيل إن العطلة المدرسية قد وضعت للراحة: قلنا إن الراحة شيء، والكسل والبطالة الذميمة شيء آخر. ونحن لا نطلب أن ينصرف المعلمون والتلامذة إبان العطلة إلى التدريس والدرس، اللذين يشتغلون بهما في أوقات المدرسة، وإنما نطلب أن يعمل كل من الفريقين في أوقات راحته عملا مفيدا لنفسه ولغيره من غير أن يعاني مشقة وتعبا.
Unknown page