Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
ومع ذلك فقد جفت واختنقت، جفت واختنقت لأن شبهة الكفر كانت تقع بعد ابن رشد على كل مشتغل بالفلسفة. وبناء على ذلك، انصرفت العقول عن صناعة الحكمة، ولم يقم بعد ابن رشد فيلسوف كبير مثله ليكمل عمله.
على أن تلامذة ابن رشد الذين نشروا مبادئه بعده وترجموا كتبه إلى العبرانية واللاتينية كان أكثرهم من اليهود والنصارى. ولقد انتشر في أوروبا مذهب ابن رشد في ذلك الزمان انتشارا عظيما، حتى اضطر أحد البابوات أن يحرم من الكنيسة كل من يعتقد بمذهب ابن رشد في الفلسفة.
بقي أن نذكر شيئا عن أخلاق هذا الفيلسوف، فنقول إنه كان لطيفا عفيفا، ميالا للعزلة، منقطعا إلى الدرس والمطالعة. وإليك منه عبارة تدل على مبلغ شغفه بالدرس والتأليف، قال: إن الدين الخاص بالفلاسفة هو درس الوجود والكائنات؛ ذلك أن أشرف عبادة تقدم لله - تعالى - هي معرفة مخلوقاته ومصنوعاته؛ لأن ذلك بمثابة معرفته. هذا أشرف الأعمال التي يرضى الله عنها، في حين أن أقبح الأعمال عمل من يكفر ويخطئ الذين يقدمون لله هذه العبادة التي هي خير العبادات، ويتقربون منه بهذه الديانة التي هي خير الديانات.
وكان بسيط المعيشة، متقشفا في حياته، كارها للظلم. ولقد تولى القضاء سنوات عديدة دون أن يحكم قط بالإعدام على أحد من الذين حوكموا لديه، بل إنه كان حين وجوب الحكم بالإعدام يتنازل عن ذلك لسواه. فكأنه يفر من الدماء لكي لا تقع في عنقه. (15) هل مذهب ابن رشد صحيح؟
هذا ما رأينا ذكره عن ابن رشد، ولقد آن أن نختتم هذه المقالة لأنها قد طالت، ومع ذلك فقد رأيناها قصيرة ونحن نكتبها؛ لأن القلم لو ملأ كل صفحات هذا الجزء عن هذا الفيلسوف لما أروى غليله.
ولكن قبل الختام، لا بد أن يحضر القارئ سؤال، وهو: هل مذهب هذا الفيلسوف صحيح؟ فالجواب عن ذلك أن القارئ يخطئ إذا كان يسأل عن صحة كل مذهب من مذاهب الفلاسفة أو عن فساده؛ فإن لكل واحد من الفلاسفة الذين يقفون حياتهم للبحث فيما وراء الطبيعة مذهبا خاصا، وفلسفة خاصة يناقضان مذهب الآخر وفلسفته، فمثلهم في ذلك مثل قوم يجلسون على شاطئ البحر، ويأخذون في بناء بيوت من الرمل والصخر والحجارة التي على الشاطئ؛ ولذلك تجد في بناء كل واحد منهم رملا وصخرا؛ أي ضعفا وقوة، وذلك إما لأن الحقيقة المحجبة قد آلت على نفسها أن تبقى محجوبة عن أرض فيها ما في أرضنا من الصغائر والدنايا، أو أن العقل البشري خلق محدودا، وما كان محدودا لا يحد ما لا حد له.
الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير
مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تعبد في أكثر الأحيان إلا بعد أن تلقى الممات، فمثلهم مثل تلك الجبال الشامخة؛ كالمقطم وجبل لبنان، فإنك إذا كنت قريبا منها أو مقيما فوقها ظهرت لك صغيرة منخفضة، ولا تظهر لك شامخة كبيرة إلا إذا بعدت عنها.
ومن أشهر هؤلاء المشاهير الذين رفعتهم الإنسانية بعد موتهم إلى أعلى عليين: الفيلسوف باكون؛ أشهر فلاسفة الإنكليز، والمؤلف شكسبير؛ أشعر شعرائهم. ويسرنا أن نترجم هذين الرجلين لما في ترجمتهما من الفوائد الفلسفية والأدبية، لا سيما إذا صيغت بقالب بسيط سهل يحل أعقد عقد الفلسفة، ويجلو غوامضها، فيجعلها سهلة المنال لعقول الشيوخ والأطفال، كما قال صاحب الزبور عن أصول الحكمة.
ونبدأ أولا بترجمة باكون؛ لأن للفلسفة حق التقدم. (1) فرنسيس باكون
Unknown page