Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
والسبب الذي جعل خصوم باكون يجترئون عليه، أن هذا الفيلسوف لم يضع فلسفة جديدة ولم يكتشف أمرا جديدا، ولكنه اقتصر على وضع قواعد فلسفية جديدة تنقض القواعد القديمة، فكأنه اقتصر على الهدم دون البناء. ولبيان ذلك نقول:
ميزان أرسطو: كانت الفلسفة قبل باكون وديكارت مبنية على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو، وهي المعروفة بالفلسفة المدرسية (سكولاستيك)، وكان يكفي أن يقال: «قال أرسطو» لينحسم كل جدال، فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تحدث شيئا حذرا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد: «القياس»، وهو المعروف «بآلة أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخر. فكرر هذه التجربة عدة مرات، فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخر ناموس من نواميس الطبيعة، ثم إنك تقيس اللبن على الماء فتقول : بما أن اللبن سائل كالماء ، فهو يتبخر أيضا مثله. وبناء عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء. هذا هو القياس.
فلما جاء باكون وجد أن هذه القواعد متضعضعة، فأخذ على نفسه إصلاحها، فكتب في ذلك عدة كتب؛ منها كتابه «الإصلاح العظيم» - وهو أهم كتبه، ولم يصدر منه سوى جزأين، وذلك في عام 1597 - وكتابه «كتاب في الأدب»، وغيره من المؤلفات الفلسفية. وإليك خلاصة الآراء التي نشرها في كتبه:
رأيه في التمدن اليوناني وفلسفته: يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته أن كل ما يدرسونه اليوم؛ أي في أيام باكون، يدرسونه بناء على أقوال اليونان، ولا سيما أرسطو، مع أن اليونان لم يعرفوا شيئا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئا في كتابها السامي، فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها؟ وفضلا عن ذلك فإن اليونان أمة قديمة، وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة، فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذا أن نطلق العقول من قيود فلسفة اليونان، ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه، ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه، ويزن أحكامها بعقله. ومع ذلك، فإن الفلسفة اليونانية لم تثمر شيئا إلى الآن، ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية، وكل ما استفدناه منها أنها تعلمنا طرقا سفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة، فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارا عملية. وقد جرب اليسوعيون واستبدلوا دعامة أرسطو بدعامة جديدة فنجحوا في تعليمهم، فليجرب العلم ذلك أيضا، فإنه لا بد أن ينجح.
ولكن قبل هدم هذه القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولا وفروعا لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب، وبناء على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه، وعليه يعتمد العلماء.
الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسم باكون قوى نفس الإنسان في هذا الترتيب إلى ثلاثة أقسام: «الذاكرة، والتصور، والعقل»، وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث، فمن «الذاكرة» يشتق التاريخ، ومن «التصور» يشتق الشعر، ومن «العقل» تشتق الفلسفة.
ثم إن باكون يأخذ «التاريخ، والشعر، والعقل» كلا بمفرده، ويفرع منه فروعه، فالتاريخ: طبيعي وبشري، والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا إلخ. والتاريخ البشري: يشمل التاريخ الديني، والتاريخ الاجتماعي (غير الديني)، وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر فإنه يكتفي بقسمته إلى ثلاثة أقسام، وهي: الشعر للوصف، والشعر للروايات، والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون: فن معرفة الله، وفن معرفة الطبيعة، وفن معرفة نواميس الإنسان، ثم يفرع باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعا عديدة يضيق المقام دونها، ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارج هذه الدائرة.
ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم، وشرحه كل أصوله وفروعه شرحا كافيا وافيا، وجه همته إلى وضع قاعدة لبنائه، فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو تقضي - كما تقدم الكلام - بأن كل أمر يجرب عدة مرات ويفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يعد ناموسا طبيعيا. وقد ذكرنا مثال ذلك في تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون فإنه قال إن التجربة والامتحان إلى ما شاء الله حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة، ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها، وثانيا: عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي، بل إجراء امتحان سلبي معه، مثال ذلك: بخر الماء بالنار يتبخر، فأعد التجربة عدة مرات تجده يتبخر دائما. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتبرده، فإذا عاد ما كان العمل صحيحا، وجاز لك أن تعد التبخر ناموسا طبيعيا.
وإليك مثلا آخر، وهو: اضرب 2 في 2 في 2، فإن الحاصل 8، ولكن إياك أن تعتقد أن الحاصل هو 8 قبل إجراء الامتحان السلبي، أي قسمة هذا العدد على 2 ثم قسمة الخارج على 2 أيضا وهلم جرا. ولا يخفى أن ذلك يهدم قياس أرسطو من أساسه؛ لأنه يوجب عليك في المثل الذي تقدم عن الماء واللبن أن تأخذ اللبن وتفصحه بنفسك فحصا إيجابيا وسلبيا عدة مرات بدلا من قياسه على الماء، وألا تعتمد إلا على مشاهدتك وامتحانك. ويعرف هذا الامتحان بامتحان باكون، وقد أطلق به واضعه عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي، وأعد للعلم ميدانا فسيحا قرن فيه المعرفة بالعمل، فنشأت عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة، فكأنه روح الحرية بث في العقل والعلم فأحياهما معا.
باكون وحجر الفلاسفة: ويعتقد باكون اعتقادا غريبا، فإنه يرى - كما تشهد بذلك عدة سطور من كتبه - أن غرض العلم والفلسفة البحث عن حجر الفلاسفة؛ أي المادة التي تحول المعادن إلى ذهب، وهو لا يذهب هذا المذهب طلبا للذهب، ولكن استنادا إلى درسه المادة، فإنه رأى من درسه المادة الطبيعية أن أصلها واحد، وأن المادة التي صنع منها الحصى شبيهة بالمادة التي ركب منها الذهب؛ ولذلك يقول: إننا متى حصلنا على المادة المشتركة بين جميع المواد (وهي ما يسمونه حجر الفلاسفة)، فإننا نتحقق حينئذ من أن أصل المادة واحد، ونقدر بسهولة على تحويل أي معدن كان إلى ذهب.
Unknown page